ليس غريباً ان يـُسقط «نواب الستين» مشروعاً لتخفيض سن الاقتراع بالضربة الطائفية القاضية، ومن دون أن يرفّ لهم جفن. وليس غريباً ان يسقط الرهان على توليد فكرة إصلاحية من رحم سلطة تشريعية تتحكم بإنتاجها الطوائف والمذاهب. نعم قدّم «نواب الستين» صورة قاتمة عما ينتظر من انتزعوا تفويضهم بالتهييج والمال الانتخابي في الآتي من الأيام، وأعطوا نموذجاً صارخاً في تناقض الاقوال مع الافعال، وسيسجل لهم التاريخ انهم في 22 شباط 2010، قدّموا شهادة طائفية بامتياز بأن النظام السياسي الطائفي في لبنان أقوى وأعتى من الإصلاح والإصلاحيين ومن الصعب مقاربة تطويره، ولو بالحد الأدنى كمنح شريحة واسعة من جيل الشباب حق الاقتراع والاختيار والشراكة في رسم الخريطة السياسية. قدّم «نواب الستين» البعد الطائفي على البعد الإصلاحي، فخسر الجميع بلا استثناء، خسر الشباب فرصة التعبير عن آرائهم وعن أنفسهم في صناديق الاقتراع، وخسر المجلس الذي صوّت ضد نفسه، وضيّع فرصة الظهور بصورة جديدة تنزع عنه ولو بعضاً من غبار ما لصق به من «قانون الستين» واصطفافاته، واما الخاسر الأكبر فهو حكومة الرئيس الشاب سعد الحريري، فبدل ان تلتقط «اللحظة الشبابية» وتسجل انجازاً لها في اولى إطلالاتها أمام زميلتها السلطة التشريعية، عبر سحب المشروع بدلاً من تضييعه، أقدمت على تكبيل نفسها بالحسابات الطائفية والسياسية، فكانت النتيجة إخفاقاً موصوفاً لها ليس من اليسير محو آثاره. ويسجل لمن صوّتوا مع المشروع ولو أنهم على دراية بأنه سيسقط أنهم انسجموا مع أنفسهم، ولوّنوا المشهد البرلماني، وأسقطوا الاصطفافات بين 8 و14 آذار، من دون الاستعجال والتنبؤ بكتلة جديدة، ذلك أن الانشطار الطائفي كان خطيراً، وتمثل في وقوف النواب المسيحيين، من الأكثرية والمعارضة، تحت سقف واحد، فيما صوّت لمصلحة خفض سن الاقتراع كل من كتلة الوفاء للمقاومة وكتلة التحرير والتنمية وكتلتا القومي والبعث والنواب الحزبيون في «اللقاء الديموقراطي»، ومعهم كتلة الرئيس نجيب ميقاتي وكتلة الوزير محمد الصفدي إضافة إلى النائب الخارج من كتلة زحلة بالقلب نقولا فتوش وتمام سلام وعماد الحوت (34 صوتاً مقابل 66 امتنعوا وواحد ضد من باب «التهريج السياسي»). ومع سقوط مشروع التعديل الدستوري، بات متعذراً دستورياً إعادة طرحه مجدداً في دورة الانعقاد الحالية التي تنتهي مع بداية العقد العادي في أول ثلاثاء بعد الخامس عشر من آذار المقبل، كما انه متعذر سياسياً في ما لو تم طرحه مجدداً في أية دورة عادية مقبلة، في ظل الخريطة النيابية الحالية والتوجهات القائمة على تقديم الاعتبارات المذهبية على الاعتبارات الإصلاحية، وعلى الانقلاب على الموافقة السابقة التي تؤكد اجتهادات كبار رجال القانون بعدم جواز العودة عنها. وإذا كان إعدام مشروع التعديل الدستوري قد بني على «لحس الموافقة»، فإن الوقائع السياسية والطائفية التي حكمت مسار الجلسة النيابية امس، ظهـّرت تساؤلات حول مصير الكثير من المواضيع الحساسة، ويأتي في صدارتها مشروع قانون الانتخابات البلدية، التي تحيطه تساؤلات حول كيفية توليده، واي صورة اصلاحية سيخرج فيها من «مجلس الستين». وكانت وقائع الجلسة الدستورية التي عقدها المجلس النيابي امس برئاسة رئيس المجلس نبيه بري وحضور رئيس الحكومة سعد الحريري، قد سارت في سياق مخرج رسمه معارضو تخفيض سن الاقتراع، قام على تجنب اللجوء الى تطيير النصاب، الذي قد يعني ابقاء المشروع على قيد الحياة، بل الإطاحة بالمشروع من اساسه عبر اللجوء الى التصويت المقنع ضده بالامتناع عن التصويت، إدراكاً منها بتعذر نيله حتى ثلث اصوات النواب الذين يتألف منهم المجلس قانوناً أي 47 نائباً، وهو ما أظهرته عملية التصويت التي اقفلت على دون الاربعين بستة اصوات. وقد سادت الجلسة نقاشات غلب عليها الطابع التبريري لمؤيدي المشروع، كما لمعارضيه الذين بدت مداخلاتهم ضمن سياق محدد يربط إقراره بإقرار آلية اقتراع المغتربين. فيما كان لافتاً للانتباه الصمت المطبق للحكومة ورئيسها سعد الحريري، وفشلت محاولات جرها الى إبداء رأيها في هذا التعديل الدستوري، كما فشلت محاولات ايجاد مخرج توافقي يضع المشروع على سكة التطبيق المؤجل، أثاره بداية الرئيس بري بطرح مخرج يقضي بإقراره على ان يعمل به في انتخابات العام 2013، وأيّده نواب «حزب الله» وسائر النواب المؤيدين، اضافة الى النائب روبير غانم الذي لفت تبنيه للمخرج الا ان تلك المحاولات فشلت وانتهى الامر بالتصويت ـ الفضيحة. وفي جانب آخر، من الجلسة، أتمّ المجلس النيابي في جلسة الامس، انتخاب المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، فأبقى القديم على قدمه الذي كان سارياً في ولاية المجلس النيابي السابق، بحيث وزع توافقياً الأعضاء على الكتل الكبرى، فتثمل تكتل التغيير بالنائب ابراهيم كنعان (أصيل)، و«المستقبل» بالنائب سمير الجسر (أصيل)، وكتلة التحرير والتنمية بالنائب غازي زعيتر (اصيل) ومسيحيو 14 آذار بالنائب نقولا غصن (اصيل)، وكتلة الوفاء للمقاومة بالنائب محمد فنيش (اصيل) وبالنائب نوار الساحلي (رديف)، وتكتل الارمن وزحلة بالقلب بالنائب سيبوه قلبكيان (اصيل). فيما تمثل «اللقاء الديموقراطي» بالنائب مروان حمادة (رديف)، ونائلة تويني خلفاً لوالدها الشهيد جبران تويني (رديف). وفي الجانب التشريعي، اقرت الهيئة العامة مجموعة من اقتراحات ومشاريع القوانين، فيما تضمّنت مداخلات الاوراق الواردة مطالبات انمائية مناطقية، فيما برز ما طرحه عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب حسن فضل الله بإشارته الى عملية «الموساد» الاسرائيلي في دبي واغتيال القيادي في حماس محمود المبحوح، فنبه من هذا الأمر الخطير وطرح على الحكومة سؤالاً حول لبنان المعرّض للاعتداءات الإسرائيلية وقد جرت فيه عمليات اغتيال كثيرة، وكثيرون يأتون إليه بجوازات سفر أوروبية، ليس معلوماً ان كانت مزورة ام لا او أنهم أوروبيون او غير اوروبيين، ومن بينهم صحافيون اسرائيليون جاؤوا الى لبنان بجوازات سفر اوروبية وبثوا من بيروت، فما هي الإجراءات التي اتخذتها الحكومة للتشدّد مع هؤلاء الذين يحملون جوازات اوروبية؟ وتبلغ فضل الله لاحقاً من وزير الداخلية بأن ثمة إجراءات قد اتخذت في هذا المجال..
بدا المنتدى، الذي تزامن افتتاحه مع الذكرى الثالثة والأربعين لاستشهاد «تشي»، مناسبة جديدة للتأكيد على «الترابط النضالي في كل من كوبا ولبنان وفلسطين» ضـــد «الإمبريالية الأميركية وإســرائيل»، وهو ما عكسته المداخلات التي ألقيت، إن في حفل الاحتفال، الذي كان خليطاً من السياسة والموسيقى، أو في الندوات الثلاث التي أقيمت بعناوين ثلاثة: الحصار الأميركي، الكوبيون الخمسة، ودور الشباب في الثورة الكوبية. كانت الأيام الثلاثة التي أمضتها اليدا غيفارا في لبنان كافية لأن تدرك كيف «كُتب على الشعوب الصغيرة أن تقوم بإنجازات كبرى»، وهو ما عبّرت عنه في الكلمة التي افتتحت بها أعمال المنتدى، حيث رأت أنّ «لبنان يعيش اليوم لحظات تاريخية، ليس على المستوى اللبناني فحسب، بل على مستوى العالم العربي كله، بعدما أكد الشعب اللبناني أن بإمكانه الانتصار على أي عدو مهما بلغت قوته». «لعل الكلمات لا تعبّر دائماً عمّا نريد»، هي عبارة لـ«تشي» استحضرتها اليدا، قبل أن تلّخص الأسس التي يجب أن تستند إليها الشعوب المقاومة بـ«ثلاث كلمات بسيطة جداً لكنها في غاية الأهمية: أولها، الوحدة التي من دونها لا يمكن لأي قوة أن تنتصر. وثانيها، احترام الآخر لأننا كلنا بشر نعيش تحت شمس واحدة ونتنفس هواء واحداً. أما ثالثها فهو التضامن بوصفه التعبير عن رقة الشعوب كما كان يقول تشي». وفضّلت غيفارا أن تختتم كلمتها بإنشاد أغنية أرجنتينية تعكس كلماتها هذه الأسس: «أخي، أعطني يدك حتى نذهب ونأتي بكلمة صغيرة هي الحرية». بدوره، تطرّق السفير الكوبي في لبنان مانويل سيرانو أكوستا إلى الحصار الأميركي المفروض على بلاده، مشيراً إلى أنّ إدارة الرئيس باراك أوباما ما زالت تطبق الحصار بالأساليب ذاتها، معتبراً أنّ الأخير «لم يرتق إلى مستـوى الآمال التي علقت عليه». وتحدّث باسم لجنة التضامن اللبنانية كل من وفيقة ابراهيم، التي أشارت إلى أنّ «هذا المنتدى عيّنة نرد من خلالها بعض الدين والوفـــاء لكوبا»، وهــادي بكداش، الذي اعــتبر أنّ «النضال من أجل كـــسر الحصار عن كوبا هو عينه النــضال من أجل كــسر الحصار عن الشعــب الفلسطيني في كل فلســطين». اليوم الثاني للمنتدى، تضمّن ثلاث ندوات تناولت الحصار والمعتقلين ودور الشباب. وبالرغم من سعي المنظمين إلى إضفاء الطابع العملي على النقاش، إلا أن معظم ما قيل تميّز بالطابع الخطابي، إذا استثنيت بعض المداخلات المرتبطة بالجوانب القانونية للحصار الأميركي في ظل ازدواجية المعايير الدولية (المحامي البير فرحات والخبيران حسن جوني ومحمد طي)، وأهمية الإعلام في التضامن الأممي مع كوبا (رئيس لجنة الصداقة اللبنانية الكوبية موريس نهرا)، فضلاً عن مداخلة أو اثنتين تناولت السبل القانونية لكسر الحصار. وفي سياق النقاشات، تطرقت غيفارا إلى المصاعب التي تواجهها كوبا بسبب الحصار لا سيّما في ما يتعلق بتوفير الدواء والأغذية، متحدثة عن تجربتها كطبيبة أطفال. كما تناولت قضية المعتقلين الخمسة مشددة على أن دورهـــم كــــان حماية الشعب الكوبي من الإرهاب الذي يخطط له في الولايات المتحدة. أمّا الكلمة الأخيرة التي أرادت غيفارا أن تنهي بها المنتدى فكانت «مجرّد رأي شخصي» في الوضع اللبناني، حيث تساءلت عن عدم وجود قوات دولية على الجانب الإسرائيلي من الحدود لحماية لبنان من اعتداءات العدو، فيما وصفت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بأنها أداة لتدمير البلاد. إشارة إلى أن غيفارا تختتم زيارتها للبنان اليوم، حيث تعقد مؤتمراً صحافياً في نقابة الصحافة عند الساعة الحادية عشرة صباحا، كما تزور النصب التذكاري لشهداء مجزرة صبرا وشاتيلا، وستضع إكليلاً من الزهر على ضريح القيادي في المقاومة عماد مغنية.
وسام متى
جعفر العطار
كانت الساعة الثالثة والنصف، فجر أمس الاول السبت، عندما قررت ثلة من الشبان استئناف قطع طريق المطار، قبالة مسجد «الرسول الأعظم»، المحاذي للمستشفى الذي يحمل الاسم نفسه.
بدت السعادة، ولا شيء غيرها، واضحة، مرسومة على وجوه الشبان الذين زاد عددهم عن الستين، عقب دقائق وجيزة من الخطوة الأولى التي اتخذوها، تجاورهم دراجات نارية. بسرعة، وبحركات متعاقبة، صار مسرح التعبير عن الغضب حول انقطاع التيار الكهربائي، جاهزاً: جرّ مستوعبات النفايات، وقلبها يمنة ويسرة، ثم دس الإطارات المطاطية بينها، فإضرام النار من قوارير وقود متوسطة الحجم.
بذاك، تحوّل المكان إلى نقطة محظورة، ممنوعة، حرّم الدخول إليها، أو الخروج منها، فيما المشرفون عليها يتولون تنظيم الفوضى: شاب عشريني بنظارات سوداء، يوجّه الأوامر لزملائه الذين علت وجوههم حماسة مفرطة.
حماسة مجهولة الدوافع: قطع الطريق من باب التسلية، أم أنهم وجدوا أنفسهم فجأة في ذلك الموقع، بسبب معاناة حفظوها ظهراً عن قلب؟ معاناة حولتهم الى مضطهدين، مهمّشين، مبعدين عن سبل الحياة البديهية عنوةً؟ يرون كم هم مهمّشون، وفي الوقت ذاته مهملون، فيتحول الاحتجاج إلى مجرد احتجاج، لا يجدي تغييراً أو لفتة ممن يفترض أن يهتم بشؤونهم. ضعفاء يستقوون على من يفترضون أنهم باحتجاجهم باتوا يملكون سلطة عليهم، ولو لدقائق، ولو من دون وجه حق. كانت حماسة واضحة. الحماسة للشعور، ولو بتلك الطريقة، بأن في أيديهم سلطة ما.
بعد خمس دقائق، أو أكثر تقريباً، ثبت الحجر الأخير، الكبير، في الزاوية المحاذية للمستشفى، فصار المرور في ذلك الطريق، والطريق المجاور لمحطة الوقود، مستحيلاً وعسيراً. كان الدخان الأسود يتصاعد بكثافة غريبة، تاركاً وراءه ألسنة اللهب البرتقالية اللون، والتي شكلت إنذاراً أولياً لسائقي السيارات، قبل وصولهم إلى تلك النقطة.. إلى «الغابة».
لم تكن الإنذارات رادعة، بل ربما تحولت إلى نقطة جذب، فصارت تتكاثر أعداد السيارات، بينما راح أصحابها يتوسلون الشبان طالبين منهم السماح لهم باجتياز العوائق للدخول إلى المستشفى، أو بغية التوجه إلى المنزل، إلا ان الإجابات كانت واضحة: «ممنوع. أنظر... الطريق مقطوعة. هيا، عد أدراجك».
الدخان الأسود يتسلل إلى نوافذ المستشفى تارة، ويلف «مركز بيروت للقلب» تارة أخرى. الدخان الأسود يقترب من محطة «الأيتام» حيناً، ويقتحم مطعم «الساحة» حيناً آخر. صورة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله تحترق. الشبان يهرولون متأبطين الإطارات المطاطية. فتى النظارات الشمسية يمشي مرحاً.
تصل سيارة أجرة، حديثة الطراز إلى حد ما، من جهة محطة «الأيتام»، ويركن سائقها قبالة ألسنة اللهب، ثم يترجل ليزيح إطاراً يحترق بغية المرور. وفيما يتكئ الرجل الأربعيني على عكازه، نظراً لحال ساقه المبتورة، تقفز مجموعة قوامها حوالى ستة شبان، من الجهة المقابلة، لتحتشد أمامه بغتة، ويزعق أحدهم: «قف عندك. إلى أين تظن أنك ذاهب؟ هيا، استقل سيارتك بهدوء، أفضل من أن تُبتر ساقك الأخرى!». يعود الرجل، بصمت.
ماذا يحدث؟ على من يثور هؤلاء؟ بوجه من يزعقون، ولماذا؟ أين قوى الأمن اللبنانية، من درك وجيش؟ أين أفراد الأحزاب المحلّية، الذين اعتادوا في مثل هذه اللحظات أن ينتشروا بين الناس؟ أين أفراد فرع المعلومات؟ أين قوى الأمن الداخلي؟ أين الدولة؟
تستقر الساعة عند الرابعة والنصف فجراً. يسير شاب عشريني، في مشية تشبه مشية نابليون: يشبك يديه خلف ظهره، وينفخ صدره، عالياً. يمشي محدقاً بأقران له يفترشون الطريق بالإطارات كل عشر دقائق، فيرفع إحدى يديه ويهتف قائلاً: «انتبهوا إلى هذه الحافلة، يبدو أنها محملة بمواد غذائية. تصرّفوا!».
في الصندوق الخلفي للحافلة، جلس ثلاثة شبان، بدا كأنهم عمال مصريون، على أكياس من الطحين. يقترب فتى النظارات الشمسية، بخطوات واثقة، من الحافلة ويلوّح بيده للسائق كي يتوقف. يمتثل الأخير، ويقول لفتى النظارات انه متوجه إلى الحازمية. يزيح الفتى النظارات، لإضفاء طابع جدّي على حديثه ربما، ويقول بصوت هامس: «هيا، عد من حيث أتيت. لا أريد أن أسمع أي كلمة».
وفيما يتهيأ السائق ليعود أدراجه، نزولاً عند رغبة الشاب الذي يُعتبر – من جهة السنّ – كحفيد للسائق، عمد شابان ملثمان إلى تسلّق الحافلة، وهما يوجهان الشتائم للعمّال، ثم حاولا حمل كيس طحين، بيد أن السائق همّ بالرحيل مسرعاً. تُرسم ابتسامة عريضة على وجه أحدهما، ويردف: «أشعر انني في حرب أهلية. حبذا لو نوفّق، الآن، بحافلة محمّلة بالأموال أو الطعام الفاخر!».
دخان أسود، كثيف، يسبح في فضاء المستشفى، وفي فضاء المركز. «مركز بيروت للقلب».
الخامسة والنصف فجراً: دراجات نارية تتوافد إلى محيط النيران، ليرمي الشبان إطارات جديدة. شبان آخرون يجلسون على حافة الرصيف، يدخنون النرجيلة، أو يتناولون وجبة الفطور. شبان يستعرضون حركات بهلوانية، عبر الدراجات الصغيرة الحجم. لا عناصر أمنية لبنانية بعد، لا وجود لأي عنصر تابع للدولة، أو حتى لـ«الحزب» أو «حركة». شباب، فقط.
تشق سيارة من نوع «رانج روفر» بيضاء اللون طريقها، بين ألسنة النار، متخطيةً الحاجز الأول، فتصير بالقرب من المسجد، حيث يتصدى لها فتى النظارات، من دون أن يشكّ للحظة ان سائق السيارة يمكن أن يدهسه. «أمي في المستشفى!» يصرخ السائق، متجاهلاً وقوف الفتى، ثم يتخطى الحاجز الثاني، حتى يصل إلى مدخل الطوارئ. جنون.
يصاب الفتى، الذي خلع نظارته ورماها على الأرض، بنوبة جنون غريبة. يقفز في الهواء ويشتم، تزامناً مع افتعال حركات بهلوانية غاضبة، حتى وصلت سيارتان، إحداهما أجرة، إلى الباحة.. إلى «الغابة».
واستكمالاً لنوبة الجنون التي اجتاحت الفتى، يتقدّم مسرعاً باتجاه سيارة الأجرة، ويركض خلفه الشبان، الملثمون منهم، وغير الملثمين، في مشهد يرغب بالتدليل على غضب يساوي غضب زميلهم. يصل الفتى إلى مقربة من السيارة التي تجاوزته، وينهمك بالضرب على صندوقها، تماماً كما بدأ مواسوه يضربون السيارة من جهات عدة، من دون سابق إنذار، موجهين كلمات وشتائم غير مفهومة. ماذا يحدث؟ هل يكون السائق، هو سبب بلاء الكهرباء في لبنان؟
كلا. الفتى يفرّغ غضبه في السائق الذي فرّ منه. والشبان، يواسون الشاب الغاضب فقط. «المواساة» لم تتوقف عن التحطيم، بل حاول عماد س.، أي فتى النظارات، أن يسحب السائق من السيارة ليبرحه ضرباً، وهو يردد أن اسمه «عماد س« بأعلى صوت. لكن أحد الرجال الذي كان يهم بالخروج من المسجد، زعق بوجه عماد ونحّاه جانباً. عماد كان يصرخ قائلاً: «دعوني أقتله! دعوني!». ماذا يحدث؟
يُطرد السائق الخمسيني، وتغادر السيارة الثانية، من دون أدنى محاولة للتوسل، خشيةً من الوقوع في الشرك نفسه، بينما راح بعض الشبان يتحدثون، في الهمس، عن موقف عماد البطولي، وكيف فجّر غضبه بوجه الخمسيني من دون الاكتراث لأحد.
