من يوقف سوليدر عن مخالفاتها؟ (بلال جاويش) أصبح الحديث عن مخالفات سوليدير واستسهالها الاستيلاء على أملاك المواطنين، كمن يلوك الكلمات من دون جدوى، فلا أحزاب ولا رؤساء ولا وزراء ولا قضاء يتحرك، وآلة هضم الحقوق مستمرة! وآخر فضائح الشركة ـــ الدولة: تأجير محال ومكاتب في سوق الصاغة سبق أن باعتها في عام 1998 إلى عدد من الصاغة وسددوا 5 في المئة من قيمة كل محل ومكتب!
رشا أبو زكيإنها أعجوبة القرن الواحد والعشرين التجارية، فشركة سوليدير، لم تكتف بهضم مستحقات أصحاب الحقوق في الوسط التجاري، ولم تتوقف عند الاستيلاء على الأملاك العامة البحرية والبرية، ولا بتوسيع مهماتها بخلاف الدور المفترض أن تقوم به وهو «إعادة إعمار وسط بيروت»... فإذا بها تؤجّر حالياً محال ومكاتب في سوق الصاغة الجديد في وسط بيروت إلى شركات أجنبية، وهي، أي سوليدير، كانت قد باعت المكاتب والمحال نفسها إلى صاغة لبنانيين في عام 1998، وقد دفع هؤلاء 5 في المئة من قيمة هذه المحال بانتظار أن يدفعوا المبلغ الباقي فور استلامهم أملاكهم! لا بل إن المخالفة هذه ترتكب في عز نزاع قضائي يدور بين سوليدير والصاغة المخدوعين، وهذا النزاع تطور في الجلسة الاستجوابية الأخيرة في أيار الماضي إلى حد أن محامي سوليدير أساء إلى القاضي في قاعة المحكمة، ووجّه إليه سيلاً من الاتهامات والإساءات والتجريح... ما دفع الأخير للتنحي عن القضية «صوناً لسمعة القضاء»! فكيف عملت «دولة سوليدير» لاحتلال أملاك المواطنين؟ وكيف استطاعت تأجير عقار مبيع وموضوع إشارة على صحيفته العقارية؟فلنكتشف ألعاب سوليدير...
عملية البيع... تمّت
باشرت شركة سوليدير في عام 1994 بدراسة مشروع بناء أسواق بيروت، وفيما كانت أسواق بيروت قديماً تتضمن سوقاً مشهورة للصاغة، قررت الشركة إنشاء سوق جديد للصاغة «إحياءً للتراث»... وعلى هذا الأساس، أخرجت سوليدير تجار الذهب من سوق الصاغة القديم مقابل أسعار زهيدة جداً بحيث دفعت 600 دولار للمتر الواحد، على أن يقسّم هذا المبلغ على المستثمر والمالك. وفي عام 1998 أرسلت سوليدير بواسطة مدير المبيعات نعمان عطا الله كتاباً تضمن دعوة للصاغة للتفاوض لشراء المحال والمكاتب في السوق الجديد المنوي إنشاؤه على مساحة عشرة آلاف متر مربع، وقدمت الشركة عرضاً للصاغة وخرائط السوق، كما قدمت طلب شراء فيه تحديد للقياسات مع تسعير للمتر المربع الواحد بين 7.500 و8.500 دولار أميركي، إضافة إلى تسهيلات في الدفع تقوم على دفع 5% من المبلغ الإجمالي كـ«وعد في البيع»، و20% دفعة ثانية بعد عام من توقيع عقد البيع، على أن يُدفع المبلغ الباقي خلال السنوات الأربع اللاحقة. وحُدّدت نهاية عام 1999 لتسليم المحال والمكاتب للصاغة.وخلال خمسة أيام اشترى الصاغة المساحة كاملة وفق العرض المقدم، ودفعوا إلى شركة سوليدر 5% من قيمة كل وحدة اشتُريت، ويشير رئيس نقابة تجار الذهب والمجوهرات نعيم رزق إلى أنه «كما علمنا أنه في عام 1998 كانت سوليدير بحاجة إلى سيولة لإعادة إعمار السوق، بحيث دعتنا إلى دفع القسط الأول للمباشرة بالعمل». وبعد 9 أشهر توجه الصاغة لدفع القسط الثاني «ففوجئنا بأن سوليدير لا تملك رخصة بناء بسبب وجود مخالفة وطلبت منا كنقابة وكتجار مساعدتها في الحصول على رخصة. على الأثر قمنا بزيارة رئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود ومحافظ بيروت ناصيف قالوش وبقينا خمس سنوات متواصلة نعمل بجهد لحصول الشركة على الرخصة»... وفي عام 2005، قال رئيس مجلس إدارة سوليدير أمام 300 صائغ في معرض للمجوهرات في بيال «مبروك، حصلنا على الرخصة وبعد شهرين سيُفتتح السوق».الافتتاح لم يتم وفق وعد الشماع، وكان المبرر «العمل لم ينجز بعد». فيما المدير العام لسوليدير منير الدويدي قال في العدد الرقم 9567 من جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 6 شباط 2005 حرفياً إن «جميع المحال معروضة للإيجار إلا تلك الواقعة في سوق الذهب، لأن أصحاب محال المجوهرات يفضلون التملك».وفي عام 2006 أرسل الشماع للصاغة مديراً اسمه منيب حمود، الذي أبلغ النقابة أنه خلال شهرين سيُسلّم السوق إليهم، ويضيف رزق «ولكننا طالبناه بالعطل والضرر عن 8 سنوات تأخير، وقال حينها إنه سيتم التعويض من خلال إعفائنا من حوالى 25% من إيجارات مواقف السيارات». وبعد فترة وقّع أحد الصاغة واسمه داوود مراد أول اتفاقية لسداد الدفعة الثانية لسوليدير، وحاول عدد من الصاغة أن يقوموا بخطوة مماثلة، فرد ممثلو سوليدير «طوّلوا بالكم لأن السوق لم ينتهِ بعد».
عملية البيع... أُلغيَت!
المماطلة استمرت حتى عام 2009، حين أرسلت سوليدير كتاباً عن طريق الكاتب العدل إلى الصاغة تقول فيه إن سوليدير لا تريد بيع المحال والمكاتب، وطلبت من الصاغة أن يتسلّموا المبالغ التي دفعوها إلى سوليدير منذ 11 سنة! وهنا يقول نعيم «لا عاقل ولا مجنون يقبل بهذا الموضوع، فقد عمّروا السوق بأموالنا واستعملوا أسماءنا كتجار للقول إن السوق بيعت، وساعدنا سوليدير للحصول على رخصة بناء، وانتظرنا هذه المماطلة، ووعدنا بالتعويض، وبعدها يريدوننا أن نرضى بأن تسحب منّا وحدات اشتريناها»... وبعد استلام الكتاب، زارت نقابة الصاغة رئيس الجمهورية ميشال سليمان وقدموا له الملف كاملاً، فألّف لجنة من القصر الجمهوري وقال إنه سيعالج الموضوع شخصياً وتمنى على الصاغة عدم التحرك حفاظاً على موسم الاصطياف، وكذلك فعل رئيس مجلس النواب نبيه بري.فشلت المحاولات، فرفع الصاغة دعوى قضائية ضد سوليدير، «وخلال شهر استطعنا وضع إشارة على الصحيفة العقارية واتصلوا بنا من محكمة بداية بيروت للاستماع إلينا وإلى سوليدير. وفيما شرحنا كل معطيات القضية، فإن محامي سوليدير كانت أجوبته دائماً على أسئلة رئيس المحكمة هي: «لا جواب».أعطى رئيس المحكمة القاضي محمود مكيه مهلة 15 يوماً للرد، ومن ثم عقدت الجلسة الثانية وبقيت أجوبة سوليدير كما في المرة السابقة. ويشير رزق إلى أنه في أيار الماضي وبعد صدور قرار إعدادي استدعت المحكمة كلاً من ناصر الشماع ونائبه ماهر بيضون والمدراء منير دويدي ومنيب حمود ونعمان عطا الله، ولم يأت إلى المحكمة سوى عطا الله والدويدي. وكان حاضراً حوالى مئة صائغ. وبعد طرح الأسئلة على عطا الله أقر بأنه قد بيعت المحال والمكاتب للصاغة، وأن الصاغة ساعدوا سوليدير في الحصول على رخصة بناء، وأشار إلى أن التقصير كان من سوليدير في عدم إتمام عملية البيع. كما وجه رئيس المحكمة إلى دويدي سؤالاً عما قاله في جريدة «الشرق الأوسط»، فأجاب: «نسيت».
سوليدر تهين القضاء!
محامي سوليدير اساء الى القاضي في قاعة المحكمة، ووجّه اليه سيلاً من الاتهامات والاساءات والتجريح
الصاغة ساعدوا سوليدير في الحصول على رخصة بناء
أما الأسوأ، فهو ما حصل في نهاية الجلسة، حين وقف محامي سوليدير سامي نحاس وقال لرئيس المحكمة: «كنا نتمنى لو نكون من تجار الماس والذهب لكان رئيس المحكمة قد استجاب لطلباتي وتجاوب مع طروحاتي ووافق على طرح أسئلتي ولو كانت غير منتجة أو مرتبطة بالنزاع»! فيما كان نحاس نفسه قد طلب نقل الدعوى من محكمة الاستئناف في بيروت، وقد رُدّ الطلب... وعلى الأثر طلب مكيه في كتاب وجهه إلى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في بيروت بتاريخ 31 أيار 2010 أن يتنحى عن النظر في ملف الدعوى بسبب «التمادي في التجريح والإساءة وقد لا يكون هذا نهاية المطاف...» كما أعاد تنحيه لـ«الحفاظ على سمعة ومكانة وهيبة القضاء، وحيث أنني أستشعر الحرج في متابعة النظر في هذه الدعوى».
شقير: انسوا محالكم!
وامبراطورية سوليدير لم توقف ضغوطها، فما عرضته من أسعار لقاء المتر المربع الواحد في عام 1998، قد ارتفع أضعافاً، والفارق ثروة حقيقية! ولتأمين الحلول تدخل رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل محمد شقير، بتكليف من سوليدير، للوساطة مع الصاغة، وفيما من المفترض أن يكون شقير إلى جانب الصناعة اللبنانية نظراً للمنصب الذي يمثّله، فإذا به يقول للصاغة خلال اجتماعه بهم حرفياً: «انسوا المحال، هم يريدون التعويض عليكم فقط»، فجاءت الردود أن «هذه المحال للصاغة ولن يتنازلوا عنها وسنقوم بتحركات لوقف مخالفات سوليدير بحقنا»، فإذا بشقير يرد بأنه «لا يمكنكم القيام بتحركات لأن سعر المتر المربع سيهوي إلى ما دون الدولار»! فكانت الردود الرافضة، عندها قال شقير «إنه عرض سوليدير وأنا وسيط»!وفي ظل استمرار النزاع القضائي على المحال والمكاتب في سوق الصاغة، اكتشف الصاغة منذ أيام أن سوليدير حسمت القضية لمصلحتها، واحتلت المحال، لتؤجّرها! لا بل إن المستأجرين، في السوق الذي بني «لإحياء تراث صناعة المجوهرات في لبنان»، هم شركات مجوهرات أجنبية! وهنا، يقول رزق إنه «إضافة إلى المخالفة القانونية الواضحة، فإن تأجير شركات أجنبية في سوقنا يعتبر خطيراً جداً على الاقتصاد والصناعة اللبنانية. إذ إن دورنا ودور السوق كان إحياء التراث لا ضرب تراث صياغة المجوهرات بالإنتاج الأجنبي.
120 جوهرجي
هو عدد المؤسسات التي سددت الدفعة الأولى لشراء المكاتب والمحال في سوق الصاغة، ويملك هذه المؤسسات حوالى 76 صائغاً غالبيتهم من أبرز الصاغة في العالم العربي، ويشير دويدي إلى أنه تمت المصالحة بين سوليدير و33 جوهرياً عبر دفع تعويضات لهم، فيما استمر 43 آخرون في الدعوى القضائية.
تحذير إلى مستأجري المحال
قال رئيس نقابة تجار الذهب والمجوهرات نعيم رزق (الصورة) «نحذّر كل شخص يتقدم لاستئجار أو استثمار أيّ من محالنا، لأن وجوده هو احتلال». وناشد رزق الرئيس ميشال سليمان التحرك «لأننا سنبدأ بالعمل على الأرض وسنباشر تحركاتنا، وندعو القضاء إلى تعجيل البت بهذه القضية لأننا لن نسمح بأن يستمر هذا الموضوع 11 سنة إضافية، وسنخرج بمؤتمر صحافي قريباً نعلن خلاله شكل التحرك وتوقيته. وفي حال عدم التجاوب سنمارس حقنا القانوني لأن للصبر حدوداً». ودعا الرؤساء الثلاثة ووزير العدل إلى اعتبار ملف سوق الصاغة بمثابة إخبار، يستدعي التحرك العاجل.
فداء عيتاني مجموعة من القصاصات الورقية التي يبلغ حجمها ربع صفحة A4 توضع كل يوم أمام رئيس الحكومة سعد الحريري، وبعد قراءتها يقتنع في كل مرة بأن ما يقوم به هو الصواب، وفيها معلومات ومعطيات يفترض أنها بالغة الحساسية، وتتحدث عن أمور كبيرة في هذه الدنيا، وكلها تصوّر له أن المعطيات تسير وفق ما يشتهي ويرغب. ضباط من أجهزة أمنية وسياسيون وصحافيون وموظفون رسميون ودبلوماسيون وصنّاع رأي ومخبرون يسهمون في تجميع المعلومات التي ترسل إلى رئيس الحكومة بخط اليد أغلب الأحيان، للدلالة على مدى خطورتها، وكي لا تطبع على أجهزة الكمبيوتر منعاً لنسخها أو اختراقها. أحياناً قد يقرأ رئيس الحكومة أن أجهزة غربية أشارت لمصادر عالية الشأن في لبنان إلى أن سوريا ستتخلى عن حزب الله مقابل المزيد من الاتفاقات التجارية والاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، وأحيانا يقرأ أن «مصادر أمنية قوية» تفيد بأن حزب الله يعاني أزمة داخلية على خلفية المحكمة الدولية، وأحياناً أخرى يُكتب في هذه القصاصات أن مصادر خاصة سورية تفيد بأن حزب الله يعاني من أزمة مالية، إلى آخر ما هناك من معلومات تصل مباشرة أو بالتواتر إلى سمع هؤلاء المشاركين في ضخّ المعلومات لرئيس الحكومة. وهذه الماكينة المعلوماتية بدأت بالعمل منذ تولّي سعد الحريري قيادة المستقبل لغاية اليوم. ولحظة تولّي سعد الحريري قيادة تيار المستقبل، كان القرار 1559 مدار الصراع الأول، وكان دم والده رفيق الحريري لا يزال على الأرض، ومن تلك اللحظة حتى اليوم لم تتغيّر المعطيات الرئيسية في الصراع، ولا يزال الجزء المتعلق بـ«سحب أسلحة الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية» معلّقاً وينتظر من يتمكن من تنفيذه على أرض الواقع، بينما أعلنت سوريا منذ مطلع شهر أيار من عام 2005 تنفيذها الشق المتعلّق بـ«انسحاب القوات غير اللبنانية من لبنان». المعركة كلها التي نعيشها اليوم لا تزال تتمحور حول القرار 1559، وكل ما جرى منذ محاولة اغتيال النائب مروان حمادة حتى اللحظة ناتج من مفاعيل هذا القرار، ولا يزال هناك من يحاول تغطية الأمور والالتفاف عليها وتسميتها بغير مسمّياتها، سواء أكان في فريق الرابع عشر من آذار أم الثامن منه. سبق أن أعلن سعد الحريري أمام قياديين في حزب الله أن «مجموعة الـ13» الجهادية هي من نفّذ عملية اغتيال والده، وأن هذه المجموعة قد اعترفت، ولكن البحث يدور عمّن اخترقها ودفعها إلى التنفيذ، ثم أبلغهم أن المعلومات تشير إلى أن في سوريا من أمر بتنفيذ عملية الاغتيال، وأن التهمة أُثبتت على الضباط الأربعة الذين أودعوا السجن، وبعدها أتى يطرح أمام قيادة الحزب تورّط عناصر منه في عملية الاغتيال، مضيفاً أن البحث يجري عمّن اخترقهم ودفعهم إلى القيام بالعملية. يتحدث معنيون في هذا المجال عن ثلاثة سيناريوهات مختلفة قُدّمت إلى قيادة حزب الله، وفي كل مرة كانت تقدم بصفتها حقائق مثبتة ومستندة إلى براهين قاطعة، ثم يتغيّر السيناريو بحسب تغيّر المناخات السياسية في المنطقة، وصولاً إلى ما بدأ بكشفه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. إلا أن القصاصات التي توضع أمام رئيس الحكومة هذه الأيام يبدو أنها تشجع على اتخاذ مسالك أشد وعورة وخطورة. فهناك من يشجع نظرية أن العلاقات السورية الإيرانية ليست على ما يرام، وأن حزب الله وسوريا يعيشان حالة من الفراق السياسي، وأن سوريا تتجه نحو التخلّي عن حزب الله بعد كثرة الكلام عن تورّط عناصر غير منضبطة من الحزب في عملية اغتيال الحريري. وهناك من يشير إلى خطابات الأمين العام لحزب الله، فيصفه بالهدوء الخائف حيناً، وبالمتوتر القلق حيناً آخر ، وينتقل إلى الحديث عن مضمون كلام الأمين العام للحزب، وخاصة قوله إن «إيران وسوريا دعما الحزب، ولكنّ الحزب هو من قاتل»، وقوله إن سوريا يمكنها أن تتناسى وتسامح، ولكن نحن لا، وكلامه عن زيارة الأسد إلى لبنان كأنه غريب عن الدار، ليخلص إلى القول إن الرجل وحزبه قد عُزلا، والخشية باتت واضحة من مسار الأمور لغير مصلحتهما. لكن لدى حزب الله الكثير ليقوله، وهو في النهاية سيعلن ما يمتلك قبل بداية شهر رمضان، إذ ترى قيادة حزب الله، بحسب ما يقول من يعرف الحزب جيداً، أن الوقت الفاصل بين الخطاب الأول للأمين العام بشأن المحكمة والقرار الاتهامي المزمع إصداره وبداية شهر رمضان هو مدة كافية لسعد الحريري وفريق 14 آذار للعودة خطوة واحدة إلى الخلف، ووقف اللعب بالمحكمة وبورقة التدخل السياسي الدولي بها. ومنذ أشهر قليلة، كان هناك من يستغرب الهدوء والسكينة التي حلّت على فريق رئيس الحكومة، وقبولهم بالواقع الوحدوي الذي تجسّد (بين الطوائف) في حكومة الوحدة الوطنية. ولكن كان هناك من يتحدث في المحافل الدولية وأمام أصدقائه الأميركيين والإسرائيليين بالقول: «لا تعتقدوا أن ما حصل في لبنان من تأزّم في تأليف الحكومة واضطرارنا إلى الموافقة على تأليف حكومة مشتركة مع حلفاء سوريا يعني أننا تراجعنا، ولكن هي مرحلة نحاول تقطيعها دون خسائر بانتظار ما سيكون لاحقاً». اليوم، إن كثرة الحديث عن المسافة التي تفصل بين سوريا وحليفها الرئيسي في لبنان تعتمد على قراءات خاصة للواقع، بينما يجيب في لبنان من تسألهم عن الأمر بأن سوريا لم تكن مرتاحة من قبل كما هي اليوم، وأنها تعرف أن أهم من أوصلها إلى هذا الواقع هو صمود حزب الله، وهي لن تساوم على المقاومات الثلاث في فلسطين والعراق ولبنان. ومن يتصل دائماً بالقيادات السورية يتحدث عن أن هؤلاء يرون أن وصول سوريا اليوم إلى حالة السكينة التي تعيشها نابع من تظاهرات يوم الثامن من آذار عام 2005، ومن الانتصار في حرب تموز، وهما المفصلان اللذان تمكّنا من إحباط الهجوم الأميركي (بالواسطة) على سوريا بهدف تطويعها وتقويض نظامها، وأن سوريا لن تنسى من صنع هذا الصمود. ولا يهتم من في سوريا بالكلام الطيّب الذي يصدر من رئيس الحكومة عن العلاقات بين البلدين، ولا يهتمون بأن من كان يهاجمهم في الأشهر الماضية بات يرسل الطلبات المتكررة لزيارتهم هذه الأيام، ولكنهم ينتظرون التزاماً واضحاً بما اتفق عليه مع رئيس الحكومة اللبنانية.
وفي المنحى نفسه، فإن حزب الله أيضاً لا يهتم بالكلام الطيّب الذي يمكن أن يبدر من هنا أو هناك، ولا بما يقال عبر الإعلام، سواء أكان سلبياً أم إيجابياً، ولكن هناك جدول أعمال يفترض أن يلتزم به رئيس الحكومة، ولا ينفع هنا أن يطلب الرجل موعداً عاجلاً مع الأمين العام لحزب الله ليساومه على موافقة على القرار الاتهامي، بغض النظر عن فحواه، على أن يتكفّل رئيس الحكومة بإخلاء حزب الله من المسؤولية عبر الإعلام لاحقاً. طبعاً، رئيس الحكومة لم ينف مباشرة ما قاله الأمين العام لحزب الله عن العرض الذي قدّمه إليه عن الموافقة على القرار الاتهامي الذي يتهم عناصر غير منضبطة من الحزب، والنفي الذي تكفّل به الصقور في تيار المستقبل لا يحمل الوزن الكبير الذي يدفع الأمور في اتجاه اللاعودة، كذلك فإن اجتهادات النائب عقاب صقر في تدوير الزوايا عبر القول إن نصر الله اضطر إلى الاختصار وإن الاختصار أدى إلى تشويه المضمون، لا تنفع أمام من يصرّ على أن تُطرح الأمور كما هي، ويمكن تذكّر كلمات نصر الله في هذه المناسبة حين قال: «يا حبيبي ليش إنت بتعرف شو كان قصدي؟»، ولا يزال في الوقت متّسع على قاعدة الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه والبدء من جديد في مسار مختلف تماماً. من هذا المسار المختلف أن يُعلَن السبب وراء طلب المحكمة الدولية 400 عنصر وجندي من الجيش يوضعون في تصرفها، بعد أن كانت اللجنة قد طالبت منذ أعوام بعدد أقل من القوى الأمنية يخضعون لأوامرها. وإن كانت قيادة الجيش لم تتعاون في فرز المئات من الجنود اللبنانيين لمصلحة المحكمة الدولية، فإن الطلب نفسه أثار حفيظة القيادات المعنية بالأمر، وخاصة لمحاولة وضع الجيش مجدداً في مواجهة المقاومة وحزب الله. أما أن يكتفي رئيس الحكومة بتصديق ما يُكتب له بخط اليد على قصاصات ورقية عن خلاف ما بين سوريا وحزب الله، فتلك ستكون مصيبة يدفع ثمنها الأطراف كافة، اللهم إلا إذا عاد وقرأ من أرض الواقع قبل بداية شهر رمضان، وتصرّف على أساسها. عندها قد تستقيم الأمور، ويبقى ما حصل في الأسابيع الماضية طيّ الكتمان في الصدور.
حكومة انتقاليةأحد الأمثال المفضّلة لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري هو «من أصعد الحمار إلى المئذنة ينزله»، ولكن هذه المرة، لأن بقاء الحمار على المئذنة يمكن أن يحرق البلاد، فإن دولاً معنية بإنزال الحمار عن المئذنة، أولاها السعودية وتاليها سوريا وبعدها مصر، وإن كانت التصريحات المصرية لا تبدو شديدة الحرص على الهدوء في لبنان، فإن السعودية وسوريا تبدوان على حماسة شديدة لإيجاد حل وسط مرحلي في ملف المحكمة واتهام حزب الله. وأحد الحلول المقترحة، إضافة إلى ما سمعه سعد الحريري في دمشق، أن يتنحّى الرئيس الحريري عن موقعه الحكومي، برعاية تركية وسعودية وسورية، وتُسلّم رئاسة الحكومة إلى الوزير محمد الصفدي (الصورة)، وألّا تضمّ الحكومة وزراء تابعين للقوى السياسية، بل بعض المقرّبين من تيار المستقبل وباقي الأفرقاء، على أن تُستبعد «الروؤس الحامية عنها». وتتكفّل هذه الحكومة الانتقالية بتطبيق الموقف الذي قاله أمس الصفدي من منزل الجنرال ميشال عون، أي رفض توجيه أي اتهام إلى حزب الله، وبعد أن يؤجّل صدور القرار الاتهامي لمدة غير محددة، يمكن الحريري العودة إلى ترؤس حكومة يؤلّفها كما درجت العادة بالتوافق والتكافل.
هكذا، فجأة، ومن دون مقدمات، يقع إشكال، تطلق النيران بكثافة، يسقط ضحايا بين قتلى وجرحى. تتوتر الأحياء الداخلية في بيروت. يلجأ الناس الى منازلهم، وينتشر مسلحون في الأزقة، بينما تقوم وحدات من الجيش بالانتشار البطيء، قبل أن يخرج اجتماع ثلاثي بين الجيش وحزب الله وجمعية المشاريع الخيرية (الأحباش) بخطوات لإخلاء الشوارع ونشر وحدات الجيش في كل الأمكنة، والعمل على تهدئة إعلامية. لكن إشكالاً يستمر قرب أحد المقارّ التابعة للأحباش...ببراءة، يمكن الحديث عن إشكال فردي له ما سبقه من توترات بين أفراد على أمور تافهة، لكن المناخات العامة، وتفاصيل الإشكال الدموي، ترسم علامات استفهام حول ما حصل، وتجعل الأعين مفتوحة بقوة على ما يعدّ لهذا البلد من فتن لا تبقي شيئاً.ميدانياً، سقط ثلاثة قتلى وأصيب نحو عشرة آخرين بجروح مختلفة، فيما أحرقت سيارات ومبان ومقارّ. أما سياسياً، فقد كانت المفاجأة الكبرى، اندلاع المواجهة بين حليفين قريبين من التوجهات السياسية ذاتها، وتربطهما علاقة خاصة بسوريا، وخصومة واحدة ضد تيار «المستقبل» وتعرّضا معاً للحملة ذاتها إثر الانقلاب الكبير عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري.التوتر الذي استمر مسيطراً على الأحياء المحيطة بمنطقة الاشتباكات، ترافق مع قلق عكسته اتصالات الأهالي في المنطقة ولجوء بعضهم الى ترك المنازل باتجاه مناطق أكثر أمناً، بينما ظل مسلحون يجلسون في مداخل بعض الأبنية، وسط انتشار الجيش العسكري والأمني.
هل من خلفيات مبيّتة؟
إلا أن العنصر الأكثر غرابة في ما حدث أمس، كان المفاجأة والدهشة اللتين سيطرتا على وجوه واتصالات المسؤولين الأمنيين والسياسيين على أثر الحادث «المفاجئ والغامض» الذي استدعى سيلاً من الأسئلة.وكشف مصدر أمني معني أن الجهات الأمنية «رصدت منذ مدة تزيد على شهرين، حركة لافتة في تلك المنطقة، وحصول تغييرات لا سابق لها في حركة واتصالات ومواقف قيادات تبيّن أنها متورّطة في الاشتباك أمس، وأن هذه التغييرات ترافقت مع المساعي غير المنظورة الى فرض حالة من التعبئة على خلفيات طائفية ومذهبية ترافق المناخات السياسية المتوترة ربطاً بالسجال حول المحكمة الدولية والقرار الظني وملف شبكات التجسس الإسرائيلية».وقال المصدر إن «التحقيق المفترض أن يبدأ من قبل الجهات المعنية، سوف يعود الى مراجعة ملفات تفيد في هذا الشأن، ومن المفترض المسارعة الى عقد اجتماعات بين القيادات السياسية المعنية لاحتواء بعض المواقف المستجدة لدى مسؤولين ميدانيين في تلك المنطقة»، لافتاً «الى أهمية الانتباه لنشاط تقوم به مجموعات غير لبنانية تواجه أخيراً مشكلة في توفير الغطاء السياسي والاجتماعي لأنشطتها بعد تطوّرات العامين الأخيرين».
شريط الاشتباكات والجهود
ميدانياً، وقبل وقت قليل من موعد الإفطار، حصل إشكال مساء أمس، بين شبّان من حزب الله وآخرين من جمعيّة المشاريع الخيريّة الإسلاميّة (الأحباش) على خلفيّة ركن سيّارة قرب المركز الرئيسي لجمعيّة المشاريع، بعدما كان إشكال مشابه قد وقع قبل يومين بين الطرفين تحوّل إلى عراك بالأيدي. وعندما وصل مسؤولون من حزب الله إلى مكان الحادث لمحاولة حله، حصل إطلاق نار أدّى إلى مقتل أحد مسؤولي حزب الله في منطقة برج أبي حيدر محمد فواز وجرح شاب معه.وتطوّر الإشكال بسرعة إلى تبادل لإطلاق النار بالأسلحة الرشاشة وقذائف «الأر.بي.جي»، والقنابل اليدويّة. وانتشر المسلّحون في محيط المنطقة من البسطة إلى رأس النبع وبربور ومار الياس. كذلك انتشرت سيّارات الإسعاف عند مفارق الطرق التي أقفلها المسلّحون.واستمرّت الاشتباكات نحو أربع ساعات على نحو متقطّع، إذ كانت زخّات الرصاص تُسمع على نحو غير متواصل، وذلك في ظلّ استنفار واحتقان عند المسلّحين المنتشرين في الشارع.وفي جولة على «خطوط التماس»، كان من الملاحظ الانتشار الكثيف للمسلّحين من أطراف عدة، بثيابهم المدنيّة وبدون أي تحضير مسبق، في ظلّ هدوء حذر وخلوّ الطرقات من المارة في الأماكن المحيطة. كذلك لفت إقفال الجيش لساحة أبو شاكر في الطريق الجديدة، وتجمّع الشباب في محيطها من دون وجود سلاح بين أيديهم.وسارع الجيش إلى ارسال تعزيزات انتشرت عند النقاط المؤدّية إلى منطقة الاشتباكات، تمهيداً لدخولها بعد التواصل مع الفريقين. وجمعت قيادة الجيش، ممثّلة بمساعد مدير الاستخبارات العميد عباس إبراهيم، في مركز فرع استخبارات بيروت، مسؤولَ الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا والقيادي في جمعية المشاريع بدر الطبش. وقبل انتهاء الاجتماع، انتشر الجيش في محيط المركز الرئيسي لجمعيّة المشاريع في برج أبي حيدر، وتوقف إطلاق النار.لكن اشتباكات محدودة استمرت حول مبنى يطل على محلتي رأس النبع والنويري، فتدخلت لجنة من الطرفين لمحاولة تطويق الاشتباكات. كما سُمع قرابة منتصف الليل دويّ قنبلة أو قذيفة صاروخيّة بين البربير ورأس النبع، ثم سُمعت أصوات الرصاص في منطقة رأس النبع والنويري في الوقت عينه.وأكد عضو المجلس السياسي في حزب الله الشيخ عبد المجيد عمار، عقب انتهاء الاجتماع الذي طوّق الاشتباك، أن الإشكال الذي حصل «فردي وليس له أيّ أبعاد من أي شكل، وقد اتفق على أن يؤلف الجيش لجنة تحقيق، ولن نضيف أي شيء، ونترك كل شيء للتحقيق الذي سيجريه الجيش».وقال المسؤول الإعلامي في جمعيّة المشاريع الشيخ عبد القادر فاكهاني إن «المشكلة أساساً ليست بحجم رد الفعل، وإن الإصابات قد وقعت من الطرفين من اللحظة الأولى». وكان فاكهاني قد أكد أن «المشكلة وقعت إثر تلاسن بين عناصر الحرس الذين كانوا يؤمنون الطريق بانتظار وصول مدعوّين من حركة أمل الى مائدة إفطار جمعية المشاريع، ما لبث أن تعرّض على أثرها مركز المشاريع لإطلاق نار مباشر وكثيف».
حزب الله والأحباش ينفيان وجود خلفيّات سياسيّة والجيش ينتشر ومواقف مستنكرةوقد صدر ليلاً بيان مشترك من قيادتي حزب الله وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية جاء فيه: «على أثر الحادث الفردي المؤسف الذي وقع عصر الثلاثاء (أمس) بين شباب من حزب الله وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، تداعت قيادتا الطرفين إلى اجتماع عاجل في فرع استخبارات بيروت، وجرى التأكيد أن الحادث المؤسف هو فردي ولا خلفيّات سياسيّة أو مذهبيّة وراءه، وقد اتفق على محاصرته وإنهائه فوراً ومنع أي ظهور مسلّح بغية عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية كما كانت، ومعالجة كل التداعيات الناجمة عنه».وأضاف بيان الطرفين أنه تقرّر فتح تحقيق عاجل تجريه قيادة الجيش اللبناني ورفع الغطاء عن كل من «يحاول المسّ بمسيرة الأمن والاستقرار الذي هو أولويّة لدى الطرفين وكل الأطراف الوطنية، وجرى الاتفاق على إبقاء الاجتماعات مفتوحة لتفويت الفرصة على كل المصطادين في الماء العكر».واستنكر نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان «بشدة الحادث المؤلم»، معرباً عن أسفه الشديد وألمه لسقوط ضحايا. ودعا المسلحين إلى الانسحاب الفوري من الشوارع ووقف إطلاق النار، والتزام دعوات التهدئة وعدم التعرّض للجيش أثناء تأدية مهماته الأمنيّة في بسط الأمن وفرض الاستقرار.وحذر قبلان من فتنة «تهدّد وحدتنا الوطنية»، داعياً العقلاء الى «تطويق الإشكال وعدم السماح للمصطادين في الماء العكر ببث فتنة مذهبيّة لا يقبل بها عقل ولا دين».وفي السياق، أصدر وزير الدفاع إلياس المرّ قراراً أوقف فيه مفعول رخص حمل السلاح على جميع الأراضي اللبنانيّة.(الأخبار)
الحصيلة 3 قتلى و15 جريحاً
3 قتلى و15 جريحاً. هذه هي الحصيلة شبه النهائية لضحايا جولة أمس من الاشتباكات «الأهلية» في بيروت. من طرف حزب الله، سقط كل من محمد فواز وعلي جواد. أما من جهة جمعية المشاريع، فقد قتل أحمد جمال عميرات. الجرحى نقلوا إلى مستشفيي الرسول الأعظم والمقاصد. في الأول، عولج أربعة جرحى، اثنان جراحهما طفيفة، وثالث عولج من إصابة في فخذه، أما الرابع، فإصابته بالغة لكن ليست خطرة. وفي مستشفى المقاصد، عولج 11 جريحاً، اثنان منهم فقط خضعا لعمليات جراحية، وتجاوزا مرحلة الخطر، بحسب مصادر المستشفى.الطرفان تكتّما على أسماء الجرحى، وعقدا اجتماعاً انتهى عند الواحدة من فجر اليوم في مركز استخبارات الجيش في بيروت، واتفقا على لقاء ثانٍ اليوم في المكان نفسه. وشدد كل منهما على أن الخلاف «تافه» وأنه «لم يكن يستأهل كل ما جرى». «خلاف تافه» أدّى إلى قتل ثلاثة شبان، وجرح 15 آخرين، ووضع البلاد والعاصمة على ما يشبه حافّة حرب أهلية!
كل من يريد العمل على الإنترنت، عليه الحصول على ترخيص! تلك هي آخر الابتكارات لتقييد الشبكة العنكبوتية... هل يودّع لبنان زمن حرية التعبير مع انعقاد مجلس النوّاب اليوم للتصويت على مشروع قانون «ينظّم» العمل الإلكتروني؟ حرية الإعلام في لبنان على موعد اليوم مع استحقاق جديد. إذ يُنتظر أن يصوّت مجلس النواب على «قانون تكنولوجيا المعلومات الجديد» الذي بدأ العمل عليه منذ عام 2004. للوهلة الأولى، يبدو أن إقرار مشروع قانون ينظّم عمل الإنترنت في لبنان ضروري، ولكن إلقاء نظرة سريعة على القانون المقترح الذي حصلت «الأخبار» على نسخة عنه، يؤكّد أنه إذا أُقِرَّ المشروع فسينتقل اللبنانيون للعيش في ما يشبه النظام الأمني الذي سيدخل في أدقّ تفاصيل حياتهم الشخصية. في المواد الـ 68 الأولى من القانون، يبدو أن المشرّعين جهدوا في وضع بعض الإضافات والإصلاحات لتتماشى مع المعاملات الإلكترونية للمصارف. غير أنّ «الكارثة» الحقيقية تتّضح من المادة 69، وصولاً إلى آخر بند من القانون. «تنشأ بموجب هذا القانون «هيئة التواقيع والخدمات الإلكترونية التي تتمتّع بشخصية معنوية وإستقلال مادي وإداري... لا تخضع هذه الهيئة لأحكام النظام العام للمؤسسات العامة...» هذا ما تنصّ عليه المادة 70 من القانون. أما أعضاء الهيئة الخمسة ورئيسها فإن مجلس الوزراء هو الذي يعيّنهم. الفصل الثاني من الباب الثالث في القانون يشرح مهمات الهيئة. هنا، تضع الهيئة المعايير الخاصة والشروط الإدارية والمالية والتقنية الضرورية لإصدار تراخيص وشهادات تعطى لكل من يرغب في العمل على الشبكة العنكبوتية حتى لو أراد فتح حساب بريد إلكتروني أو مدوّنة شخصية! كما ينصّ القانون على حق الشبكة في «بناء قواعد إلكترونية عن مقدمي الخدمات المرخصين ومراقبتهم وفق أحكام القانون...» (المادة 80). أما الأخطر الذي تنصّ عليه هذه المادة نفسها، فهو حق الهيئة ـــــ التي يُفترض أن تكون محايدة ـــــ باستثمار خدمات إلكترونية، وبالتالي تدخل هذه الهيئة في المنافسة، وبإمكانها احتكار العمل في قطاع الإنترنت. وعند الانتقال إلى الفصل الثالث الذي يحمل عنوان «المراقبة والتفتيش»، ينتقل عمل الهيئة من مستوى قانوني، إلى مستوى أمني. إذ يحق للهيئة «القيام بعمليات التفتيش المالية والإدارية والإلكترونية والوصول إلى أي معلومات وأنظمة كمبيوتر أو أدوات تتعلق بالعمليات، بما في ذلك تلك التي تستخدم لوضع معالجات البيانات ذات الطابع الشخصي موضع التنفيذ». بمعنى آخر، يمكن الهيئة تفتيش كل البيانات الشخصية لأي مؤسسة أو أي شخص (بما في ذلك «فايسبوك» وغيرها من المواقع التي تحوي معلومات شخصية) من دون العودة إلى مرجع قضائي أو قانوني. والمادة 84 توضح الصورة أكثر، إذ جاء فيها «يكلف المراقب أو المفتش رسمياً من قبل الهيئة بأعمال التفتيش إماّ دورياً أو بناءً على شكوى (!). ويمكن المراقب أو المفتش، وفي حدود ما تقتضيه مهمته... الاطلاع على أي مستند مهما كانت ركيزته والاستحصال على نسخ عنه». وتضيف المادة أنه يحق أيضاً للمفتّش «الاستحصال على كل معلومة أو توضيح يراه ضرورياً، من مكان التحقيق، أو بعد دعوة من يلزم... الولوج إلى البرامج المعلوماتية والبيانات وطلب نسخ مطبوعة عنها». كذلك فإنّ المادة 87 تعكس واقعاً مأسوياً إلى حدّ كبير، إذ يمكن الهيئة أن تعدّل شروط الترخيص من دون الاستناد إلى أي قانون! ويبدو مشروع القانون واضحاً من خلال تحذيره كل من يحاول عرقلة عمل هذه الهيئة. العقاب جاهز وهو «الحبس من ثلاثة إلى ستة أشهر، ودفع غرامة من خمسة إلى عشرة ملايين ليرة لبنانية». والعقاب لا يشمل فقط المُعترض على عمل الهيئة، بل من يرفض إعطاءها معلوماته الشخصية. وحتى الساعة، لم تتضح بعد من هي الكتل التي ستصوّت مع المشروع، ومن هي تلك التي ستعترض عليه، وإن كان تردّد أمس أنّ «كتلة المستقبل» تتجه إلى التصويت عليه في وقت وعدت فيه كتلة «الإصلاح والتغيير» بعض الناشطين الذين زاروها، بالامتناع عن التصويت. أما النائب عقاب صقر فقال أيضاً لعدد من الشباب الذين زاروه طالبين معارضة القانون، إنّه سيعقد مؤتمراً صحافياً قبل انعقاد جلسة مجلس النواب ليعلن اعتراضه على مشروع القانون «وإحراج زملائه النواب الباقين». وفي إطار عملهم لمنع إقرار هذا القانون، شهد أمس حركة ناشطة على مستوى المجتمع المدني، إن كان من خلال زيارة الكتل النيابية، أو من خلال إنشاء حملات معترضة على القانون على الشبكة العنكبوتية. هكذا أُنشئت مجموعة على «فايسبوك» بعنوان «أوقفوا هذا القانون» مع تصميم ملصق خاص نُشر على عدد كبير من المواقع الإلكترونية.
ليال حداد - "الأخبار"
نجاد بين بري ووالد الشهيد السيد عباس الموسوي في المطار (هيثم الموسوي)مثير للجدل أينما حل. لكن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أعاد الهدوء، ولو مؤقتاً، إلى قاموس السياسة اللبنانية، واستطاع جمع التناقضات في قصر بعبدا. ومنذ أن وطئت قدماه أرض مطار رفيق الحريري الدولي، دخل أحمدي نجاد في «كنف الدولة»، مطعّماً زيارته بنكهة شعبية خاصة به. ورغم كل الضجيج السياسي والتحذيرات الأمنية الغربية التي رافقت الإعداد لزيارته، مرّ يومه اللبناني الأول بكثير من الاسترخاء، على مستوى الخطاب السياسي، ووصل الأمر إلى حد مطالبة رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع الأفرقاء كافة بالاقتداء بمواقف أحمدي نجاد! كان ذلك قبل أن يطل الرئيس الإيراني في الاحتفال الشعبي الذي أقيم له في الضاحية الجنوبية، حيث أعلن ولادة محور جديد لقيادة المنطقة. محور يمتد من حدود أفغانستان إلى غزة، مروراً بتركيا والعراق وسوريا ولبنان. واليوم، ينتقل أحمدي نجاد إلى الجنوب، حيث تترصده إسرائيل التي ترى في وقوفه على حدود فلسطين عودة للحرس الثوري الإيراني إلى لبنان!
حسن عليق إنه احتفال السوابق في ملعب الراية. للمرة الأولى، يقف رئيس إيراني خطيباً في الضاحية الجنوبية لبيروت. وللمرة الأولى، يرتفع هذا العدد الضخم من الأعلام الإيرانية في الضاحية الجنوبية، من دون خشية رافعيها من اتهامهم بالتبعية لإيران. وللمرة الأولى، «يُضبط» الأمين العام لحزب الله متحدثاً باللغة الفارسية التي يقال إنه يجيدها بطلاقة. وللمرة الأولى، يتولى حزب الله تنظيم احتفال، ويعطي الكلمة الأمنية العليا فيه للحرس الجمهوري اللبناني. انتشر أفراد الحرس في شوارع الضاحية المحيطة بمكان الاحتفال، وعلى أسطح الأبنية المطلة عليه. وبين المشاركين، انتشر أفراد من مديرية استخبارات الجيش مرتدين سترات تعرّف بهم. وللمرة الأولى، يشوب مشهد الاحتفال هذا القدر من الفوضى، نسبة إلى احتفالات حزب الله المعروفة بانضباطها الشديد. وللمرة الأولى منذ زمن، غاب أفراد «الانضباط» الشهيرون الذين استبدلوا بطاقات تعريفهم بأخرى كتب عليها «اللجنة المنظمة»... جمهور ملعب الراية ضاقت به المساحة التي اعتادها. قد يكون ذلك هو السبب الرئيسي لابتعاد الاحتفال عن معايير التنظيم المعروفة عند حزب الله. ورغم ذلك، فإن كل الواصلين إلى الملعب خضعوا للتفتيش. فالإجراءات الأمنية مشددة أكثر من المعتاد. مداخل الطرق المؤدية إلى ملعب الراية أُقفلت بشاحنات كبيرة مملوءة بالتراب، في إجراء احترازي بوجه احتمال الهجوم على الاحتفال بسيارة مفخخة. وفي بعض الطرق، كان هذا الإجراء مضاعفاً. لكن التشدد الأمني لم ينعكس توتراً على وجوه الحاضرين. بدوا فرحين بلقاء الرئيس الذي لم يُسأل أحدهم عن سبب انتظاره له إلا حضرت في إجابته كلمة مقاومة: «نجاد دعَم المقاومة». «أمدّ المقاومين بالسلاح والمال». «نصف إنجازات المقاومة يعود إلى إيران، ونصفها الثاني للسيد حسن نصر الله والرئيس بري والآخرين»... في احتفال أمس، أمكن بسهولة تلمّس شعور غريب بين الحاضرين. هو مما لا يُعهَد إلا في محطات مفصلية، كمهرجان الانتصار في أيلول 2006. فيه شيء من الفرح الممزوج بالزهو. فرح من يرون رئيساً يرفض مخاطبتهم من خلف زجاج مقاوم للرصاص، فيتركه للمترجم. رئيس هو بالنسبة إليهم «من جنسنا، لا من جنس الرؤساء». يتناقلون أخبار تواضعه كما يُحكى عن أبطال الأساطير. وفي أول ظهور له أمامهم على المنبر، حيّاهم فحيّوه، ورأوه على الشاشة دامع العينين. وأهم من ذلك بالنسبة إليهم، أنه شريكهم في قدس أقداسهم: مقاومة إسرائيل. بدوا كمن يستقبل «أخاه الأكبر» متباهياً ببطولاته. كيف لا، وهو الذي يصفه السيد حسن نصر الله بـ«الأخ الكبير، والصديق العزيز». كان جمهور ملعب الراية شبه متيقن من أن السيد سيظهر بشخصه لا عبر الشاشة. إحدى الشابات تسلقت عمود كهرباء محاولة رؤيته. انتظرت بفارغ الصبر انتهاء عريف الحفل من كلمته المعتادة. نزلت خائبة. لكنها سرعان ما تفهمت الوضع الأمني للقائد الذي شاهدته يشيب أمام ناظريها. عبارة «خوش آمديد» كانت الأكثر ترداداً في ملعب الراية. تناقلها الحاضرون جماعات جماعات، من دون أن ينجحوا في تحويلها إلى هتاف موحّد. العلم الإيراني لم يُحمَل بهذه الكثافة منذ زيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي إلى لبنان. حتى ما قبل أسبوعين، كان في الضاحية الجنوبية علم إيراني شبه يتيم، مرفوع عند أحد مداخل منطقة الشياح. وهناك، زرعه أحد أبناء المنطقة على سبيل «النكاية». لم تكن النكاية دافع جمهور ملعب الراية لرفع علم الدولة التي يرون فيها ما رآه الشيوعيون في موسكو ذات زمن. «هذا أضعف الإيمان»، يقول أحدهم موضحاً: «شاركتنا إيران انتصارنا، ولولاها لما صمد المقاومون. نفتخر بهذا العلم. هذا ما نريد قوله للرئيس نجاد». بعيداً عن الجمهور «الرايق»، ظهرت على أحد هوامش ملعب الراية أمس مجموعة من الشبان مسلحين بطبل وطبلة. لم يهدأوا طوال الاحتفال. لم يستمعوا إلى كلمة الأمين العام لحزب الله، ولا إلى خطاب الرئيس الإيراني. أحدهم برر ذلك بغياب الترجمة. في الواقع، لم يحاول الإنصات ولو للحظة كانت تكفي ليكتشف وجود مترجم فوري لخطاب أحمدي نجاد. هم جماعة الـ«حاحا». يسبقهم ضجيجهم أينما حلوا. هم بقايا تلك المجموعة التي «ذاع صيتها» أيام اعتصام المعارضة في وسط بيروت. حينذاك، اخترعوا أغنية مطلعها «على عين التينة... دخلك وديني». لازِمتها لفظ بلا معنى اقتبسوه من أغنية للشيخ إمام: «حاحا». وفي أيام الاعتصام، كانوا المحرك الرئيسي لـ«النشاطات» التي كان يشهدها مخيم وسط العاصمة ليلاً. كان أحد قادتهم، أبو حشيش، يشنّ كل يوم هجوماً افتراضياً على السرايا الحكومية لإسقاط الرئيس فؤاد السنيورة. هم شبان غير منتمين إلى أي طرف سياسي، إلا أنهم ينسبون أنفسهم إلى حركة أمل ويحملون أعلامها، رغم عدم مونة القيادة على أي منهم. الفوضى التي خلّفوها أمس سبّبت أكثر من عراك بينهم وبين اللجنة التنظيمية. ورغم طغيان الهزل على أجوبتهم، فإن سائلهم، عندما يستدرجهم إلى الجدية، يسمع منهم أجوبة واضحة. وسبب حضورهم إلى ملعب الراية هو توجيه تحية إلى نجاد على «الدعم الذي يقدمه للمقاومة».
ما تريده إيران هو ما أراده العـرب طوال 60 عاماً«أرحب بكم أخاً كبيراً وصديقاً عزيزاً وحبيباً غالياً وسنداً عظيماً للمقاومين والمجاهدين والمظلومين. نشمّ فيك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كل الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه في كل الساحات ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا»، هكذا توجّه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مخاطباً الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أمس في كلمة مختصرة عبر شاشة عملاقة في احتفال ملعب الراية. ترحيب نصر الله الذي جاء «باسم أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس» توجّه في جزئه الأول إلى العرب واللبنانيين، وفي الجزء الثاني إلى الرئيس الضيف. في الجزء الأول، أراد نصر الله أن يؤدي «شهادة لله واجبة في عنقي بحق الجمهورية الإسلامية في إيران قيادة ورئيساً وحكومة وشعباً»، فتحدّث عن «ما يفترضه البعض في وهمه مشروعاً إيرانياً في فلسطين ولبنان والمنطقة، ويفترض مشروعاً عربياً لمواجهته». وأوضح أن «ما تريده إيران في فلسطين هو ما يريده الشعب الفلسطيني في فلسطين وما يريده العرب وما أرادوه خلال ستين عاماً، أي أن تعود أرض فلسطين لشعب فلسطين»، وما تريده إيران في لبنان «أن يكون بلداً حراً غير محتل، موحداً سيداً مستقلاً عزيزاً كريماً أبيّاً شامخاً أمام التحديات والتهديدات، حاضراً في المعادلات الإقليمية»، مشدداً على «افتخاره وإيمانه العميق بولاية الفقيه العادل والحكيم والشجاع»، ومكرراً أنه «لا مشروع خاصاً لإيران في لبنان». أما في المنطقة العربية، فإيران «هي مع لاءات العرب التي أطلقوها في زمان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الخرطوم» كما قال الأمين العام. نصر الله الذي «شهد بالحق» للرئيس نجاد في قوله «إن إسرائيل دولة غير شرعية، ويجب أن تزول من الوجود»، شهد أيضاً أن إيران «التي كانت دائماً تدعمنا، وما زالت، لم تطلب منا في يوم من الأيام موقفاً، ولم تصدر إليناً أمراً، ولم تتوقع منا شكراً». السيّد نصر الله دحض كل ما يروّج بشأن إيران «على أنها مصدر للفتنة»، وعن سعيها إلى «تفريق الصفوف وتمزيقها». واستشهد ببعض الأمثلة المحرّضة على الفتنة الإسلامية ـــــ المسيحية والسنية ـــــ الشيعية في العالم، وبيّن كيف كان ردّ فعل القيادة والحكومة والشعب الإيراني الذي يقوم على مبدأ أنه «إذا أخطأ مسلم فلا تحاسبوا المسلمين جميعاً، إذا أخطأ مسيحي فلا تحاسبوا المسيحيين جميعاً، إذا أخطأ شيعي فلا تحاسبوا الشيعة، إذا أخطأ سُنّي فلا تحاسبوا السُّنة». وخلص نصر الله إلى أن الجمهورية الإسلامية في إيران هي «من أهم الضمانات في العالم لوأد الفتن وتعطيل الحروب ونصرة المستضعفين». وفي هذا السياق، سأل الأمين العام: «لماذا نركض سريعاً برجلينا إلى الفتنة التي تريدها أميركا؟». ودعا نصر الله العرب إلى «ألّا يصغوا إلى شياطين أميركا وإسرائيل، بل أن يشكروا الله على إيران ويغتنموها لكونها ضمانة الأمة والوحدة والمقاومة من موقع القوة والعلم والحكمة والمسؤولية التاريخية». وفي الختام، شكر نصر الله الجمهورية الإسلامية في إيران قائداً ورئيساً وحكومة وشعباً. وتوجّه إلى نجاد شاكراً «زيارته ومحبته وشجاعته وحكمته وتواضعه وخدمته الكبيرة لشعبه ولقضايا الأمة، وحضوره في أرض الضاحية الجنوبية، أرض الإباء والصمود والمقاومة».
ولادة جبهة مقاومة من إيران إلى تركياوزّع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، من الضاحية الجنوبية لبيروت، مساء أمس، مجموعة من المواقف الإقليمية التي انطلقت من «الرأسمالية»، مروراً بفلسطين وإسرائيل و«أنظمة الاستكبار والاستعمار»، وصولاً إلى ملفات لبنانية داخلية. ومثلما كان متوقعاً، كانت إسرائيل والولايات المتحدة من الأهداف الأساسية للهجوم الذي شنّه نجاد من لبنان، «مدرسة المقاومة والصمود التي يفوح منها عطر الأديان والطوائف والمذاهب المتنوعة». وفي الاحتفال الذي أقامه له حزب الله وحركة أمل في ملعب الراية، ركّز نجاد على التوجه إلى جميع اللبنانيين «بأديانهم وطوائفهم المتنوعة»، ملمّحاً إلى أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، «الصديق العزيز والشخصية الغيورة على وطنها»، أتى في سياق «إيجاد الخلافات والقلاقل في منطقتنا». حتى إن نجاد غمز من قناة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، مشيراً إلى أنّ «المجموعات الحقوقية التابعة لأنظمة الهيمنة تستغل (الجريمة) لتوجيه الاتهام إلى بقية الأصدقاء، سعياً للوصول إلى المرامي المشؤومة والباطلة عبر زرع بذور الفتنة والتشرذم». ورأى أنّ «أنظمة الاستكبار» تريد «إلحاق الأذى بالعلاقات الأخوية بين الشعبين السوري واللبناني»، مقارناً بين ما يحصل في لبنان والتطورات العراقية، بما أن «الأعداء، كلما احتلوا بلداً أو غزوا شعباً، لعبوا على وتر الحساسيات القومية والطائفية وعلى النعرات العرقية والمذهبية». وبعدما استذكر «المواجهات البطولية» للبنانيين في عامي 1982 و2006، خاطب نجاد عشرات آلاف مستقبليه بالتأكيد أن «قضاياكم وقضايا الشعب الإيراني واحدة، لذا فنحن موجودون معكم في جبهة واحدة وسنبقى معكم أبداً»، معدداً مجالات الاتفاقات بين إيران ولبنان، من الطاقة والصحة والعلاج والزراعة والصناعة الثقافة والسياحة. وقبل أن ينهي كلامه على الملف اللبناني، استعاد نجاد موضوع الدبلوماسيين الإيرانيين الأربعة الذين خُطفوا من بيروت خلال احتلالها عام 1982. وتقصّد الضيف الإيراني الكشف عن أن بعض أقارب هؤلاء الدبلوماسيين يرافقونه في جولته اللبنانية، ليحمّل إسرائيل المسؤولية عن سلامتهم وعن أرواحهم بما أنهم «لا يزالون على قيد الحياة استناداً إلى الوثائق والمعلومات المؤكدة». ومن لبنان إلى فلسطين التي رأى الرئيس الإيراني أن هناك حلاً وحيداً لقضيتها: الاعتراف بحق السيادة للشعب الفلسطيني وعودة اللاجئين إلى أرضهم ورحيل قادة الكيان الصهيوني إلى أوطانهم الأصلية قبل أن «تجعلهم أعاصير غضب الشعب الفلسطيني وأعاصير غضب بقية الشعوب الحرة أثراً بعد عين». وناشد «بعض دول المنطقة» أن تتماشى وتتضامن مع شعوبها، وأن تسمح للناس بأن يعبّروا بحرية عن رأيهم في المهيمنين وفي جرائم الكيان الصهيوني، وأن تسمح للناس بأن يقدموا دعمهم ومساعداتهم للشعب الفلسطيني المظلوم، مشيراً إلى أن أي دولة أو شخص يسعى إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب «سيكون معزولاً ومداناً من شعوب هذه المنطقة». في غضون ذلك، بشّر بأن «جبهة مقاومة الشعوب في فلسطين ولبنان وسوريا وتركيا والعراق وإيران» قد تألّفت بالفعل، معلناً «بكل ثقة أن الكيان الصهيوني يتدحرج اليوم في مهاوي السقوط، وليس هناك من قوة قادرة على إنقاذه». وفيما دعا الأمم المتحدة إلى الاعتراف بشرعية الشعب الفلسطيني وحقه في ممارسة سيادته، بدلاً من الاعتراف بالاحتلال، انتقد نجاد السلطة الفلسطينية من دون أن يسميها، بما أن «وجود الكيان الصهيوني بأي شكل من الأشكال، ولو على شبر واحد من الأراضي الفلسطينية، هو بمثابة إعطاء فرصة للاحتلال والإجرام». وعلّق على السجال الحالي الدائر حول «يهودية دولة إسرائيل» بالتحذير من أن «الدولة اليهودية تعني دولة عنصرية، وتشريد أكثر من مليون و500 ألف إنسان من الأراضي المحتلة». وكان للاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان حيّز مهم من خطاب نجاد الذي نصح المحتلين بـ«ترك المنطقة والاعتذار من الشعوب وتعويض الخسائر، وإلا فإنّ أيدي شعوب المنطقة ستطردهم من المنطقة طرداً ذليلاً، وستضع الجناة في قبضة العدالة». على صعيد آخر، جدد نجاد التشكيك في الرواية الأميركية لـ«أحداث 11 أيلول المؤلمة» في نيويورك، تماماً مثلما فعل في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، واضعاً هذه الرواية في خانة المبرر لغزو أفغانستان والعراق «بحجج خاوية». ودعا إلى تأليف فريق عمل مستقل وحيادي لتقصّي حقائق 11 أيلول، لمعرفة الحقيقة عبر فحص الصناديق السوداء للطائرات التي استهدفت الولايات المتحدة، لافتاً إلى أن ممانعة هذا القرار «يبيّن أن أحداث 11 أيلول قد نُفّذت بتدبير مسبق، ومن أجل أهداف توسعية». ولم تغب الأزمة الاقتصادية وتلوّث الهواء والتغيّرات المناخية الحادة والفقر والتخلف عن كلمة الرئيس الإيراني، على اعتبار أنها «نتائج سياسات نظام الهيمنة الأحادي والفكر الرأسمالي الذي لا يتوخى إلا الحد الأقصى من الأرباح دون الالتفات إلى القيم الأخلاقية، متحدثاً عن «وعد إلهي سيتحقق بنظام عالمي إنساني وعادل آتٍ».
عدد الخميس ١٤ تشرين الأول ٢٠١٠
قبل تحرير الجنوب في 25 أيار 2000، لم تكن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا في القاموس السياسي اللبناني. كانت مجهولة قبل أن تحتل المرتبة الأولى في سلم اهتمامات لبنان الرسمي والحزبي، وصولاً إلى الإقليمي والدولي.
لكن كان لمقاومين مجهولين تاريخ مجيد هناك
عفيف دياب مثّلت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ومرتفعات جبل الشيخ وهضابه، مسرحاً مهماً لعمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية منذ أن حررت البقاع الغربي وراشيا سنة 1984. وضعت الجبهة هذه المنطقة اللبنانية المحتلة من إسرائيل على مراحل من 1967 وحتى 1979 في سلم مهماتها القتالية. مهمات لم تكن «نزهة» ريفية للمقاومين، فالمزارع والتلال وجبل الشيخ هي منطقة استراتيجية وفق المنطوق العكسري الإسرائيلي، ولا يمكن أياً كان«هزّ» هذا المنطق الاستراتيجي الذي كان ينعم بهدوء عسكري تام منذ 1973. فالمقاومة الفلسطينية قبل 1982 كانت ملتزمة القرار السياسي«الإقليمي» بعدم «الرقص» على حبال جبهة «خط الهدنة» في جبل الشيخ، نزولاً نحو مزارع شبعا. التزام رفضته جبهة المقاومة بعد عام 1985، حيث اتخذت قراراً جريئاً باستهداف العدو الإسرائيلي هناك و«ضمن الأراضي اللبنانية المحتلة». قرار أثّر في علاقة جبهة المقاومة (الحزب الشيوعي) بالقيادة السورية، ولا سيما بعد العملية النوعية للجبهة ضد موقع السماقة (1989) التي عدّتها القيادة السياسية الإسرائيلية «خرقاً سورياً» لاتفاق الهدنة منذ حرب تشرين 1973، وحمّلت دمشق المسؤولية واتهمت الحزب الشيوعي اللبناني بمحاولة استدراج الجيش السوري إلى فتح حرب مع إسرائيل. عملية السماقة التي وتّرت العلاقة بين جبهة المقاومة ودمشق، سبقتها عمليات أخرى ضد الاحتلال الإسرائيلي في رمثا ورويسات العلم، واستهداف مواقع في عمق المزارع وأعالي جبل الشيخ بالصواريخ (موقع النخيلة ومرصد جبل الشيخ سنة 1985)، ومثّلت جميعها قلقاً متزايداً في المؤسسة العكسرية الإسرائيلية التي كانت ترسل«التهديد» تلو الآخر إلى دمشق التي كانت تتمنى على جبهة المقاومة «التنسيق» قبل تنفيذ أي عملية في جبل الشيخ ومزارع شبعا. وقررت القيادة الميدانية للمقاومة وضع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وجبل الشيخ في دائرة عملها العسكري المقاوم للاحتلال الإسرائيلي. ويروي أحد مسؤولي الجبهة لـ«الأخبار» أنه بعد تحرير البقاع الغربي سنة 1984، كُلف الشهيد جورج نصر الله مع مجموعة من الرفاق، من بينهم كمال الحجيري (استشهد في جبل الشيخ سنة 1986) البدء بوضع دراسة ميدانية عن خريطة الانتشار العسكري الإسرائيلي بعد انسحابه من البقاع الغربي وراشيا. يضيف: «أنجز جورج وكمال وآخرون الدراسة في أقل من أسبوع، ورسموا خريطة الانتشار العسكري للاحتلال في منطقة القطاع الشرقي، وصولاً إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وأعالي جبل الشيخ. وقد لفتت انتباهنا نوعية مواقع المزارع التي لا تضم إلا جنوداً إسرائيليين، خلافاً لمواقع أخرى كانت تضم فقط عملاء لبنانيين، فقررنا أن نركز ضرباتنا على جنود الاحتلال و«التسلية» بمواقع جيش العملاء». مكث جورج نصر الله ورفيق له أسابيع في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وقررا دعم مجموعات «الداخل» بما يكفي من أسلحة رشاشة وصواريخ وعبوات، وتخزينها تمهيداً لبدء العمل العسكري في منطقة المزارع، وصولاً إلى جبل الشيخ، فدعمت مجموعات سرية في كفرشوبا وكفرحمام وراشيا الفخار وشبعا والهبارية بكميات كبيرة من الأسلحة بإشراف مباشر من الشهيد نصر الله ومجموعته، فيما تولى كمال وماهر وأبو أحمد وسمير إجراء تدريبات خاصة لمجموعات على اقتحام مواقع الاحتلال التي تختلف شكلاً ومضموناً عن مواقعه السابقة في البقاع الغربي وراشيا، أو تلك التي يسيطر عليها العملاء في قضاءي حاصبيا ومرجعيون. بعد إنجاز الاستعدادات ورسم الخرائط وتخزين أنواع الأسلحة في المنطقة المحتلة قرب المزارع، وتنظيم مجموعات الداخل على نحو سري، بدأ العمل الميداني الذي ترجم بداية بزرع عبوة لدورية إسرائيلية على طريق موقع رمثا سنة 1985، تبعها قصف بالصواريخ لموقع رويسات العلم، إلى أن أصدرت قيادة الجبهة قراراً بتنفيذ عملية أسر لجنود إسرائيليين من مزارع شبعا تحديداً. ويقول أحد المسؤولين السابقين إنه كلف الشهيد جورج نصر الله متابعة «القرار وتنفيذه»، حيث مكث أكثر من 15 يوماً داخل مزارع شبعا مع أحد رفاقه، وعادا بوجهة نظر تؤكد استحالة تنفيذ عملية أسر داخل المزارع والانتقال بالأسرى إلى المناطق المحررة، ولا سيما أن المسافة طويلة جداً، والأمر بحاجة إلى وسائل نقل غير ممكن توافرها في المنطقة المحتلة. يضيف أن «الرفيق جورج استنتج أن نجاح عملية أسر لا يمكن أن يتحقق إلا في منطقة جبل الشيخ، وتحديداً في محلة جنعم (بين شبعا وعين عطا). ونزولاً عند هذه الدراسة الميدانية كلف الشهيد كمال الحجيري تنفيذ هذه المهمة التي نجحت في نصف ساعتها الأولى، حيث استطاع مع الشهيد عمر المحمد (الكردي) أسر جندي إسرائيلي قرب وادي جنعم، لكن فقدان العدو صوابه ألزمه باستهداف كمال ومحمد ومعهما الجندي مباشرة فقتلوا جنديهم واستشهد الرفيقان». تكثيف جبهة المقاومة عملياتها في جبل الشيخ ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وصل إلى ذروته في عام 1987، حيث كانت أضخم المواجهات وأكبرها مع كوماندوس إسرائيلي في جبل الشيخ، إذ دارت معركة استمرت نحو 15 ساعة اعترف العدو بمقتل 4 من ضباطه وجرح 5 آخرين وأسر أنور ياسين، حيث استتبعت هذه العملية بمواجهة أخرى مع قوات الاحتلال امتدت من شمال بلدة شبعا حتى تخوم بلدة عين عطا قبل نهاية عام 1987، وكانت تهدف إلى أسر جنود للاحتلال. في صيف 1988 كلف الشهيد جورج نصر الله مهمة تنفيذ عملية أسر في جبل الشيخ. ويقول أحد مسؤولي الجبهة إنه في حزيران 1988 خاض جورج ومجموعته مواجهة مع دورية إسرائيلية في جبل الشيخ، حيث استطاع أسر أحد الضباط والسير به لمسافة لا بأس بها، «لكن للمرة الثانية، يقتل العدو أحد ضباطه كي لا يقع في الأسر، ويستشهد جورج ومخايل إبراهيم ويقع في الأسر غسان عليان». استشهاد جورج نصر الله أصاب جبهة المقاومة بوجع كبير، ولا سيماأنه من كبار قادتها الميدانيين، وأبرز العمليات التي شارك فيها وقادها كانت عملية قتل ضابط الموساد إبان احتلال البقاع الغربي المعروف باسم أبو النور، إضافة إلى أنه كان مخططاً ومنفذاً لعشرات العمليات، أبرزها عملية وادي كفرمشكي (اعترف العدو بمقتل وجرح 14 من جنوده سنة 1983) وتدمير إذاعة العميل أنطوان لحد (1985) وعملية الشهيد جمال ساطي (1986)، وعملية الشهيدة وفاء نور الدين (1986). استشهاد جورج نصر الله لم يمنع أو يحد من مواصلة العمليات في مزارع شبعا وجبل الشيخ، حيث نفذ أكثر من 17 عملية مواجهة وقصف صواريخ وزرع عبوات على مدى سنة كاملة، إلى أن كانت العملية النوعية التي نفذت ضد موقع الاحتلال في تلة السماقة جنوب كفرشوبا وعلى تخوم وادي العسل الذي يفصل المزارع عن الAffinityCMSن المحتل. ويقول أحد مسؤولي الجبهة إن القيادة الميدانية كلفت الشهيد محمود الحجيري قيادة هذه العملية وتنفيذ استطلاعها الميداني حيث استغرق الإعداد لها أكثر من 4 أشهر، توجت في أيلول 1989 باقتحام الموقع وقتل ضابط إسرائيلي كبير وجرح 6 آخرين وفق اعترافات العدو، واستشهاد محمود الحجيري وإصابة إيلي حداد الذي استشهد في مواجهة لاحقة مع الاحتلال قرب مرجعيون بعد أشهر على إصابته... إلى أن كانت العملية النوعية في تموز 1990 في جبل سدانة واقتحام موقع الاحتلال شرق بلدة شبعا وقتل وجرح أكثر من 7 عناصر للعدو.
الخطوط الحمراء
يقول مسؤول جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وعضو المكتب السياسي السابق في الحزب الشيوعي اللبناني حسين قاسم لـ«الأخبار» إن في أرشيف جبهة المقاومة الكثير من الملفات والعمليات الأمنية التي حققتها وخرقت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي. ويوضح أن «جهاز أمن جبهة المقاومة حقق اختراقات نوعية في بنية قوات الاحتلال الإسرائيلي وأجهزتها الأمنية، وخاصة بعد تنفيذ الرفيقة سهى بشارة عمليتها النوعية ضد أنطوان لحد في عقر داره في جديدة مرجعيون». ويكشف قاسم أنه في عام 1988 «ورد تقرير أمني لقيادة الحزب الشيوعي، مصدره نقطة ارتكاز للمقاومة في الأمن السياسي الإسرائيلي في شمال فلسطين المحتلة، يفيد بأن الحزب الشيوعي قد تجاوز الخطوط الحمراء». وأكد التقرير أن إسرائيل قررت «توجيه ضربة قوية وموجعة للحزب الشيوعي اللبناني».
الشيوعيّون بين بسترس والورديةكما في السادس عشر من أيلول من كل عام اجتمع الشيوعيّون أمام صيدليّة بسترس، الصنائع، مكان أولى عمليّات جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، وأحيوا «مناسبتهم الوطنيّة الأغلى»، ذكرى كتابة جورج حاوي (الصورة) ومحسن إبراهيم بيان إعلان المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في 16 أيلول 1982. حضروا من جميع المناطق، أنشدوا الأغاني الثوريّة ورفعوا أعلام جبهة المقاومة والحزب الشيوعي وأعلنوا استمرارهم في نهج المقاومة. ولم يقتصر إحياء المناسبة هذا العام على التجمّع أمام بسترس وإلقاء الكلمات، بل توجّه الشيوعيّون في مسيرةٍ من بسترس إلى مكان تاريخي آخر في بيروت، مشوا إلى موقع استشهاد المقاومين جورج قصابلي ومحمد مغنية وقاسم الحجيري، وهناك عُرض فيلم عن المقاومة. وقد تحدّثت أمام بسترس نائبة الأمين العام للحزب الشيوعي ماري الدبس ولجنة إحياء ذكرى شهداء صبرا وشاتيلا، ورئيس تحرير صحيفة «الأومانيته» الفرنسيّة، والسفير الكوبي في لبنان داريو دي توريينتو وعضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين مروان عبد العال.
خالد صاغية بدأت ترتفع الأصوات متبرّمةً من الانقسامات التي تشهدها القرى والبلدات اللبنانية. ففي الانتخابات البلديّة، تسقط الشعارات السياسيّة الكبرى، ويبدأ الصراع داخل ما يسمّى احتقاراً، الزواريب. الانقسامات الطاغية اليوم لا تلائم صورة اللبناني عن نفسه. ثمّة طغيان للعصبيّات العائليّة، وولع بالوجاهة، وشجارات على اسم شارع لم يصل إليه الزفت بعد. انتقل الحديث فجأة من الخطر النووي الإيراني والمشروع الأميركي في الشرق الأوسط إلى سجال على أيّ من العائلات أشدّ عراقةً في القرية، وأحقّ تالياً برئاسة البلدية. وبدلاً من الاستشهاد بآخر التحاليل السياسية، تُفتح ملفّات العمادات والأعراس والتعازي. يجري النقّ كلّ يوم من طغيان هذه الصغائر على الفضاء العام. وإضافة إلى كمّ من المقالات الناقمة على ضيق الأفق هذا، لخّص وليد جنبلاط الموقف برسالة ساخرة امتنع فيها عن الإدلاء بموقف أسبوعيّ إلى جريدة «الأنباء» بسبب ما سمّاه «المعارك التاريخية» الدائرة في البلديات، وأعلن أنّه عاكف حالياً على قراءة ابن خلدون لفهم أسباب التخلّف عن الدول المتحضّرة. كأنّما البيك يرفض الإدلاء بجواهره وسط انشغال العامّة بالترّهات. ولم يخطر في باله طبعاً الربط بين جواهره السابقة وهذه الترّهات. فالزعيم لا يكتفي بتوفير الظروف الملائمة لاستمرار العصبيّات وتوالدها، إلا أنّه ـــــ على ما يبدو ـــــ يستمتع في أوقات فراغه بالتفرّج على تلك العصبيّات والسخرية منها. فهي حقيقةً لا تليق بزعيم متنوّر. والتفرّج على الحقيقة عاريةً مؤلم حقاً. لكنّه لا يمكن أن يقود إلى الاستعلاء أو التعاطف. فمن يمارس الحرتقات البلديّة اليوم هو نفسه الجمهور الذي نزل إلى الساحات في 8 و14 آذار. وهو نفسه الذي استجاب للتعبئة الطائفية العامة يوم دقّ الزعماء المتنوّرون النفير. لكن لا أحد رفع الصوت وقتها ضدّ العصبيّات أو التخلّف. بل اهتمّ الجميع بتوفير الغطاء الأيديولوجي لذاك الاستنفار. إنّه الاستقلال الثاني. لبنان الجديد. حرية، سيادة، استقلال... وفي الوقت نفسه، كان المقلب الآخر يهتف: إنّها الحرب على الاستعمار. إنّها الحرب على الفساد. لم يقلق جنبلاط وغيره من السياسيّين والمحلّلين حين كانوا يجدون قناةً يصرّفون فيها تلك الصغائر. كانت العائليّة نعمةً حين تنبري لتجنيد الآلاف للنزول إلى ساحات الوغى. المتضايقون من العائليّة اليوم هم متضايقون حقاً من عدم القدرة على استغلالها سياسياً أو عقائدياً. لقد ذهب السَّحَرة إلى الجحيم، وبقي السحر وحده يبيع الأوهام على الطرقات.
عدد الاربعاء ٢٨ نيسان ٢٠١٠رشا أبو زكي في 16 أيار 2010، حاولت شركة تعمل من لبنان إدخال نحو 100 طن من أدوية «منظِّمات النمو الزراعي» عبر مرفأ بيروت، لكن عبر تعبئتها بعبوات أخرى تحت مسميات «مواد كيميائية». وكانت هذه المواد في المستودع الرقم 14 في المرفأ. ولأن الشركة المستوردة كانت محور شكوك منذ فترة، ونتيجة عمل وزارة الزراعة منذ نحو ثلاثة أشهر على مراقبة دخول «منظِّمات النمو» إلى لبنان، أرسلت كميات من هذه الأدوية إلى مختبر كفرشيما للتدقيق في سلامتها، وهناك ظهرت عملية التزوير والغش! أما القضية الثانية، فهي رفض إدخال كمية 6000 طن من القمح الفاسد، وإلزام المستوردين بإخراجها من لبنان، بعدما بيّنت الفحوص أنها تحتوي على نوع من الفطريات الضارة. وهكذا، يستكمل لبنان حلقات الفساد التي تشمل خصوصاً المواد الغذائية، بعدما شهد خلال الأشهر الماضية عمليات ضبط متعددة لمواد وأغذية وحبوب كانت ستدخل إلى السوق اللبنانية وتعرّض صحة المواطنين للخطر!
إنها قصة «عصابات»
هذه القضية الجديدة التي ظهرت إلى العلن ليست فريدة؛ إذ يؤكد وزير الزراعة حسين الحاج حسن، على هامش مؤتمر صحافي عقده أمس للكشف عن الفضيحة، وجود عدد كبير من الملفات التي تتابعها الوزارة والتي تشير إلى وجود عمليات مشابهة في المرفأ. ويشرح الحاج حسن قائلاً إن الدواء الذي صودر يدخل ضمن قائمة الأدوية الممنوعة، وهي تستخدم لرشّ الفاكهة. وأعلن شطب الشركة المستوردة من لوائح وزارة الزراعة ومنعها من ممارسة أي نشاط تجاري وإلغاء التراخيص الممنوحة لها بالاستيراد والتوضيب والتعبئة والبيع. وأعلن إعداد ملف متكامل لرفع دعوى قضائية ومتابعتها أسوة بما قام به في موضوع القمح والسمسم الفاسد والشهادات المزورة. وأشار إلى أن منظِّمات النمو أصبحت خاضعة منذ نحو 3 أشهر لرقابة وزارة الزراعة والمديرية العامة للجمارك، وهي ستستمر لضبط عمليات تهريب الأدوية الزراعية الممنوعة.وأعلن أن هذه الشركة ضُبطت بالدليل الحسي والجرم المشهود، حيث حاولت إدخال هذا الدواء تحت عنوان منظِّمات النمو، وتبين نتيجة الفحوص، ولا سيما فحص HPLC وجود ثماني مواد مضافة يُعمَل على تحليلها لتحديد ماهيتها. وأشار إلى أن مراقبة هذه الشركة والتفتيش في مستودعاتها لمتابعة إدخالها للمنظِّمات لم يصلا إلى نتيجة «لأن مستودعاتها عندما دخلنا إليها بعد 3 أيام للكشف عليها كانت خالية، رغم أن المنظِّمات التي كانت قد استوردتها بلغت نحو 100 طن، وهو ما يعني أنها صرفت مباشرة أو نقلت إلى مكان آخر، ونحن نتابع العمل على الاحتمالين». أما اللافت بحسب الحاج حسن، فهو وجود عقد تنازل عن البضاعة لشركة أخرى غير مرخص لها باستيراد الأدوية والمبيدات الزراعية، «حتى إن العميل الجمركي غُيّر، وهو موضوع على الخط الأحمر، واستُعين بمخلص جمركي آخر».وشرح آلية إدخال الأدوية الزراعية إدخالاً شرعياً، بدءاً من التسجيل والفحص والمتابعة، وصولاً إلى السماح بإدخالها. وأكد الحاج حسن أن ملف هذه الشركة سيُتابَع وسيُراجَع كل ما استوردته خلال السنة الماضية لمعرفة ما استوردته. ورأى أن ما ضُبط هو عصابة لتهريب الأدوية الزراعية، لأنه عندما شعر المستورد بانكشافه نقل البضاعة إلى شركة أخرى لا حق لها بالتعاطي بالأدوية الزراعية. وأعلن أنه سيدعي خلال 48 ساعة على الشركة المستوردة، وسيتابع الموضوع مع المدعي العام للتمييز. وأشار إلى أن وزارة الزراعة ردّت خلال الفترة الماضية 60 طناً تقريباً من الأدوية والمبيدات الزراعية.ووعد الوزير الحاج حسن بأن وزارة الزراعة ستتابع هذا الموضوع على كل المستويات، وأن أوراق التوت ستتابع تساقطها من خلال التعاون الذي سيستمر مع مختلف الإدارات المختصة وبهمة الجمارك والاستخبارات وجميع الموظفين و«سنتابع العمل ونكشف المخالفين والباقي يتابعه القضاء المختص»، مؤكداً أنه لم يتلقّ أي اتصال للمراجعة سابقاً ولا حالياً، مشيراً إلى أن من اتصل به من المسؤولين «كان يستفسر عن حقيقة الأمور ويعلن تأييده الكامل لما نقوم به».
الشركة متخصصة بالتهريب!
إلا أن سبب اختفاء هذه الأدوية من مستودعات الشركة أوضحته مصادر «الأخبار»، إذ أشارت إلى أن هذه الشركة تعمل منذ فترة طويلة على استيراد الأدوية والمبيدات الزراعية إلى لبنان لتهربها مجدداً إلى سوريا والعراق. وتلفت إلى أن أصحاب هذه الشركة يحملون الجنسية السورية، ويُدخلون إلى أسواق سوريا والعراق مواد زراعية ممنوعة. وتشرح المصادر أن هذه الشركة تستخدم أسماء أدوية مسجلة في لبنان، حيث تُستخدم عبواتها لتعبئتها بأدوية أخرى. وتلفت المصادر إلى أن الشركة أدخلت خلال فترة الحظر التي فرضتها وزارة الزراعة على المبيدات، أي منذ 3 أشهر، نحو 8 مستوعبات من الأدوية الزراعية (التي كشفتها الوزارة) تحمل اسم 4 أصناف من الأدوية فقط. إلا أن هذه الشحنة كانت فعلياً تحمل أكثر من 40 صنفاً ممنوعاً وُضعت في عبوات أدوية أخرى!
الشركة وقّعت تنازلاً عن البضاعة لشركة غير مرخّص لها باستيراد الأدوية الزراعية أما عن نوع الأدوية المهربة، فتشرح المصادر أنها منظِّمات نمو، تشمل مغذيات وأحماضاً أمينية وطحالب بحرية وغيرها، إضافة إلى الهرمونات التي تستخدم لزيادة حجم خلايا المنتجات الزراعية لتكبير حجمها. وتلفت المصادر إلى أن هذه الهرمونات قد لا تكون أضرارها الصحية كبيرة، لكنها تغش المستهلك، بحيث إن المنتَج الزراعي يصبح سريع التلف ولا يحتوي على المواد الغذائية والفيتامينات الموجودة في الخضر والفاكهة عموماً.من جهته، أكد المدير العام للجمارك شفيق مرعي أن هذه القضية هي ذات خطورة مرتفعة، وخصوصاً أن أحد الدواءين اللذين كانت الشركة تحاول تهريبهما هو غير مسجل، مشيراً إلى أن القضية كشفت في مرفأ بيروت، وهي دليل على جدوى التعاون بين مختلف الإدارات، مشيراً إلى ما سمّاه التدقيق الذكي والتحليل الدقيق للمعطيات المتوافرة لضبط المخالفات. وشدد مرعي على أنّ الشحنات أُفرغت في المرفأ وصودرت. وأشار إلى أن الرسم الجمركي هو نفسه على الدواء الأساسي والدواء المعبأ، إلا أن الدواء المعبأ منعته وزارة الزراعة.محمد زبيب كانت جلسة لجنة المال والموازنة النيابية أمس «استثنائية» في موضوعها وشكلها، فهي من المرّات النادرة جداً التي يناقش فيها النواب السياسة النقدية وأدواتها وأهدافها ومدى تناسقها مع السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية... بل هي من المرّات الأكثر ندرة التي يمثل فيها حاكم مصرف لبنان أمام النواب ليجيب عن أسئلتهم واستيضاحاتهم، إذ لم يحصل في تاريخ المجلس النيابي منذ اتفاق الطائف أن جرت مساءلة السلطة النقدية على أيّ من أعمالها، على الرغم من كل الضجيج حول تنامي الدين العام والعجز المالي ومستويات الفوائد المرتفعة وتثبيت سعر صرف العملة وارتفاع ودائع المصارف بلا أي سقف أو حدود وصرف الأموال العامّة لتمويل شراء العديد من المصارف المتعثّرة أو التي عانت من سوء الإدارة والأمانة. كانت الجلسة «استثنائية» بهذا المعنى، إلا أن حجم المشاركة فيها ومضمون نقاشاتها والخلاصات التي انتهت إليها، لم تكن بالمستوى «الاستثنائي» نفسه، فقد اقتصرت المشاركة فيها على 24 نائباً، معظمهم ليسوا أعضاءً في اللجنة، وأكثر من نصفهم يمثّلون تكتّل التغيير والإصلاح، فيما اقتصر تمثيل تكتّل «لبنان أولاً» على أربعة نوّاب، وحضر ثلاثة نوّاب من كلّ من كتلة التنمية والتحرير وكتلة الوفاء للمقاومة، إضافة إلى نائب واحد من حزب الكتائب، فيما غاب النواب من الكتل الأخرى، ولا سيما «اللقاء الديموقراطي» و«القوات اللبنانية»!
من جهته، نجح رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان في استدراج وزيرة المال ريا الحسن وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف جوزف طربيه للمشاركة في هذه الجلسة، إلا أن المداخلات النيابية التي اضطروا إلى مواجهتها بدت «ناعمة جداً»، ما عدا مداخلات قليلة أدلى بها كنعان والنائبان علي حسن خليل وياسين جابر، وكانت موجّهة إلى الحسن أكثر مما هي موجّهة إلى سلامة، فتلعثمت الأولى، وقدّمت أجوبة عامّة أو ناقصة أو مغلوطة، أو امتنعت عن الإجابة على أسئلة تناولت سبب تعليقها إصدارات سندات الخزينة بعد نشر تقرير في صحيفة «الأخبار» عن حجم الفائض في حساب الخزينة، وهو سؤال طرحه عليها النائب علي حسن خليل، أو التي تناولت مشروع موازنة 2010 والإجراءات الضريبية وكلفة امتصاص السيولة على الموازنة ومصدر الإجازة الدستورية التي حصلت عليها وزارة المال لإصدار سندات خزينة بقيمة تفوق كثيراً قيمة العجز في الموازنة؟ وهذه أسئلة تردّدت على لسان أكثر من نائب، ما اضطر الوزيرة الحسن إلى القول «إن هذا الفائض في حساب الخزينة لدى مصرف لبنان بلغ 6500 مليار ليرة حتى نهاية شباط الماضي، وهو سيتراجع إلى 4800 مليار ليرة في نهاية الشهر الحالي، بسبب تغطية استحقاقات سندات خزينة بالعملة الأجنبية وبالعملة المحلية لمدة ثلاثة أشهر»! ما دفع النائب ياسين جابر إلى نصحها لكي تتنبّه في إجاباتها بشأن هذا الفائض، إذ إن ذلك يعني أن وزارة المال ستستخدم نحو 1700 مليار ليرة شهرياً من إصدارات سندات الخزينة، أي ما مجموعه 20400 مليار ليرة سنوياً، وهذا أمر غير منطقي، لأن الاستحقاقات هي دون هذا المبلغ، فضلاً عن وجود فائض أوّلي في الموازنة بحسب إعلانات وزارة المال، فيما النائب كنعان لفت نظرها إلى أن تغطية استحقاقات سندات الدين بالليرة وبالعملات الأجنبية تحصل عبر عمليات استبدال لا عبر إطفاء ديون، مشيراً إلى أن الإحصاءات المعلنة من قبل مصرف لبنان تفيد بأن ودائع القطاع العام لديه بلغت نحو 10100 مليار ليرة في نهاية شباط الماضي، فيما أظهر تقرير جمعية المصارف في نهاية 2009 أن ودائع القطاع العام لدى المصارف التجارية المحلّية بلغت نحو 1590 مليار ليرة، وهذا يعني أن الدولة اللبنانية تمتلك الآن ودائع تبلغ 12000 مليار ليرة تقريباً، فما الذي يجبرها على الاحتفاظ بهذه المبالغ وتسديد الفوائد عليها، في الوقت الذي تبحث فيه عن سبل لزيادة الإيرادات في هذا العام؟
تمويل مسبق!
رفضت الحسن الإقرار بأن فائض حساب الخزينة الذي بلغ 8700 مليار ليرة قبل تعليق إصدارات سندات الخزينة وليس 6500 مليار كما ذكرت، هو ناتج من عمليات تعقيم السيولة المتراكمة لدى المصارف، نيابة عن «المركزي»، كما أنكرت وجود خلافات بين الوزارة والمركزي على توزيع الخسائر من جرّاء هذه العمليات، مشيرة إلى أن تعليق إصدار السندات جرى بالتنسيق مع الحاكم، وهو تدبير مؤقّت لمدة شهر واحد فقط، إذ ستعاود الوزارة إصدار السندات اعتباراً من أول نيسان المقبل (انتصار جديد لسلامة!). وأصرّت على «أن فائض السيولة في حساب الخزينة هو عبارة عن تمويل مسبق للاستحقاقات المقبلة، بسبب عدم الاستقرار في المنطقة، وهو ما يحتّم تكوين احتياطي يغطي الاستحقاقات المالية، فضلاً عن الرواتب والأجور لمدّة 3 أشهر»... هذا الإصرار يتناقض مع إعلان الحسن إصدار سندات يوروبوند جديدة بقيمة 1.2 مليار دولار لتغطية استحقاقات السندات بالعملات الأجنبية، كذلك يتناقض مع إعلانها معاودة إصدار السندات بالليرة اعتباراً من مطلع الشهر المقبل، إذ إن استحقاقات سندات الخزينة في هذا الشهر لا تتجاوز 774 مليار ليرة فقط، فيما تبلغ في الشهر المقبل 1654 مليار ليرة.
شهادات الإيداع
ما أخفقت الحسن في تفسيره أمام النوّاب، نجح فيه حاكم مصرف لبنان، الذي بدا واثقاً ومعتدّاً بسياسته، فردّ على أسئلة النواب بأن «مسؤوليتي تقضي بتأمين الاستقرار النقدي ومكافحة التضخّم، وبالتالي سأقوم بكل ما يلزم من أجل ذلك»، ودافع بقوّة عن سياسة امتصاص السيولة «لأنها تخفف من المضاربة بين المصارف»، إذ إنها تحافظ على معدّلات فائدة مناسبة لمنع التسليفات الرخيصة التي تسهم في ارتفاع أسعار الأصول والأسهم! وأشار إلى أن سياسته ترمي إلى خفض مدروس على أسعار الفائدة بما لا يؤدي إلى هروب الودائع، رافضاً الحديث عن سقف لجذب الودائع إلى لبنان، «لأن كل دولار يدخل فيه إفادة كبيرة جداً للبلاد». ورأى سلامة أن سياسته النقدية تضمن «وسادة» مريحة، «إذ من دون امتصاص السيولة الفائضة لدى المصارف، ستكون المشكلة أكبر، ولا سيما في ظل وجود استحقاقات منظورة وغير منظورة، أمنية وغير أمنية»، مشيراً إلى أن كلفة امتصاص السيولة عبر شهادات الإيداع التي يصدرها يتحمّلها مصرف لبنان وحده، وهو ما دفع النواب إلى سؤاله عن مصير الأرباح التي يجب عليه أن يحوّلها إلى الخزينة، وهي بنسبة 80% من أرباح المصرف المركزي، ألا يرى أن عدم تحويل هذه الأرباح هو بمثابة تحميل للخزينة العامّة جزءاً من الخسائر؟ وماذا عن اكتتاباته في سندات الخزينة التي يصدرها لمصلحة وزارة المال؟ ألا يُعدّ ذلك بمثابة تمويل غير مباشر لإصدار شهادات الإيداع؟ لقد أقرّ سلامة في اجتماع لجنة المال والموازنة، أمس، بأن مصرف لبنان أصدر حتى الآن نحو 21700 مليار ليرة من شهادات الإيداع، بالمقارنة مع 9100 مليار ليرة كان يحملها حتى نهاية 2008، أي إنه أصدر 12600 مليار ليرة في 2009... وإذا أضيفت هذه المبالغ إلى فائض إصدارات سندات الخزينة (8700 مليار ليرة) فإن وزارة المال ومصرف لبنان يكونان قد اشتركا في امتصاص 30400 مليار ليرة من السيولة الفائضة لدى المصارف المحلية، بفائدة يبلغ متوسطها 8%، أي إن اللبنانيين المقيمين مضطرين إلى تسديد 2432 مليار ليرة عبر المال العام للإيفاء بكلفة عملية الامتصاص، وهي عملية متواصلة، إذ يعترف سلامة بأنه لا يزال لدى المصارف سيولة تنتظر التعقيم تقدّر بنحو 13 مليار دولار، كما يعترف بأن تشجيع التسليفات للقطاع الخاص لم ينجح، إذ إن مجمل هذه التسليفات، المدعومة وغير المدعومة، لم ترتفع إلا بقيمة 800 مليون دولار!
