هناك ملفّ دسم لدى ديوان المحاسبة، يتضمّن تقارير ومراسلات داخل وزارة المال وبين المعنيين في الوزارة والمعنيين في الديوان، وهي تؤكّد وجود عمليات تزوير وتلاعب في الحسابات المالية للدولة، كما تؤكّد أن إعفاء مديرة المحاسبة العامّة بالتكليف، رجاء الشريف، من منصبها لم يكن إلا إجراءً عقابياً، لأنها أسهمت في تكوين هذا الملف، قصداً أو عفواً
محمد وهبة لم تنجز مديريّة الخزينة في وزارة المال حسابات المهمّة منذ فترة طويلة جدّاً. وبحسب الملف الذي اطّلعت عليه «الأخبار»، يتبيّن أن «عدم الإنجاز» كان «إنجازاً» حققه وزراء المال المتعاقبون عن سابق تصوّر وتصميم، بالتواطؤ مع المسؤولين في هذه المديرية وغيرها من المديريات المعنية، وذلك بغرض إخفاء الحسابات المالية الحقيقية للدولة، ولا سيما لجهة الإنفاق من خارج الموازنة، الذي تنامى كثيراً ليصبح بمثابة «الإنفاق الأهم والأشهى». فحسابات المهمة، أي دفاتر مسك الحسابات المالية التفصيلية، تعدّ العنصر الأساس لمطابقة نتائج قطع الحسابات، إذ من دونها لا يمكن التدقيق في قطع الحساب ولا يمكن بالتالي الكشف عن أي تلاعب بالجرم المشهود... وبغية إخفاء الأدلّة الجرميّة، جُنّد المسؤولون في مركز المعلوماتية الآلي والسيطرة على نظام المعلوماتية فيه، وهو نظام صمّمه وأداره المدعو نبيل يموت، الذي شغل منصب مستشار وزير المال لشؤون المعلوماتية في عهود فؤاد السنيورة وجهاد أزعور ومحمد شطح وريّا الحسن... حتى بات يُطلق عليه لقب «وزير المال الفعلي»، نظراً إلى السطوة التي يمارسها في وزارة المال، خلافاً للقوانين والأنظمة المرعيّة الإجراء.
تحرّك ديوان المحاسبة
نظراً إلى أهمية مركز المعلوماتية في مسألة الحسابات المالية للدولة، فقد اكتشف ديوان المحاسبة منذ سنوات ثغراً جمّة تسمح بالتلاعب بهذه الحسابات، فأرسلت النيابة العامة لدى الديوان مذكرة الى وزارة المال في 20 كانون الأول 2008، تطلب فيها إجراء المعالجات اللازمة لبرنامج المعلوماتية، لكونه مخالفاً لقواعد المحاسبة ويتيح إلغاء وإضافة قيود وإخفاء انحرافات ومخالفات. وجاء تحرّك النيابة العامة بعدما أجرت تحقيقاً في شأن فروق ظهرت بين رصيد حساب الصندوق الداخلي للتعليم المهني والتقني في دفاتر الإدارة، ورصيد الحساب نفسه لدى مديرية الخزينة والدين العام، وقد تبيّن أن «البرنامج المعدّ في المركز الآلي، والمعتمد من مديرية الخزينة، لإثبات ومعالجة عمليات القبض والدفع والتحويلات بين الحسابات المختلفة التي تقوم بها الخزينة العامّة، يسمح بإضافة أو إلغاء قيود سبق تدوينها، وذلك خلافاً لأبسط قواعد الضبط والأصول المحاسبية المقرّرة في التصميم المحاسبي العام والنصوص القانونية، ما يتيح إخفاء انحرافات أو أخطاء أو مخالفات يمكن أن تستدعي الملاحقة». ورأى الديوان أنه «لا يجوز الاستمرار باعتماد هذا البرنامج»، وطلب إبلاغ المركز الآلي بوجود هذا العيب الجوهري، موضحاً أنه «أبلغ مديرة الخزينة شفهياً بهذا العيب»، لأخذ العلم وإجراء المعالجات اللازمة ووضع الضوابط لهذا البرنامج كما لغيره من البرامج التي يمكن أن يكون وضعها المركز الآلي في خدمة مختلف مديريات وزارة المال، داعياً الى إعادة النظر فيها على ضوء النصوص القانونية والمعايير المهنية والرقابية ذات العلاقة، بغية توفير الحماية للمال العام من الأخطاء والانحرافات الممكن وقوعها أو ارتكابها مهما كان نوعها ومصدرها وخلفياتها.
العثّ في وزارة المال
التذكير بأن وزير الدولة للشؤون الماليّة فؤاد السنيورة هو أبو نظام المعلوماتية، قد لا يثير الاستغراب. فالسنيورة بدأ العمل على خلق نظام المعلوماتيّة الحالي منذ عام 1993، وكلّف مستشاره آنذاك نبيل يموت بالإشراف على تصميم النظام المذكور. وقد لا يثير الاستغراب أيضاً أن يموت نفسه بقي ممسكاً بهذا النظام منذ وجوده، وهو تغلغل في إدارات وزارة المال انطلاقاً من موقعه الحسّاس، بمعيّة وزراء المال الحريريين، الذين باتوا يكلّفونه بكل الأعمال «السوداء»، حتى في مجال تهديد الموظفين الشرفاء وغير الفاسدين. أحدث هذا النظام «فوضى منظّمة» أو «اعتداءً منظّماً» على المالية العامة، وأتاح للقابضين عليه بصورة متواصلة، إخفاء حسابات وتعديلها باستمرار، فتحوّل الأمر إلى عرف يومي يمارسه الموظفون بإشراف يموت... إلى أن كشفت اعتراضات رجاء الشريف أخيراً حجم هذا التلاعب ومستواه وتداعياته على عمل مديريات الوزارة، وهي عناصر دفعت بالمدير العام لوزارة المال، ألان بيفاني، الى إصدار قرارات عقابية بحق مديرة الخزينة موني خوري ومدير مركز المعلوماتية الآلي جورج ضاهر، بحسم راتبيهما، محيلاً الملف على النيابة العامة لديوان المحاسبة... إلا أن الفضيحة كانت في إقدام وزيرة المال ريّا الحسن على إلغاء العقوبات بعد أقل من 12 ساعة على صدورها، بحسب ما تكشفه أوراق الملف لدى الديوان. هذا الملف يكشف أيضاً عن عشرات المراسلات بين حزيران وأيلول من عام 2010، جرت بين مديرة المحاسبة العامة بالتكليف رجاء الشريف وبيفاني، وبينهما وبين كل من مديرة الصرفيات في الوزارة عليا عباس، ومديرة الخزينة موني خوري... وتكشف هذه المراسلات عن العث الذي يلفّ وزارة المال منذ عام 1993 إلى اليوم، وتشير بوضوح إلى الأهداف التي تكمن وراء إخفاء إنفاق مبالغ من المال العام من دون أي سند قانوني، ولا سيما منذ عام 2005 إلى اليوم. وقد انتهت هذه المراسلات بإحالة الملف على النيابة العامة لديوان المحاسبة بعد اعتراض خوري على العقوبة، وذلك على الرغم من أن ما أثارته الشريف يؤكد ويوثّق حصول تجاوزات لنظام المحاسبة العامة، مثل إعادة تكوين قيود محاسبية، وتعديل بعض الحسابات المالية، وإبقاء الحسابات مفتوحة لفترة تزيد على 5 سنوات... أي كل عناصر التلاعب بالحسابات المالية للدولة! وقد أشار بيفاني، في إحدى مراسلاته مع مديرة الخزينة الموثّقة في ملف ديوان المحاسبة، إلى خطورة هذا التلاعب وتأثيره على الحسابات المالية، إذ ردّ بيفاني على كتاب اعتراض خوري على العقوبة، ما حرفيّته: «يتبيّن من إحالتكم أنكم ما زلتم تعتبرون أن تعديل القيود العائدة لسنوات أقفلت حساباتها هو شيء طبيعي، مع العلم بأنه يتعارض مع أبسط الأصول المحاسبية. أما إذا كنتم تعتبرون أن مهلة الإقفال مفتوحة إلى حين إرسالكم الحسابات رغم تأخرها، فهذا شيء أكثر خطورة عما سبق. ويفهم أيضاً أن النظام الموجود يسمح بإجراء هذه التعديلات وهذا خطير جداً، ويتنافى مع أبسط قواعد أنظمة المحاسبة».