كانت الباحة، الغابة، أشبه بزوايا قسمت على ضفتي الطريق، تحضن كل منها مجموعة من الشباب. بيد أنه لا فرق بين الزاوية والأخرى، من حيث المضمون. مرايا. كانوا أشبه بالمرايا لبعضهم بعضاً.
تمرّ ساعة كاملة، والمشهد على نفسه، لولا انبلاج الصباح وانتشار الضوء: إشكالات متقطعة مع أصحاب سيارات وحافلات مارّة، من مختلف الأعمار، وممانعة إزاء توسلاتهم والذرائع التي يقدمونها بغية اجتياز الحواجز.
سحب من الدخان تتصاعد، ثم يعاد إضرام النيران قبل أن تخمد. الزوايا نفسها. الأحاديث نفسها. الشعور بالفخر نفسه. نابليون يمشي بين أصدقائه متفقداً ومطمئناً. عماد ليس هنا. والقوى الأمنية، ليست هنا. لا أحد، هنا.
مع انبلاج الصباح، صارت الرؤية أوضح. وصارت، للمشاركة في قطع الطريق، هوية لا مناص من إبرازها، والعمل على تنقيتها: شحوب الوجه، والجسد العاري في قسمه الأعلى، لونه بلون الدخان الأسود. «التنقية» تكون عبر تعريض الوجه للدخان أكثر، فيصير «نقياً من النظافة». النظرية المعاكسة، تماماً كفكرة الثورة على الناس، عوضاً عن الثورة على الدولة.
الشبان، الذين علت وجوههم تلك الهوية، كانوا يمشون مزهوين، سعداء، بما لونت أيمانهم، كأنهم يقولون: «هذا أنا. احفظوا وجهي جيداً. لقد شاركت معكم يوماً ما». تبدأ أعدادهم في التضاؤل قليلاً، عند الساعة السابعة.
عند الثامنة والنصف تقريباً، تصل دورية تابعة للجيش اللبناني، لتعمل على تفريق الحشود الباقية، ثم إزالة العوائق وفتح الطريق.
تصل القوى الأمنية، كما يصل «البوليس» في بعض الأفلام السينمائية، متأخراً. وصل «الأمن» بعدما تعرض ناس أبرياء، لا علاقة لهم بانقطاع التيار الكهربائي، للضرب والذل على أيدي شبان «أبطال»، بالقرب من الجسر الذي رفعت عليه لافتة «أمانة الشهداء»، وبالقرب من مسجد تابع لحزب محلي.
ماذا يجري داخل «كتلة المستقبل» ولماذا هذا الارتباك في الموقف السياسي؟ قامت قيامة «النواب الزرق» على الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسـن نصر الله، حتى من قبل أن يفرغ من قول ما لديه في مؤتمره الصحافي الأخير. الرفض لكلام «السيد» بالمطلق كما لأي تشكيك بالمحكمة والتحقيق، هو رفض سياسي بامتياز قبل أن يكون تقنيا... ربما «تبرّع» البعض بالاجتهاد من عندياته من دون أن يعود إلى من يجب أن يعود إليه تبعا للرتبة. هنا يكون الحق على دولة رئيس الحكومة سعد الحريري الموجود على متن «عصفورته البحرية» السـابحة في سـردينيا. أمس الأول، أبلغ أحد نواب كتلة «المستقبل»، «السفير» كلاماً سياسياً للرئيس الحريري، في سياق مقاربته للمؤتمر الصحافي الأخير للسيد نصر الله. وضع رئيس الحكومة، وفق ما نسب إليه، التماسك الداخلي والعدالة في سلة واحدة، بمعنى أن لا شيء يلغي الآخر. أعطى لكلام «السيد» بعدا «شديد الأهمية والحساسية»، وأتبع ذلك بالدعوة إلى إعطاء كل الوقت والجهد المطلوبين للتحقيق على قاعدة النظر بجدية لما قاله الأمين العام لـ«حزب الله».. وصولا للقول «إذا تبين أن القرائن والمعطيات التي قدمها نصر الله تتطلب الاستماع إلى إسرائيليين ورفضت إسرائيل التجاوب، فهي ستتحول بالنسبة إليّ (رئيس الحكومة) من متهمة إلى مدانة». بالطبع، كان للكلام المنسوب لرئيس الحكومة وقع طيب على الناس المتلهفين للخروج من مضيق الخوف والفتنة. كان كثيرون يسألون عن موقف الحريري، وها هو الرجل، عبر المقرّبين منه، يقول كلاما عاقلا، في لحظة سياسية مفصلية في تاريخ لبنان. لم تكتف «السفير» بذلك، بل دققت في الأمر مع أحد الوزراء من فريق الأكثرية، وكان جوابه أن ما قاله رئيس الحكومة هو الموقف العاقل والحكيم وأنه بطبيعة الحال، يؤسس لتواصل بينه وبين السيد نصر الله بعد عودته الى بيروت. تزامن ذلك أيضا، مع تأكيد من وزير من كتلة أخرى للكلام نفسه، كما لانتقال رئيس الحكومة من باريس الى الرياض. وكما كان متوقعا، أحدث كلام رئيس الحكومة، أمس، الصدى المطلوب سياسيا، خاصة في «حزب الله» الذي كان بعض قيادييه من المبكرين في الاستفسار والتدقيق، كما في الأوساط السورية التي دققت بدورها بالكلام، من جهة، وأشادت به من جهة أخرى، معتبرة أنه ينم «عن روح وطنية وتحسس للمسؤولية». وبالطبع أيضا، لم يكن متوقعا أن يلقى هذا الموقف ترحيبا من بعض أوساط فريق الأكثرية، وخاصة من مسيحيي 14 آذار. غير أن المفارقة اللافتة للانتباه أن بعض نواب «كتلة المستقبل»، بمعزل عن الأسماء، شكلوا ما يشبه «خلية أزمة». فتحت الخطوط وتم استدعاء بعض المستشارين الإعلاميين في أكثر من موقع. تم التدقيق في مصدر التسريب وقيل إنه من غير الجائز أن يقال ما قيل بينما كان سقف «كتلة المستقبل» السياسي أقل من ذلك بكثير. تخطت المشاورات بيروت، نحو باريس والرياض ولم تأت أجوبة قاطعة، بل حصلت اجتهادات، مصدرها بعض «المستشارين» الذين اعتادوا تلقين بعض النواب بالفاكس أو عبر الهاتف. كان الأنسب أن يتم استيعاب الارتباك الناجم عن الكلام المنسوب لرئيس الحكومة، بالصمت في انتظار ما سيقوله قريبا. البعض غامر منذ الصباح ترحيبا بحرارة عبر إحدى الإذاعات. الثاني، تبنى أيضا عبر إحدى أبرز الشاشات التلفزيونية. فجأة يخرق «جدار الصوت» ثالث من «الصقور» عبر موقع 14 آذار ويقول كلاما حاداً جداً، تجاه «حزب الله» ولعله كان الأدق تعبيرا عن موقف «حماة الهيكل»، لجهة القول ضمنا إنهم المرجعية الصالحة لتحديد «المصلحة الزرقاء» وتظهير الموقف و«من غير الجائز أن يتم تجاوزنا»!. استنجد أحد من أطلوا عبر الشاشة، بصديق لكن جاءت النجدة متأخرة، فطلب من رئيس تحرير نشرة أخبار المؤسسة المذكورة توضيحا من ثلاث نقاط: أولا، رئيس الحكومة لم يعط تصريحا لأية صحيفة بما في ذلك «السفير» (بالمناسبة نقلت «السفير» عن مقربين منه وليس عنه مباشرة)، ثانيا، الموقف الوحيد للكتلة هو البيان الصادر عنها (أمس الأول)، ثالثا، لم يلتق رئيس الحكومة العاهل السعودي. وبين هذا وذاك، كان ثالث ورابع وخامس يردد موقفا «بين الاثنين» (راجع مواقف نواب المستقبل ص3)، في تعبير مباشر و«على الهواء مباشرة»، عن عدم توصل رئيس الحكومة إلى قرار نهائي لموضوع المخرج. صحيح أنه تبنى الكلام الذي قاله العاهل السعودي والرئيس السوري بأن الفتنة المذهبية في لبنان خط أحمر وأن تداعياتها ومخاطرها تتجاوز الداخل اللبناني لتصيب الاستقرار في المنطقة العربية... ولكنه سيعلن أول موقف له مما طرح ويطرح، في إفطار رمضاني يقام في قريطم، يوم غد، علما أن بعض الأوساط القريبة جدا منه جددت القول، أمس، إن المستغرب «أن يستغرب البعض الكلام المنسوب للحريري، في «السفير»، أمس». الموقف نفسه، ردده رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط الموجود في باريس، عندما كان يتشـاور هاتفيا، نهار أمس، مع الوزيرين غازي العريضي ووائل أبو فاعور، وأبلغهما ارتياحه الشديد لما نسب للحريري، معتبرا أنه بذلك يكمل ما قاله السيد نصر الله وما بلغه من الرئيس نبيه بري، وكل ذلك يساهم في تلمس المخرج للمأزق الذي بلغه الجميع. أكثر من ذلك، نقل مقربون من رئيس الجمهورية ميشال سليمان عنه اهتمامه الشديد بما نسب للحريري، خاصة أنه يستعد اليوم، مع عودة رئيس الحكومة، الى دعوة مجلس الوزراء للانعقاد في جلسة عادية يوم الأربعاء المقبل، في المقر الصيفي لرئاسة الجمهورية في بيت الدين، وعلى جدول أعمالها 92 بندا، بالإضافة الى ما يتصل بأحداث الجنوب الأخيرة وخاصة حادثة عديسة، والتمديد لـ«اليونيفيل» وملف العملاء والشكوى المنوي تقديمها لمجلس الأمن، فضلا عن موضوع المحكمة الدولية «في ضوء ما قدمه السيد نصر الله من معطيات وقرائن هامة جدا»، علما أن رئيس الجمهورية تبلغ بوجود اتجاه لدى وزراء المعارضة للدفع باتجاه توقيع أحكام الإعدام الصادرة بحق بعض العملاء. في ظل هذا المناخ السياسي، انبرى من يقول من داخل كتلة المستقبل، وبلغة حريصة جدا، إن ما نقل من كلام عن رئيس الحكومة، أمس، «أكيد ولو أن من نقله أساء التعبير في أحسن تقدير... المهم أن المضمون صحيح»، نائب آخر، من خارج العاصمة، عبّر عن الواقع بالقول «نحن نفتقد الى ضابط الإيقاع... لكن منطق الأمور يقول إنه اذا كان هناك مشروع لقاء بين رئيس الحكومة والسيد نصر الله، فلا يمكن ملاقاته إلا بكلام مسؤول كهذا». الحركة في الوسط السياسي والإعلامي عند «حماة الهيكل» تشير الى أنهم يدفعون مجددا باتجاه الاشتباك. بعضهم يتبنى نظرية بعض أمانة 14 آذار بوجوب الالتصاق بالسوري بالكامل من أجل الاستقواء به على «حزب الله». هؤلاء لا يعلمون علم اليقين، ما يردده قادة سوريا من جهة وما أصاب حنجرة سفيرها في بيروت من جهة ثانية، لكثرة ترداده: «روحوا خيطوا بغير هذه المسلة»! جمهور سعد الحريري، وهو جمهور رفيق الحريري، بدا بأغلبيته، أمس مرتاحا لما نسب الى زعيمه. لا أحد يريد في لبنان الفوضى أو الفتنة. يلتقي جمهوره مع الجمهور الآخر، في الحرص على الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي. ليس صحيحا ما يردده البعض، خاصة «الصقور» من أن المعارضة تريد أن تكسر سعد الحريري. الكل، في الداخل والخارج، يريد حماية رئيس الحكومة... ومن يدفعه لقول عكس ما نسب اليه، كأنه يشتهي الكرسي الى درجة أنه لم يعد يتمناها لغيره، طالما أنها تبتعد عنه يوما بعد يوم... وطالما أن استمرار الحكومة الحالية، شرطه الأساس، عند من يعنيهم الأمر، في الداخل والخارج، حماية المقاومة وعدم المس بها.