مصير الموازنة؟
لخّص النائب كنعان نتائج جلسة اللجنة، أمس، بالقول «استطعنا أن نتوصل إلى فهم بعض السياسات، ولكننا لم نتلقّ كلياً، أو حتى جزئياً، إجابات كافية على كل ما طرح من أسئلة بشأن السياسات، فالمطلوب أن نستكمل هذه الخطوة، ونتابع هذا العمل، وأن نحدد جلسة ثانية لكي نستطيع التعمّق أكثر في هذه السياسات، ولا سيما أن لها انعكاساتها الكبيرة جداً على الموازنة وعلى السياسة المالية، وتحديد ما إذا كنا نستطيع السير في سياسة زيادة الضرائب». وأوضح النائب كنعان، في مؤتمر صحافي عقده بعد الجلسة، أن وزيرة المال رفضت إعطاء أي توضيحات عن مشروع موازنة عام 2010، بذريعة أنها لم تُنجز بعد، وقال إن إنجاز الموازنة مسألة أساسية وهي من الأولويات لمعرفة الاتجاه الذي نسير عليه. إلا أن الحسن كانت، في الوقت نفسه، تعقد مؤتمراً صحافياً في وزارة المال لإعلان نتائج إصدار سندات يوروبوند بقيمة 1.2 مليار دولار، وبفائدة بلغت 6.375 %، على 10 سنوات، و ردّت على أسئلة الصحافيين عن مشروع الموازنة، بأنها لا تريد أن تحدد موعداً لتقديمها، ولكن الأكيد أنّ ذلك سيحصل خلال أسابيع». إن الحديث عن «أسابيع» يؤكّد النيّة بتأجيل تقديم المشروع بعد فشل محاولات إمرار زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15% أو 12%، ولا سيما أنها كانت قد أعلنت الأسبوع الماضي أنها ستتقدّم بالموازنة مطلع هذا الأسبوع، علماً بأن الحكومة التزمت في بيانها الوزاري تقديم المشروع إلى المجلس النيابي قبل نهاية كانون الثاني الماضي. الخيارات المرّة ولم تنف الحسن النية بزيادة الضرائب، بل قالت إن لديها ما يمكن أن تتقدّم به إلى مجلس الوزراء، مشيرة إلى 3 خيارات أساسية، هي: 1ـــــ الاقتراض لتغطية عجز الموازنة بأكمله، لكنّ رئيس الحكومة وأنا مصرّان على عدم الابتعاد عن المسار الإصلاحي المالي المتّبع، بمعنى أننا متمسكان بعدم زيادة المديونية، ومن هنا فهذا الطرح غير وارد بالنسبة لرئيس الحكومة ووزارة المال. 2ـــــ زيادة الإيرادات من خلال خيارات عدة، بينها خيار العائدات الضريبية، وكل طرح في هذا المجال لا يأتي وحده بل من ضمن سلة متكاملة، بحيث لا يُحمّل ذوو الدخل المحدود أعباءً لا طاقة لهم بها. وسيُطرح هذا الخيار على مجلس الوزراء لبحثه. 3ـــــ ثمة خيار ثالث، إذا ارتأى مجلس الوزراء الأخذ به، وهو إشراك القطاع الخاص بدلاً من الاستدانة وزيادة الإيرادات الضريبية، وهو خيار أحبّذه كوزيرة مال، لأنه يخفف من عبء المديونية على الخزينة ويتيح الفرصة للاستثمار في القطاعات الحيوية. إلا أن هذا الأمر يتطلّب إجراءات وخطوات لا بد من أن يقوم بها مجلس الوزراء حتى يسمح بإشراك القطاع الخاص من خلال مقاربات عدة.
13 مليار دولارهي السيولة الباقية لدى المصارف، التي تحتاج إلى تعقيم، بحسب سلامة، الذي أوضح أن أدواته تقضي بتوزيعها مثالثة، بين مصرف لبنان ووزارة المال والاحتياط الإلزامي والمؤونات والسيولة الجاهزة. وهذا يعني أن على الحكومة أن تقترض مجدداً 4.3 مليارت دولار.
الحكومة تابعة لمصرف لبنانيقول أحد النواب، من الذين شاركوا في جلسة لجنة المال والموازنة النيابية أمس، إن تردد وزيرة المال في البوح بالحقائق وثقة حاكم مصرف لبنان الزائدة بصوابية سياساته، تدفعان إلى الاعتقاد بوجود نوع من سوء إدارة السيولة وعدم وجود تنسيق جدّي بين الوزارة والمصرف، بل تدفعان إلى الاعتقاد أيضاً بأن الحكومة لا تملك أي تأثير على السياسة النقدية، وتعمل أداةً تابعة للسلطة النقدية، لا العكس، إذ إن إعلان الوزيرة ريا الحسن عودة إصدارات سندات الخزينة في مطلع الشهر المقبل يعني أنها رضخت لأولويات الحاكم، لا لأولوياتها لجهة ضبط العجز والمديونية.
أسخف ما في الأمر، عندما تتحدث جماعة سعد الحريري وبقية أطراف 14 آذار عن سبب تصرف حزب الله كأنه متّهم. والأغرب، كيف يقول هؤلاء: لا أحد منا يعرف ماذا سيصدر عن المحكمة، ولا أحد منا يعرف عمّا يجري التحقيق؟ ثم يضيفون بسذاجة المتآمر: أصلاً، كل الحديث عن اتهام حزب الله يخرج من سياسيي وإعلاميي فريق 8 آذار. ولا بأس بظرفهم وهم يختمون: يتصرف السيد حسن على قاعدة «كاد المريب يقول خذوني»! في مكان آخر، يتولى الأمنيون البارزون في فرع المعلومات وفي قوى الأمن الداخلي وفي أوساط عسكرية تعمل الى جانب الحريري، شرح حقيقة الأمر، واستعادة النقاش عما أنجزه فرع المعلومات قبل ثلاث أو أربع سنوات من اختراق كبير على مستوى شبكة الاتصالات، الذي قاد الى الاستنتاج بأن منفذي جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هم عناصر من حزب الله أو قريبون منه. ويضيفون: لكننا لسنا معنيين بالأمر، فالملف موجود منذ فترة لدى لجنة التحقيق الدولية، ومن ثم لدى المحكمة الدولية، ونحن لا نعرف الى أين وصلت الأمور. لا بأس هنا من العودة الى الوراء قليلاً. فأول الحكاية كان مع إعلان فرع المعلومات توصله الى وجود شبكة هاتفية أو اثنتين على صلة باغتيال الحريري وآخرين. ثم جرت اتصالات مع حزب الله لاستيضاح الأمر. وبما أن فرع المعلومات يعرف جيداً أن التقارير التي أعدّها في حينه، قد تسرّبت منها نسخ عدة الى جهات عديدة، فإن الفرع يعلم تمام المعرفة أن ما نشرته لاحقاً «لوفيغارو» الفرنسية، ثم «دير شبيغل» الألمانية، ثم «لوموند» الفرنسية وغيرها من الدوريات والمواقع الإلكترونية، كان يستند علمياً الى هذه التقارير. أكثر من ذلك، فإن فريق الضباط الذي كان وراء هذا «الخرق» خضع لتحقيق لدى لجنة التحقيق الدولية، وهو قدّم شروحاً وتفاصيل تركز على اعتبار هوية المعنيين بهذه الشكوك من عناصر حزب الله، بعدما تبيّن لاحقاً أن عناصر الفرع نفسه، كانوا قد سألوا منذ عام 2005 عن أسماء عاد فريق التحقيق الدولي التابع لدانيال بلمار وطلب مقابلة أصحابها في الشهرين الماضيين، علماً بأن فريق المعلومات كان يركّز في حينه، كما لجان التحقيق الدولية، على اتهام سوريا بالوقوف خلف الجريمة. ثم ـــــ وهذا الفريق لا يعرف كما يقول ـــــ يبادر الرئيس الحريري الى إجراء اتصالات بقيادة حزب الله، ويثير مع السيد نصر الله نفسه المسألة من زاوية البحث عن مخرج، ويدعو كما بات معروفاً الى أن يجري العمل بقاعدة أن المنفذين هم عناصر غير منضبطين، أو عناصر سابقون، أو هم عملوا من دون علم القيادة، أو أن جهات اخترقت الحزب وزرعت هؤلاء داخل جسمه الأمني. وبعد الحريري، يتولى دبلوماسيون وأمنيون وإعلاميون يعملون مع الحريري العودة إلى الموضوع من زاوية أن «هوية مرتكبي الجريمة باتت معروفة، وواضح أنهم على صلة ما بحزب الله. ويجتهد هؤلاء في الحديث عن تركيبة الجسم الأمني في الحزب ليصلوا الى القول بأن القائد الجهادي الشهيد عماد مغنية، قد يكون هو المسؤول أو هو تصرف من دون أخذ موافقة القيادة، وهي نغمة كان التائب، لا النائب، وليد جنبلاط قد بدأها قبل استدارته، عندما اتهم مغنية بالاسم بأنه يقف خلف الاغتيالات، وأنه هو من يقود الحزب لا السيد نصر الله. وبعد ذلك، يعود الإعلام الغربي الى التداول بالملف نفسه، ثم يتقرر إخفاء محمد زهير الصديق من جديد ليتم إخراج تصريحات له عبر «السياسة» الكويتية ـــــ ما غيرها ـــــ تشير هذه المرة الى تورط حزب الله، دون سحب روايته عن تورط الضباط الأربعة وعن تورط سوريا أيضاً. لكن بما أن المصالحة السعودية ـــــ السورية تمنع تناول سوريا، فإن الحديث يقتصر الآن على حزب الله، وعلى أحد الضباط الأربعة، أي اللواء جميل السيد ما دام عنوان المرحلة يتطلب ذلك. وغير بعيد عن كل هذه الأجواء، يحلو لنواب من «المستقبل» ومن بقية 14 آذار، الحديث بصوت خافت في المجالس الضيقة: حزب الله هو الذي سيُتهم، وعندئذ سوف ننزع الشرعية عنه وعن كل حلفائه. وحتى لا يثير الأمر نقزة أحد، يخرج هؤلاء جميعاً الى الحديث عن الأمر كأنه حدث عادي ولن يكون له أثر على الوضع في البلاد. وفي الوقت نفسه، تتولى الصحافة الأجنبية، مثل «نيويورك تايمز» تسريب معلومات عن مصادر في المحكمة تشدد «على أن القرار إذا كان يسبّب مشاكل، فإنه على المدى البعيد يحقق العدالة». وبعد كل ذلك، يخرج علينا فريق «المستقبل» وبقيّة فريق 14 آذار بنغمة «أننا لا نعرف شيئاً، وأن المؤيّدين لحزب الله هم من يتحدثون عن قرب اتهامه». لكن هؤلاء يعرفون أن مهمتهم في التسريبات على أشكالها، كما في الاستنتاجات التي خرج بها محققو فرع المعلومات، هي جعل مفاعيل القرار الظني قائمة حتى لو لم يصدر لاحقاً. أي إدخال لبنان في مناخ من البلبلة والتشكيك وإقناع الرأي العام بأن اتهام حزب الله تحصيل حاصل، لكن النقاش هو في موعد إعلان ذلك. وبهذه الطريقة، يمكن هؤلاء إن استفاقوا من تلقاء أنفسهم، أو رمى عليهم أحد دلواً من الماء، أن يقولوا إن عدم اتهام الحزب كان تحت ضغط التهديد، لكن الاتهام هو الحقيقة المنتظرة. وإذا ما قرّر طرف ما التوقف عن هذه الألاعيب، يخرج من بين هؤلاء من يردد عبارة وليد جنبلاط: سنكتفي الآن بالحقيقة لا بالعدالة! يقول المثل الشعبي: قتل القتيل ومشى في جنازته!
ابراهيم الأمين - "الأخبار"