عذراً عسّاف

خالد صاغيةتأخّر مشوارنا، نحن زملاءك، إلى قرية الكفير. وحين زرناها، لم تكن في بيتك كي تستقبلنا. لكنّنا لحقنا بك إلى الكنيسة. هناك حيث تجمّع أحبّاؤك ليحاولوا أن يفهموا سرّك للمرّة الأخيرة. أيّ ملاك كان يقف على كتفك كي يجتمع فيك كل هذا الحبّ وهذه السكينة وهذا العناد في مواجهة قسوة الحياة. هل خانك الملاك في العديسة، أم أنّك أنت من اختار الموت؟لا أملك إجابة عن هذا السؤال. فأنا لم أكن أعرفك جيّداً. التقينا مرّات في مكاتب الجريدة في بيروت، ولم نلتقِ قط في ميدان عملك، لا في حاصبيا ولا في مرجعيون. فنحن، في مكاتب «الأخبار»، رغم كلّ ما بذلناه منذ البداية كي تُعطى صحافة المناطق حقّها، لم نتخلّص تماماً ممّا ورثناه من نظرة تقليديّة إلى العمل الصحافي، ومن ميل متعاظم إلى ملء الصفحات بأخبار بيروت الكبرى وشخصيّاتها وآخر ترهات سياسيّيها.لكن، حين وصلنا إلى قريتك الوادعة، انتبهت فجأة إلى ما يعنيه أن يكتب المراسل خبراً، ما يعنيه أن يصنع حدثاً في قرى تبدو كأنّ لا شيء يتحرّك فيها، وربّما لا أحد يسكن فيها. ما يعنيه أن يقطع كلّ تلك المسافات، في طرق مليئة بالتعرّجات، كي يصل إلى مكان غير آمن يحاول أن يعرف منه ماذا يجري على الحدود. وأنت، يا عسّاف، كانت الحدود شغلك الشاغل. تعاينها باستمرار كمن يفتح باب غرفة النوم ليتأكّد أنّ صغيره لا يزال هناك، ينام بهدوء وسعادة.على مفرق الكفير، انتبهتُ إلى المهنة المتوحّشة التي ننتمي إليها. فداخل مكاتبنا المكيّفة، نتلقّى موادّ المراسلين عبر البريد الإلكتروني. ومن داخل مكاتبنا المكيّفة، نقرّر ما يُنشَر وما لا يُنشَر. ندّعي معرفة في ترتيب الأولويات، وفي اهتمامات القرّاء، وفي أذواقهم أيضاً.لم يكن أي خبر يستحقّ قطرةً من دمك يا عسّاف. لكنّها لعنة العديسة. أمّك ولدتك هناك، تقول زوجتك. تقولها كما لو أنّ ذلك يفسّر موتك في تلك القرية الحدودية. الملاك خانك يا عسّاف. شجرات السرو التي استشهدت بسببها، قطعها الجيش الإسرائيليّ أمس، ولم يحرّك أحد ساكناً. ليس الملاك وحده من خانك يا عسّاف. الوطن كلّه بات فوق الشجرة.
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة