قاسم س. قاسم«سفن إسرائيلية تحاصر السفن المتوجّهة إلى القطاع». يمر الخبر على شاشة «الجزيرة». يتأهّب الساهرون من أبناء مخيم برج البراجنة لمتابعة آخر أخبار قافلة الحرية المتوجهة لكسر الحصار عن غزة. هذه الليلة لن ينام أحد. الساعة تشير الى الثانية صباحاً. أخبار القافلة بدأت بالتواتر مع مرور الوقت. ترتفع أصوات التلفزيونات في الأحياء الضيقة للمخيم. أصوات المراسلين على متن السفينة تعمّ فضاءه أيضاً.تمر مئة وعشرون دقيقة ببطء. الساعة الآن الرابعة فجراً. يرد خبر عاجل آخر: «أنباء عن مهاجمة السفينة التركية مرمرة». الخبر يطيّر النوم من عيون الساهرين الذابلة. «يا أبناء مخيم برج البراجنة نصرة لأهل غزة ودعماً لقافلة سفن كسر الحصار ندعوكم للمشاركة في التظاهرة صباح اليوم (أمس) أمام الاسكوا دعماً للقافلة، التجمع أمام مسجد الفرقان والنقليات مؤمنة». تصدح مكبرات صوت جامع الفرقان في المخيم. بدأ الليل بالانقضاء. تفتح المقاهي أبوابها باكراً هذه الليلة. «مخنوق ما قادر أقعد بالبيت لازم نعمل إشي، عمّال يموتوا والعالم ساكت»، يقول محمود، صاحب مقهى في المخيم.الأحياء، على عكس المعتاد، خالية. اليوم السيدات لن يخرجن الى السوق باكراً. واجب التضامن يناديهنّ. «أنباء عن إصابة الشيخ رائد صلاح». خبر آخر يلهب قلوب الحاضرين داخل المقهى الصغير المقابل لجامع الفرقان. تتجه السيدات نحو جامع الفرقان، بانتظار لحظة الانطلاق الى الاسكوا. تنطلق الحافلات، يصل الجميع إلى حديقة جبران، هناك اختلطت أعلام الفصائل الفلسطينية بعضها ببعض. اجتمع أتراك لبنان مع فلسطينييه أمس ليتشاركوا في مصائبهم.
«فلتحيا الجمهورية التركية». شعار رفعه المواطن التركي في لبنان نجيم سرحان، الذي تمنى من دولته أن يكون «الرد على مستوى الفعل الإسرائيلي». هكذا، حضر المتضامنون مع القافلة لينددوا بالدول العربية. رفعوا أعلام الدولة التركية: «تحيتان وتحية لتركيا الأبية»، شعار ردده المتظاهرون وهم يطوفون بالأعلام التركية في ساحة جبران.وقال ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عبد الله عبد الله، لـ«الأخبار»، إن هذه الجريمة «ليست مستغربة عن الكيان الصهيوني»، مطالباً «بإدانة قوية من مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى محاكمة إيهود باراك كمجرم حرب».هكذا، سيستمر الاعتصام أمام الاسكوا، إذ قرر شباب اتحاد الشباب الديموقراطي أن يبيتوا في ساحة جبران الى إن يطلق سراح المخطوفين. كما دعا قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني الى تظاهرة في الساعة الخامسة من عصر اليوم من جسر البربير باتجاه الاسكوا.وفي صيدا (خالد الغربي)، تحرك أطفال مخيم عين الحلوة للتنديد بالمجزرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني بحق أعضاء قافلة أسطول الحرية، فخرجوا من مدارسهم بالآلاف ملوّحين بالأعلام الفلسطينية، التي اخترقها علم تركي عملاق «وفاء من الشعب الفلسطيني تجاه الموقف التركي الذي هو أفضل من موقف الحكام العرب»، على حد قول المدرسة منى الخطيب. الخطيب كانت تحث تلامذتها على تقديم المزيد من الهتافات المؤيدة «لشعوب العالم التي قدمت دماءها فداء لفلسطين».وتجمع العشرات من الطلاب عفويّاً عند ساحة النجمة، وسط المدينة، رافعين أعلام فلسطين وصور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذين خاطبوه «عبد الناصر طل وشوف، شوف مبارك شو جاسوس».ومن صور (آمال خليل)، أبحر 12 زورقاً من ميناء الصيادين نحو جل البحر شمالاً، والرشيدية جنوباً وعلى متنه عشرات الصوريين والناشطين في قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، حاملين رايات فلسطين، لبنان، حزب الله وحماس.وفي قرية بدنايل (أسامة القادري)، بلدة المصاب المشارك في حملة «أسطول الحرية» هاني سليمان، اعتصم الأهالي في النادي الحسيني تضامناً مع ابنهم، واستنكاراً لما اقترفه الكيان الصهيوني.وفي الإطار نفسه، عقدت الأحزاب الوطنية اللبنانية والفلسطينية اجتماعاً موسعاً في مقر تيار المقاومة والعدالة الاجتماعية.وفي البقاع (عفيف دياب)، عمّت الاعتصامات التضامنية. ففي سعدنايل اعتصم أهالي البلدة في الحديقة العامة، معلنين تضامنهم مع «كل فلسطين»، فيما نفذت الجماعة الإسلامية وحركة «حماس» اعتصاماً مماثلاً في بلدة بر الياس.وفي عكار (روبير عبد الله)، تقاطر مئات المواطنين للاعتصام قرب بحيرة الكواشرة بدعوة من لجنة أهل الأسير جورج عبد الله وفعاليات الكواشرة.
خالد صاغية رغم مرور عشرين عاماً على مغادرتها منصبها، لا تزال رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر تمثّل رمزاً عالمياً، أو بالأحرى الرمز العالمي، للسياسات الاقتصادية الظالمة. ففي أوائل الثمانينيات، رفعت «المرأة الحديديّة» شعار «تينا» (TINA) المركّب من الأحرف الأولى للعبارة الإنكليزيّة (There Is No Alternative): «لا يوجد بديل»، للدفاع عن سياساتها الرامية إلى رفع الرقابة عن العمليّات الماليّة، وفتح الأسواق، وضرب النقابات، وتقليص القطاع العام وبيع شركاته... وأمام الكساد وارتفاع البطالة، بدأ ابتزاز المواطنين بحجّة أن لا بدائل متاحة. وقد نشأت عمارة أيديولوجيّة كاملة للترويج لهذا الشعار. وللّذين لم يقتنعوا، يمكن دائماً إعادتهم إلى الحظيرة «الوطنيّة» عبر اختراع حروب قوميّة (الفولكلاندز نموذجاً) أو حروب ضدّ الإرهاب. «لا يوجد بديل» هو الشعار نفسه الذي جرى ابتزاز اللبنانيّين به. أرادوا لنا أن نقبل خفض الضريبة على دخل الشركات، ورفع الضريبة على استهلاكنا اليومي بحجّة أنّه «لا يوجد بديل». أرادوا لنا أن ندفع ثلث فاتورة البنزين وثلثَيْ فاتورة الخلوي رسوماً وضرائب، بحجّة أنّه «لا يوجد بديل». أرادوا لنا أن نتفرّج بصمت على المضاربات العقاريّة المعفاة من الضرائب وعلى أسعار الشقق التي ترتفع بجنون، بحجّة أنّه «لا يوجد بديل». أرادوا لنا أن نبتسم كلّما أُقفل مصنعٌ وافتُتح مكانه فرع لمصرف، وأن نهلّل لتزايد الأرباح التي تحقّقها كلّ عام مصارف تعمل بالبطالة المقنّعة، بحجّة أنّه «لا يوجد بديل». نقاش الموازنة فرصة للخروج من هذه الحلقة السوداء. فرصة للتذكّر أنّه في وجه نظريّة (TINA)، ثمّة من رفع شعار «تاتا» (TATA)، المركّب من الأحرف الأولى للعبارة الإنكليزيّة (There Are Thousands of Alternatives): «يوجد آلاف البدائل». الورقة التي قُدِّمت أمس في مجلس الوزراء تمثّل أحد هذه البدائل التي قد تفتح باباً لاقتصاد أكثر عدالةً، ولوطن لا تكون الهجرة قدراً محتوماً لأبنائه. «بعد الانتخابات، تبدأ ورشة الإصلاح»... قال رئيس الجمهوريّة ذات يوم. إذا كان من إصلاح، فهو الذي يبدأ من هنا. من توزيع الأعباء بطريقة عادلة. من شعور اللبنانيّين بأنّ الدولة ليست مجرّد جهاز لامتصاص ما في جيوبهم، وليست مطبعة لصكّ تأشيرات الهجرة. «لا يوجد بديل»، تقول وزيرة المال ريّا الحسن وهي تهدّد برفع ضريبة الـTVA في 2011، مردّدة شعار تاتشر بعد قرابة ثلاثة قرون. كأنّ الزمن توقّف هناك. كأنّنا نكرّر مشاهد سبق للعالم أن جاهر بأوجاعه منها. «تاتا» ريّا... «تاتا». «تاتا» فؤاد... «تاتا»؟
خالد صاغية لا يمكن النيوليبراليّة أن تعيش مع نقابات قويّة. على أحدهما أن يدمّر الآخر. من قطاع الطيران، بدأ الرئيس الأميركي رونالد ريغان ضرب النقابات. ومن الطيران، يستعدّ لبنان للقفز نحو مرحلة جديدة من «تحرير» القطاعات. في 5 آب 1981، اتخّذ رونالد ريغان قراراً ما زالت ارتداداته حاضرةً إلى اليوم. فردّاً على إضراب موظّفي مراقبة حركة الطيران، أعلن طرد قرابة 11000 موظّف من القطاع العام، لم يمتثلوا للعودة إلى العمل. لم يكن لهذا القرار وقعه على أولئك الموظّفين الذين فقدوا وظائفهم وحسب، لكنّه مثّل أيضاً بدايةً للحرب على النقابات. فسرعان ما فهم القطاع الخاص الرسالة، وبدأ خوض معركته مع عمّاله وموظّفيه الذين باتت نقاباتهم تتلقّى الضربة تلو الأخرى، تحت أعين الدولة وتشجيعها. في 2010، وبعد قرابة عقد ونيّف من بدء تطبيق سلسلة من السياسات النيوليبرالية في لبنان، عاد حديث الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص إلى السطح. وها هي وزيرة المال والفريق السياسي الذي انتدبها لوظيفتها الجديدة، يشنّون «حملة تشهير» ضدّ أيّ وزير يعترض على المضيّ بهذه السياسات الظالمة. وكلّ ذلك تحت شعار «تحرير» الاقتصاد. وقد بدأت الموجة الجديدة من هذا «التحرير» في قطاع الطيران. فثمّة في الحكومة، وفي مغارة طيران الشرق الأوسط، من يريد تقمّص دور ريغان في الضرب بيد من حديد في مواجهة الموظّفين المضربين. هكذا، ردّاً على إضراب الطيّارين، عمدت شركة «الميدل إيست» إلى التعاقد مع طيّارين أجانب من الهند وباكستان، لقيادة طائرات الـ«ميدل إيست» بدلاً من طيّاريها الأساسيين، في مخالفة واضحة للقانون. حين يقال «تحرير» القطاعات إذاً، يُقصَد تحرير الشركات من القوانين التي تحمي العمّال والموظّفين. وحين يحدث هذا الأمر في شركة للقطاع العام حصّة كبيرة فيها، نكون أمام إشارة خطيرة ترسلها الدولة للقطاع الخاص، وخصوصاً أنّ القطاعين على أبواب شراكة. إذا انكسر طيّارو «الميدل إيست» اليوم، فستكون الشركات الخاصة في البلاد حرّة طليقة، من الآن فصاعداً، في القضاء على ما بقي من مكاسب لموظّفيها. وسيكون ذلك، تماماً كما حدث في أميركا 1981، برعاية الدولة وتشجيعها.
خالد صاغية بعد حادثة صرف الإعلاميّة أوكتافيا نصر من «سي. أن. أن»، لإبدائها إعجابها بالسيّد محمّد حسين فضل اللّه على موقعها على «تويتر»، ها هي السفيرة البريطانيّة في لبنان، فرانسيس غاي، تضطرّ للاعتذار والإعراب عن أسفها «لأيّ إهانة» ربما سبّبتها إشادتها بفضل اللّه، على مدوّنتها الرسميّة. وكانت غاي قد وصفت فضل اللّه بـ«الرجل الشريف»، وأنّه «أكثر سياسي لبناني سعدت بلقائه»، مضيفةً: «عندما تزوره، يمكنك التأكد من حدوث نقاش فعلي وجدل في جو من الاحترام، والوثوق من أنّك ستغادر شاعراً بأنّك أصبحت شخصاً أفضل». وقد سارعت الحكومة البريطانية إلى سحب ما كتبته سفيرتها في لبنان على مدوّنتها، لكونها قد عبّرت عن رأي خاص، كأنّ المدوّنات تعبّر عادةً عن آراء عامّة. فما هو سبب هذا السُّعار الغربي الرسمي ضدّ كلّ من امتدح السيّد فضل اللّه، حتّى بعد موته؟ هل يكفي القول إنّ الرجل كان معادياً للسياسات الأميركيّة في الشرق الأوسط؟ هل يكفي موقفه من إسرائيل؟ لا يبدو ذلك مقنعاً. فهذه من الأمور التي يتسامح الغرب معها عادةً، فلا يضطرّ إلى خدش شعور ليبراليّيه وخذلان ليبراليّي العالم الثالث، الكارهين لثقافاتهم والداعين إلى التغرّب الكامل والفوري. الواقع أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة في حربها على الإرهاب كانت قد قسّمت المسلمين إلى نوعين: مَن معنا ومَن ضدّنا. لكنّ التقسيم هذا لم يُروَّج له على أُسس سياسيّة، بل ثقافيّة. فـ«مَن معنا» ليسوا حلفاءنا السياسيين، بل هم المسلمون «الحديثون»، والمؤيّدون للقيم الإنسانيّة. أمّا «مَن ضدّنا»، فهم المسلمون الأصوليّون، الـ«ما قبل حداثيّين»، جلّادو المرأة وأعداء القيم الإنسانيّة. لا يمكن جوهر الحرب على الإرهاب أن يستقيم من دون هذه القسمة الثقافيّة، من دون التأكيد أنّ المعركة الأميركيّة في المنطقة ليست مع أعدائها السياسيّين، بل مع أعداء الحضارة الإنسانيّة. «خطورة» رجل دين كفضل اللّه تكمن في أنّه يزعزع هذه الأسس. فمِن تحت عباءته خرجت المقاومة الإسلاميّة، ومن تحت عباءته أيضاً خرجت الفتاوى التي تنصف المرأة، وترفع من شأن العلم، وتصالح الإسلام مع العيش في الزمن الحديث. وبالمناسبة، ليس مجرّد صدفة أن تكون فرانسيس غاي وأوكتافيا نصر، امرأتين. ببساطة، لا مكان لمسلم كمحمّد حسين فضل اللّه في العالم الأميركيّ الجديد.
