هكذا، فجأة، ومن دون مقدمات، يقع إشكال، تطلق النيران بكثافة، يسقط ضحايا بين قتلى وجرحى. تتوتر الأحياء الداخلية في بيروت. يلجأ الناس الى منازلهم، وينتشر مسلحون في الأزقة، بينما تقوم وحدات من الجيش بالانتشار البطيء، قبل أن يخرج اجتماع ثلاثي بين الجيش وحزب الله وجمعية المشاريع الخيرية (الأحباش) بخطوات لإخلاء الشوارع ونشر وحدات الجيش في كل الأمكنة، والعمل على تهدئة إعلامية. لكن إشكالاً يستمر قرب أحد المقارّ التابعة للأحباش...ببراءة، يمكن الحديث عن إشكال فردي له ما سبقه من توترات بين أفراد على أمور تافهة، لكن المناخات العامة، وتفاصيل الإشكال الدموي، ترسم علامات استفهام حول ما حصل، وتجعل الأعين مفتوحة بقوة على ما يعدّ لهذا البلد من فتن لا تبقي شيئاً.ميدانياً، سقط ثلاثة قتلى وأصيب نحو عشرة آخرين بجروح مختلفة، فيما أحرقت سيارات ومبان ومقارّ. أما سياسياً، فقد كانت المفاجأة الكبرى، اندلاع المواجهة بين حليفين قريبين من التوجهات السياسية ذاتها، وتربطهما علاقة خاصة بسوريا، وخصومة واحدة ضد تيار «المستقبل» وتعرّضا معاً للحملة ذاتها إثر الانقلاب الكبير عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري.التوتر الذي استمر مسيطراً على الأحياء المحيطة بمنطقة الاشتباكات، ترافق مع قلق عكسته اتصالات الأهالي في المنطقة ولجوء بعضهم الى ترك المنازل باتجاه مناطق أكثر أمناً، بينما ظل مسلحون يجلسون في مداخل بعض الأبنية، وسط انتشار الجيش العسكري والأمني.
هل من خلفيات مبيّتة؟
إلا أن العنصر الأكثر غرابة في ما حدث أمس، كان المفاجأة والدهشة اللتين سيطرتا على وجوه واتصالات المسؤولين الأمنيين والسياسيين على أثر الحادث «المفاجئ والغامض» الذي استدعى سيلاً من الأسئلة.وكشف مصدر أمني معني أن الجهات الأمنية «رصدت منذ مدة تزيد على شهرين، حركة لافتة في تلك المنطقة، وحصول تغييرات لا سابق لها في حركة واتصالات ومواقف قيادات تبيّن أنها متورّطة في الاشتباك أمس، وأن هذه التغييرات ترافقت مع المساعي غير المنظورة الى فرض حالة من التعبئة على خلفيات طائفية ومذهبية ترافق المناخات السياسية المتوترة ربطاً بالسجال حول المحكمة الدولية والقرار الظني وملف شبكات التجسس الإسرائيلية».وقال المصدر إن «التحقيق المفترض أن يبدأ من قبل الجهات المعنية، سوف يعود الى مراجعة ملفات تفيد في هذا الشأن، ومن المفترض المسارعة الى عقد اجتماعات بين القيادات السياسية المعنية لاحتواء بعض المواقف المستجدة لدى مسؤولين ميدانيين في تلك المنطقة»، لافتاً «الى أهمية الانتباه لنشاط تقوم به مجموعات غير لبنانية تواجه أخيراً مشكلة في توفير الغطاء السياسي والاجتماعي لأنشطتها بعد تطوّرات العامين الأخيرين».
شريط الاشتباكات والجهود
ميدانياً، وقبل وقت قليل من موعد الإفطار، حصل إشكال مساء أمس، بين شبّان من حزب الله وآخرين من جمعيّة المشاريع الخيريّة الإسلاميّة (الأحباش) على خلفيّة ركن سيّارة قرب المركز الرئيسي لجمعيّة المشاريع، بعدما كان إشكال مشابه قد وقع قبل يومين بين الطرفين تحوّل إلى عراك بالأيدي. وعندما وصل مسؤولون من حزب الله إلى مكان الحادث لمحاولة حله، حصل إطلاق نار أدّى إلى مقتل أحد مسؤولي حزب الله في منطقة برج أبي حيدر محمد فواز وجرح شاب معه.وتطوّر الإشكال بسرعة إلى تبادل لإطلاق النار بالأسلحة الرشاشة وقذائف «الأر.بي.جي»، والقنابل اليدويّة. وانتشر المسلّحون في محيط المنطقة من البسطة إلى رأس النبع وبربور ومار الياس. كذلك انتشرت سيّارات الإسعاف عند مفارق الطرق التي أقفلها المسلّحون.واستمرّت الاشتباكات نحو أربع ساعات على نحو متقطّع، إذ كانت زخّات الرصاص تُسمع على نحو غير متواصل، وذلك في ظلّ استنفار واحتقان عند المسلّحين المنتشرين في الشارع.وفي جولة على «خطوط التماس»، كان من الملاحظ الانتشار الكثيف للمسلّحين من أطراف عدة، بثيابهم المدنيّة وبدون أي تحضير مسبق، في ظلّ هدوء حذر وخلوّ الطرقات من المارة في الأماكن المحيطة. كذلك لفت إقفال الجيش لساحة أبو شاكر في الطريق الجديدة، وتجمّع الشباب في محيطها من دون وجود سلاح بين أيديهم.وسارع الجيش إلى ارسال تعزيزات انتشرت عند النقاط المؤدّية إلى منطقة الاشتباكات، تمهيداً لدخولها بعد التواصل مع الفريقين. وجمعت قيادة الجيش، ممثّلة بمساعد مدير الاستخبارات العميد عباس إبراهيم، في مركز فرع استخبارات بيروت، مسؤولَ الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا والقيادي في جمعية المشاريع بدر الطبش. وقبل انتهاء الاجتماع، انتشر الجيش في محيط المركز الرئيسي لجمعيّة المشاريع في برج أبي حيدر، وتوقف إطلاق النار.لكن اشتباكات محدودة استمرت حول مبنى يطل على محلتي رأس النبع والنويري، فتدخلت لجنة من الطرفين لمحاولة تطويق الاشتباكات. كما سُمع قرابة منتصف الليل دويّ قنبلة أو قذيفة صاروخيّة بين البربير ورأس النبع، ثم سُمعت أصوات الرصاص في منطقة رأس النبع والنويري في الوقت عينه.وأكد عضو المجلس السياسي في حزب الله الشيخ عبد المجيد عمار، عقب انتهاء الاجتماع الذي طوّق الاشتباك، أن الإشكال الذي حصل «فردي وليس له أيّ أبعاد من أي شكل، وقد اتفق على أن يؤلف الجيش لجنة تحقيق، ولن نضيف أي شيء، ونترك كل شيء للتحقيق الذي سيجريه الجيش».وقال المسؤول الإعلامي في جمعيّة المشاريع الشيخ عبد القادر فاكهاني إن «المشكلة أساساً ليست بحجم رد الفعل، وإن الإصابات قد وقعت من الطرفين من اللحظة الأولى». وكان فاكهاني قد أكد أن «المشكلة وقعت إثر تلاسن بين عناصر الحرس الذين كانوا يؤمنون الطريق بانتظار وصول مدعوّين من حركة أمل الى مائدة إفطار جمعية المشاريع، ما لبث أن تعرّض على أثرها مركز المشاريع لإطلاق نار مباشر وكثيف».
حزب الله والأحباش ينفيان وجود خلفيّات سياسيّة والجيش ينتشر ومواقف مستنكرةوقد صدر ليلاً بيان مشترك من قيادتي حزب الله وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية جاء فيه: «على أثر الحادث الفردي المؤسف الذي وقع عصر الثلاثاء (أمس) بين شباب من حزب الله وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، تداعت قيادتا الطرفين إلى اجتماع عاجل في فرع استخبارات بيروت، وجرى التأكيد أن الحادث المؤسف هو فردي ولا خلفيّات سياسيّة أو مذهبيّة وراءه، وقد اتفق على محاصرته وإنهائه فوراً ومنع أي ظهور مسلّح بغية عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية كما كانت، ومعالجة كل التداعيات الناجمة عنه».وأضاف بيان الطرفين أنه تقرّر فتح تحقيق عاجل تجريه قيادة الجيش اللبناني ورفع الغطاء عن كل من «يحاول المسّ بمسيرة الأمن والاستقرار الذي هو أولويّة لدى الطرفين وكل الأطراف الوطنية، وجرى الاتفاق على إبقاء الاجتماعات مفتوحة لتفويت الفرصة على كل المصطادين في الماء العكر».واستنكر نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان «بشدة الحادث المؤلم»، معرباً عن أسفه الشديد وألمه لسقوط ضحايا. ودعا المسلحين إلى الانسحاب الفوري من الشوارع ووقف إطلاق النار، والتزام دعوات التهدئة وعدم التعرّض للجيش أثناء تأدية مهماته الأمنيّة في بسط الأمن وفرض الاستقرار.وحذر قبلان من فتنة «تهدّد وحدتنا الوطنية»، داعياً العقلاء الى «تطويق الإشكال وعدم السماح للمصطادين في الماء العكر ببث فتنة مذهبيّة لا يقبل بها عقل ولا دين».وفي السياق، أصدر وزير الدفاع إلياس المرّ قراراً أوقف فيه مفعول رخص حمل السلاح على جميع الأراضي اللبنانيّة.(الأخبار)
الحصيلة 3 قتلى و15 جريحاً
3 قتلى و15 جريحاً. هذه هي الحصيلة شبه النهائية لضحايا جولة أمس من الاشتباكات «الأهلية» في بيروت. من طرف حزب الله، سقط كل من محمد فواز وعلي جواد. أما من جهة جمعية المشاريع، فقد قتل أحمد جمال عميرات. الجرحى نقلوا إلى مستشفيي الرسول الأعظم والمقاصد. في الأول، عولج أربعة جرحى، اثنان جراحهما طفيفة، وثالث عولج من إصابة في فخذه، أما الرابع، فإصابته بالغة لكن ليست خطرة. وفي مستشفى المقاصد، عولج 11 جريحاً، اثنان منهم فقط خضعا لعمليات جراحية، وتجاوزا مرحلة الخطر، بحسب مصادر المستشفى.الطرفان تكتّما على أسماء الجرحى، وعقدا اجتماعاً انتهى عند الواحدة من فجر اليوم في مركز استخبارات الجيش في بيروت، واتفقا على لقاء ثانٍ اليوم في المكان نفسه. وشدد كل منهما على أن الخلاف «تافه» وأنه «لم يكن يستأهل كل ما جرى». «خلاف تافه» أدّى إلى قتل ثلاثة شبان، وجرح 15 آخرين، ووضع البلاد والعاصمة على ما يشبه حافّة حرب أهلية!