«ألحين حلال أرضّع السوّاق وحرام أسوق؟!» سألت سيّدة سعوديّة بعد فتوى إرضاع الكبير. فتوى الشيخ عبد المحسن بن ناصر العبيكان (الصورة) الشهيرة هذه ليست جديدة، إذ أجازت «إرضاع الكبير إذا احتاج أهل بيت ما إلى رجل أجنبي يدخل عليهم تكراراً». الجديد هو حملة أطلقتها نساء سعوديات تحت عنوان «يا نسوق... يا نرضّع» . وكتبت الكاتبة السعوديّة أمل زاهد على أحد المواقع العربيّة: «الفتوى العجائبية تقود بالضرورة (...) إلى إثارة السخرية». وقالت زاهد إنّ فتوى العبيكان تنطبق حرفياً على السائقين. لذا من الأفضل إرضاعهم للقضاء على مشكلة «المجالسة» في السيارة. وأضافت: «الخادمة هي الأخرى ليست محرماً لرب الأسرة...، فلماذا لا ترضع ربة الأسرة الخادمة أيضاً؟». من جهته، أوضح العبيكان في تصريح لصحيفة «الوطن» السعودية أنّ «هناك حسّاداً يستغلون أي فتوى تصدر مني وتكون جديدة على بعض العامة لإثارة البلبلة»، وذلك بسبب حربه على الإرهاب والغلوّ والتطرف الديني على حدّ تعبيره.
ما إن انتهت المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية، حتّى اختفى الحديث عن الطابع الإنمائي للبلديات. السياسيون أنفسهم الذين أباحوا لأنفسهم المحظورات في التحالف وتأليف اللوائح بحجّة أنّ المعركة غير سياسية، عادوا وعلّقوا على نتائج الانتخابات مستخلصين منها العِبر السياسية. هكذا انتشى البعض لما اعتبره انتصاراً لخطّه السياسي، فيما جهد البعض الآخر لتبرير خسارته. ميشال عون، مثلاً، رأى أنّ معارك البلديات أثبتت أنّ الرابية لا تزال مرجعية جبل لبنان. وفي المقابل، رأى سمير جعجع أنّ البلديات أثبتت أنّ أكثر من نصف سكان جبل لبنان مؤيّدون لمشروع 14 آذار. لكن، إن كان الوضع كذلك، فلمَ لم تُخَض الانتخابات بشعارات سياسيّة؟ الواقع أنّ وضع العائلات في مواجهة الأحزاب في الانتخابات البلدية ليس دقيقاً تماماً. فالأحزاب في جزء كبير من تكوّنها، ما هي إلا تجمّع للعائلات. قلّة من الأفراد في لبنان هم الذين ينهضون صباحاً ويجرون بعض الحسابات الفكرية والمصلحية، فيقرّرون الانتساب إلى حزب ما. ولذلك، لم تقم معظم الأحزاب السياسية بأي دور لمكافحة بنى المجتمع التقليدية. فشكّلت إطاراً واسعاً لا ينضوي تحته الأفراد، بل الجماعات التقليدية نفسها. لم تنجح الأحزاب تالياً في التحوّل إلى مؤسسات. وهي غالباً ما تُختصَر بشخص الزعيم الأوحد. ويصبح الزعيم هو القناة بين العائلات والطوائف من جهة، وبين أجهزة الدولة من جهة أخرى. فالعائلات بحاجة إلى الزعماء والأحزاب لتتفاهم مع أجهزة الدولة الحديثة، تلك الأجهزة التي يفترض أنّ آلياتها لا تعترف بحقوق جماعة تدعى العائلة، أو بحاجات خاصة لتلك الجماعة. لذلك، يعيش لبنان ما يشبه المفاوضات الدائمة، إذا جاز التعبير، بين الدولة والعائلة. وهي مفاوضات يتولّاها الزعيم شخصياً (ميشال المر نموذجاً) أو الحزب في أحيان كثيرة (حماية أحزاب لبعض المطلوبين من الدولة). ثمّة ما يشبه لعبة «الغمّيضة» بين الحزب والعائلة في لبنان. تتلطّى العائلة خلف الحزب لتفاوض الدولة، ويتلطّى الحزب خلف العائلة ليفاوض القرية. وفيما يقال إنّ العالم يتّجه ليصبح قرية كونيّة كبيرة، ها هو لبنان ينكفئ ليصبح قرية صغيرة. وفي خضمّ ذلك، يحدّثونك عن نسبة الاقتراع!
هناك دوماً «عند قراءة أعمال الماضي العظيمة اختلاف في التشديد بين القارئ والكاتب»، كما يقول سي. ل. ر. جايمس في «اليعاقبة السود». ولكن هذا وحده لا يفسّر سرّ الإغواء الشديد بالحديث المتواصل والكتابة المستمرّة عن غسان كنفاني، بعد ثمانية وثلاثين عاماً على استشهاده. فليس هناك الكثير من الجدل حقاً بشأن ما كتب وما قصد، ما يستدعي إعادة التفسير والكتابة باستمرار. قد يكون هناك أيضاً سحر خاص بشخص غسان كنفاني ذاته، الذي نعرف اليوم أنه كان شخصية استثنائية في التاريخ الفلسطيني والعربي، يجعل من تذكّره المتواصل ولا إمكانية استنفاذ الحديث عنه إغواءً مستمرّاً للكثيرين، تماماً مثل لوركا أو نيرودا.ولكن قد تكون دلالة الصحو والقيام المتواصل لغسان ترتبط أكثر بالأهمية الفائقة لمشروعه الثوري، وضرورته الملحّة التي لا تزال قائمة حتى اليوم، إن لم تكن ضرورتها هذه الأيام أكثر أهمية من أيّ وقت مضى. لو لم يكن لكنفاني وما مثّله أهمية وضرورة قصوى في واقعنا اليوم، لربما كان قد انتقل ككل العظماء الذين انتهى دورهم واستنفذ الدور التاريخي لمشروعهم ولأفكارهم إلى مصافّ الأسطورة. لكنّ كنفاني لا يزال حياً وفاعلاً، وما عبّر عنه من تناقضات وهموم وما طرحه من أفكار وما مثّله من دلالات لا تزال حيةً بجوهرها تماماً كما كانت حين كان حياً جسداً. وواقع اليوم شهادة على صوابية هذه الأفكار وصلاحية هذا المشروع. لهذا، لم يصبح غسان أسطورة بعد، ولا يزال بوسعنا الحديث عن كنفاني الحي.كان غسان سياسياً بارعاً (وصاحب قيم إنسانية رفيعة) تمتّع بقدرة استثنائية على قراءة الواقع السياسي. قبل استشهاده بعام تقريباً (أي في سنّ الخامسة والثلاثين) قدّم كنفاني تشخيصاً دقيقاً لأحداث أيلول 1970 لا يمكن لقارئه إلا أن ينحني لمنطق سليم نفتقده اليوم، يجمع بين صوابية الرؤية السياسية وعمقها من جهة، ورفض تحميل المقاومة مسؤولية هذه الأحداث والدفاع عنها كخيار، من جهة أخرى. رأس المقاومة كان مطلوباً كمقدمة وشرط متضمن في خطة روجرز، والمقاومة كانت في موقع استباق الأحداث ومحاولة منع تصفيتها، والدفاع عن نفسها وعن ناسها، كما يقول كنفاني. ربما لا يزال البعض يلوم المقاومة، وهذا يستتبع (ويقصد منه عمداً) أحياناً تشويه المقاومة كفكرة، فيما يبدو في الظاهر مجرد نقد لسياسة أو ممارسة حزب أو فصيل. في هذه المقابلة القصيرة (نيو لفت ريفيو: رقم 67، أيار ـــــ حزيران 1971، الصفحة 50 ـــــ 57)، يعالج كنفاني بعمق موضوعات عديدة متعلقة بالثورة الفلسطينية تبدو صالحة بكل تفاصيلها حتى اليوم، لأنها تتعلق بذات المواضيع التي تشغلنا، وهذا يفسر في ما يفسر استذكارنا الدائم وحاجتنا المستمرة إليه. تحدث عن الثورة، الأنظمة العربية، فلسطين، غزة، الطفيليّين ومن سمّاهم الحكيم حبش «قصيري النفس»، وتحدث عن الكيان الصهيوني.كان غسّان أيضاً، ورغم صغر سنّه، مفكّراً استثنائياً. في ذات المقابلة وفي أقل من سطرين فقط، يفكّك، ينقد، ويرفض رؤية مفكر من عيار مكسيم رودنسون حول إسرائيل. إسرائيل حالة استعمارية، يشدّد كنفاني. ورؤية رودنسون أنّ المستوطنين كوّنوا بمرور الزمن (عشرين عاماً) أمّة، ليست أكثر من «مساومة نظرية» أو إجهاض نظري من قبل رودنسون، يقول كنفاني. رؤية رودنسون، إذن، سياسية بحتة، وتتضمن في ما تتضمن ليّ عنق مفهوم الأمة وتسطيح نظريات التاريخ، وتزوير معنى حق تقرير المصير لتوفّر تبريراً لوجود الكيان الصهيوني. الفكرة القائلة إنّ المستوطنين الصهاينة تحوّلوا بفعل الزمن (القصير جداً حقاً بالمقياس التاريخي) إلى أمة يجب الاعتراف بها، والاعتراف بحقها في تقرير المصير، والتي يتبنّاها البعض ممّن يدّعون امتهان التفكير، لا تزال موجودة في العديد من الأوساط. أن تكون في إسرائيل أمّة، وليس فقط «أمّة من المستوطنين» تستفيد فيها حتى ما تسمى (زوراً ربما) البروليتاريا من مكانتها الاستعمارية ومن الحالة الاستعمارية عموماً، فهذا لا يعني شيئاً على الإطلاق في ما يخص حقهم في تقرير المصير. فليست كل مجموعة أنتجت خيالات وأساطير إثنية مشتركة في هذا العالم تنعم بهذا الحق أو تطالب به.كانت إسرائيل مشروعاً استعمارياً، كما قال كنفاني، ولا تزال إسرائيل مشروعاً استعمارياً اليوم. والاستعمار يقترب من أن يكون واقعاً كلياً حقاً، إن تواضعنا ولم نقل واقعاً كلياً فعلاً، كما وصف جونا راسكين الإمبريالية في كتابه الرائع «ميثولوجيا الإمبريالية». وبالتالي، فإنّ الحالة الاستعمارية تطبع وتكوّن كل منتج أو إنتاج للحالة الاستعمارية مهما بدا في ظاهره أخّاذاً للبعض (وعي، فكر، ثقافة، أدب، فلسفة، مسرح، موسيقى، إلخ). ربّما يفسّر هذا إعجاب البعض برواية سامي ميخائيل «حمام الطرف الأغر»، التي تبدأ حيث ينتهي كنفاني في «عائد إلى حيفا»، رغم أنها تعيد إنتاج أسطورة ترابط المأساتين والمصير، كأنّ للضحية الفلسطينية أيّ ذنب في ما اقترفه الأوروبي، أو كأنّ المأساة الفلسطينية كانت الحل الوحيد والمنطقي لمأساة أوروبية. فهم كما يبدو يرون الرواية كعمل أدبي بحت، كأنه خارج التاريخ وخارج سياق الحالة الاستعمارية التي تمثلها إسرائيل. هكذا أيضاً يصبح ديفيد غروسمان مبدعاً وناشط سلام، حسب وصف بعض المدوّنات، وهو الذي وصف ابنه قائد الدبابة الذي ذهب لقتل الأطفال والمدنيين في لبنان في حرب تموز، التي أيّدها الأب مع أدباء إسرائيليين آخرين حتى يوم سقوط ابنه مع دبابته على يد المقاومة، بأنه تعبير عن جوهرانية إسرائيل وصاحب قيم إنسانية. قد تكون هذه منظومة القيم والأخلاق ذاتها التي سخر منها ورفضها كنفاني كأساس للحكم على أعمال المقاومة في إجابته عن السؤال الأول في المقابلة السالفة الذكر، وقد تكون هذه المنظومة الأخلاقية ذاتها التي ينتقد أصحابها إسرائيل بدافع حبهم لها والحفاط عليها، كما فعل «الفيلسوف» برنار هنري ليفي، الذي أصبح أضحوكة لاقتباسه عن جهل فيلسوفاً مختلقاً في كتابه الأخير عن كانط.لو تجاوزنا عامل اللغة المفترض أن تكون مشتركة بين أفراد أي أمة، التي تعلّمها معظم مستوطني الكيان كلغة ثانية أو ثالثة لا أولى، ولو تجاوزنا حقيقة أن معظم المستوطنين القادمين من أوروبا بالأساس (كل إسرائيلي هو مستوطن، وهم مستوطنون بيض حقاً، وأدبياتهم الأولى والجديدة تعكس وتُماثل وعي المستوطنين البيض، كما أشار غابريئيل بيتربيرغ في «عودة الصهيونية») والذين يستوطنون فلسطين اليوم، لم يولدوا في فلسطين. ولو تجاوزنا الانقسام العرقي في الكيان الصهيوني، ولو تجاوزنا الدور الوظيفي السياسي والعسكري الإقليمي لهذا الكيان، الذي يفسّر جزءاً مهمّاً من أسباب وجوده والدعم المطلق له (ليس بسبب كونه يمثل أمة ذات حقوق) فكيف يمكن أن نتجاوز حقيقة ارتباط وجود هذا الكيان بالمأساة الفلسطينية والتخلف والتبعية العربية، إن لم نقل ارتباط دوام وجوده ومصلحة كل فرد فيه في استمرار المأساة الفلسطينية والتبعية العربية إلى اليوم. إسرائيل بحاجة إلى اختلاق مفاهيم ونظريات جديدة تناقض وتعارض كل ما هو مقبول فكرياً وصالح تاريخياً، لتبدو طبيعية.لكن أهمية كنفاني ومساهمته لم تكونا بسبب كونه سياسياً فذاً أو مفكّراً استثنائياً أو أديباً مبدعاً فقط. كنفاني كان المؤسس الحقيقي للخطاب الثوري الفلسطيني المعاصر، وما تضمّنه ذلك من تأسيس البنية الثقافية للثورة، أو عمله على تثوير الثقافة العربية كشرط ضروري للمواجهة مع الحالة الاستعمارية، التي تمثّلها إسرائيل. فمعه كان التعريف الثوري لكل المفردات التي تشوَّه اليوم لتبرير قبول هذا الكيان، مثل المقاومة، المخيم، فلسطين، الوطن، والهوية. الدعوة إلى الثورة بدأت مع «دقو جدران الخزان» في «رجال في الشمس». وتثوير المخيم وإسباغ الدلالة الثورية عليه بدآ مع «أم سعد» و«خيمة عن خيمة تفرق»، وفلسطين، فكرة الخلاص الجمعي ونقيض فلسطين الخاصة، ولدت في «عائد إلى حيفا»، حيث ولد أيضاً «الإنسان القضية»، الفكرة الرائعة التي شوّهها سامي ميخائيل في «حمام الطرف الأغر». لذلك، ولأن القضية الفلسطينية لا تزال حية، يبدو من الصعب استنفاذ الحديث عن كنفاني المؤسس لثقافتها الثورية، والصانع لمفرداتها وأفكارها الأولى.غسان، المفكر الثائر الذي كان يشتمّ رائحة الخبز في فولاذ الرشاشات، أدرك دوماً تلازم الفكر والفعل كما أشار في إحدى رسائله إلى غادة السمّان. فالكلمات وحدها لا تكفي، ووحدها لا تكون أكثر من «تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح... تنحدر أمام شروق الرجال الحقيقيّين، الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه». ربما كانت هذه الفكرة ذاتها التي رسم عنها الشهيد ناجي العلي «علينا التفكير، وعلى الله التدبير». لم تكن مصادفة إذن أن يبحث الشهيد غسان كنفاني في الأدب الصهيوني، وكذلك في أدب المقاومة والأدب الفلسطيني المقاوم، ولم تكن مصادفة أن يقود حراسه التاريخ والذاكرة العربية لفلسطين (مثلاً ثورة 1936ـــــ 1939 في فلسطين)، بل كانت جهوده أساس مشروع عربي مضاد يستند إلى فهم متقدم للمشروع الصهيوني، وتصور إنساني مقاوم للبديل العربي. كنفاني أدرك منذ البداية جدلية الثقافي والسياسي في المشروع الصهيوني، وأهمية حماية فكرة فلسطين ومفردات ثورتها من التزوير والتحريف. يستنتج كنفاني في ما يستنتج أنّ الصهيونية الثقافية استولدت الصهيونية السياسية. هذه النتيجة العبقرية صحيحة إذا رأيناها في إطارها العام ومفاهيمها الأساسية وسياقها النظري الثوري (برغم بعض النقد الذي وجّه إليها بسبب عدم النظر إليها في إطار مشروع كنفاني للتأسيس لبنية ثقافية ثورية والتعامل معها كدراسة أكاديمية في الأدب وهي ليست كذلك بالجوهر).ليس مهماً حقاً أن استولدت الثقافة السياسة في الحالة الصهيونية، أو العكس. الإشارة إلى الترابط الجدلي بين المستويين، كما فعل كنفاني، هي صلب منهجية ثورية لفهم حركة الكيان الصهيوني وقراءتها. فحتى في المراحل اللاحقة من تاريخ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، مثّلت جدلية الثقافي والسياسي أساس ديناميّة التحوّل والتغيّر في المشروع الصهيوني. مثلاً، من يبحث في التحولات الثقافية في الكيان الصهيوني فسيجد أنها ترافقت مع، وبعضها سبق أحياناً، التحوّلات السياسية. النظام الصهيوني الثاني، أو ما يسمّيه غرشون شافير ويوئاف بيليد «إسرائيل الجديدة»، التي تميزت بصعود وسيادة الصهيونية النيوليبرالية منذ نهاية السبعينات ممثَّلة سياسياً بصعود الليكود وأفول العمل، ترافق مع تحولات ثقافية، اقتصادية، واجتماعية عميقة في الكيان الصهيوني، ولم تكن عملية سياسية فقط.معظم من درسوا ظاهرة المؤرخين الجدد من العرب، مثلاً، جادلوا في النصوص ذاتها، وفي إعادة كتابة الأحداث والرواية الجديدة، وهذا طبعاً مهم جداً (انظر كتابَيْ نور مصالحه المتميزين عن التهجير كممارسة وكفكرة). ولكن المهم أيضاً هو فهم أسباب الظاهرة ذاتها لارتباطها بتحولات أخرى. هذه الظاهرة، كغيرها من التعابير الثقافية الجديدة في الكيان الصهيوني وبترابطها معها، أسهمت في إعادة اختراع إسرائيل بما يتناسب والتحولات الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية النيوليبرالية. بمعنى أن المؤرخين الجدد بإعادة كتابتهم للرواية الصهيونية، أسهموا في إعادة اختراع إسرائيل والتأسيس للنظام الصهيوني الثاني، أو ما يسمّى «إسرائيل الجديدة» أو «إسرائيل النيوليبرالية»، فكل نظام يحتاج إلى رواية.لذلك يصعب تصور فهم دقيق للمشروع الصهيوني والممارسات الصهيونية بمعزل عن، أو بتجاهل، الصهيونية الثقافية التي كان كنفاني من أول من تنبّه لأهمية فهمها كأساس لفهم المشروع الصهيوني بدراسته للأدب الصهيوني. كذلك يصعب تصور المشروع العربي النقيض بمعزل عن الدور المضاد والثوري للثقافة العربية، التي كان كنفاني من أوائل من تنبّه لأهميتها بدراسته أدب المقاومة والأدب الفلسطيني المقاوم.قالوا «لكل ثورة حكيم، وحبش هو حكيم الثورة الفلسطينية». ربما يجدر أن يضاف إلى هذه العبارة أنّ لكل ثورة أميراً، يصنع ثقافتها ويحمي ذاكرتها، وكنفاني أمير الثورة الفلسطينية.* أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية في جامعة ويسكونسن ـــــ بارك سايد
جاء اشتباك برج أبي حيدر بين حزب الله والأحباش في شهر آب المنصرم بمثابة إعادة لحلقة قديمة من مسلسل اشتباكات الزواريب البيروتية التي كانت تحدث على نحو شبه يومي أثناء الحرب الأهلية، وخاصة في منتصف الثمانينيات، في الفترة التي تلت الاجتياح الإسرائيلي و«انتفاضة» 6 شباط التي انتهت بعودة الجيش السوري إلى بيروت في عام 1986. وإذا كان بعض المواطنين ما زالوا يتمتعون بإعادة بعض المسلسلات المحلية القديمة المرة تلو الأخرى على تلفزيون لبنان، فإن جميع الناس أصيبوا بالهلع من إعادة هذه الحلقة بالذات، التي تحولت إلى فيلم رعب في أذهان الذين حضروها، سواء مباشرة أو على الشاشات، ليس فقط لأنها ذكّرت هؤلاء بفترة مشينة من تاريخ البلد بل لأنها مثّلت أيضاً «مسطرة» لما يمكن أن يحدث إذا وقعت الفتنة المذهبية المنتظر أن يؤدي إليها صدور القرار الاتهامي «الموعود» من المحكمة الدولية. والهلع المذكور أعلاه زاد عليه الحزن والأسى اللذان ألمّا بالجمهور الحريص على المقاومة في لبنان وعلى صورة هذه المقاومة لدى الرأي العام في لبنان والوطن العربي (ولا نعني هنا الجمهور المذهبي اللصيق بحزب الله، بل الجمهور العريض العابر للطوائف). والحزن والأسى لم يأتيا من حادثة الاشتباك بحد ذاتها بقدر ما أتيا من الطريقة التي تعامل حزب الله بها مع الحادث والطريقة التي اتبعها «لحل المشكل» وتبعاته. فقد تعامل الحزب مع الاشتباك وكأنه خلاف بين فريقين (حليفين؟) لا علاقة لسكان بيروت والمواطنين اللبنانيين والرأي العام به. فعُقدت اللقاءات، وأجريت المصالحات، وأُلّفت اللجان المشتركة بين الحزب والأحباش، واتُّفق على دفع التعويضات للمتضررين، وانتهى الأمر. أما البشر الذين أذهلهم منظر الرصاص والقذائف الصاروخية، سواء في برج أبي حيدر أو على شاشات التلفزيون، فلم يتوجه إليهم أحد من الحزب بكلمة سوى الدعوة إلى التقليل من أهمية ما حدث وإلى نسيانه وكأنه لم يكن. وممّا يدعو للعجب أيضاً، أن حزب الله بدا كأنه متفاجئ بمسارعة رئيس الحكومة سعد الحريري لاستغلال ما حدث من خلال قيامه بزيارة جهة واحدة من سكّان برج أبي حيدر وأخذ الصور معهم أمام سياراتهم ومحالّهم التجارية المدمرة وأداء صلاة الجمعة، بإمامة المفتي، في المسجد المحروق في المنطقة. ويبدو أن المفاجأة حدثت لأن سعد الحريري قرر عدم ترك الفرصة الشديدة الإغراء، فخرج على قوانين اللعبة الجديدة المُتفق عليها والتي استجدت بعدما انتظمت زياراته الدورية إلى دمشق على خطى والده من قبله. علماً بأن الحزب يجب أن يدرك أن الزيارات الدورية لدمشق لا تلغي وجود فريقين متصارعين في البلد، واحد يريد استمرار المقاومة وآخر يريد الخلاص منها بأي ثمن.
المعركة الدائرة حالياً بشأن المحكمة الدولية هي معركة على صورة حزب اللهوارتبك الحزب مرة أخرى في مواجهته شعار «بيروت منزوعة السلاح» الذي أطلقه سعد الحريري وفريقه إمعاناً في استغلال وقوع الاشتباك. فبدل الرفض المطلق للشعار (الذي يلقى قبولاً لدى الرأي العام)، بداعي الجهوزية بوجه إسرائيل، وإعطاء الحجة للفريق الآخر لتكرار محاولة الخلط بين سلاح المقاومة والسلاح «الشوارعي» المنتشر لدى «حلفاء» المقاومة، كان على الحزب المسارعة إلى رفض التفرقة بين بيروت وباقي المناطق اللبنانية وتطوير الشعار إلى «لبنان منزوع السلاح». وكان على الحزب أيضاً المبادرة إلى طرح نزع السلاح «الشوارعي» من جميع الأطراف، ومن الفريقين المتصارعين في البلد على حد سواء. بل كان يمكن الحزب لو أراد أن يستعيد الرأي العام فعلاً، أن يبادر إلى النزع الفعلي للسلاح «الشوارعي» من أفراده غير المنخرطين في المقاومة أولاً، ومن حلفائه ثانياً، والإبقاء فقط على سلاح المقاومة. وللّذين يستهْوِلون هذا الأمر، نسأل هل المقاومة بحاجة فعلاً إلى سلاح «شوارعي» سواء في أيدي أفراد من حزب الله، أو في أيدي «الحلفاء» من أحزاب وحركات وجمعيات وسرايا و«لجان عمل مقاوم» في مختلف المناطق اللبنانية؟ والجواب عن هذا السؤال هو، حسب اعتقادنا، النفي. ومن المفيد التذكير هنا بأن هذا السلاح تحول إلى عبء في 7 أيار عندما حاول الحزب استعمال بعض حلفائه كواجهة في بيروت وبعض المناطق. وبمناسبة الكلام عن 7 أيار، يجب التذكير بأن على حزب الله، كي يتخلّص من صورة «البعبع» المذهبي التي التصقت به، أن يتحول إلى ضامن للسلم الأهلي في البلد بالاشتراك مع الجيش اللبناني. لا بل إنّ وأد الفتنة المذهبية، التي يجري الحديث عنها كثيراً هذه الأيام، يستلزم أخذ الحزب هذه المسؤولية على عاتقه بمنتهى الجدية. ويبدأ هذا الأمر باتخاذ الإجراءات الداخلية التي تضمن عدم إمكانية اشتراك أي من أفراده أو مجموعاته في اشتباك مماثل لاشتباك برج أبي حيدر في المستقبل وفي أي ظرف من الظروف. وتكمن الأهمية الشديدة لهذا الأمر من واقع أن المعركة الدائرة حالياً بشأن المحكمة الدولية هي برأينا معركة على «صورة حزب الله». فالهدف الأساسي لمُدَوْزني حركة المحكمة، من أجهزة استخبارات غربية (أو بالأحرى أميركية وإسرائيلية)، هو نزع صورة المقاومة الفعّالة بوجه إسرائيل عن الحزب، وإلصاقه بصورة الميليشيا المذهبية المتقوقعة على نفسها والجاهزة لضرب المذاهب الأخرى في لبنان. أي بمعنى آخر، عزل الحزب عن الرأي العام اللبناني والعربي، وحصر الجمهور الحاضن للحزب في الوسط الشيعي فقط. والخطر في هذا الأمر هو مساهمته في تحويل إيران إلى العدو الأساسي في نظر الشارع العربي بدلاً من إسرائيل، وهو ما تعمل عليه أجهزة الاستخبارات المذكورة ليل نهار. ومن المؤكد أن الذين هم وراء المحكمة الدولية لا يطمحون لسوق قيادات حزب الله إلى لاهاي ومحاكمتهم هناك كما سيق سلوبودان ميلوسيفيتش من قبل. فلا خوف من هذه الناحية على الحزب الذي لم تتمكن إسرائيل من إسقاط شعرة واحدة عن رأس أي رمز من رموزه في حرب تموز. لكننا بصراحة نخاف على الحزب ونخشى أن تنجح الأجهزة الغربية في تحطيم صورته وعزله إذا لم يتمكن من خوض معركة المحكمة بكفاءة تحاكي كفاءته العسكرية. وكان الحزب قد بدأ هذه المعركة بداية جيدة من خلال الحملة الإعلامية التي قادها السيد حسن نصر الله. لكن هذه الحملة ليست كافية وحدها على الإطلاق، واستكمالها يبدأ بالمعالجة الحقيقية لأسباب اشتباك برج أبي حيدر ونتائجه ولا ينتهي بمبادرة الحزب إلى الانفتاح الحقيقي على «الخارج» اللبناني والعربي على حد سواء. فالحزب يعاني من قصر علاقاته التحالفية على الجهات والشخصيات المستعدة لتلقي الأوامر عبر الأقنية الاستخبارية، والمستعدة للعمل بالأوامر والتصريح بالأوامر والاتصال بالغير بالأوامر ونقل الرسائل بالأوامر. وغني عن القول إن هذا النوع من العلاقات لا يبني رأياً عاماً ولا يؤدي إلى تحلّق الجماهير حول المقاومة. فالأمثلة على «اختراع» الجماهير المؤيدة للأنظمة العربية، المعتدلة منها والممانعة، أكثر من أن تعد وأن تحصى. لكن المحسوم أن الرأي العام في منطقتنا، أو ما يسمى بالشارع العربي، هو في مكان آخر تماماً. ونتمنى أخيراً ألا تكون حرية حركة الحزب في الانفتاح على الغير، وفي خوض معركة المحكمة أمام الرأي العام، مقيدة من بعض «الحلفاء»، وألا نصل إلى يوم نضطر فيه إلى القول «ومن الحلف ما قتل». * كاتب لبناني
عدد الاربعاء ١٥ أيلول ٢٠١٠قد يكون مفيداً للبعض أن يفهم خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أمس، على هذا النحو: لكل خامس من أيّار سابعه!ثمة مضمون سيلجأ خصوم نصر الله والمقاومة إلى اعتباره بمثابة إعلان حرب، أو تهديد كحد أدنى. ومن دون إطالة، سيعمد أعضاء هذا الفريق إلى القول علناً إنّ نصر الله لا يستند إلى معطيات، ثم يتحدثون عن أنّ التهديد لن ينفع في ثني المحكمة الدولية عن عملها، وذلك انطلاقاً من اقتناع هؤلاء بأنّ المدعي العام الدولي ذاهب حكماً نحو اتهام الحزب أو عناصر منه بالتورّط في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.سعد الحريري سيتجنّب شخصياً الرد، أو هذه هي صورة موقفه حتى اللحظة. وإذا ما قرّر الدخول في مواجهة، فهذا يعني أنه يتبنّى موقفاً يضع نفسه فيه في زاوية المتّهم بكلام نصر الله. وعندها سنكون أمام مواجهة من نوع مختلف، تبرز فيه العناصر الخارجية أكثر من التوقف عند السجالات الداخلية. لكنّ الإشارات تقول إنّ الحريري سيترك هذه المسألة للآخرين من حلفائه، من مسيحيّي 14 آذار، وبعض الإعلاميّين الذين يتولّون عادةً النطق باسم الحريري، من خلال وسائل إعلام لا يملكها هو، بل يموّلها فقط.وإلى أن تظهر الأمور على حقيقتها، سيكون الجمهور على موعد مع الجديد الذي سيقدّمه نصر الله، الذي لم يُنهِ حديثه إلا بربط نزاع في الشكل، إضافةً إلى المضمون، فهو قال إنه سيتحدث قريباً عن التحقيق الدولي والمحكمة، وسيعلن موقف الحزب. كذلك فإنه أشار إلى أنّ المسألة المتصلة بالحرب مع إسرائيل ستكون جوهر خطابه في ذكرى انتصار تمّوز، وهو طرح سؤالاً عن علاقة فرع المعلومات بالمشتبه في تعامله مع العدو ش. ق. وقال إنه ينتظر جواب وزير الداخلية، لكنه استدرك قائلاً: لديّ الجواب، لكن لننتظر جواب الحكومة أولاً. ما يعني أن لديه ما يضيفه في ملف الاتصالات من جهة، وفي ملف الموقوف إياه من جهة ثانية.
جوهر المسألة أنّ نصر الله حسم تعريفه لما يُعدّه خصوم المقاومة وأعداؤها داخل لبنان وخارجه، فهو أعطى جميع هؤلاء هوية إسرائيلية، أي هوية العدو، وبالتالي، لمن يعرف الحزب أو تعرّف إليه، فإن الرد على هذه الخطوات متى تحولت وقائع تهدّد المقاومة، سيكون شبيهاً بأيّ رد تقوم به المقاومة ضد العدو. وساعتئذٍ يصبح الكلام عن التوقعات والتقديرات من دون فائدة، أو لملء هواء الشاشات. لكنّ الشرح كان واضحاً لناحية الإشارة إلى أحداث أيار 2008. عندما قال نصر الله إنّ الذين وقفوا خلف القرار الحكومي ضد شبكة الاتصالات السلكية الخاصة بالمقاومة، هم من إسرائيل، والكل يتذكر أنّ الخامس من أيار إياه، سبب ما حصل في السابع منه. إلا أنّ لكل مقام مقالاً، وهو الفارق بين مؤامرة حكومة فؤاد السنيورة على المقاومة، ومؤامرة المحكمة الدولية على المقاومة.
لكنّ ما يجب الالتفات إليه في سياق ما شهده لبنان خلال الأسابيع الماضية الأخيرة، هو أنّ الحرب الأمنية القاسية الجارية مع العدو الآن، دخلت مرحلة جديدة، هي المرحلة التي تتجاوز العمل المباشر، الذي تقوم به إسرائيل كدولة معادية، لتصل إلى الدول والهيئات الدولية والعربية واللبنانية، التي تعمل على تحقيق المصلحة الإسرائيلية في ضرب المقاومة، من خلال فتن داخلية تعوّض عن عجز العدو عن شنّ عدوان جديد في الوقت الراهن. وهي فتن تتجاوز تعطيل المقاومة كوسيلة عسكرية في مواجهة إسرائيل، لتلامس تشويه صورة المقاومة كنموذج تحتذي به الآن المقاومة العربية والإسلامية في فلسطين والعراق وأفغانستان، وكعنصر قوة استثنائي تستند إليه حكومات في المنطقة وشعوب.ووفقاً لتقديرات جهات مطّلعة، فإن الموجة المقبلة من الحرب الأمنية التي تدور رحاها بين المقاومة والعدو في لبنان وخارجه، ستشهد تطورات من النوع الذي يؤدّي إلى تصدعات تفوق الزلازل، وخصوصاً عند الاقتراب من ملامسة «أشخاص الفئة الأولى من العملاء»، والمقصود هنا، ليس وجود درجات في العمالة لإسرائيل، بل إنّ هناك مستويات مختلفة من التمثيل السياسي والإداري والوظيفي والاجتماعي للعملاء. إذ إن من أُوقفوا حتى الآن، أو فرّوا من وجه العدالة، هم في معظمهم من الذين يشغلون مواقع تنفيذية في أُطر ومؤسسات رسمية أو خاصة، لكنْ «أشخاص الفئة الأولى»، هم من الذين يشغلون مواقع لصيقة بموقع القرار، إن لم يكن داخل موقع القرار لجهات عدّة في لبنان. وهذا يعني أنّ البلاد مقبلة على حماوة قد تشهد فصلاً من المواجهات السياسية، إذا ما قرّرت الجهات الحاضنة لهذه الفئة من العملاء اعتبار اتهامهم أو توقيفهم أو التحقيق معهم بمثابة خطوة سياسية لا تستند إلى أدلّة، علماً بأنه حتى اللحظة، معظم من أُوقفوا وأُحيلوا على القضاء كانوا قد أقرّوا بعمالتهم بعدما وُوجهوا بأدلة دامغة، وحاول بعضهم إعطاء أبعاد أخرى من خلال نسج قصص مختلَقة من الخيال. وهامش الخطأ الذي ارتُكب لم يتجاوز حدود المنطق، عندما عاد فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وفي مديرية الاستخبارات في الجيش، وأطلق سراح عدد قليل جداً من الذين أُوقفوا لهذه الشبهة، بعدما أظهر التوسع في التحقيق أنْ لا أدلة صلبة تدينهم.ألا يقتضي كل ذلك استنفاراً سياسياً، أم نحن ذاهبون إلى تغيير حكومي؟
فصول المعاناة فجّرها أحد المحرّرين... والسلطات لا تتحرّك
يمنيون أمام بوابة اليمن القديمة في صنعاء (جمال نعمان - أ ف ب)من يظن أن العبوديّة انتهت فليتمهّل ويحوّل أنظاره إلى اليمن. إنها ليست عبودية اقتصادية، وليست عبودية حديثة كما يحلو للبعض أن يطلقها على عمليات السخرة، أو عبودية للقات الذي يدمنه اليمنيون. لكنها عبودية حقيقية لا تزال موجودة وإن أصبحنا في القرن الواحد العشرين. «عبيد» وجوارٍ يُشترون ويباعون. يتوارثهم الملاك من فرد إلى آخر ويوثّقون عقودهم في المحاكم. يجبرون على الافتراق عن عائلاتهم. يشتّتون ويحرمون من أبسط حقوق الحياة ويعاملون بقسوة ومن دون رحمة. تاريخ الحكاية ليس بجديد ولكن إعادة تسليط الضوء عليها بعد تحقيق صحافي موسّع مع أحد «العبيد» المحرّرين كشفت حجم المشكلة التي يعانيها اليمن
جمانة فرحات «هل كنت راضياً عن بيعك؟ نعم فذلك ما كنت أبحث عنه. بكم قرر بيعك؟ خمسمئة ألف ريال (أي ما يعادل ألفين وخمسمئة دولار أميركي). وأين تمّ بيعك؟ عند الأمين الشرعي وبحضور البائع والمشتري والوسيط وعدد من المشايخ. وبعد ذلك؟ ذهبنا إلى المحكمة وعمّدنا البصيرة (صك الحرية). وهل تسلّمت صكّ حريتك؟ نعم ولكن النائب العام عاد وأخذها مني ولم يعدها حتى اللحظة، بعدما تحدثت إلى وسائل الإعلام». إنه ليس حواراً تسمعه في أحد المسلسلات، وليس جزءاً من سيناريو فيلم «اميستاد» وفصول روايته لإحدى أهم قضايا تجارة «العبيد» في أفريقيا، بل إنه جزء بسيط من معاناة مواطن يمني يدعى «قناف ابن الجارية (السابقة) سيار». ذنبه الوحيد أنه ولد لعائلة فقيرة أجبرها ظلم المجتمع على أن ترزح تحت وطأة العبودية، وإن كنا في القرن الواحد والعشرين.
عائلة حلمها الوحيد أن تأتي لحظة تتحرّر فيها من ظلم أسيادها وقسوتهم، ليس بفعل ثورة سبقها إليهم أقرانهم منذ عقود من دون أن تصل إليهم بعض من مكتسباتها، بل بـ«مكرمة» من سيد يعتقهم أو جمع للمال يدفعونه لنيل حريتهم. وأبعد ما يتمنونه قانون عادل ينصفهم، أو حاكم يلتفت إلى معاناة شعبه وسط انشغالاته بحروب لا تكاد تنطفئ إحداها على جبهة حتى تشعلها أيادٍ خفية على جبهة جديدة، محوّلةً أبناء اليمن بأجمعهم إلى «عبيد» للحروب وللدمار والفقر والعوز. هكذا يرزح قرابة خمسمئة يمني ضحايا للعبودية، يقيم معظمهم في مديريتي «كعيدنة» و«الزهرة» الواقعتين في شمال غرب اليمن. على الرغم من أن حكومة الثورة في عام 1962 أقرت إلغاء العمل بنظام الرق ونادت بالتحرر من الاستبداد بكل أشكاله وتحقيق المساواة بين كل أبناء الشعب. هكذا إذاً، عجلة التاريخ تعود باليمن إلى عصر القرون الوسطى، إذ إن ذكر حوادث العبودية يعد أمراً مألوفاً بدل أن يكون مستهجناً. وتصبح الممارسات اللاإنسانية مقبولة وسائدة. تنكيل وتعذيب وجلد بالسياط. حرمانٌ من الحرية وحتى الزواج. وتقييدٌ للمصير في حظيرة للحيوانات. ومنعٌ من التعليم لاحتكاره من قبل «أبناء العرب». تلك بعض من فصول رواها قناف لما يعانيه «عبيد» اليمن بعد سنوات قضاها يتذوّق مرّها. وروتها الجارية «فارعة» متحدثة عن حلم ابنها «العبد» خالد ورفضه الاستسلام لواقعه ليتمكن بعد سنوات من الإصرار من إقناع سيده بالتوجه إلى السعودية للعمل وجمع المبلغ المطلوب لتحرير نفسه ووالدته، من دون أن يعود حتى اللحظة. معلومات وتفاصيل أكدتها وروتها الصحافة اليمنية مراراً بحديثها عن امتلاك النافذين في اليمن أشخاصاً وفق وثائق تسمى «قاعدة فصل». قاعدة تكرّس عملية توارث وتقاسم «العبيد» كما تتوارث وتتقاسم الأراضي والمواشي، من دون أن تحرك السلطات ساكناً على الرغم من التزام اليمن بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية اللذين يحرمان ويجرمان الرق والعبودية، ويحظران استرقاق البشر. ولكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد. فإن حالف الحظ قناف وأعتقه سيده الجديد قبل عامين، بعدما اشتراه من سيده الأول بسبب اضطراره إلى دفع دية نتيجة تسببه بمقتل أحد المواطنين، فإن مصير إخوته الثلاثة فهد وفيصل وشعيه، الذين يعانون العبودية لدى ثلاثة أسياد مختلفين، لا يزال يمثّل هاجساً لديه، وهو المدرك لمآسي العبودية وقسوتها. كذلك، فإن عبودية من نوع آخر عايشها قناف وأقرانه من «العبيد» المحررين، وسط نظرية الدونية والعنصرية المستفحلة لدى العديد من أفراد المجتمع اليمني. إجبار لأبناء «سلالة العبيد» على الابتعاد عن «الحضر» واضطرار إلى العيش في كوخ بعد معاناة في الحصول على موافقة الجيران بالسكن قربهم وبشروط أيضاً. حرمان من امتلاك الأراضي. ومنع من مزاولة أعمال ومهن مقابل فرض لأعمال محدودة، كان رعي ماشية «الأسياد» القدامى أفضلها. تهديد بالإجبار على الطلاق بعد تمرد «العبد» على السيد. وعدم اقتناع السلطات بصحة زواج رجل أسود البشرة من امرأة بيضاء. ويضاف إلى كل ذلك رفض من السلطات لمنحهم حقوقهم الاجتماعية والصحية. سلوك ليس مستبعداً في بلد يعاني معظم مواطنيه الفقر المدقع. ويضطر الآباء إلى بيع أبنائهم طمعاً بمبلغ زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع.
وإن كان سلوك «الملاك» غير مستغرب في ظل افتقارهم إلى أدنى مشاعر الإنسانية واحترام حقوق الآخرين، فإن غياب السلطات وتقاعسها عن اتخاذ إجراءات رادعة لا يمكن تبريره إلا في سياق منطق العبودية التي يمارسها يومياً الحاكم في اليمن على محكوميه. فكيف يمكن تفسير إقدام قاضٍ يفترض أن يقوم حكمه على العدل والمساواة على توثيق عقد انتقال ملكية «العبد» من مالك إلى آخر وتأكيده أن عقد البيع «صحيح شرعي نافذ بإيجاب وقبول من المشتري بماله لنفسه»، بدل إقدامه على سجن الشاري والبائع في آن معاً. وكيف يمكن السماح باقتصار معاقبة القاضي بإقصائه وعقد مؤتمرات صحافية رنانة تدين الحادثة شفهياً بدل التوجّه فوراً إلى مكان احتجاز «العبيد» وتحريرهم، ولا سيما أنه مرّ قرابة عامين على فضح القضية للمرة الأولى. تساؤلات تشير إلى «تواطؤ» حكومي، عبر الموافقة على إصدار أوراق تثبت أن المرء حر وليس عبداً، وعندها يصبح أيضاً من السهل توقع أن يقدم نائب عام على مصادرة دليل الحرية «للعبد المحرر» معاقبة له على فضحه ما يتعرّض له «عبيد» اليمن، محوّلاً مصير صاحب الورقة إلى مجهول، يخشى في كل لحظة أن يأتي سيده ليحرمه من حريته المنقوصة أو أن يأخذه الناس، وأبناءه، بالقوة إلى السوق وبيعه.
«عبيد» موريتانياعلى غرار اليمن، تعاني موربالضرب ولا تنتهييتانيا بدورها انتشار حالات الرق والعبودية على الرغم من مجموعة القوانين الصادرة المحرّمة والمجرّمة لهذه الظاهرة، التي يعاني منها ما بين 500 إلى 600 ألف شخص، ما يجعل من القوانين في نظر منظمات حقوق الإنسان حبراً على ورق. ويشرح الحقوقي بيرام الده أعبيد، مؤسس «مبادرة المقاومة من أجل الانعتاق» عضو منظمة «نجدة العبيد»، أسباب الظاهرة في بلاده، مؤكداً أنها تأتي تكريساً لامتيازات أقلية من المجتمع على حساب أكثرية تعدّ الأكثر تهميشاً. ويوضح الداه أعبيد المأساة قائلاً إن «الممسكين بزمام الأمور من قضاة وضباط وحكام إداريين وولاة وعلماء ومحامين، كل هذه الفئات أقامت نمط عيشها في موريتانيا على واقع الاستعباد، بحيث إنها تملك العبيد وتشغلهم. لذلك فلا يمكن هؤلاء أن يجرّموا أنفسهم بأنفسهم».
عدد الجمعة ٢٥ حزيران ٢٠١٠ |رشا أبو زكيلا يمكن أيَّ مطّلع على هيكلية هيئة أوجيرو إلا أن ترتسم ابتسامة على وجهه، ولا يمكن إلا أن يذهب الخيال الى ملك يحمل صولجاناً ذهبياً في يده، يحيط به الريش الطري من كل حدب وصوب، وأينما حطّ نظره ينتفخ صدره زهواً بصلاحياته الواسعة التي تصل إلى أن تجعله كالمطلق! إنها إمارة عبد المنعم يوسف، الرئيس والمدير العام لهيئة أوجيرو بالوكالة، والمدير الأصيل لمديرية الاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات، ملك يحظى بدعم سياسي كبير من رؤساء الحكومات المتعاقبة ومن رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة تحديداً، وبسلطة مطلقة على موظفي الهيئة وعمالها كافة، يؤدي حيناً دور المدير في وزارة الاتصالات ليتقرب من الوزير إن كان من «جماعة» مقربة من السنيورة، ويقوم أحياناً بدور رئيس أوجيرو ليتفلّت من السلطة المباشرة للوزارة إن لم يكن الوزير على «خاطره»! وبين اللعبتين يقف موظفو أوجيرو حائرين، مرتبكين، فهم لا يستطيعون أن يرفضوا طلبات «الملك» نظراً إلى قدرته على إقالة أيّ منهم بـ«شحطة قلم» مهما ارتفع شأنه الوظيفي، ولا يستطيعون الاستمرار في السكوت على كل ما يحدث أمام أعينهم!فقد بدأت إمارة أوجيرو بالتكوّن في عام 1972، حين ورثت معدات ومنشآت راديو أوريان الذي كان عاملاً إبّان الاحتلال الفرنسي للبنان. وفي هذا العام، كلّف يوسف سالم وشخصان لإنشاء هيئة أوجيرو لكي تتسلم المعدات والمنشآت. وفي منتصف السبعينيات، جرى تكليف هيئة أوجيرو بمرسوم من مجلس الوزراء للعمل على تشغيل الحواسيب لإصدار فواتير المشتركين، وكانت الغاية الفعلية من ذلك تأمين دخل إضافي للهيئة لتغطية تكاليفها بسبب بدء تراجع خدمة التلغراف، واستمرت الهيئة في دورها الهامشي، إلى أن تسلّم رفيق الحريري رئاسة الحكومة في عام 1992، وعيّن عبد المنعم يوسف رئيساً للمديرية العامة للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات في منتصف التسعينيات، ويوسف النقيب (قيادي في تيار المستقبل) رئيساً ومديراً عاماً لهيئة أوجيرو، وجرى توسيع صلاحيات الهيئة من خلال عقدين مع الوزارة في عامي 1994 و1997 للقيام بأعمال التوصيلات والصيانة، وخلف غابي خوري النقيب رئيساً ومديراً لأوجيرو، وبعده فؤاد حمدان (صهر اللواء جميل السيد)، وخلال هذه الفترة، دخل عبد المنعم يوسف السجن لمدة عام في عام 1999 بتهم الفساد في الوزارة، الى أن جرت تبرئته في عام 2003. وفي عام 2005، أعيد يوسف الى منصبه في الوزارة وعيّن رئيساً لمجلس الإدارة ومديراً عاماً لأوجيرو بالوكالة، لكونه لا يستطيع أن يكون مديراً أصيلاً في مديريّتين!وخلال هذه الفترة، لم يدخل أيّ تعديل على قانون وأنظمة عمل أوجيرو على الرغم من التحول الجذري في مهماتها الفعلية، فاستمرت الهيئة تعمل وفق النظام الداخلي لراديو أوريان الذي كان يتمتع باستقلال مالي وإداري، لتصبح أوجيرو مؤسسة عامة ذات نظام خاص، بخلاف جميع المؤسسات العامة في لبنان، وجرى توسيع مهماتها لتقوم بأعمال كان من المفترض أن تقوم بها الوزارة، منها الصيانة والاستثمار وإبرام العقود وإصلاح الشبكات وغيرها... وهكذا استمد يوسف من صلاحيات أوجيرو كمؤسسة متخصصة في خدمة التلغراف، سلطته المطلقة في وزراة الاتصالات...
دخل عبد المنعم يوسف السجن لمدة عام في عام 1999 بتهم الفساد في وزارة الإتصالاتأما العامل الأبرز المساعد في تكريس هيمنته المطلقة على الموظفين، فتعود الى هيكلية أوجيرو... إذ يتألف مجلس الإدارة من 3 أعضاء، هم: يوسف نفسه رئيس مجلس الإدارة، وآلان باسيل (التابع كلياً ليوسف)، وغسان ضاهر (حركة أمل) الذي لا يحضر الاجتماعات منذ فترة طويلة بسبب تهميش دوره، وبفضل تركيبة كهذه، يستطيع يوسف بقرار منه ومن باسيل إقالة أي مدير في أوجيرو في حال حصول حالة تمرد على أي من قراراته، وذلك بأكثرية الأصوات في مجلس الإدارة!وفي أوجيرو 10 أقسام تابعة مباشرة لسلطة يوسف، وهي: أمانة السر، الإعلام، العلاقات العامة، الشؤون القانونية، التفتيش والمتابعة، الأمن والسلامة، التخطيط وإدارة المعلومات والشبكات (قسم استحدثه يوسف وهو لا يعمل)، إضافة الى رئيس مركز التحكم، رئيس جهاز التدقيق الداخلي، رئيس جهاز تنظيم الاتصالات (جرى تعيين قريب نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، وهو عبد الرؤوف قبلان، لإرضاء حركة أمل بعد تهميش دور غسان ضاهر في مجلس الإدارة، وهذا الجهاز لا صفة عملية له!). وهناك 11 مديرية في أوجيرو، ترتبط كذلك مباشرة بمجلس الإدارة، إلا أنه ليس بينها سوى مديريتين عاملتين فعلياً، وهما مديرية خدمة المشتركين والمديرية الفنية.وبالتالي، تضم أوجيرو 90 منصباً إدارياً، يهيمن تيار المستقبل وقوى حليفة له على أكثر من 80% منها... وهكذا، وبفضل الهيكلية الإدارية والسياسية لهيئة أوجيرو، يستطيع يوسف نقل أو إقالة أو تعيين أو ترفيع أيّ موظف وفق مذكرة إدارية، بصلاحيات ممنوعة عن رؤساء المديريات والأقسام! لا بل يستطيع صرف مكافآت مالية من خلال طلبه من المدير أن يرسل له كتاباً بترقية أحد الموظفين، ليوقّع يوسف على الكتاب! وبالطبع لا يستطيع أي مدير رفض طلب كهذا... وإلا فالإقالة!ومخالفات يوسف خرجت إلى السطح منذ فترة، منها مثلاً، أن يخصص يوسف لنفسه 1150 دولاراً أميركياً عن كل يوم سفر من المال العام، ويتلاعب بأيام السفر، إضافة الى إصدار قرارات السفر لمن يشاء من المقربين على نحو فردي، من دون الرجوع الى هيئة أوجيرو. كذلك، تقاضى يوسف منذ سنة 2006 راتبين من الدولة: راتب مدير عام في وزارة الاتصالات، وراتب رئيس ـــــ المدير العام لأوجيرو، إذ بلغ هذا الأخير 130 مليون ليرة، من دون قرار من مجلس الإدارة، وقد وردت هذه المعلومات في إخبار تقدم به النائب في كتلة التنمية والتحرير ناصر نصر الله، لدى المدعي العام للتمييز، ضد يوسف، لارتكابه «مخالفات تهدر المال العام». إلا أنه وفق ما قال نصر الله لـ«الأخبار» إن الملف ذهب للحفظ «ولم يراجعني المدعي العام للتمييز ولم يستدعني، وكان من المفروض أن تتحرك الجهات المعنية، مثل التفتيش المركزي والنيابة العامة وديوان المحاسبة، لكن ذلك لم يحدث، وبالنهاية قالوا إنني أقوم بتجنٍّ سياسي»!
1630 موظفاً
هو عدد موظفي أوجيرو، بينهم 1000 موظف يعملون في مديرية خدمة المشتركين، ونحو 20 موظفاً في المديرية الفنية، أما العدد الباقي فيتوزعون على المديريات الأخرى، إضافة الى ملحقين من وزارة الاتصالات وعددهم نحو ألفا موظف
تطور ضخم في مصاريف أوجيرو
وصل حجم المصاريف الإجمالية لأوجيرو في عام 2009، التي كانت تحولها وزارة الاتصالات الى 175 مليار ليرة، والتي تطورت على نحو ضخم خلال السنوات الماضية، إذ كانت 105 مليارات في عام 2005، فـ114 مليار ليرة في عام 2006، وصولاً الى 121 مليار ليرة في العام اللاحق، و153 مليار ليرة في عام 2008! وتؤكد مصادر «الأخبار» أن تطور تحويلات الوزارة لأوجيرو كان يتم من دون أي رقابة مسبقة أو لاحقة على كيفية إنفاق هذه الأموال، وأن المعركة التي يخوضها يوسف تتركز على موضوع تحييد أوجيرو عن التدقيق في نفقاتها.
رنا حايك «كل شباب المسرح لوطيّون وكل بناته ش...». تلك هي العبارة التي فوجئ طلاب قسم المسرح برؤيتها محفورة على مقاعدهم في الصف ذات يوم، بعد انتقال معهد الفنون الجميلة إلى مجمّع الحدث. حادثة فردية؟ بالطبع لا. فطلاب المعهد الذي يضم أقسام الرسم والمسرح والتصوير والسينما والتصميم الغرافيكي، يلمسون عدائيّة محيطهم معهم في جميع تفاصيل حياتهم الجامعية. «يعدّوننا منحلّين أخلاقياً، يسخّفون اختصاصنا، يهزأون بنا باستمرار، ويضيّقون علينا كثيراً»، كما يقول أحدهم. و«هم»، في منطق طلاب الفنون، لا تعني مصدراً مجهولاً تماماً، بل تعني طاقة عاصفة تضافرت قوى عدّة لإنتاجها: هناك عامل اجتماعي لا ينفصل عن محيط الجامعة الشعبي من حي الليلكي وحي السلم وغيرهما، وهناك عامل سياسي جعل من مجلس الفرع (الذي يسيطر عليه طلاب حركة أمل وحزب الله) يستأثر بالنشاط الطالبي داخل الجامعة ويفرض أخلاقياته الخاصة ويعمّمها على الطلاب، ويستحوذ على قرار الإدارة أحياناً، مصادراً حقوق الأساتذة حتى. إضافة إلى ذلك، هناك عامل لوجستي يعدّه الطلاب «تقزيماً مقصوداً للفنون». وإلا، لمَ ذابت حناجر طلاب المسرح والسينما وهم يطالبون بقاعة يقيمون فيها نادياً للسينما، دون جدوى، بينما لُبّي سريعاً طلب مجلس الفرع بتخصيص قاعة للصلاة؟ هنا، وفي مواقف كثيرة مشابهة، يقع طلاب الفنون في مأزق. فالاحتجاج ممنوع، لأنه يؤوَّل. «نحن لم نعترض على غرفة الصلاة، ولكن استشهدنا بالمطلب الذي لُبّي مقارنة مع مطلبنا الذي لم يُلبَّ، فجوبهنا بحملة شرسة بأننا ملحدون وضد الصلاة ومنحلّون!». منذ انتقال المعهد إلى الحدث، وطلابه يشكون من معاملة عدائية ومن محاولات عزل وتضييق، حتى أصبح المعهد طارداً، ويشهد حالة من النزوح نحو الفرع الثاني الذي يعاني المشاكل اللوجستية ذاتها ربما من حيث التجهيزات، ولكن، على الأقل، «فيه مسرح وفيه مناخ فن»، كما يقول أحد متخرّجي قسم المسرح في الفرع الأول. رزمة من التضييقات يتعرضون لها في مختلف الأقسام. في المسرح، لم يعد يوم المسرح العالمي موعداً ينتظره الطلاب عاماً بعد عام. «ما عنّا مساحة للتمرين وللعرض، رغم كبر الصرح الجديد. منتمرّن بصفوف عادي، عالبلاط. وبيضلّوا خايفين نخرّب شي، فنؤنَّب لأي فوضى نحدثها ولو وعدنا بإعادة كل شيء إلى مكانه. كمان، ممنوع نتمرّن بالليل بعد الصفوف»، تقول حلا. ويضيف زميلها «كنا نحتفي بتلك المناسبة على مدى ثلاثة أيام تقلّصت ليوم واحد، وأصبح العرض يجري في قاعة مغلقة لا في الباحة الخارجية». حفلة الفنون السنوية أيضاً لم تعد موعداً ينتظرونه. فالحفلة التي تقام مرة مع بدء العام الدراسي ومرة مع اختتامه، أُدينت «لأن فيها فسقاً وفجوراً وموسيقى. مورست ضغوط كثيرة من جهات دينية من خارج الجامعة لإيقافها، لكننا وصلنا في النهاية إلى تسوية، فسمحوا لنا بإقامتها على أن تختتم عند التاسعة مساءً، بعد أن كانت تستمر حتى ما بعد منتصف الليل». أما المواعيد الصغيرة، كالنشاطات التي تتخلل السنة الدراسية، فقد «أصبحت تقتصر على مسابقات النص الإسلامي، والاحتفالات الدينية، لأن مجلس الفرع هو من يتقدم بطلب النشاط إلى الإدارة، وهو من لون سياسي ومذهبي واحد، وغالباً ما يوافَق على الأنشطة التي يقترحها»، كما يقول علي، الطالب في قسم التصميم الغرافيكي، مضيفاً «حاولنا كسر تلك الحلقة، فتقدمنا مرات عدة بطلبات لإقامة نشاطات عن العلمانية، لكنها أحبطت جميعها. في النهاية، أصبح معهد الفنون ميتاً، وطلابه الذين لا يكترثون للسياسة أصلاً، معزولون ومحبطون». قد يعدّ البعض تلك النشاطات من الكماليات (علماً بأنها من صميم الدراسة الفنية والحياة الطالبية عموماً)، ولم ترتق مشاكل طلاب الرسم إليها بعد. فهؤلاء لا يزالون عالقين في مشكلة في صميم منهجهم: رسم الموديل العاري، أي مادة التشريح الجمالي التي ألغيت منذ عام 1983، والتي حاول بعض الطلاب التحايل عليها عبر استئجار موديلات من خارج الجامعة، ورسم اللوحة خارج الحرم، لعرضها على لجنة التحكيم في داخله. تحايل فشل حين «كسّر طلاب العلوم مرة لوحات لطلاب رسموا فيها أشخاصاً عراة»، كما يروي أحدهم، مضيفاً بلهجة ساخرة «هلق صاروا يعملوا حسابن ويرسموا عراة بس يلبسوهن بوكسر!».
المشاكل لوجستية أيضاًلا تقتصر مشكلة طلاب معهد الفنون على العزل والتضييق اللذين يجمعون على أنّهم يتعرضون لهما من طلاب آخرين في الجامعة اللبنانية. ولا تنحصر في المنحى الاجتماعي والسياسي، فهم لديهم أيضاً، مثل باقي زملائهم في الاختصاصات الأخرى في الجامعة، مشاكل تتعلق بالشق اللوجستي من تعليمهم، وبالتجهيزات التي يجب أن تتوافر لهم ليؤدّوا الشق العملي من واجباتهم الدراسية. فإلى جانب طلاب المسرح الذين يشكون من عدم وجود مسرح مؤهل يتمرنون فيه، يشكو طلاب معهد السينما من عدم وجود معدات لازمة لإتمام مشاريعهم، وإن وُجدت، يصحب وجودها الكثير من ضوابط استخدامها. «هناك ثلاث كاميرات فقط في المعهد، ونحن حوالى 60 طالباً موزّعين بين مختلف سنوات الاختصاص. لدينا الحق في استخدام هذه الكاميرات داخل الحرم، ويمنع علينا اصطحابها للتصوير في الخارج. ماذا لو كان لدينا مشهد يجب أن نصوّره في غرفة جلوس مثلاً؟ يضطرنا ذلك إلى البحث عن تمويل لأفلامنا، لأننا نضطر إلى استئجار كاميرات ذات نوعية جيدة، نظراً إلى أن تقويم أفلامنا يجري أيضاً بحسب نوعية صورتها»، كما يقول جاد. واستئجار الكاميرات ليس بالأمر السهل مادياً بالنسبة إلى الطلاب. فالكاميرا تكلّف «حوالى 75 دولاراً لليوم الواحد، ونحتاج إليها غالباً لمدّة ثلاثة أيام، ما يرهقنا مادياً»، كما تقول ريتا، طالبة السينما في الفرع الثاني الذي يواجه طلابه أيضاً المشكلة ذاتها، مع فارق بسيط، وهو أن لديهم هناك 7 كاميرات لا ثلاثة، نتيجة هبة من اليابان، ما أجبرهم على كتابة «شكراً لليابان» في كل «جنريك» لأفلامهم.