الفقر المشترك بين المذاهب يتسع لأسر تعيش «من قلّة الموت» «إنه فقط رغيف خبز قد انتزع من الربطة»، يقول وزير الاقتصاد محمد الصفدي. «ضريبة البنزين أساسية لإطفاء جزء من خدمة الدين العام»، تقول وزيرة المال ريا الحسن. «إن لبنان مقبل على فترة شحّ في المياه وعتمة كهربائية»، يقول وزير الطاقة والمياه جبران باسيل. «متمسك بالبطاقة الصحية» (بدلاً من مشروع الضمان الشامل)، يقول وزير الصحة محمد خليفة... لكن ماذا يقول الفقراء؟ هل هناك من يسمع صوتهم؟
رشا أبو زكي الفقر له وجه واحد، والظلم له وجه واحد، أما جنون الإهمال الحكومي للمواطنين فله أوجه عدة، «لا ماء لا كهرباء لا دواء»، هذه العبارة تتكرر في كل منطقة من لبنان، أياً كان اللون الطاغي على «موزاييكها» الطائفي أو الطبقي... تتكرر لازمةً في كل حي حتى لو جثمت الأبنية المزخرفة على خناق النواطير، وعند كل خط تماس قديم ومستقبلي يبنى من أجساد الفقراء أنفسهم. هذه العبارة يسمعها المسؤولون بالطبع، حتى لو كانت منازلهم «مشعشعة» بكهرباء لا يدفعون فواتيرها، وغارقة في مياه لا تكفي لتنظيف الفساد عن أياديهم، وحتى لو كانت «كروشهم» العارمة ليس لها علاج في كل مستشفيات لبنان الموصودة أمام آلام الفقراء ووجعهم المزمن. الإحساس بالاضطهاد يجمع الفقراء، لكن مفارقة وحيدة تفصلهم، إذ إن خيالهم يأخذهم الى ما يبثه التلفاز من تشويهات يسقطها على جمهور الطوائف، فعند سؤال فقير من مذهب معين عن الذي يفرقه عن فقير من مذهب آخر يكون الجواب المباشر «الفقرا عندن غير»... «غير»؟ كيف؟ ففقراء الشيعة يرون أن الفقراء في «المنطقة الشرقية» لا يعانون الجوع مثلهم، وفقراء السنة والمسيحيين يرون أن حزب الله «مكنة أموال» بحيث إن لا فقير شيعياً في لبنان، وفقراء السنة مأخوذون بفكرة أن الحرمان لا يسكن سوى بيوتهم، لكونهم يرون أنهم الوحيدون المتروكون من زعمائهم... إلا أن كل حي في بيروت ينطق عكس المقال!
ببطء نحو الفقر المدقع
عصفور ضلّ طريقه الى شارع الطمليس في بيروت، يقفز على الأرض بخفة، ليرتعب بعدها من سيارة قررت أن تقطع عليه نزهته الصباحية، يحط على باب منزل أشبه بالمغارة، لا شمس هنا، لا هواء، لا إمكانية لأن يراقب سكان المنزل حتى العصفور الذي غط قربه، فباب المنزل شبه ملتصق بحائط المبنى الضخم الذي يحاذيه، وفي المنزل مقطوع الأنفاس هذا، تعيش عائلة من 6 أفراد. غرفتان ومطبخ، هذه مكوّنات المنزل، الأسرّة متلاصقة إلى حد التداخل، المطبخ لا يتسع إلا لشخص واحد، أما الانتقال من غرفة إلى أخرى، فعبر ممر إجباري مسقوف بالاترنيت، «أنا من صنع هذا الممر» يقول محمود بيضون الذي جاء من بنت جبيل الى بيروت منذ أكثر من 30 عاماً، «فقد كان الممر رملياً في السابق، وقد وضعت العديد من السدود على السقف لمنع الجراذين من التطفل على عائلتي». ومحمود يعمل بالألمنيوم منذ فترة طويلة، يعمل لحسابه الخاص، «دخلي في الشهر 800 ألف ليرة، وأحياناً تمر أشهر من دون أن أجني ولا أي ليرة»، ابنة محمود الكبيرة تزوجت، فيما ابنته الوسطى تتعلم في معهد قريب من المنزل، ليبقى مع طفلين يتعلمان في مدرسة في المنطقة، أقساط المدرسة والمعهد تصل إلى 300 دولار شهرياً، «وحين لا ندفع يمنعون أولادي من الدخول الى المدرسة»، يقول بيضون، والمدرسة الرسمية ليست بديلاً، بعدما أدى نقل الطفلين الى إحدى المدارس الى «سقوطهما» سنتين متتاليتين، فكان الخيار إما أن يتركا علمهما وإما إعادتهما الى المدرسة التي اعتادوها. تتدلى من السقف، الذي تأكله الرطوبة، لمبة تكشف عن فقر اجتاح حتى الأثاث، فلم يبق منه سوى بعض الكراسي. واللمبة الصغيرة هي المخلّص الأوحد للعائلة من العيش في الظلام المطبق حتى في عز النهار، إلا أن هذا المخلّص يخضع للتقنين القسري، «ولا بديل» يقول بيضون، فالاشتراك بالمولد الكهربائي أزمة، بحيث يصل سعر الـ5 أمبير الى 50 دولاراً شهرياً، وبالتالي تضطر العائلة الى الاعتماد على الضوء الخافت للأشعة المنسابة من الباب الرئيسي للمنزل. أما المياه فأزمة الأزمات، إذ تغيب عن المنزل أياماً، وحين تأتي، تحاول العائلة تخزين أكبر قدر منها تحسباً لأيام القطع، لكنها غالباً ما لا تفلح، فيصبح المنزل بلا قطرة مياه، مع انعدام أي إمكانية لشراء المياه، لكون الـ«5 براميل بـ25 ألف ليرة»، وفق بيضون. فهذه المرحلة التي نعيشها حالياً، أسوأ بكثير من كل المراحل السابقة، حتى من مراحل الحرب الأهلية، ففي السابق كنا نمر بظروف صعبة، ولكن حالياً تمر أيام وأحياناً أشهر كاملة ولا يكون هنالك رغيف خبز في المنزل، فتضطر العائلة إاى اللجوء للأقارب لتناول وجبة الغذاء، كما حصل في رمضان الماضي! وبسبب عمله وتنقله لتركيب الألمنيوم في المنازل، يملك بيضون سيارة، لكنها غالباً ما تبقى أمام المنزل ليستعين بسيارات أصدقائه «فسعر تنكة البنزين يوازي مصروف منزلي، وفي أغلب الأوقات أفضّل أن تبقى السيارة مقطوعة من البنزين لتوفير المال الكافي لإطعام أولادي»، وهكذا فإن كثرة المصاريف أدت الى تراكم الديون على بيضون، «فأصبحت اليوم توازي نحو 1800 دولار»، وفيما أولاده يلجأون للمستوصفات، فإن بيضون يعاني المرض، «وكلفة دواء السيلان ودواء الضغط هي 50 ألف ليرة، ومن الضروري أن أشتريها كل 15 يوماً، إلا أن أشهراً عديدة تمر علي من دون دواء»، وبيضون ليس مضموناً لأنه ليس أجيراً، ولأن التغطية الصحية في لبنان استنسابية، وبالتالي فإن وزارة الصحة هي ملجأه الوحيد، لكن معظم المستشفيات ترفض استقبال مرضى الوزارة، فقد كان بيضون بحاجة الى عملية طارئة العام الماضي، فرفض مستشفى المقاصد استقباله لكونه لا يملك 500 ألف ليرة عليه أن يدفعها قبل أن يجري العملية، وبالطبع لجأ بيضون الى أحد الأحزاب، ليدخله الى مستشفى الزهراء... فالأحزاب، كما يقول بيضون، حلّت محل الدولة، ومن دون «واسطة» يموت الفقراء على باب المستشفى.
الموت على باب مستشفى
على مرمى سنبلة من منزل بيضون، تعيش عائلة كبيرة، أم وأب و7 أولاد، كلهم في غرفتين لا تدخل إليهما الشمس إطلاقاً، الرطوبة تجعل من لون الغرفة أكثر عتمة، أو ربما لشدة احتقان الأنفاس يتخيل اليك أن الظلمة تأكل ما بقي من بياض في عيون سكان المنزل. وعلى حائط لا لون له، صورة لشاب أربعيني، إنه الأخ الأصغر لزوج أمية كساسير، توفي بعدما رفض أحد مستشفيات المنطقة استقباله لكونه لا يملك 500 ألف ليرة يدفعها للطوارئ... وحال عائلة كساسير في هذا الموضوع تحديداً لا يمكن وصفه حتى بالسيئ، إذ إن زوجها مريض بالسكّري وتضخّم في شرايين القلب، وهو غير مضمون ويعمل في بيع النراجيل، ولديها طفلان يعانيان أمراضاً صعبة، الأول مريض بالقلب، والثاني يعاني «هزة حيط»، وكلاهما يحتاجان الى عناية خاصة، إلا أنهما وبسبب الفقر يتعالجان في المستوصفات شبه المجانية «وفي مستشفى حيفا» المخصص للاجئين الفلسطينيين، والوالدان يصرّان على أن يكون أولادهم متعلمين، إلا أن المدرسة الرسمية أساءت الى الطفلين، فكانا يتعرضان للضرب على يد الاساتذة، وبالتالي قرر الوالدان أن ينقلا الطفلين الى مدرسة خاصة، «وها هي المدرسة تغلّي قسطها هذا العام نحو 500 ألف ليرة»، تقول أميّة، أما أولادها الآخرون، فيتوزعون على المهنيات والمعاهد... أميّة تصرف على عائلتها الكبيرة 10 آلاف ليرة يومياً فقط، تشتري بهذا المبلغ ربطة خبز وبعض المأكولات الخفيفة «فأنا أحتاج الى 30 ألف ليرة حدّاً أدنى لكي أعد طبخة»، وحين تنقطع المياه، يصبح الوضع كارثياً، إذ لا امكانية لشراء المياه، ولا امكانية للعيش من دون هذه المادة، فتكون مساعدة الأقارب هي المنجد الوحيد، أما في غياب الكهرباء فيكون الوضع لا يطاق، في الصيف حر شديد وفي الشتاء برد قارس، وتكون العائلة مرغمة على تحمّل تقلّب الطقس «كمن يعيش في الصحراء». أميّة تعرّف عن نفسها بأنها «ابنة بيروت»، والكلام عن الوضع المعيشي ينكأ جرحها، لتضرب ذاكرتها الأوضاع الأمنية والسياسية، «فأنا أخاف جداً من المشاكل، أخاف على زوجي وأولادي كثيراً، أخاف من أن يصابوا بالأذى، ففي هذا البلد إن لم تمت جوعاً، تمت من الرصاص»... تأخذ نفساً متقطعاً وتضيف «الدولة لا تنظر الى الشعب الفقير، بلد لا أمان فيه، لا نعرف إذا كنا سنعيش في اليوم التالي أم نموت».
عن مرضى الضمان: «يعين الله»
لست بحاجة حتى الى سيارة، تقطع شارعاً واحداً، تتوجه الى مبنى شاهق فتراه ينام بثقله على غرفة وداد إسحاق نعمة، المنزل هنا مضاء قليلاً، لكنه بعيد عن عين الشمس، الأثاث كافٍ لكي يستطيع أفراد المنزل أن يجلسوا معاً، ووداد تعيش مع زوجها وابنها منذ فترة طويلة في هذا المنزل، «يوم إيه ويوم لأ»، هكذا تأتي المياه هنا، وحين يصبح المنزل بلا هذه المادة، فلا خيار سوى التحمّل وانتظار اليوم التالي، فكلفة «سيتيرن المي» مرتفعة جداً بالنسبة الى زوج يعمل ناطوراً وزوجة تعمل في تنظيف الكنيسة. وبالتالي لم تحاول وداد أن تشتري المياه حتى اليوم... وتنقطع الكهرباء «ولا نشترك بالموتور»، والسبب هو نفسه لا يتغيّر، وعلى الرغم من كل ذلك، تحب وداد لبنان «مرت علينا حروب في هذا المنزل وبقينا، فأنا لا أحب السفر، لا أحب أن أبتعد عن هذه الأرض». ابن وداد شاب ترك مدرسته صغيراً إذ وجد وظيفة، إلا أن بلد البطالة لفظه كما يلفظ كل شبابه، بقي عاماً كاملاً من دون أي عمل، فتعلّم صناعة المجوهرات، وها هو يعمل من منزله ليستطيع تأمين مصروفه، وإن بقي شيء فلمساعدة الأهل. وداد منتسبة الى الضمان «لكن المستشفيات لا تعترف في الكثير من الأحيان بمرضى الضمان»، وحين يمرض أحد أفراد العائلة؟ تجيب وداد: «يعين الله». وداد دائمة الابتسام، لكن خلف وجهها البشوش ألماً، «فالمدخول قليل جداً، والغلاء كبير جداً»، وفي لعبة التوازن، يرجح الميزان دوماً الى الفقر، «لكننا لا نزال على قيد الحياة، نعيش بقدر ما نستطيع أن نصرف، ونصرف بالقدر الذي يجعلنا أحياء»... إذ تصرف وداد 500 ألف ليرة شهرياً على المنزل، وهذا المبلغ يجب أن يوفّر الحاجيات كلها، من طعام وشراب وثياب ومصروف يومي، أما إذا وقع المرض، فتحل المشكلة، «فأسعار الأدوية مرتفعة، وغالباً ما نستغني عن الدواء ونصبر على المرض».
1000 غرامأصبح وزن ربطة الخبز، بحيث نقصت رغيفاً، وقد توجه اتحاد الشباب الديموقراطي في اعتصامه إلى وزير الاقتصاد والتجارة، وقال: «قبل أن تصف بالفساد من يدافع عن الفقراء ورغيفهم، نطلب منك أن تفتح لنا راحتيك، حيث سنجد بينهما من دون شك، رغيفنا المسلوب».
اعتصام «نريد رغيفنا المسلوب»تحت إجراءات أمنية جديدة، نفذ اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني اعتصامه الثالث أمس تحت عنوان «نريد رغيفنا أيها السارقون». وألقى إحسان دبوق كلمة باسم المعتصمين جاء فيها: «يا وزير التجارة، نحن نعرف أن قرار دعم المطاحن الذي حصلت عليه من مجلس الوزراء كان مقيّداً بشرط، هو إبقاء سعر ربطة الخبز ووزنها على ما هو عليه، حصلت على القرار، دعمت مافياتك، ورفعت سعر الخبز! أليس هناك من يحاسب؟». وأضاف: «ترى أيها الوزير أن من يشنّ حرباً على سرقة رغيف الخبز هو متآمر على الدولة. هل هذه مزحة؟ هل تحاول أن تضلل الرأي العام كما فعلت في بيانك الذي ادعيت فيه أنك أبقيت سعر الخبز على ما هو عليه، في حين أنك رفعته؟».
عدد الاثنين ١١ تشرين الأول ٢٠١٠كامل جابر
«منذ سنوات وأنا أحلم بتقاعد مبكر». بهذه الكلمات يوجز كمال حمدان توقه القديم إلى بعض الراحة. أكثر من ثلاثة عقود من النشاط الدؤوب في البحث والدراسات والندوات الداخلية والدولية المتخصصة، كرّسته مرجعاً ومحللاً اقتصادياً من الدرجة الأولى. «أردّد دائماً أن لديّ موالاً سأغنيه»، يقول مدير «مؤسسة البحوث والاستشارات». بعض مواويله الكثيرة هي«التفرغ للكتابة والهوايات، من بينها الاهتمام بما بقي من «حيّز نبيل» للفكر والعمل السياسيين، من دون إهمال موضوع الأغنية العربية القديمة وكرة القدم». منذ بدأ عمله في المؤسسة عام 1977، حتّى تسلّمه إدارتها بعد رحيل المؤسس حسين حمدان عام 2007، منح الرجل هذه المؤسسة كل طاقته من خلال المشاركة في مئات الدراسات والإشراف عليها. كان اللقاء معه ليلاً في إحدى زوايا مكتبه. حدّثنا عن ذكريات الدراسة والجامعة في كنف عائلته النازحة عام 1910 من حاروف (النبطية) للعمل في تجارة الأقمشة في سوق سرسق، والاستيطان في الضاحية الجنوبية في الأربعينيات. يتذكّر الجدّ الذي لم يكن يتقن القراءة أو الكتابة وإصراره على تعليم أبنائه، ومنهم حسن حمدان (مهدي عامل) وحسين حمدان (أبو فادي). قبل الجامعة، درس كمال حمدان في الليسيه الفرنسية. هذه المدرسة «التي تعلمت فيها بين 1955 و1967 أدت دوراً أساسياً في صقل شخصيتي ضمن بيئة اجتماعية متنوعة منفتحة على الطبقة الوسطى». كانت المدرسة تتميز بأساتذتها الذين حملوا معهم أفكارهم اليسارية والعلمانية. «من بين كل عشرة أساتذة فرنسيين، كان هناك ستة أو سبعة ماركسيين أو «متمركسين». ومن بين كل جيل طلابي يتخرّج، كان أكثر من الثلث قد نهل من تلك الأفكار». الانتقال من «الليسيه الفرنسية» إلى «الجامعة اليسوعية» انطوى على انقلاب وتناقضات. يتحدّث حمدان عن مرحلة مطلع السبعينيات بتحولاتها العاصفة، من هزيمة عبد الناصر وانتصار الحلف الثلاثي في الانتخابات النيابية، إلى نهوض اليسار اللبناني ودخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان. «نشأ وضع في «الجامعة اليسوعية»، صرتَ مضطراً إلى إخفاء أفكارك خشية التعرض للعنف الجسدي». ووصل الأمر بزميل دراسة، احتل لاحقاً موقعاً رئاسياً في البلد، أن صوّب المسدس نحو رأس حمدان لأنه كان يوزع بياناً للمشاركة في أسبوع فلسطين.حاز حمدان دبلوم دراسات عليا في العلوم الاقتصادية، ثمّ استكمل دراسة الاقتصاد النفطي في باريس. في عام 1972، عاد إلى لبنان، وكان أمين معلوف قد سبقه إلى العمل في «النهار». كان الأديب اللبناني «ركناً من أركان اليسار في اليسوعية، وكانت بيني وبينه صداقة وعلاقة نضال. اتصل بي وقال إنهم يبحثون عن شخص للملحق الاقتصادي». لحق به وليد جنبلاط بعد عام. «صرنا عصابة من ثلاثة، وكان مديرنا الإداري إدمون صعب. وبعد أشهر من انضمام جنبلاط، وجدوا أننا يساريون أكثر من اللازم على الأقل آنذاك، فعينوا علينا المحامي كريم بقرادوني رئيساً للتحرير، لكن صداقة ملتبسة نشأت بيننا نحن الأربعة». توقف ملحق النهار الاقتصادي عن الصدور عام 1976. أخذ كمال حمدان يشارك في اجتماعات يعقدها كمال جنبلاط، لتنظيم أمور الناس الاقتصادية والاجتماعية. ثم يبدأ مع شلّة من الأصدقاء التفكير الفعلي في إنشاء مركز للأبحاث لأغراض المنفعة العامة، بالتزامن مع تبلور التوجهات الإصلاحية للحركة الوطنية. لكن استشهاد كمال جنبلاط في مثل هذا اليوم (16 آذار/ مارس) من عام 1976 أحبط مشروعهم في مهده.
في عام 1977، انشأ حسين حمدان «مؤسسة البحوث والاستشارات»، مع الخبير الإحصائي روجيه الحاج والوزير السابق ألبير منصور والمحامي فؤاد شبقلو. لكنّ استمرار الحرب الأهلية أثار سؤالاً شائكاً: كيف لمؤسسة مماثلة أن تعيش في وقت تتجه فيه «قاعدة الزبائن» (مؤسسات القطاع الخاص، والمنظمات الدولية، والدولة اللبنانية) نحو الهرب أو الانحلال؟ دخل كمال حمدان بسرعة مرحلة الفعل، فأنتج مؤشراً لأسعار السلع والخدمات، بعدما توقفت مديرية الأحصاء المركزي عن احتساب مؤشرها قبل عامين. يقول: «فكرت، هل من المعقول بعد حرب السنتين، أن يبقى البلد من دون معطيات عن غلاء الأسعار؟ جمعتُ الأسعار شخصياً من السوبر ماركت وطبّقت المنهجية الحسابية التي يعتمدها الإحصاء المركزي، وأصدرت أول رقم عن ارتفاع المؤشر خلال حرب السنتين (مارس 1975 ـــــ مارس 1977). أذكر أن كل صحف البلد نشرت الخبر آنذاك على مانشيت الصفحة الأولى، وأدى المؤشر «السحري» إلى إجبار الدولة والقطاع الخاص على تصحيح الأجور». علّم كمال حمدان في «الجامعة اللبنانية» حتّى عام 1984، إلى جانب عمله في المؤسسة. رغم مرارات الحروب اللبنانية المتنقلة وتعاقب الحكومات والتسويات، ظلّ نجماً في المنابر البحثية والإعلام، يحلِّل مكامن الضعف في القرارات الاقتصادية والمالية والضريبية ويكشف أسباب التفاوت الاجتماعي والفقر واختلال علاقة الأجور والمداخيل بكلفة المعيشة. عمل بصفة استشاري أساسي مع العديد من المنظمات الدولية، وحلّ أحياناً مع خبراء اقتصاديين ضيفاً على جلسات الحكومة اللبنانية، وتحوّلت دراساته إلى مراجع بحثيّة. يتحدث بشغف عن دراسته عن «الطغمة المالية في لبنان» (مجلة «الطريق» عام 1979) وعن كتابه باللغة الفرنسية «الأزمة اللبنانية: الطوائف الدينية، الطبقات الاجتماعية، والهوية الوطنية»، الذي صدر في باريس وتولى رياض صوما ترجمته عن «دار الفارابي» عام 1998. لا يمكن الحديث مع كمال حمدان من دون تناول الواقع المعيشي في لبنان الذي تتحكم في إعادة إنتاجه شبكة مصالح طبقية ـــــ طائفية متوارثة ومعقّدة وعصية على الإصلاح. يتحدّث بمرارة عن اغتيال مهدي عامل عام 1987. «كانت فاجعة كبيرة، وهو العمّ والصديق والرفيق والنديم». لكن بعد تجربته المهنية الطويلة، فإنّ أكثر ما يشغله يبقى «إنفاق الدولة وما يسمّى المجتمع المدني كل هذا المال على الدراسات، بينما تقتصر التوصيات المنفّذة فعلاً على نسبة لا تزيد على خمسة في المئة. أنا وشربل نحاس، وتوفيق كسبار، وسمير مقدسي، وجورج قرم، وغسان ديبه، وجواد عدرة، ونجيب عيسى، وإيلي يشوعي، وكثيرون غيرنا، كانت عندنا وجهات نظر أخرى. قد لا نكون مصيبين مئة في المئة، لكن على الأقل، كان يجب الاستماع إلينا».
فجأة، تحوّل أخطبوط صغير يدعى «بول» ويقبع في «أكواريوم» في مدينة أوبرهاوزن الألمانية، أحد نجوم كأس العالم 2010، من دون أن يتكبّد حتى عناء السفر الطويل إلى جنوب أفريقيا أو يسجّل الأهداف. «بول» هذا جذب وسائل الإعلام وعدسات المصوّرين كلاعبٍ سجل «هاتريك» في إحدى المباريات، إذ توافد الصحافيون عشية كل مباراة لألمانيا لمعرفة توقعات «المنجّم» المائي، وهو الذي أصاب في خسارة «المانشافت» أمام صربيا وفي فوزه في المباريات الأخرى، وذلك عبر اختياره طعامه من العلبة التي عليها العلم الألماني أو العكس! أمس، لم يكن «بول» وطنياً، بل كان قاسياً على الألمان، إذ اختار طعامه من الصندوق الملوّن بالعلم الإسباني، ما أدى إلى إعلان ما يشبه حالة الطوارئ في ألمانيا، وبدأ البعض ينتحب متأسفاً على مصير «المانشافت». تصديق هذه الخرافات ليست شيئاً جديداً، إذ يبدو أن الألمان يؤمنون بها كثيراً، لدرجة أن المستشارة أنجيلا ميركل ارتدت الأحمر خلال مباراة ألمانيا والأرجنتين، مشيرة إلى أنه كان فأل حسن على منتخب بلادها قبل 4 أعوام. أضف أن المدرب يواكيم لوف أفصح عن أنه سيرتدي اللون الأزرق نفسه تحت سترته عندما يواجه منتخب إسبانيا، على اعتبار أن هذا اللون جلب له نصراً عظيماً أمام الأرجنتين.
الخرافات تقليد كروي قديم
نظر دومينيك إلى أبراج اللاعبين الفرنسيين قبل ضمّهم إلى تشكيلتهلا يخفى أن كرة القدم أصابت تطوّراً هائلاً على كل الصعد في الأعوام الأربعين الأخيرة، إلا أن أشياء كثيرة بقيت على حالها، ومنها التقاليد البروتوكولية المتبعة قبل المباريات أو بعدها. لكن هناك أمر لا يتنبّه إليه كثيرون، ويبرز غالباً في تصريحات بعض اللاعبين أو تصرفاتهم، وهو إيمانهم بخرافات معيّنة مرتبطة بالسحر والتنجيم والحسابات الرقمية الغريبة. وليست أفريقيا وحدها في خضم هذه الخرافات التي تغزو معظم بلدانها، إذ معلوم أن بعض المشجعين في «القارة السمراء» عمدوا مثلاً إلى رشّ الملح على أرض الملعب لإبعاد النحس عن مباريات فرقهم أو منتخباتهم. كذلك ذهب آخرون إلى إلقاء تعويذة معيّنة على كرة المباراة لكي تبتعد عن شباك فريقهم وتسكن شباك الخصم دون سواها. وقد سبّب هذا الأمر مشكلاتٍ عدة بين الفرق المضيفة والأخرى التي حلّت ضيفة عليها. وإذا كان الرقم 13 يُعَدّ فأل شرّ عند البعض، فإن المدافع الإيطالي اليساندرو نيستا وكابتن منتخب ألمانيا ميكايل بالاك وجدا فيه التفاؤل فاختاراه ليكون على ظهر قميصيهما خلال مسيرتهما مع الأندية أو المنتخب. أما القصة الأكثر إثارة بخصوص هذا الرقم، فهي تلك التي أخبرها البرازيلي ماريو زاغالو، الذي يجد الرقم 13 فأل خير بكل ما للكلمة من معنى، وقد أصرّ على أن يحمله لأن زوجته كانت تؤمن كثيراً بالقديس مار أنطونيوس البدواني الذي يصادف عيده في 13 حزيران. وذهب زاغالو إلى حدّ القول قبل 4 أعوام إلى أن البرازيل ستفوز بمونديال 2006 لأن اسم مدربها كارلوس ألبرتو مؤلف من 13 حرفاً، إضافةً إلى أنها خاضت مباراتها الأولى في كأس العالم ضد كرواتيا في 13 حزيران!
كأس العالم أرض المعتقدات
وبين تشاؤم مدرب إسبانيا السابق لويس أراغونيس من اللون الأصفر، وتفاؤل مدرب الأرجنتين السابق (مدير المنتخب الحالي) كارلوس بيلاردو بربطة عنق معيّنة، يبرز «جنون» مدرب فرنسا السابق ريمون دومينيك، الذي قيل إنه يعتمد على الفلك والأبراج خلال اختياره أفراد تشكيلته، ما دفع لاعب الوسط السابق يوهان ميكو إلى القول إنه أُبعد عن منتخب «الديوك» لأن برجه «الأسد»، وهناك الكثير من زملائه الذين يحملون البرج عينه ويخاف المدرب أن يشهد منتخبه صراع أسود. وفي المونديال أيضاً، تبرز قصص المعتقدات الخرافية أكثر من أي وقتٍ آخر، إذ لا يمكن نسيان تلك القبلة التي كان يطبعها الفرنسي لوران بلان على رأس حارسه فابيان بارتيز في مونديال 1998، لاعتقاده أنها جلبت الفوز لفرنسا في كل المباريات. أما هداف مونديال 1986 الإنكليزي غاري لينيكر فاعتاد على عدم التسديد على المرمى خلال فترة التحمية «لأنه لا يريد أن يهدر أهدافاً». وكان يبدّل قميصه قبل انطلاق الشوط الثاني إذا فشل في تسجيل أي هدفٍ خلال الشوط الأول، أو يبقيه نفسه إذا هزّ الشباك في النصف الأول من اللقاء. وبين هذه الحكايات وغيرها، نعود إلى ظاهرة «بول» لنترك ملاحظة بسيطة عند محبي المنتخب الألماني، ألا وهي أن هذا الأخطبوط أخطأ في توقّع نتيجة مباراة واحدة لألمانيا خلال كأس أوروبا 2008، وكانت تلك المباراة النهائية التي جمعته ونظيره الإسباني، حيث رشّح الألمان للفوز، لكن الإسبان خرجوا متوّجين باللقب في نهاية المطاف!
شربل كريّم عدد الاربعاء ٧ تموز ٢٠١٠ |الخيبة نفسها تشاركها العماد ميشال عون والتيار الوطني الحر أمس. الأول وجد صديقاً يشاركه خبز السياسة وملحها منذ نحو ثلاثين عاماً يتهم بالعمالة لإسرائيل، والثاني تزعزعت ثقته بنفسه بعد الشك بأحد أبرز القياديين العونيين وأكثرهم اندفاعاً
غسان سعود حين التزم الجنرال فايز ك. بقرار العماد عون وانسحب من الانتخابات النيابية في دائرة زغرتا عام 2009، خاطب العماد عون والحشد الذي رافقه إلى الرابية، قائلاً: «أنا أكبر في هذا التيار كما كبرت في الجيش اللبناني. أنا تربيت في بيت عسكري ونشأت تنشئة عسكرية، شعاري: شرف، تضحية ووفاء. تعلمت في هذا البيت أن ألتزم بالمناقبية والأخلاقية. لا ولم ولن نلهث أمام أي مركز سياسي أو أي مقام. مقامنا منا وفينا. أنا عملت مقامي، بفضل الجنرال».ابتسم الجنرال، عانقت عيناه عيني رفيق السلاح والمنفى، وأجاب: «بالنسبة إليّ، فايز الأخ الأصغر الذي رافقني في كل مرحلة جهادي، العسكري والوطني. كل تقديري ومحبتي لفايز».كان فايز واحداً من مرشحين عونيين معدودين يملكون حيثيتهم الشعبية الخاصة، ولم يتخلَّ العونيون عنه حين قرر لفترة المضي بالترشح خلافاً لرغبة الجنرال عون. فالمتهم الجديد بالعمالة كان بالنسبة إلى معظم عونيي الشمال، الجنرال الثاني بعد الجنرال عون. فهو ليس من «جنرالات السيغار»، متفرغ بالكامل تقريباً لهموم القاعدة (افتتح منذ نحو سنتين مكتباً للتواصل والخدمات في منطقة الزوق)، يُسمعها خطباً بلهجة عونية في ما ترغب بسماعه. أضف إلى ذلك أن سيرته العونية تجعله واحداً من الرموز القليلة التي تحيط بالعماد عون، وهو عرف كيف يحافظ على مكانته عبر ابتعاده عن مختلف أشكال الصراعات العونيّة ـــــ العونيّة.ولد فايز ك. في 17/10/1948، وهو ابن العميد الزغرتاوي وجيه ك. تخرج ملازماً من المدرسة الحربية عام 1972. وكوّن العسكريون الذين خدموا معه عصب الحالة العونية التي تكوكبت حول العماد عون في قصر بعبدا، إثر إعلانه حرب التحرير التي شغل فايز خلالها موقع رئيس فرع مكافحة الإرهاب والتجسس في الجيش اللبناني، واتهم بالوقوف وراء محاولة اغتيال قائد القوات اللبنانية سمير جعجع في منطقة جسر الباشا. ولاحقاً، بعد الاجتياح السوري لقصر بعبدا، اعتقل فايز (كان برتبة مقدم) واقتيد مع 6 عمداء من الجيش اللبناني إلى سجن المزة حيث اعتقلوا مئة وخمسين يوماً، انتهت بموافقتهم على مقايضة حريتهم باستقالتهم من الجيش اللبناني. لكنّ ملاحقة الجنرال الزغرتاوي لم تنتهِ هنا، إذ اتهمته الأجهزة الأمنية بالوقوف وراء بعض التفجيرات التي تستهدف المراكز العسكرية السورية، ودهم بعض الضباط المقربين منه شركة التأمين التي أسّسها في منطقة الحازمية. فاختفى فايز ليطل مجدداً على الرواية العونية من باريس (يتردد اليوم أنه انتقل عبر جزين إلى إسرائيل، ومنها انتقل إلى باريس بعد التعرف إلى بعض ضباط الاستخبارات الإسرائيليين). هناك كاد يكون ملازماً للجنرال، قبل الظهر يدير مصبغة سرعان ما تحولت إلى سلسلة مصابغ تغطي مدناً فرنسية عدة. بعد الظهر، عند الجنرال. ومساءً، يكتب مقالات للنشرة اللبنانية التي كانت توزع في بيروت، من دون أن يقطع تواصله مع بعض المجموعات الطلابية والعسكرية التي كان يوجهها بالنيابة عن عون. أثناء وجوده في المنفى الطوعي، نشط في نقل الرسائل بين عون وجهات عدّة، وكان مطّلعاً على كل الموجود في المطبخ العوني. مع العلم بأن الصداقة كانت وما زالت وطيدة بين زوجة فايز وزوجة الجنرال، والاثنتان زحلاويتان. وهو كان، بحسب أحد القياديين في التيار، من أكثر المشجعين للجنرال على الانفتاح على خصوم الماضي، وأدى دوراً في تقريب وجهات النظر بين عون والسوريين إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري عبر أحد الضباط المقربين عائلياً من والدته السورية الجنسية. وقبيل عودة عون من المنفى في 7 أيار 2005، أرسل فايز الصادرة بحقه مذكرات توقيف ليتأكد من نيات السلطة، فأوقف الجنرال الزغرتاوي نحو نصف ساعة فقط ثم أطلق سراحه.عام 2005، ترشح فايز ك. باسم التيار الوطني الحر والمردة وحلفائهما عن المقعد الماروني في طرابلس. ولاحقاً، فشل في إدارة ملف العلاقة بين عون والوزير سليمان فرنجية وتوترت العلاقة قليلاً بينه وبين الجنرال عشية انتخابات 2009 حين أبلغه عون استحالة ترشحه عن المقعد الماروني في زغرتا. لكنه استمر مسؤولاً عن التيار في منطقة الشمال، يمثل الجنرال في معظم المناسبات الشمالية (كان آخرها عشاء في منطقة الكورة قبل بضعة أيام). وفي السياسة، كان فايز واضحاً وجازماً في مواقفه، فأعلن عبر شاشة المنار مثلاً في 10 حزيران 2010 رفضه توقيع معاهدة سلام مع العدو الإسرائيلي. وحيّا في احتفال لمناسبة ذكرى التحرير في 25 أيار الماضي في منطقة أميون كل «مقاوم، واجه وقاتل واستبسل دفاعاً عن وطنه وأرضه وأهله وكرامته»، مؤكداً أن «سلاح المقاومة ضرورة وحاجة». وختم مردداً: يا رفاقَنا، المقاومة اليوم تزيدني فخراً وعزّة وتنقلني من حالة الخضوع والتبعيّة إلى حالة التمرد بوجه الظلم والتفرد والاستئثار. (...) أنا من وطن انتقل شعبُه من حالة الضعف والانهزام والخضوع إلى حالة الاعتزاز والتحرر».المعلومات الأمنية التي توافرت أمس، أكدت أن فرع المعلومات رصد إجراء المتهم اتصالات عدة بأرقام يشتبه في أن الاستخبارات الإسرائيلية تستخدمها، قبل أن تسهم اعترافات بعض الموقوفين بتهمة العمالة لإسرائيل في تأكيد شكوك فرع المعلومات الذي كثف منذ نحو أسبوعين تركيزه على الجنرال الزغرتاوي. وقد تستر فرع المعلومات عن هوية «صيده الثمين» حتى أمام شركائه في اصطياد المعلومات، حتى اللحظة الأخيرة، حين أبلغ استخبارات الجيش في جبل لبنان بنيّته دهم أحد المنازل لاعتقال أحد المشتبه في عمالتهم من دون تحديد هوية الشخص، مسقطين بذلك مبدأ الحصانة عن بعض السياسيين. وهكذا دهم فرع المعلومات بعد منتصف الليل منزل فايز في زوق مكايل واعتقله. ولاحقاً فتش عناصر من الفرع المنزل ووجدوا جهازاً ذكرت المعلومات أن فايز أكد إدارته لعمله في باريس بواسطته. ونتيجة معرفة فرع المعلومات أن عدم اعتراف الموقوف بالعمالة خلال أقل من 36 ساعة سيضطره إلى الإفراج عنه نتيجة الضغط السياسي، إضافة إلى خشية قيادة الفرع من الانتقام السياسي إذا فشلت في إثبات الشبهة، لجأ المحققون إلى خطوة غير مسبوقة في التحقيق، فعرضوا معظم المعطيات التي بين أيديهم، فاعترف فايز خلال أقل من ربع ساعة. لكن المحققين لم يستطيعوا الجزم بعد إن كانت العلاقة بين فايز والاستخبارات الإسرائيلية قد بدأت عام 1992 حين دخل الأراضي الإسرائيلية عبر جزين هرباً من الأجهزة الأمنية اللبنانية، أو عام 1982 حين كان يلتقي ضباطاً إسرائيليين في لبنان، أو عندما كان يشارك في دورة تدريبية في الولايات المتحدة الأميركية. وفي كل الحالات، تبين أن علاقته مع الإسرائيليين استمرت خلال وجوده في باريس، ثم تفعلت أكثر بعد عودته إلى لبنان. مع العلم بأن فايز جزم خلال التحقيق معه بعدم زيارته إسرائيل إلا مرة واحدة، وعدم تقديمه أي معلومات جدية للإسرائيليين ومحاولته تضليلهم. وأشار الموقوف إلى عدم لقائه الإسرائيليين إلا في باريس، حيث كان يواظب على التردد للّقاء بهم في السنوات والشهور الماضية. ويركز المحققون الآن على حجم معرفته بالمسؤولين في حزب الله.وكان وزير الداخلية والبلديات زياد بارود قد بادر إلى الاتصال فور تبلور بعض معالم القضية برئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، وأبلغه أن الموقوف اعترف بعمالته. فطلب الجنرال، الذي كان شديد التوتر صباح أمس، من زوجة المتهم بالعمالة أن تزوره في منزله حيث احتضنها بحنان، قبل أن يطلب منها تكليف محامٍ ليدافع عن زوجها، ويبلغها أنه سيرفع الغطاء عنه بالطبع إن ثبت تورّطه. وأشار عون إلى أن القيادي العوني استفاد من قربه منه ليوطد علاقته ببعض القياديين في حزب الله وبمسؤولين سوريين.على هامش التوقيف ـــــ الحدث، تتشعب الآراء السياسية. هناك من يرى في الخطوة محاولة لإحراج الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله المؤمن بوجود «بيئة حاضنة للعملاء»، وهناك من يجدها إثباتاً إضافياً على حجم الاستهداف الإسرائيلي الذي يتعرض له العماد عون. وهناك من يرى فيها استباقاً لتوقيفات أكثر خطورة لن يتشكك في خلفيتها أحد بعد توقيف القطب العوني.