وقائع موثّقة لدى الديوان
لا تنحصر عناصر ملف ديوان المحاسبة التي اطّلعت عليها «الأخبار» في هذه الجوانب فقط ، بل تشمل جوانب أخرى أكثر إثارة، فالملف يشير إلى تدقيق داخلي حصل في وزارة المال، وطال 85 ألف معاملة من حوالات الدفع، وقد تبيّن أن 35 ألفاً، أي 41.2% منها، تعتريها شوائب، وجميعها مخالف للأصول المحاسبية ولأبسط القواعد والمعايير الدولية للمحاسبة، كما أنها كلّها جرت في ظل النظام المعلوماتي الذي أرساه السنيورة منذ مطلع التسعينيات ولا يزال عاملاً إلى اليوم بالصيغة نفسها... وتكفي الإشارة إلى أن ملف الديوان يحتوي على كتاب من رئيس فريق المحاسبة الخاص في وزارة المال، عبد الناصر المعلّم، يطالب بإجراء ربط نظم المعلوماتية في الوزارة لنحو 50 جهة، بين مديرية ومكتب وقسم ومصلحة كانت ولا تزال تعمل على نحو منفصل معلوماتياً، أي إن المعلومات مشتّتة لدى كل من هذه الجهات على حدة، وهو أمر وحده يسمح بحصول هدر وفساد، فكيف إذا كان النظام مصمماً ليكون كذلك؟ وما يعزز الشك في حصول عمليات التلاعب عبر هذا النظام، مراسلات كثيرة يحتويها ملف الديوان، تكشف عن الوقائع الآتية: ـــــ تشير الشريف في إحدى مراسلاتها إلى وجود «حساب مؤقت للواردات» وقد أدرِجت فيه قيود بمبالغ تقدّر بنحو 20 مليار ليرة، لكنها من دون أي مستندات ثبوتية ومن دون أي تفاصيل تشير إلى كيفية إنفاقها، فكتبت تقول «إن التفاصيل يجب أن تكون في مديرية الخزينة التي يجب أن توضحها، فضلاً عن وجود فروقات في النصوص وتطبيقاتها»، هذا الواقع يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كانت مديرية الخزينة تنشئ حسابات وفقاً للأصول النظامية، «فلماذا هناك قيود من نوع حسابات مؤقتة للواردات والنفقات، ولماذا لا تعدّ الحسابات في وقتها؟ ولماذا تكون الحسابات غير دقيقة دائماً؟». ـــــ يقول رئيس فريق المحاسبة الخاص، في كتاب مؤرّخ في 16 حزيران الماضي، رداً على استفسارات الشريف عن حسابات المطابقة لعام 2006، إنه «تبيّن وجود أوامر دفع غير مدخلة على نظام الصناديق، علماً بأنها مسددة بموجب شيكات، وقيمة هذه الشيكات مصروفة من حسابات الخزينة في مصرف لبنان، وهناك أخطاء في تسجيل أرقام الشيكات».
ـــــ تقول الشريف في كتاب لها في 30 حزيران، إن هناك تعديلاً في حسابات عام 2007 (هي من السنوات المشبوهة، التي حصل فيها الإنفاق من دون أن تكون هناك موازنة، وعلى ذمة تنفيذ مشروع موازنة، وهو أمر يستغرب كيف أن ديوان المحاسبة قبله طيلة 5 سنوات منذ عام 2006 إلى اليوم)، فقد تبيّن وجود فروقات بين الحساب الإداري للنفقات والبيانات الواردة من مديرية الصرفيات والمتعلقة بقطع حسابات 2007ـــــ 2008. ـــــ وتشير الشريف، في كتاب سابق بتاريخ 29 حزيران 2010، إلى تعديلات على نفقات 2007، جرت في مديرية الصرفيات، وقد تبيّن أن الفرق يبلغ 74 مليون ليرة! ـــــ يبيّن كتاب آخر أعدّته الشريف أن هناك 45 معاملة جديدة في قسم الموازنة غير مقيّدة في السابق، وهناك 28 معاملة في قسم المحاسبة، ومعاملة في قسم الصندوق الرئيسي، ومعاملة في قسم مصرف لبنان. ويقول أحد المعنيّين في ديوان المحاسبة إن هذا الأمر يعني أن المعاملات تظهر إما لتغطية إنفاق سابق غير قانوني، وإما لتغطية عمليات فساد، وإما لتغطية تقصير يجب أن يُحاسب المسؤولون عنه.
القدرة على التلاعب
ويتبيّن من الملف لدى ديوان المحاسبة أن كتاباً من وزارة المال أحيل على النيابة العامة في مطلع عام 2009، عن «تلاعب بجداول التكليف الضريبي»، بعدما قام «مجهول بتعديل ضريبة الدخل المتوجّبة على نظام التحصيل المعتمد في الوزارة»، وهي الجداول الخاصة بالمدعو أ. ع. ض، وذلك على الرغم من أن المراقبين الرئيسيين حنا جعجع ورواد غضبان وضعاها، لكن المركز الآلي يُظهر سداد هذه الأموال... أما العلّة الكبرى، كما تكشفها المراسلات، فقد تمثّلت في ترك الحسابات في مديريات الوزارة مفتوحة لفترة تزيد على 5 سنوات، وذلك خلافاً للتصميم المحاسبي العام، وقواعد المحاسبة الدولية، ما يفتح المجال أمام التشكيك في دقّة المعلومات الصادرة عن المركز الآلي، وعن الهدف الذي من أجله تركت هذه الحسابات مفتوحة، إذ بات يمكن تعديل هذه الحسابات وإدخال أي إنفاق فيها بطريقة غير قانونية. فالقوانين المحاسبية تطلب إقفال كل سنة مالية بسنتها، وعدم ترك أي فراغ حتى لا يستعمل لزيادة قيود (إنفاق أو صرف) جديدة، على ألا تدرج أي عملية جديدة بتاريخ قديم، وألا يكون هناك إمكان لإلغاء أي معاملة أو قيد محاسبي، أو «حشر» قيد جديد... وبالتالي كان على أي نظام يدوي أو معلوماتي أن يحترم الضوابط المحاسبية التي تمنع حصول الفساد والهدر والأخطاء المقصودة وغير المقصودة أو يكشفها، وهو ما لم يحصل في حالة المركز الآلي. نتيجة هذا الواقع، يقول أحد المعنيين في ديوان المحاسبة، إن حسابات المهمة لما بعد أعوام 2003 لا يمكن أن تكون دقيقة، إلا إذا دُقّق في كل المعاملات الجارية في مديريات وزارة المال للتثبت من صدقيّتها ودقّتها القانونية، إذ إن مثل هذا الخرق هو إشارة إلى احتمال وجود فروقات إضافية، لأن عدد المعاملات التي تجريها وزارة المال يومياً هائل، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بسنوات عديدة؟ لكن هذا الوضع، على أي حال، لا يجب أن يكون مبهماً لدى مديرية الصرفيات، حيث تصل حوالات الدفع وحوالات الصرف، فهما المستندان القانونيان اللذين يجب أن يرتكز عليهما لدفع الأموال، ولهذا أوجبت المادة 82 من قانون المحاسبة العمومية أنّ على مدير الصرفيات أن يتحقق من قانونية الصرف، إذ «لا يجوز إصدار الحوالة إلا بعد التثبت من انطباق معاملة التصفية على القوانين والأنظمة المالية فقط»، لكنّ مديرة الصرفيات عليا عباس ردّت «باختصار» على المراسلات، ثم حلّت ضيفة في النيابة العامة لديوان المحاسبة منذ يومين «لترتيب أوضاعها»، ولا سيما أنها تسعى إلى الفوز برضى الرئيس نبيه بري لتعيينها مديرة عامّة، إذا تسنّى صدور التعيينات الإدارية!
السنيورة أيضاً وأيضاًكيفيّة نشأة النظام المعلوماتي في وزارة المال، هي قصّة أخرى تبدأ بتولّي الرئيس فؤاد السنيورة وزارة المال، إذ أدرج حينها «موضة» إصدار مذكرات وتعاميم تلغي المراسيم. ففي إحدى المرات أبلغ موظفي الوزارة الآتي: «إلى أن يعالج المشترع... يجري الحل كما يلي»، أي إنه كان يحلّ بمذكرة ما يحتاج إليه مرسوم، وقد دفع هذا الأمر بأحد الظرفاء إلى القول: «يكفي أن يكون لك مكان على درج وزارة المال حتى تصبح مشترعاً!». وقد تراكمت موروثات «السنيورة» في وزارة المال منذ عام 1993 حين دُمّر جزء من الأوراق الخاصة بإنفاق الدولة ومصاريفها وكل السجلات المحاسبية عن الفترة ما بين 1979 و1993 وتبعثرت المستندات ودمّرت التجهيزات التي تساعد على تقديم المعلومات وتحليلها، فأقرّ إعفاء وزارة المال من موجب إنجاز قطع الحساب عن تلك السنوات... لكن ما بقي في الحسابات المالية لم يكن معروفاً ما إذا كان وفراً أو عجزاً، وهو لا يزال مجهولاً إلى اليوم. فاستند السنيورة إلى هذا الواقع لينشئ أنظمة جديدة لقاعدة المعلومات، وكلّف فريق عمل لتحقيق الهدف المخفي، وعلى رأسه كل من نبيل يمّوت، جورج ضاهر، وعامر مملوك. وكان يفترض أن توضع برامج معلوماتية لتطبيق النصوص القانونية والمحاسبية التي ترعى عمل مديريات وزارة المال مثل: نظم التحصيل، نظم الدفع، نظم الرواتب، ونظم إعداد حساب المهمة... ويروي متابعون لهذا الملف، أن الفريق المذكور تخطى صلاحياته ليجمع في عمله بين الدور التقني الذي يخدم عمل الوزارة، والدور الإداري الذي كان مطلوباً من موظفي الوزارة، فيما كانت شبكة التحصيل في وزارة المال تتسع لتشمل إلى جانب صناديق الوزارة في المناطق وحساباتها في مصرف لبنان، حسابات جديدة في المصارف الخاصة وتحصيلات تجبى عبر «ليبان بوست»، فأحدث الأمر هوّة بين الوضع السابق والوضع الحالي، ما اضطرّ السنيورة إلى خلق «فريق المحاسبة الخاص» وهو غير موجود في الهيكلية التنظيمية، ليكون الذراع التنفيذية للوزير وللفريق التقني. هكذا كانت البداية لإنشاء مغارة وزارة المال.
لا يحق للحسن إعفاء الشريف من منصبهاأعلن رئيس لجنة المال والموازنة النيابية النائب إبراهيم كنعان إرجاء جلسة اللجنة، التي كانت مقررة عند الخامسة من بعد ظهر اليوم الاثنين، بسبب اعتذار وزيرة المال ريا الحسن عن الحضور لوجودها في الولايات المتحدة الأميركية. وكان النائب كنعان قد دعا إلى هذه الجلسة الاستثنائية كلاً من الوزيرة الحسن وديوان المحاسبة، لبحث ملابسات تأخير وضع حسابات المهمة وقطع الحسابات عن السنوات الماضية، وذلك إثر البيان الصادر عن مجلس الديوان بعد اجتماعه الطارئ في الأسبوع الماضي، وما تبعه من إجراءات «كيدية» قامت بها الوزيرة الحسن في الوزارة، ولا سيما إعفاء مديرة المحاسبة العامّة بالتكليف رجاء الشريف من منصبها لأنها أرسلت قطع حسابات سنوات 2005 و2006 و2007 إلى الديوان، خلافاً لإرادة وزيرة المال الساعية (مع فريقها) إلى إعفاء نفسها من هذا الموجب الدستوري، وإخفاء حقيقة ما حصل من إنفاق غير قانوني على مدى سنوات عدّة. وأكّدت مصادر في لجنة المال والموازنة أن الجلسة ستعقد فور عودة الوزيرة الحسن إلى بيروت، وبالتالي لن يكون هناك أي تمييع، إذ سبق للّجنة أن أثبتت حرصها على متابعة أي ملف يتصل بعملها بجدّية تامّة، فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بأخبار عن وجود تلاعب في حسابات الدولة المالية، فهذه جريمة لا يمكن السكوت عنها إذا تبيّنت صحّتها. فالمسؤول عن أي تلاعب حصل سيلقى عقابه، والموظّف الذي يلتزم القوانين والأنظمة سيُكافأ ويلقى كل الدعم. إلى ذلك، أثار البيان الصادر عن وزيرة المال منذ أيام قليلة، المزيد من ردود الفعل الشاجبة، ولا سيما أن هذا البيان أقرّ، عن قصد أو عن غير قصد، بوجود مخالفات جمّة في إعداد حسابات الدولة المالية. إذ رأى وزير المال الأسبق جورج قرم، في حديث إلى تلفزيون «OTV»، أن «هناك «فلتاناً» في وزارة المال، مشيراً إلى أن «وزيرة المال ريا الحسن تنقصها الخبرة القانونية والمالية»، معرباً عن أسفه لأن هذه الوزارة بقيت بأيادي الكتلة السياسية نفسها منذ نهاية عام 1992، باستثناء حكومة الرئيس سليم الحص. وقال قرم إن وجود أخطاء في قطع الحساب أمر ممكن، وإن الوزارة يمكن أن تُجري تعديلات عليه عند التنبه إلى هذه الأخطاء. إلا أنه رأى أن غياب حساب المهمة، أي الدفاتر المالية العائدة لكل عمليات الخزينة من نفقات وواردات، منذ بداية هذا العقد، هو دليل على الفوضى القائمة. ولفت قرم إلى أن عمليات الخزينة لا تزال غير مسجلة على النحو الصحيح، وهذا دليل إضافي على الفوضى المقصودة. وردّ مصدر نيابي ـــــ قانوني على بيان الوزيرة الحسن المذكور، الذي رأت فيه أن إعفاء الشريف من منصبها يندرج من ضمن صلاحياتها، مشيراً إلى المادة الـ34 من المرسوم الرقم 2894 الصادر بتاريخ 16 كانون الأول 1959 والمتعلق بتحديد شروط تطبيق أحكام المرسوم الاشتراعي الرقم 111 تاريخ 12 حزيران 1959 (تنظيم الإدارات العامة)، التي تنص على ما يأتي: «في حال غياب المدير أو رئيس الوحدة، ينوب عنه، في كل ما ليس له صفة تقريرية من أعماله أو صفة شخصية أناطها به القانون، مرؤوسه الأعلى رتبة، وذلك بعد موافقة الرئيس المباشر للموظف الغائب». وبناءً على ذلك يقتضي إعمالاً للقانون تولي رئيسة دائرة الرقابة المالية على المؤسسات العامة الدكتورة رجاء الشريف مهمات مدير المحاسبة العامة بالإنابة سنداً لأحكام هذه المادة، وذلك إلى حين تعيين مدير أصيل للمحاسبة العامة. أما تكليف سواها بهذه المهمة، فبدعة غير قانونية وفقاً لأحكام المادة الـ49 من نظام الموظفين. وأما المناقلات الداخلية في الوزارة، فلا أحد ينازع الوزيرة الحسن في أنها من صلاحياتها، شرط أن تجري وفقاً لأحكام القانون أيضاً (أي بمرسوم بناءً على اقتراح الوزير وبعد موافقة مجلس الخدمة المدنية في ما خص تعيين مدير محاسبة عامة جديد). أما في ما خص كفاءة مديرة المحاسبة العامة بالإنابة رجاء الشريف لإنجاز المهمة المنوطة بها، فيبدو أن الشك لا يرقى إليها، بحسب بيان الوزيرة الحسن، إذ إنها التزمت بموجب إعداد قطع الحسابات وإيداعها ديوان المحاسبة، كما تقضي أحكام المادة 195 من قانون المحاسبة العمومية، وأحكام المادة التاسعة من نظام إرسال حسابات الإدارات العامة والمستندات والمعلومات العائدة لها إلى ديوان المحاسبة المصدق بموجب المرسوم الرقم 4001 الصادر بتاريخ 12 أيار 2010. واستغرب المصدر نفسه أن تبرر الوزيرة الحسن إعفاء مديرة المحاسبة العامة بالإنابة من مهمتها بضخامة العمل الملقى على عاتقها، إذ إن البيان نفسه عاد وأشار إلى «أن المديرية المعنية بإرسال الحسابات إلى ديوان المحاسبة لم تلفت انتباه وزيرة المال إلى أنه سبق أن أُودع ديوان المحاسبة قطع حسابات عامي 2006 و2007. كذلك إن المديرة رجاء الشريف، التي كانت مكلفة مهمات المديرية، أودعت قطع الحسابات للأعوام نفسها دون انتظار قرار مجلس الوزراء ودون إعلام وزيرة المال». فسبب الإعفاء إذاً لا يعود إلى ضخامة العمل بحسب ما زعمت وزيرة المال، بل إلى عدم إعلام الوزيرة الحسن وفريق عملها واستئذانهم للالتزام بموجب قانوني، وإلى عدم المشاركة في خطة تقضي بعدم وضع قطع الحساب عن السنوات الأربع الماضية لإخفاء الإنفاق الذي تجاوز ما تجيز القوانين إنفاقه بأكثر من 11 مليار دولار. ولفت المصدر النيابي إلى أن بيان ديوان المحاسبة الأخير ركز على ضرورة إيداع حسابات المهمة العائدة للسنوات من 2001 لغاية 2008 ضمناً لكي يتمكن الديوان من تدقيق قطع الحساب العائد لهذه السنوات، ولا سيما قطع حساب عام 2008 الذي لم يرسل بعد إلى الديوان، والذي يتوقف على إقرار المجلس النيابي له إقرار مشروع موازنة عام 2010... وهذا الموقف يكشف عن خطورة ما أوردته وزيرة المال في بيانها عن اكتشاف فرق بقيمة 8 ملايين ليرة لبنانية بين قطع الحساب الأول لموازنة عام 2005 وقطع الحساب الثاني للموازنة نفسها، فهذا أمر غير مشجع، لأن الحسابات نفسها يجب أن تؤدي إلى النتيجة نفسها. أما وقد اختلفت النتيجتان، فمن يضمن أيهما هي الصحيحة؟ ومن يضمن عدم اكتشاف فرق بقيمة أكبر عند إعداد قطع الحساب نفسه في المرة الثالثة؟ واستغرب المصدر ما ورد في بيان الحسن لجهة «أن العمليات التي تجري في وزارة المال، سواء كانت إنفاقاً أو إيراداً، كلها موثقة بمستندات ثبوتية تؤكد صحة هذه المعلومات والعمليات وصحة انعكاسها المحاسبي». وأشار المصدر إلى أن توافر المستندات الثبوتية وصحة انعكاسها محاسبياً كان يجب أن يقترن بإجراء القيود في مواقيتها يومياً وأسبوعياً وشهرياً وسنوياً، وكان يجب أن يقترن بوضع قطع حساب الموازنات السابقة وحسابات المهمة العائدة للسنوات السابقة ضمن المهل المحددة قانوناً، لا الانتظار لمدة تزيد على 9 سنوات لإعداد حسابات المهمة والانتظار لمدة تزيد على 5 سنوات لإعداد قطع حسابات الموازنات. وحذّر المصدر النيابي ـــــ القانوني ممّا ورد في بيان الحسن لجهة أن «وزارة المال ستعمد إلى الطلب من ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي انتداب مفتشين ومدققين لمواكبة أعمال حساب المهمة وقطع الحساب في المديريات المعنية»، فنصح وزارة المال بألا تلجأ إلى ذلك؛ لأن ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي هما جهازان رقابيان لا يجيز لهما القانون المشاركة في أعمال يتولون الرقابة عليها لاحقاً، وختم قائلاً: «إننا على تمام الثقة بأنه لا ديوان المحاسبة ولا التفتيش المركزي سيرتكبان مثل هذه المخالفة». (الأخبار)
عدد الاثنين ١١ تشرين الأول ٢٠١٠ |نقابات العمّال والأساتذة تهدّد بمواجهة الحكومة في الشارع
320 ألف لبناني يعيشون في فقر مدقع (أرشيف ــ مروان طحطح)أعلن سياسيون ونقابيون وممثلون عن هيئات اقتصادية واجتماعية رفضهم لأي خطوة حكومية ترمي إلى زيادة الضريبة على القيمة المضافة، وهدد بعضهم بمواجهة هذه الخطوة في الشارع، ولا سيما أن الدراسات السابقة كانت قد بيّنت أن زيادة هذه الضريبة إلى 15% ستؤدّي إلى زيادة نسبة اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى من 30% حالياً إلى 50% على أقل تقدير
الاتصالات السياسية الجارية من أجل التوافق على زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 10% إلى 15%، أثارت موجة من الاعتراضات نظراً إلى ما ستتركه هذه الخطوة من آثار سلبية كبيرة على أوضاع الأسر الفقيرة والمتوسطة الدخل، ولا سيما أن الدراسات السابقة التي أجريت بعد مؤتمر باريس 3، بيّنت أن هذه الآثار لا تنحصر بمستوى معيشة الأسر، بل ستطال النشاط الاقتصادي عموماً، على عكس ما تعتقده وزيرة المال وبعض أركان الطبقة السياسية، ممن أعطوا الضوء الأخضر للسير بهذا الاتجاه.
زيادة الفقر
وكانت الجامعة الأميركية في بيروت قد أعدّت في العام الماضي، بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية، تحليلاً ميكرو اقتصادياً على تأثير رفع الضريبة على القيمة المضافة على الفقر والمساواة في لبنان، وتوصلت هذه الدراسة إلى أن زيادة الضريبة على القيمة المضافة بنقطتين مئويّتين، أي من 10% إلى 12%، ستؤدي إلى خفض الإنفاق الاستهلاكي لدى الأسر الفقيرة بنسبة 11%، وترتفع هذه النسبة إلى 19% لدى الأسر الغنية. أما زيادة الضريبة إلى 15% فستؤدي إلى المزيد من الانخفاض في الإنفاق الاستهلاكي لكل الأسر، وهذا ما يدفع بجمعيات التجّار والصناعيين إلى الانضمام إلى معارضي مثل هذه الزيادة، باعتبار أنها ستؤثر على أعمالهم. وبناءً على هذا التحليل، فإن نسبة اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى (2.4 دولار في اليوم) سترتفع من 8% حالياً إلى 10% إذا ما ارتفعت الضريبة على القيمة المضافة إلى 12%، وستبلغ 16% إذا ارتفعت الضريبة إلى 15%، أما نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى (4 دولارات في اليوم) فمن المتوقع أن ترتفع من 28% حالياً إلى 35% و47% إذا رُفعت الضريبة على القيمة المضافة إلى 12% و15% على التوالي. وتجزم هذه الدراسة بأن الزيادة على الضريبة على القيمة المضافة سيكون لها أثر سلبي أكبر على وضع الأسر المتوسطة، وتلك التي تعيش فوق خط الفقر مباشرة، إذ إن نسبة الفقراء الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى في لبنان، والتي تقدر حالياً بنحو30% من اللبنانيين قد ترتفع إلى 35% و50% إذا ما ارتفعت نسبة الضريبة على القيمة المضافة إلى 12% و15% على التوالي. وتوصي الدراسة بعدم إحداث أي زيادة على الضريبة في الظروف الراهنة، إلا في حال تنفيذ إجراءات تستهدف الفقراء والفئات المهمّشة، كما توصي بحذف منتجات الرفاهية من لائحة المنتجات المعفاة من الضريبة، والبحث في استراتيجيات لخفض كلفة بعض المنتجات الاستهلاكية ـــــ مثل المواصلات ـــــ التي تستهلك حصة كبيرة من دخل الأسر الفقيرة. الجدير بالإشارة أن الضريبة على القيمة المضافة، قبل زيادتها، تمثّل أكثر من ثلث الإيرادات الضريبية في الموازنة، بحسب أرقام عام 2009، وهي تعدّ مصدر الدخل الأول للخزينة العامّة، وتجسّد بذلك المثال الأوضح على عدم عدالة النظام الضريبي وسياسة إعادة التوزيع العكسية، أي من الفقراء إلى الأغنياء.
جنبلاط يعترض
انطلاقاً من هذه المعطيات، رأى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط أن زيادة الضريبة على القيمة المضافة، إذا تمّت، فإنها تؤكد عدم وجود أي رغبة حقيقية بإعادة النظر بالفلسفة الضريبية بما يحقق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وقال، في مقاله الأسبوعي في مجلّة «الأنباء»، إن المطلوب في هذا الوقت أن تحافظ الدولة على دورها ووظيفتها في رعاية المواطنين وتحسين ظروف معيشتهم. ورأى عضو كتلة «المستقبل» النائب نضال طعمة، في مداخلة هاتفية مع «المؤسسة اللبنانية للإرسال» أمس، «أن قرار رفع الـTVA إلى 15% هو قرار غير شعبي أبداً. وإذا حصل، يجب أن يكون في مقابل زيادة الخدمات المقدمة من الحكومة إلى المواطنين».
النقابات العمّالية
وأعلن رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن أن النقابات العمّالية ستواجه أي زيادة على الرسوم والضرائب غير المباشرة في الشارع، معتبراً أن هذا الأمر «ليس مزحة»، بل هو رسالة يجب أن يفهمها من بيدهم الأمر. وقال إن الاتحاد العمّالي لديه موقف واضح من الضريبة على القيمة المضافة، ولن يقف موقف المتفرج إزاء أي خطوة جديدة يمكن أن تهدد لقمة عيش الفقراء والعمال ذوي الدخل المحدود، منتقداً الإصرار على هذا النوع من السياسات الضرائبية، التي تغالي في إرساء نظام ضريبي غير عادل، يرتكز على جباية الضرائب ممن لا يملكون ليعيد توزيعها، عبر خدمة الدين العام، على الأثرياء وأصحاب الامتيازات والاحتكارات والريعيين. وأعلن الأمين العام لجبهة التحرر العمالي، عصمت عبد الصمد، رفضه أي زيادة ضريبية تطال الفقراء في ظل هذه الظروف الراهنة، وأشار إلى وجود مصادر أخرى مهمّة لتمويل الخزينة غير الفئات الشعبية، التي لم تعد قادرة على تحمّل المزيد من الأعباء. وجزم عبد الصمد بأن جميع النقابات ستتوحد في مواجهة زيادة الضريبة على القيمة المضافة، وقال «سنخوض تحرّكات شعبية مع كل القوى النقابية والتيارات السياسية لإجهاض مثل هذا النهج الذي جرّبناه سابقاً، وأوصلنا إلى الوضع المعيشي السيئ». وأضاف: «كنا ننتظر من حكومة الاتحاد الوطني تقديمات اجتماعية وجهداً ملموساً للبحث عن مصادر أخرى لزيادة الإيرادات، فعندما قرأنا البيان الوزاري اعتقدنا أن هناك توجهاً جديداً من الحكومة، لكن تبيّن الآن أن بيانها الوزاري كان إعلامياً فقط... وما يدلّنا أكثر على استمرار النهج الخاطئ هو ما نراه في مجلس النواب، إذ تتجه لجنة الإدارة والعدل إلى إقرار مشروع قانون يرمي إلى طرد المستأجرين وتشريدهم على نحو منظّم ومشرّع، على الرغم من أنهم من الفئات الشعبية ومن دون إيجاد أي بديل».
الأساتذة والمعلّمون
وأعلن رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي حنّا غريب أن روابط الأساتذة والمعلمين ترفض رفضاً قاطعاً كل البنود والمشاريع الواردة في برنامج باريس ـــ 3، التي تطال حقوق العمال والموظفين والأجراء وأصحاب الدخل المحدود، بما فيها زيادة الضريبة على القيمة المضافة، وقال «موقفنا من هذه القضية ثابت، ولذلك نرفض أي زيادة ضريبية مطروحة الآن، وندعو كل الهيئات إلى تحمّل مسؤولياتها وتوحيد الحركة النقابية لمواجهة هذه المشاريع». ورأى غريب أن البحث عن مصادر التمويل لا يكون في جيوب الفقراء الخالية، والتي لم يعد بإمكانها التحمل، بل يجب البحث في المكان المناسب، «فقد اقترحنا خفض الفائدة بنسبة 1% أو 2%، إذ إن هذا الإجراء كاف لتمويل جزء من العجز في الموازنة، كما طالبنا بوضع ضريبة تصاعدية على كبار المتموّلين في البلد وأصحاب الشركات الكبرى... ولذلك نقول اليوم: كفى ضرائب غير مباشرة».
جمعية المستهلك
وقال رئيس جمعية المستهلك زهير برو، إن زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15% تعدّ من أسوأ الوسائل المتّبعة لرمي أعباء الدين العام في وجه المستهلك، داعياً الحكومة إلى الاجتماع ومراجعة السياسات الضريبية المتبعة في اتجاه إيجاد توازن عادل بين المكلّفين وفق حجم الدخل ومصادره، داعياً إلى خفض الأعباء غير المبررة على الخلوي والبنزين وغيرها من السلع والخدمات الأساسية، ولفت إلى ضرورة ربط هذه المراجعة بخطة اقتصادية مستقبلية لكي تعلم كل فئة اجتماعية ما هي الأعباء التي ستوضع على عاتقها، وذلك انطلاقاً من سؤال على الوزراء أن يطرحوه على أنفسهم، وهو «هل يجب أن يتحمّل المستهلكون من أصحاب الدخل المحدود والفقراء الأعباء الضريبية المرتفعة دائماً؟».
نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى سترتفع من %30 من اللبنانيين حالياً إلى 50 % إذا ارتفعت نسبة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15 %
وأشار برو إلى أن السياسة الضريبية والمالية المتبعة منذ انتهاء الحرب الأهلية مستمرة على الرغم من أنها أثبتت فشلها، ولا يمكن تحت مبرر السلم الأهلي والوحدة بين أطراف الطبقة السياسية ترك القضية الاقتصادية على حالها. وشدد برو على أن الضريبة على القيمة المضافة أدت إلى ارتفاع الأسعار حين تم فرضها، فيما هذه الضريبة التي تعتمدها جميع دول العالم تقابلها خدمات اجتماعية للمواطنين، صحية وتعليمية واجتماعية، وهذا غير موجود في لبنان، وبالتالي أصبحت هذه الضريبة ككرة الثلج، بحيث تنقل الأسعار من ارتفاع إلى ارتفاع في ظل انخفاض الأسعار عالمياً. وأكد برو أن الجمعية ضد زيادة الـTVA ولو نصف في المئة، وبدلاً من ذلك على الحكومة أن تتحرك في اتجاه إصدار قانون منع الاحتكار، داعياً الاتحاد العمالي العام وكل القوى السياسية والاجتماعية إلى رفض زيادة الـTVA ومنع رمي هذه الضريبة على كاهل الفقراء.
الهيئات الاقتصادية
ولفت رئيس جمعية تجار بيروت نديم عاصي إلى أن الزيادة العشوائية التي سيتم فرضها على الضريبة على القيمة المضافة لا يمكن أن يتحملها المواطنون وكذلك التجار والقطاع الخاص، رافضاً «الزيادة العشوائية لتمويل الهدر»، مشيراً إلى أنه لا يجب تحميل فرقاء الإنتاج والناس أعباء ضريبية إضافية من دون مقابل، وأشار إلى أنه حين فُرضت الـTVA تأثر القطاع التجاري في الفترة الأولى من التطبيق سلباً، معتبراً أن فرض زيادة إضافية على هذه الضريبة بصورة عشوائية مرفوض من قبل التجار، داعياً إلى تأمين مداخيل للخزينة عبر وقف الهدر وإعلان الإصلاح الجذري داخل المؤسسات العامة للبدء بعملية خفض الأعباء. وقال إن الجمعية دعت وزيرة المال إلى إلغاء رسم الإرث وتقويم خسائر الخزينة من هذا الإجراء لتعويضها من خلال مصادر أخرى. وقال نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان، محمد لمع، إن الغرف التجارية هي، في المبدأ، ضد أي زيادة ضريبية، إلا أنه أشار إلى أن مسألة زيادة الضريبة على القيمة المضافة لم تُبحث مع ممثلي هذه الغرف، «فإذا استشارونا فسنوضح لهم موقفنا المعترض على الزيادة، لأن المستهلك سيتأثّر سلباً». (الأخبار)
5943 مليار ليرةهي قيمة إيرادات الخزينة العامّة من 3 مصادر فقط، الضريبة على القيمة المضافة ورسوم البنزين والاتصالات، وتمثّل هذه المصادر أكثر من 47% من مجمل الإيرادات التي بلغت في العام الماضي نحو 12 ألفاً و705 مليارات ليرة.
ماذا عن ضريبة الفوائد؟قالت مصادر مطّلعة إن بعض المسؤولين أبدوا تفهّماً لموقف حاكمية مصرف لبنان والمصارف المعترضة على زيادة الضريبة على ربح الفوائد من 5% إلى 10%، وقد يكون هذا التفهّم هو السبب الكامن وراء السعي إلى زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15% دفعة واحدة، بدلاً من زيادتها تدريجاً كما كان منصوصاً عليه في برنامج باريس 3، فالضريبة على ربح الفوائد أمّنت مداخيل للخزينة في العام الماضي بقيمة 558 مليار ليرة، وكانت سترتفع إلى أكثر من 760 مليار ليرة في حال زيادتها.
