هناك دوماً «عند قراءة أعمال الماضي العظيمة اختلاف في التشديد بين القارئ والكاتب»، كما يقول سي. ل. ر. جايمس في «اليعاقبة السود». ولكن هذا وحده لا يفسّر سرّ الإغواء الشديد بالحديث المتواصل والكتابة المستمرّة عن غسان كنفاني، بعد ثمانية وثلاثين عاماً على استشهاده. فليس هناك الكثير من الجدل حقاً بشأن ما كتب وما قصد، ما يستدعي إعادة التفسير والكتابة باستمرار. قد يكون هناك أيضاً سحر خاص بشخص غسان كنفاني ذاته، الذي نعرف اليوم أنه كان شخصية استثنائية في التاريخ الفلسطيني والعربي، يجعل من تذكّره المتواصل ولا إمكانية استنفاذ الحديث عنه إغواءً مستمرّاً للكثيرين، تماماً مثل لوركا أو نيرودا.ولكن قد تكون دلالة الصحو والقيام المتواصل لغسان ترتبط أكثر بالأهمية الفائقة لمشروعه الثوري، وضرورته الملحّة التي لا تزال قائمة حتى اليوم، إن لم تكن ضرورتها هذه الأيام أكثر أهمية من أيّ وقت مضى. لو لم يكن لكنفاني وما مثّله أهمية وضرورة قصوى في واقعنا اليوم، لربما كان قد انتقل ككل العظماء الذين انتهى دورهم واستنفذ الدور التاريخي لمشروعهم ولأفكارهم إلى مصافّ الأسطورة. لكنّ كنفاني لا يزال حياً وفاعلاً، وما عبّر عنه من تناقضات وهموم وما طرحه من أفكار وما مثّله من دلالات لا تزال حيةً بجوهرها تماماً كما كانت حين كان حياً جسداً. وواقع اليوم شهادة على صوابية هذه الأفكار وصلاحية هذا المشروع. لهذا، لم يصبح غسان أسطورة بعد، ولا يزال بوسعنا الحديث عن كنفاني الحي.كان غسان سياسياً بارعاً (وصاحب قيم إنسانية رفيعة) تمتّع بقدرة استثنائية على قراءة الواقع السياسي. قبل استشهاده بعام تقريباً (أي في سنّ الخامسة والثلاثين) قدّم كنفاني تشخيصاً دقيقاً لأحداث أيلول 1970 لا يمكن لقارئه إلا أن ينحني لمنطق سليم نفتقده اليوم، يجمع بين صوابية الرؤية السياسية وعمقها من جهة، ورفض تحميل المقاومة مسؤولية هذه الأحداث والدفاع عنها كخيار، من جهة أخرى. رأس المقاومة كان مطلوباً كمقدمة وشرط متضمن في خطة روجرز، والمقاومة كانت في موقع استباق الأحداث ومحاولة منع تصفيتها، والدفاع عن نفسها وعن ناسها، كما يقول كنفاني. ربما لا يزال البعض يلوم المقاومة، وهذا يستتبع (ويقصد منه عمداً) أحياناً تشويه المقاومة كفكرة، فيما يبدو في الظاهر مجرد نقد لسياسة أو ممارسة حزب أو فصيل. في هذه المقابلة القصيرة (نيو لفت ريفيو: رقم 67، أيار ـــــ حزيران 1971، الصفحة 50 ـــــ 57)، يعالج كنفاني بعمق موضوعات عديدة متعلقة بالثورة الفلسطينية تبدو صالحة بكل تفاصيلها حتى اليوم، لأنها تتعلق بذات المواضيع التي تشغلنا، وهذا يفسر في ما يفسر استذكارنا الدائم وحاجتنا المستمرة إليه. تحدث عن الثورة، الأنظمة العربية، فلسطين، غزة، الطفيليّين ومن سمّاهم الحكيم حبش «قصيري النفس»، وتحدث عن الكيان الصهيوني.كان غسّان أيضاً، ورغم صغر سنّه، مفكّراً استثنائياً. في ذات المقابلة وفي أقل من سطرين فقط، يفكّك، ينقد، ويرفض رؤية مفكر من عيار مكسيم رودنسون حول إسرائيل. إسرائيل حالة استعمارية، يشدّد كنفاني. ورؤية رودنسون أنّ المستوطنين كوّنوا بمرور الزمن (عشرين عاماً) أمّة، ليست أكثر من «مساومة نظرية» أو إجهاض نظري من قبل رودنسون، يقول كنفاني. رؤية رودنسون، إذن، سياسية بحتة، وتتضمن في ما تتضمن ليّ عنق مفهوم الأمة وتسطيح نظريات التاريخ، وتزوير معنى حق تقرير المصير لتوفّر تبريراً لوجود الكيان الصهيوني. الفكرة القائلة إنّ المستوطنين الصهاينة تحوّلوا بفعل الزمن (القصير جداً حقاً بالمقياس التاريخي) إلى أمة يجب الاعتراف بها، والاعتراف بحقها في تقرير المصير، والتي يتبنّاها البعض ممّن يدّعون امتهان التفكير، لا تزال موجودة في العديد من الأوساط. أن تكون في إسرائيل أمّة، وليس فقط «أمّة من المستوطنين» تستفيد فيها حتى ما تسمى (زوراً ربما) البروليتاريا من مكانتها الاستعمارية ومن الحالة الاستعمارية عموماً، فهذا لا يعني شيئاً على الإطلاق في ما يخص حقهم في تقرير المصير. فليست كل مجموعة أنتجت خيالات وأساطير إثنية مشتركة في هذا العالم تنعم بهذا الحق أو تطالب به.كانت إسرائيل مشروعاً استعمارياً، كما قال كنفاني، ولا تزال إسرائيل مشروعاً استعمارياً اليوم. والاستعمار يقترب من أن يكون واقعاً كلياً حقاً، إن تواضعنا ولم نقل واقعاً كلياً فعلاً، كما وصف جونا راسكين الإمبريالية في كتابه الرائع «ميثولوجيا الإمبريالية». وبالتالي، فإنّ الحالة الاستعمارية تطبع وتكوّن كل منتج أو إنتاج للحالة الاستعمارية مهما بدا في ظاهره أخّاذاً للبعض (وعي، فكر، ثقافة، أدب، فلسفة، مسرح، موسيقى، إلخ). ربّما يفسّر هذا إعجاب البعض برواية سامي ميخائيل «حمام الطرف الأغر»، التي تبدأ حيث ينتهي كنفاني في «عائد إلى حيفا»، رغم أنها تعيد إنتاج أسطورة ترابط المأساتين والمصير، كأنّ للضحية الفلسطينية أيّ ذنب في ما اقترفه الأوروبي، أو كأنّ المأساة الفلسطينية كانت الحل الوحيد والمنطقي لمأساة أوروبية. فهم كما يبدو يرون الرواية كعمل أدبي بحت، كأنه خارج التاريخ وخارج سياق الحالة الاستعمارية التي تمثلها إسرائيل. هكذا أيضاً يصبح ديفيد غروسمان مبدعاً وناشط سلام، حسب وصف بعض المدوّنات، وهو الذي وصف ابنه قائد الدبابة الذي ذهب لقتل الأطفال والمدنيين في لبنان في حرب تموز، التي أيّدها الأب مع أدباء إسرائيليين آخرين حتى يوم سقوط ابنه مع دبابته على يد المقاومة، بأنه تعبير عن جوهرانية إسرائيل وصاحب قيم إنسانية. قد تكون هذه منظومة القيم والأخلاق ذاتها التي سخر منها ورفضها كنفاني كأساس للحكم على أعمال المقاومة في إجابته عن السؤال الأول في المقابلة السالفة الذكر، وقد تكون هذه المنظومة الأخلاقية ذاتها التي ينتقد أصحابها إسرائيل بدافع حبهم لها والحفاط عليها، كما فعل «الفيلسوف» برنار هنري ليفي، الذي أصبح أضحوكة لاقتباسه عن جهل فيلسوفاً مختلقاً في كتابه الأخير عن كانط.لو تجاوزنا عامل اللغة المفترض أن تكون مشتركة بين أفراد أي أمة، التي تعلّمها معظم مستوطني الكيان كلغة ثانية أو ثالثة لا أولى، ولو تجاوزنا حقيقة أن معظم المستوطنين القادمين من أوروبا بالأساس (كل إسرائيلي هو مستوطن، وهم مستوطنون بيض حقاً، وأدبياتهم الأولى والجديدة تعكس وتُماثل وعي المستوطنين البيض، كما أشار غابريئيل بيتربيرغ في «عودة الصهيونية») والذين يستوطنون فلسطين اليوم، لم يولدوا في فلسطين. ولو تجاوزنا الانقسام العرقي في الكيان الصهيوني، ولو تجاوزنا الدور الوظيفي السياسي والعسكري الإقليمي لهذا الكيان، الذي يفسّر جزءاً مهمّاً من أسباب وجوده والدعم المطلق له (ليس بسبب كونه يمثل أمة ذات حقوق) فكيف يمكن أن نتجاوز حقيقة ارتباط وجود هذا الكيان بالمأساة الفلسطينية والتخلف والتبعية العربية، إن لم نقل ارتباط دوام وجوده ومصلحة كل فرد فيه في استمرار المأساة الفلسطينية والتبعية العربية إلى اليوم. إسرائيل بحاجة إلى اختلاق مفاهيم ونظريات جديدة تناقض وتعارض كل ما هو مقبول فكرياً وصالح تاريخياً، لتبدو طبيعية.لكن أهمية كنفاني ومساهمته لم تكونا بسبب كونه سياسياً فذاً أو مفكّراً استثنائياً أو أديباً مبدعاً فقط. كنفاني كان المؤسس الحقيقي للخطاب الثوري الفلسطيني المعاصر، وما تضمّنه ذلك من تأسيس البنية الثقافية للثورة، أو عمله على تثوير الثقافة العربية كشرط ضروري للمواجهة مع الحالة الاستعمارية، التي تمثّلها إسرائيل. فمعه كان التعريف الثوري لكل المفردات التي تشوَّه اليوم لتبرير قبول هذا الكيان، مثل المقاومة، المخيم، فلسطين، الوطن، والهوية. الدعوة إلى الثورة بدأت مع «دقو جدران الخزان» في «رجال في الشمس». وتثوير المخيم وإسباغ الدلالة الثورية عليه بدآ مع «أم سعد» و«خيمة عن خيمة تفرق»، وفلسطين، فكرة الخلاص الجمعي ونقيض فلسطين الخاصة، ولدت في «عائد إلى حيفا»، حيث ولد أيضاً «الإنسان القضية»، الفكرة الرائعة التي شوّهها سامي ميخائيل في «حمام الطرف الأغر». لذلك، ولأن القضية الفلسطينية لا تزال حية، يبدو من الصعب استنفاذ الحديث عن كنفاني المؤسس لثقافتها الثورية، والصانع لمفرداتها وأفكارها الأولى.غسان، المفكر الثائر الذي كان يشتمّ رائحة الخبز في فولاذ الرشاشات، أدرك دوماً تلازم الفكر والفعل كما أشار في إحدى رسائله إلى غادة السمّان. فالكلمات وحدها لا تكفي، ووحدها لا تكون أكثر من «تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح... تنحدر أمام شروق الرجال الحقيقيّين، الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه». ربما كانت هذه الفكرة ذاتها التي رسم عنها الشهيد ناجي العلي «علينا التفكير، وعلى الله التدبير». لم تكن مصادفة إذن أن يبحث الشهيد غسان كنفاني في الأدب الصهيوني، وكذلك في أدب المقاومة والأدب الفلسطيني المقاوم، ولم تكن مصادفة أن يقود حراسه التاريخ والذاكرة العربية لفلسطين (مثلاً ثورة 1936ـــــ 1939 في فلسطين)، بل كانت جهوده أساس مشروع عربي مضاد يستند إلى فهم متقدم للمشروع الصهيوني، وتصور إنساني مقاوم للبديل العربي. كنفاني أدرك منذ البداية جدلية الثقافي والسياسي في المشروع الصهيوني، وأهمية حماية فكرة فلسطين ومفردات ثورتها من التزوير والتحريف. يستنتج كنفاني في ما يستنتج أنّ الصهيونية الثقافية استولدت الصهيونية السياسية. هذه النتيجة العبقرية صحيحة إذا رأيناها في إطارها العام ومفاهيمها الأساسية وسياقها النظري الثوري (برغم بعض النقد الذي وجّه إليها بسبب عدم النظر إليها في إطار مشروع كنفاني للتأسيس لبنية ثقافية ثورية والتعامل معها كدراسة أكاديمية في الأدب وهي ليست كذلك بالجوهر).ليس مهماً حقاً أن استولدت الثقافة السياسة في الحالة الصهيونية، أو العكس. الإشارة إلى الترابط الجدلي بين المستويين، كما فعل كنفاني، هي صلب منهجية ثورية لفهم حركة الكيان الصهيوني وقراءتها. فحتى في المراحل اللاحقة من تاريخ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، مثّلت جدلية الثقافي والسياسي أساس ديناميّة التحوّل والتغيّر في المشروع الصهيوني. مثلاً، من يبحث في التحولات الثقافية في الكيان الصهيوني فسيجد أنها ترافقت مع، وبعضها سبق أحياناً، التحوّلات السياسية. النظام الصهيوني الثاني، أو ما يسمّيه غرشون شافير ويوئاف بيليد «إسرائيل الجديدة»، التي تميزت بصعود وسيادة الصهيونية النيوليبرالية منذ نهاية السبعينات ممثَّلة سياسياً بصعود الليكود وأفول العمل، ترافق مع تحولات ثقافية، اقتصادية، واجتماعية عميقة في الكيان الصهيوني، ولم تكن عملية سياسية فقط.معظم من درسوا ظاهرة المؤرخين الجدد من العرب، مثلاً، جادلوا في النصوص ذاتها، وفي إعادة كتابة الأحداث والرواية الجديدة، وهذا طبعاً مهم جداً (انظر كتابَيْ نور مصالحه المتميزين عن التهجير كممارسة وكفكرة). ولكن المهم أيضاً هو فهم أسباب الظاهرة ذاتها لارتباطها بتحولات أخرى. هذه الظاهرة، كغيرها من التعابير الثقافية الجديدة في الكيان الصهيوني وبترابطها معها، أسهمت في إعادة اختراع إسرائيل بما يتناسب والتحولات الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية النيوليبرالية. بمعنى أن المؤرخين الجدد بإعادة كتابتهم للرواية الصهيونية، أسهموا في إعادة اختراع إسرائيل والتأسيس للنظام الصهيوني الثاني، أو ما يسمّى «إسرائيل الجديدة» أو «إسرائيل النيوليبرالية»، فكل نظام يحتاج إلى رواية.لذلك يصعب تصور فهم دقيق للمشروع الصهيوني والممارسات الصهيونية بمعزل عن، أو بتجاهل، الصهيونية الثقافية التي كان كنفاني من أول من تنبّه لأهمية فهمها كأساس لفهم المشروع الصهيوني بدراسته للأدب الصهيوني. كذلك يصعب تصور المشروع العربي النقيض بمعزل عن الدور المضاد والثوري للثقافة العربية، التي كان كنفاني من أوائل من تنبّه لأهميتها بدراسته أدب المقاومة والأدب الفلسطيني المقاوم.قالوا «لكل ثورة حكيم، وحبش هو حكيم الثورة الفلسطينية». ربما يجدر أن يضاف إلى هذه العبارة أنّ لكل ثورة أميراً، يصنع ثقافتها ويحمي ذاكرتها، وكنفاني أمير الثورة الفلسطينية.* أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية في جامعة ويسكونسن ـــــ بارك سايد