عصر «العبيد» لم ينته في اليمن

فصول المعاناة فجّرها أحد المحرّرين... والسلطات لا تتحرّك

يمنيون أمام بوابة اليمن القديمة في صنعاء (جمال نعمان - أ ف ب)يمنيون أمام بوابة اليمن القديمة في صنعاء (جمال نعمان - أ ف ب)من يظن أن العبوديّة انتهت فليتمهّل ويحوّل أنظاره إلى اليمن. إنها ليست عبودية اقتصادية، وليست عبودية حديثة كما يحلو للبعض أن يطلقها على عمليات السخرة، أو عبودية للقات الذي يدمنه اليمنيون. لكنها عبودية حقيقية لا تزال موجودة وإن أصبحنا في القرن الواحد العشرين. «عبيد» وجوارٍ يُشترون ويباعون. يتوارثهم الملاك من فرد إلى آخر ويوثّقون عقودهم في المحاكم. يجبرون على الافتراق عن عائلاتهم. يشتّتون ويحرمون من أبسط حقوق الحياة ويعاملون بقسوة ومن دون رحمة. تاريخ الحكاية ليس بجديد ولكن إعادة تسليط الضوء عليها بعد تحقيق صحافي موسّع مع أحد «العبيد» المحرّرين كشفت حجم المشكلة التي يعانيها اليمن

جمانة فرحات «هل كنت راضياً عن بيعك؟ نعم فذلك ما كنت أبحث عنه. بكم قرر بيعك؟ خمسمئة ألف ريال (أي ما يعادل ألفين وخمسمئة دولار أميركي). وأين تمّ بيعك؟ عند الأمين الشرعي وبحضور البائع والمشتري والوسيط وعدد من المشايخ. وبعد ذلك؟ ذهبنا إلى المحكمة وعمّدنا البصيرة (صك الحرية). وهل تسلّمت صكّ حريتك؟ نعم ولكن النائب العام عاد وأخذها مني ولم يعدها حتى اللحظة، بعدما تحدثت إلى وسائل الإعلام». إنه ليس حواراً تسمعه في أحد المسلسلات، وليس جزءاً من سيناريو فيلم «اميستاد» وفصول روايته لإحدى أهم قضايا تجارة «العبيد» في أفريقيا، بل إنه جزء بسيط من معاناة مواطن يمني يدعى «قناف ابن الجارية (السابقة) سيار». ذنبه الوحيد أنه ولد لعائلة فقيرة أجبرها ظلم المجتمع على أن ترزح تحت وطأة العبودية، وإن كنا في القرن الواحد والعشرين.

عائلة حلمها الوحيد أن تأتي لحظة تتحرّر فيها من ظلم أسيادها وقسوتهم، ليس بفعل ثورة سبقها إليهم أقرانهم منذ عقود من دون أن تصل إليهم بعض من مكتسباتها، بل بـ«مكرمة» من سيد يعتقهم أو جمع للمال يدفعونه لنيل حريتهم. وأبعد ما يتمنونه قانون عادل ينصفهم، أو حاكم يلتفت إلى معاناة شعبه وسط انشغالاته بحروب لا تكاد تنطفئ إحداها على جبهة حتى تشعلها أيادٍ خفية على جبهة جديدة، محوّلةً أبناء اليمن بأجمعهم إلى «عبيد» للحروب وللدمار والفقر والعوز. هكذا يرزح قرابة خمسمئة يمني ضحايا للعبودية، يقيم معظمهم في مديريتي «كعيدنة» و«الزهرة» الواقعتين في شمال غرب اليمن. على الرغم من أن حكومة الثورة في عام 1962 أقرت إلغاء العمل بنظام الرق ونادت بالتحرر من الاستبداد بكل أشكاله وتحقيق المساواة بين كل أبناء الشعب. هكذا إذاً، عجلة التاريخ تعود باليمن إلى عصر القرون الوسطى، إذ إن ذكر حوادث العبودية يعد أمراً مألوفاً بدل أن يكون مستهجناً. وتصبح الممارسات اللاإنسانية مقبولة وسائدة. تنكيل وتعذيب وجلد بالسياط. حرمانٌ من الحرية وحتى الزواج. وتقييدٌ للمصير في حظيرة للحيوانات. ومنعٌ من التعليم لاحتكاره من قبل «أبناء العرب». تلك بعض من فصول رواها قناف لما يعانيه «عبيد» اليمن بعد سنوات قضاها يتذوّق مرّها. وروتها الجارية «فارعة» متحدثة عن حلم ابنها «العبد» خالد ورفضه الاستسلام لواقعه ليتمكن بعد سنوات من الإصرار من إقناع سيده بالتوجه إلى السعودية للعمل وجمع المبلغ المطلوب لتحرير نفسه ووالدته، من دون أن يعود حتى اللحظة. معلومات وتفاصيل أكدتها وروتها الصحافة اليمنية مراراً بحديثها عن امتلاك النافذين في اليمن أشخاصاً وفق وثائق تسمى «قاعدة فصل». قاعدة تكرّس عملية توارث وتقاسم «العبيد» كما تتوارث وتتقاسم الأراضي والمواشي، من دون أن تحرك السلطات ساكناً على الرغم من التزام اليمن بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية اللذين يحرمان ويجرمان الرق والعبودية، ويحظران استرقاق البشر. ولكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد. فإن حالف الحظ قناف وأعتقه سيده الجديد قبل عامين، بعدما اشتراه من سيده الأول بسبب اضطراره إلى دفع دية نتيجة تسببه بمقتل أحد المواطنين، فإن مصير إخوته الثلاثة فهد وفيصل وشعيه، الذين يعانون العبودية لدى ثلاثة أسياد مختلفين، لا يزال يمثّل هاجساً لديه، وهو المدرك لمآسي العبودية وقسوتها. كذلك، فإن عبودية من نوع آخر عايشها قناف وأقرانه من «العبيد» المحررين، وسط نظرية الدونية والعنصرية المستفحلة لدى العديد من أفراد المجتمع اليمني. إجبار لأبناء «سلالة العبيد» على الابتعاد عن «الحضر» واضطرار إلى العيش في كوخ بعد معاناة في الحصول على موافقة الجيران بالسكن قربهم وبشروط أيضاً. حرمان من امتلاك الأراضي. ومنع من مزاولة أعمال ومهن مقابل فرض لأعمال محدودة، كان رعي ماشية «الأسياد» القدامى أفضلها. تهديد بالإجبار على الطلاق بعد تمرد «العبد» على السيد. وعدم اقتناع السلطات بصحة زواج رجل أسود البشرة من امرأة بيضاء. ويضاف إلى كل ذلك رفض من السلطات لمنحهم حقوقهم الاجتماعية والصحية. سلوك ليس مستبعداً في بلد يعاني معظم مواطنيه الفقر المدقع. ويضطر الآباء إلى بيع أبنائهم طمعاً بمبلغ زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع.

وإن كان سلوك «الملاك» غير مستغرب في ظل افتقارهم إلى أدنى مشاعر الإنسانية واحترام حقوق الآخرين، فإن غياب السلطات وتقاعسها عن اتخاذ إجراءات رادعة لا يمكن تبريره إلا في سياق منطق العبودية التي يمارسها يومياً الحاكم في اليمن على محكوميه. فكيف يمكن تفسير إقدام قاضٍ يفترض أن يقوم حكمه على العدل والمساواة على توثيق عقد انتقال ملكية «العبد» من مالك إلى آخر وتأكيده أن عقد البيع «صحيح شرعي نافذ بإيجاب وقبول من المشتري بماله لنفسه»، بدل إقدامه على سجن الشاري والبائع في آن معاً. وكيف يمكن السماح باقتصار معاقبة القاضي بإقصائه وعقد مؤتمرات صحافية رنانة تدين الحادثة شفهياً بدل التوجّه فوراً إلى مكان احتجاز «العبيد» وتحريرهم، ولا سيما أنه مرّ قرابة عامين على فضح القضية للمرة الأولى. تساؤلات تشير إلى «تواطؤ» حكومي، عبر الموافقة على إصدار أوراق تثبت أن المرء حر وليس عبداً، وعندها يصبح أيضاً من السهل توقع أن يقدم نائب عام على مصادرة دليل الحرية «للعبد المحرر» معاقبة له على فضحه ما يتعرّض له «عبيد» اليمن، محوّلاً مصير صاحب الورقة إلى مجهول، يخشى في كل لحظة أن يأتي سيده ليحرمه من حريته المنقوصة أو أن يأخذه الناس، وأبناءه، بالقوة إلى السوق وبيعه.

«عبيد» موريتانيا

على غرار اليمن، تعاني موربالضرب ولا تنتهييتانيا بدورها انتشار حالات الرق والعبودية على الرغم من مجموعة القوانين الصادرة المحرّمة والمجرّمة لهذه الظاهرة، التي يعاني منها ما بين 500 إلى 600 ألف شخص، ما يجعل من القوانين في نظر منظمات حقوق الإنسان حبراً على ورق. ويشرح الحقوقي بيرام الده أعبيد، مؤسس «مبادرة المقاومة من أجل الانعتاق» عضو منظمة «نجدة العبيد»، أسباب الظاهرة في بلاده، مؤكداً أنها تأتي تكريساً لامتيازات أقلية من المجتمع على حساب أكثرية تعدّ الأكثر تهميشاً. ويوضح الداه أعبيد المأساة قائلاً إن «الممسكين بزمام الأمور من قضاة وضباط وحكام إداريين وولاة وعلماء ومحامين، كل هذه الفئات أقامت نمط عيشها في موريتانيا على واقع الاستعباد، بحيث إنها تملك العبيد وتشغلهم. لذلك فلا يمكن هؤلاء أن يجرّموا أنفسهم بأنفسهم».

عدد الجمعة ٢٥ حزيران ٢٠١٠ |
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة