جعفر العطار
كانت الساعة الثالثة والنصف، فجر أمس الاول السبت، عندما قررت ثلة من الشبان استئناف قطع طريق المطار، قبالة مسجد «الرسول الأعظم»، المحاذي للمستشفى الذي يحمل الاسم نفسه.
بدت السعادة، ولا شيء غيرها، واضحة، مرسومة على وجوه الشبان الذين زاد عددهم عن الستين، عقب دقائق وجيزة من الخطوة الأولى التي اتخذوها، تجاورهم دراجات نارية. بسرعة، وبحركات متعاقبة، صار مسرح التعبير عن الغضب حول انقطاع التيار الكهربائي، جاهزاً: جرّ مستوعبات النفايات، وقلبها يمنة ويسرة، ثم دس الإطارات المطاطية بينها، فإضرام النار من قوارير وقود متوسطة الحجم.
بذاك، تحوّل المكان إلى نقطة محظورة، ممنوعة، حرّم الدخول إليها، أو الخروج منها، فيما المشرفون عليها يتولون تنظيم الفوضى: شاب عشريني بنظارات سوداء، يوجّه الأوامر لزملائه الذين علت وجوههم حماسة مفرطة.
حماسة مجهولة الدوافع: قطع الطريق من باب التسلية، أم أنهم وجدوا أنفسهم فجأة في ذلك الموقع، بسبب معاناة حفظوها ظهراً عن قلب؟ معاناة حولتهم الى مضطهدين، مهمّشين، مبعدين عن سبل الحياة البديهية عنوةً؟ يرون كم هم مهمّشون، وفي الوقت ذاته مهملون، فيتحول الاحتجاج إلى مجرد احتجاج، لا يجدي تغييراً أو لفتة ممن يفترض أن يهتم بشؤونهم. ضعفاء يستقوون على من يفترضون أنهم باحتجاجهم باتوا يملكون سلطة عليهم، ولو لدقائق، ولو من دون وجه حق. كانت حماسة واضحة. الحماسة للشعور، ولو بتلك الطريقة، بأن في أيديهم سلطة ما.
بعد خمس دقائق، أو أكثر تقريباً، ثبت الحجر الأخير، الكبير، في الزاوية المحاذية للمستشفى، فصار المرور في ذلك الطريق، والطريق المجاور لمحطة الوقود، مستحيلاً وعسيراً. كان الدخان الأسود يتصاعد بكثافة غريبة، تاركاً وراءه ألسنة اللهب البرتقالية اللون، والتي شكلت إنذاراً أولياً لسائقي السيارات، قبل وصولهم إلى تلك النقطة.. إلى «الغابة».
لم تكن الإنذارات رادعة، بل ربما تحولت إلى نقطة جذب، فصارت تتكاثر أعداد السيارات، بينما راح أصحابها يتوسلون الشبان طالبين منهم السماح لهم باجتياز العوائق للدخول إلى المستشفى، أو بغية التوجه إلى المنزل، إلا ان الإجابات كانت واضحة: «ممنوع. أنظر... الطريق مقطوعة. هيا، عد أدراجك».
الدخان الأسود يتسلل إلى نوافذ المستشفى تارة، ويلف «مركز بيروت للقلب» تارة أخرى. الدخان الأسود يقترب من محطة «الأيتام» حيناً، ويقتحم مطعم «الساحة» حيناً آخر. صورة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله تحترق. الشبان يهرولون متأبطين الإطارات المطاطية. فتى النظارات الشمسية يمشي مرحاً.
تصل سيارة أجرة، حديثة الطراز إلى حد ما، من جهة محطة «الأيتام»، ويركن سائقها قبالة ألسنة اللهب، ثم يترجل ليزيح إطاراً يحترق بغية المرور. وفيما يتكئ الرجل الأربعيني على عكازه، نظراً لحال ساقه المبتورة، تقفز مجموعة قوامها حوالى ستة شبان، من الجهة المقابلة، لتحتشد أمامه بغتة، ويزعق أحدهم: «قف عندك. إلى أين تظن أنك ذاهب؟ هيا، استقل سيارتك بهدوء، أفضل من أن تُبتر ساقك الأخرى!». يعود الرجل، بصمت.
ماذا يحدث؟ على من يثور هؤلاء؟ بوجه من يزعقون، ولماذا؟ أين قوى الأمن اللبنانية، من درك وجيش؟ أين أفراد الأحزاب المحلّية، الذين اعتادوا في مثل هذه اللحظات أن ينتشروا بين الناس؟ أين أفراد فرع المعلومات؟ أين قوى الأمن الداخلي؟ أين الدولة؟
تستقر الساعة عند الرابعة والنصف فجراً. يسير شاب عشريني، في مشية تشبه مشية نابليون: يشبك يديه خلف ظهره، وينفخ صدره، عالياً. يمشي محدقاً بأقران له يفترشون الطريق بالإطارات كل عشر دقائق، فيرفع إحدى يديه ويهتف قائلاً: «انتبهوا إلى هذه الحافلة، يبدو أنها محملة بمواد غذائية. تصرّفوا!».
في الصندوق الخلفي للحافلة، جلس ثلاثة شبان، بدا كأنهم عمال مصريون، على أكياس من الطحين. يقترب فتى النظارات الشمسية، بخطوات واثقة، من الحافلة ويلوّح بيده للسائق كي يتوقف. يمتثل الأخير، ويقول لفتى النظارات انه متوجه إلى الحازمية. يزيح الفتى النظارات، لإضفاء طابع جدّي على حديثه ربما، ويقول بصوت هامس: «هيا، عد من حيث أتيت. لا أريد أن أسمع أي كلمة».
وفيما يتهيأ السائق ليعود أدراجه، نزولاً عند رغبة الشاب الذي يُعتبر – من جهة السنّ – كحفيد للسائق، عمد شابان ملثمان إلى تسلّق الحافلة، وهما يوجهان الشتائم للعمّال، ثم حاولا حمل كيس طحين، بيد أن السائق همّ بالرحيل مسرعاً. تُرسم ابتسامة عريضة على وجه أحدهما، ويردف: «أشعر انني في حرب أهلية. حبذا لو نوفّق، الآن، بحافلة محمّلة بالأموال أو الطعام الفاخر!».
دخان أسود، كثيف، يسبح في فضاء المستشفى، وفي فضاء المركز. «مركز بيروت للقلب».
الخامسة والنصف فجراً: دراجات نارية تتوافد إلى محيط النيران، ليرمي الشبان إطارات جديدة. شبان آخرون يجلسون على حافة الرصيف، يدخنون النرجيلة، أو يتناولون وجبة الفطور. شبان يستعرضون حركات بهلوانية، عبر الدراجات الصغيرة الحجم. لا عناصر أمنية لبنانية بعد، لا وجود لأي عنصر تابع للدولة، أو حتى لـ«الحزب» أو «حركة». شباب، فقط.
تشق سيارة من نوع «رانج روفر» بيضاء اللون طريقها، بين ألسنة النار، متخطيةً الحاجز الأول، فتصير بالقرب من المسجد، حيث يتصدى لها فتى النظارات، من دون أن يشكّ للحظة ان سائق السيارة يمكن أن يدهسه. «أمي في المستشفى!» يصرخ السائق، متجاهلاً وقوف الفتى، ثم يتخطى الحاجز الثاني، حتى يصل إلى مدخل الطوارئ. جنون.
يصاب الفتى، الذي خلع نظارته ورماها على الأرض، بنوبة جنون غريبة. يقفز في الهواء ويشتم، تزامناً مع افتعال حركات بهلوانية غاضبة، حتى وصلت سيارتان، إحداهما أجرة، إلى الباحة.. إلى «الغابة».
واستكمالاً لنوبة الجنون التي اجتاحت الفتى، يتقدّم مسرعاً باتجاه سيارة الأجرة، ويركض خلفه الشبان، الملثمون منهم، وغير الملثمين، في مشهد يرغب بالتدليل على غضب يساوي غضب زميلهم. يصل الفتى إلى مقربة من السيارة التي تجاوزته، وينهمك بالضرب على صندوقها، تماماً كما بدأ مواسوه يضربون السيارة من جهات عدة، من دون سابق إنذار، موجهين كلمات وشتائم غير مفهومة. ماذا يحدث؟ هل يكون السائق، هو سبب بلاء الكهرباء في لبنان؟
كلا. الفتى يفرّغ غضبه في السائق الذي فرّ منه. والشبان، يواسون الشاب الغاضب فقط. «المواساة» لم تتوقف عن التحطيم، بل حاول عماد س.، أي فتى النظارات، أن يسحب السائق من السيارة ليبرحه ضرباً، وهو يردد أن اسمه «عماد س« بأعلى صوت. لكن أحد الرجال الذي كان يهم بالخروج من المسجد، زعق بوجه عماد ونحّاه جانباً. عماد كان يصرخ قائلاً: «دعوني أقتله! دعوني!». ماذا يحدث؟
يُطرد السائق الخمسيني، وتغادر السيارة الثانية، من دون أدنى محاولة للتوسل، خشيةً من الوقوع في الشرك نفسه، بينما راح بعض الشبان يتحدثون، في الهمس، عن موقف عماد البطولي، وكيف فجّر غضبه بوجه الخمسيني من دون الاكتراث لأحد.
كانت الباحة، الغابة، أشبه بزوايا قسمت على ضفتي الطريق، تحضن كل منها مجموعة من الشباب. بيد أنه لا فرق بين الزاوية والأخرى، من حيث المضمون. مرايا. كانوا أشبه بالمرايا لبعضهم بعضاً.
تمرّ ساعة كاملة، والمشهد على نفسه، لولا انبلاج الصباح وانتشار الضوء: إشكالات متقطعة مع أصحاب سيارات وحافلات مارّة، من مختلف الأعمار، وممانعة إزاء توسلاتهم والذرائع التي يقدمونها بغية اجتياز الحواجز.
سحب من الدخان تتصاعد، ثم يعاد إضرام النيران قبل أن تخمد. الزوايا نفسها. الأحاديث نفسها. الشعور بالفخر نفسه. نابليون يمشي بين أصدقائه متفقداً ومطمئناً. عماد ليس هنا. والقوى الأمنية، ليست هنا. لا أحد، هنا.
مع انبلاج الصباح، صارت الرؤية أوضح. وصارت، للمشاركة في قطع الطريق، هوية لا مناص من إبرازها، والعمل على تنقيتها: شحوب الوجه، والجسد العاري في قسمه الأعلى، لونه بلون الدخان الأسود. «التنقية» تكون عبر تعريض الوجه للدخان أكثر، فيصير «نقياً من النظافة». النظرية المعاكسة، تماماً كفكرة الثورة على الناس، عوضاً عن الثورة على الدولة.
الشبان، الذين علت وجوههم تلك الهوية، كانوا يمشون مزهوين، سعداء، بما لونت أيمانهم، كأنهم يقولون: «هذا أنا. احفظوا وجهي جيداً. لقد شاركت معكم يوماً ما». تبدأ أعدادهم في التضاؤل قليلاً، عند الساعة السابعة.
عند الثامنة والنصف تقريباً، تصل دورية تابعة للجيش اللبناني، لتعمل على تفريق الحشود الباقية، ثم إزالة العوائق وفتح الطريق.
تصل القوى الأمنية، كما يصل «البوليس» في بعض الأفلام السينمائية، متأخراً. وصل «الأمن» بعدما تعرض ناس أبرياء، لا علاقة لهم بانقطاع التيار الكهربائي، للضرب والذل على أيدي شبان «أبطال»، بالقرب من الجسر الذي رفعت عليه لافتة «أمانة الشهداء»، وبالقرب من مسجد تابع لحزب محلي.