من اليمين الفنان وأميمة الخليل، ويولا كرياكوسبعد جولة صيفيّة على شفشاون المغربيّة، وجربة التونسيّة، والمحافظات السوريّة، يحطّ الفنّان اللبناني رحاله في عاصمة الأمويين، حيث يحيي حفلتين استثنائيتين في «قلعة دمشق». يجمع البرنامج بين ألق البدايات وإضافات المرحلة الأخيرة. استعادة لمسيرة عمرها 35 عاماً
هالة نهرا برنامج الحفلة التي يقدّمها مرسيل خليفة، غداً وبعده في قلعة دمشق، يجمع بين قديمه المعروف والمحبّب، وعدد من المفاجآت. إضافة إلى الأغنيات والمقطوعات التي ألّفها في مراحل مختلفة، سيؤدّي صاحب «خائف من القمر» ـــــ بمشاركة فرقة «الميادين» التي باتت تضمّ مغنّين وعازفين من لبنان، وسوريا، ومقدونيا، وفرنسا، والنمسا (راجع الكادر) ـــــ ألحاناً ومقدّمات ومواويل أعاد توزيعها حديثاً. وسينشد للمرّة الخامسة «الآن في المنفى» (من ديوان «كزهر اللوز أو أبعد» لمحمود درويش)، بعدما أهداها إلى روح الشاعر خلال تأبينه في الجامعة الأردنية، وأدّاها في حلب وباريس وأصيلة (المغرب). تتميّز تلك الأغنية بالمرافقة الوترية المكتوبة للعود (خليفة) والكونترباص (مارك هيلياس).«في عصر الانحطاط الثقافي» و«زمن الصمت والانهيارات والترويض البذيء» على حدّ تعبيره، يطلق خليفة صرخة «غضب على آثام الحرب». يبحث عن «ضفاف ومفردات أخرى للتعبير النظيف عن العالم». وقبل كلّ هذا، يرقب النصّ الموسيقي العربي بمنظار أبيض، و«يشتغل اشتغالاً علميّاً صارماً، وفنّياً مطلقاً». أهمّية خليفة تكمن في قدرته على الارتقاء في الشعر العربي المغنّى، والانتقال من حدوده الإيديولوجية و«لوثته» الخطابية إلى بعده الكوني. وهذا ما نجح درويش في تحقيقه حين نقل معاناة الجرح الفلسطينية إلى الوجدان الإنساني العام، واستند إلى مرجعية أخرى لمفهوم الشعريّ وطبيعته ووظائفه. درويش وخليفة سارا في خطّين متوازيين، فنشأت علاقة استمرارية تطوّرية بينهما، حتّى بات بوسع النقّاد مع السنوات أن يتحدّثوا عن «توأمة» فنّية.صاحب «فالس زنجران» لم يغنِّ قصائد درويش فحسب، بل لحّن أيضاً الشعر العامّي والحديث والصوفي (الحلاج، وأدونيس، وقاسم حدّاد، وطلال حيدر، وبطرس روحانا، وعباس بيضون، وخليل حاوي، وشوقي بزيع، ومحمّد العبدالله، وحسن العبدالله، وحبيب صادق...). وقد وقع اختياره على باقة من تلك القصائد ـــ تحديداً لدرويش والحلّاج وأدونيس وطلال حيدر... ـــ لتقديمها في دمشق برفقة «صاحبة الصوت الملائكي» أميمة الخليل، ورفيقة دربه يولاّ كرياكوس، وثمانية منشدين ومنشدات (بينهم ليندا بيطار، ونهى ظروف...). علاقة خليفة بالشعر ليست عابرة. كبار شعراء التفعيلة و«شعراء الجنوب» وبعض «شعراء الحداثة» مدينون لصاحب «جدل»، والعكس صحيح. لكن الموعد الدمشقي لا يتلفّف بالنصّ الشعري فحسب، بل «يعيد تأثيث فضاء إيحاءاته»، فيبعث الإيحاء «أصواتاً متنوّعة» بتعبير صاحب «كحل».يتخلّل البرنامج موّال «قومي اطلعي عَ البال» (أسطوانة «تصبحون على وطن»، 1990)، وأغنية «سجر البنّ» (ألبوم «ركوة عرب»، 1995)، و«سيف» (الأغنيات الثلاث من شعر طلال حيدر)، إضافة إلى «الكمنجات» و«ديما» (غناء أميمة الخليل)، و«تعاليم حورية»، و«يا ساري» وموشّح «يا نسيم الريح». أمّا «أجمل حبّ» (أسطوانة «من أين أدخل في الوطن»، 1978)، فطُعّمت أخيراً بالكلارينت (إسماعيل رجب) والناي (مسلم رحّال).ولا بد هنا من التوقّف عند «تانغو لعيون حبيبتي» التي ستكون للجمهور الدمشقي فرصة استعادتها (من «حلم ليلة صيف»)، للإشارة إلى ألقها وارتكازها على الأكورديون (أنتوني ميليه). أما فراس شهرستان (قانون)، ومحمّد عثمان (بزق)، وكنان إدناوي (عود)، وبشّار خليفة (إيقاع)، فيتهيّأون لتأدية تنويعات على مقامَي البياتي والسيكاه، بمشاركة ألكسندر بيتروف (طبل). فيما يقدّم رامي خليفة (بيانو) وصلاته المدوّنة والارتجالية.في البرنامج الدمشقي، ما يعيدنا إلى بدايات صاحب «وعود من العاصفة» (1976)، ومرحلة النهوض الوطني والثقافي والفنّي. استعادة «ريتا»، و«جواز السفر»، و«أمّي» وغيرها من كلاسيكيّات
التزام تعدّى القضايا الوطنيّة والاجتماعيّة إلى الموسيقى نفسها
السبعينيّات والثمانينيّات، لا تهدف إلى إثارة النوستالجيا. بل تؤكّد «مشروعاً ثقافيّاً» لهزّ «هيكل الانحطاط المحروس بالمال»، كما يقول خليفة. لم يقتصر التزام الموسيقي اللبناني على القضايا الوطنيّة والاجتماعيّة فحسب، بل تعداه إلى الإبداع نفسه، والعلاقة بالموسيقى العربية ومشروع العود. وهذا ما لم يدركه بعض النقّاد والمثقّفين حين قرّر خليفة الانصراف إلى مشروعه التأليفي عام 1996، فاتُّهم بالتخلّي عن التزامه الفكري.بعد كتاب «السماع» (يتضمّن لونغات وسماعيّات وبشارف)، و«جدل»، و«كتاب العود» (المركز التربوي للبحوث والإنماء)، قدّم «متتالية أندلسية» للعود والأوركسترا (2002) و«رباعي العود»، إضافة إلى منهج حديث للعود لم ينشره حتّى الآن. «في هذه المؤلّفات موسيقى تطلّ من قصر الحمراء في غرناطة على التراث الأندلسي» يقول. ويضيف: «أذهبُ بعيداً في الموسيقى العربية والعالمية، إلى بحث علمي وفنّي عن الشكل والصيغة، لأقترب من المنابع، من زرياب مثلاً». وقد أراد «لآلة العود أن تشكّك في ما هو قائم لتنفتح على نفسها». صاحب «الزغاريد»، و«أغاني المطر»، و«الجسر»، و«أحمد العربي» واظب على التأليف، فأطلق «مداعبة» (2004)، و«شرق»، و«تقاسيم» (2007). وتأتي أمسيته الدمشقية بعد جولة في المحافظات السورية «احتفاءً بكتابة موسيقية مغايرة، ونصّ غنائي حارّ مهجوس بالبحث عن بداية متجدّدة».
أهم ما في زيارته، على ما يؤكد عارفوه، زيارته لرجال المهدي، المستشهدين منهم والأحياء (أرشيف ـــ أ ف ب) محمود أحمدي نجاد في لبنان غداً. زيارة متعددة الأبعاد تستهدف إخراج لبنان من المزاد الإقليمي والدولي، وتوقيع مجموعة اتفاقات تعزز روابطه مع «المشرق الجديد» الذي يبنى حالياً. ورغم الحرص الإيراني على التأكيد أنها زيارة رئيس دولة لدولة صديقة، إلا أن شخصية الرئيس الضيف المثيرة للجدل ستبقى هي المهيمنة
إيلي شلهوب لبنان على موعد رسمي غداً مع زيارة يعتزم القيام بها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لـ«بيروت العاصمة» و«ضاحية الصمود» و«جنوب المقاومة». في العنوان، هي زيارة رسمية يقوم بها رئيس دولة لدولة صديقة. لكنها في المضمون متعددة الجوانب. زيارة تحمل أبعاداً استراتيجية تتجاوز جدول أعمالها المعلن، وهدفه تعزيز العلاقات الثنائية عبر اتفاقيات قد يصل عديدها إلى ثمانٍ أو حتى 12 اتفاقية. هذا في الخلفية. أما في الجوهر، فلعل أهم استهدافات الزيارة ونتائجها، وفقاً لمصادر قريبة من أروقة صناعة القرار في طهران، أنّ «لبنان من بعدها لن يبقى في المزاد الإقليمي والدولي». استنتاج لم يخرج من الفراغ. فهذا جزء من عملية إقامة «المشرق الجديد» الذي يريد القيّمون عليه أن يكون لبنان «جزءاً أساسياً منه». والحديث هنا عن شبكة العلاقات الاقتصادية والتجارية والتنموية، التي بدأت تربط إيران وسوريا وتركيا عبر المعاهدات الثنائية. شبكة، لبنان في طريقه إلى أن يكون طرفاً فيها، هي الردّ المنظم على نظرية الفوضى الخلاقة التي سعى الأميركيون خلال مرحلة من المراحل إلى تطبيقها في المنطقة، على ما تفيد مصادر قريبة من أكثر من عاصمة إقليمية. ويضيف العارفون بشؤون طهران وشجونها أن زيارة نجاد هذه تعدّ جزءاً مكملاً للمشهد الدمشقي الذي جمع الرئيس الإيراني بنظيره السوري ومعهما الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. رسالة إلى الأميركيين والإسرائيليين أن «نجمكم قد أفل وحان وقت الرحيل. نحن أصحاب هذه الدار والقادرون على إدارتها». استثمار مؤجل لانتصار تموز الذي «لولاه لما أمكن عقد هذه الاتفاقيات» يريد من خلاله الإيرانيون القول «نقدم في الحرب والسلم. نحن رجال الحرب ورجال البناء. نحن أيضاً من محبّي الحياة». زيارة يريد من خلالها نجاد القول «مهلاً. أنا رئيس إيران، لكنني أيضاً مهندس، قادر على بناء الجسور والطرق والجامعات وتخطيط المدن. مدني ولكنني لست مثلكم. أنا أعمل بالتوقيت الهجري. أنا مسلم مشرقي، ولست غربياً حداثوياً». ومع ذلك، يبقى مكمن أهمية الزيارة في طبيعة الضيف الزائر. ليس في كونه رئيساً لإيران، تلك الدولة التي دعمت لبنان ومقاومته بكل غال ونفيس، بل في كونه رئيساً ليس كجميع أسلافه، على الأقل الأقربين منهم، سواء تحدثنا عن محمد خاتمي الإصلاحي الداعي إلى حوار الحضارات، أو حتى أكبر هاشمي رفسنجاني البراغماتي المعتدل. هو ليس واحداً منهم. لا ينتمي حتى إلى الطبقة التي تحكم إيران. هو «رجل من جنس الناس»، على ما أعلن يوم ترشح للانتخابات في عام 2005. لا ينتمي إلى أي حزب، وبالتالي «ليس مديناً لأحد» في وصوله إلى منصبه. كذلك فإنه لا ينتمي إلى أي من العائلات الإيرانية المعروفة. ابن حداد درس الهندسة وكافح إلى أن فاز برئاسة بلدية طهران. هو ابن دولة المرشد، تلك البنية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية التي تُعرف باسم «الحرس الثوري» والتي حضنته وحملته إلى كرسي الرئاسة. هذا في الأوليات، في الشكل والإطار. أما في المضمون، فتلك حكاية أخرى. وأهم ما في هذا المضمون، أن نجاد صاحب تفسير خاص للمدرسة المهدوية.
خريطة طريق
يزاوج بين الإسلام وإيران ويؤمن بقيامتين لا تنفصل الواحدة منهما عن الأخرىالفكر المهدوي عامة منتشر في إيران، بل في الفكر الشيعي المعاصر كله تقريباً. مدارسه متعددة، وهي تتحرك ضمن حدّين. هناك دعاة المهدوية السلبية، أو من يعرفون بالحجّتيين الذين ينتظرون ظهور المهدي من دون القيام بأي دور في هذا السياق. وعند حصول هذا الظهور، يصبحون من أنصاره. وهناك دعاة المهدوية الإيجابية، التي أرسى أسسها الإمام الخميني، وتقوم على ضرورة أن يفعل المؤمن كل ما طلبه منه الأنبياء والأئمة والأولياء في إطار إسلام ثوري يستهدف بناء الدولة الإسلامية. محمود أحمدي نجاد هو «الرجل الوحيد تقريباً»، على ما يفيد العارفون، الذي «تشعر بأن لديه خريطة طريق لظهور المهدي». هو ليس فقط مؤمناً بنظرية الإمام الخميني بشأن الانتظار الإيجابي، بل يعمل «مصدّقاً معتقداً مقتنعاً» بأنه كلما أنجز خطوة في طريق بناء الدولة المهدوية العالمية، سرّع في ظهور المهدي. بل هو مصرّ على أن يوحي بحتمية ذلك. من هنا يصبح حديثه وإصراره على مجموعة من المطالب والشعارات مفهوماً: إيران دولة عظمى. إيران تريد حصتها من إدارة العالم. إيران موجودة في كل مكان. إيران مؤثرة في كل القارات... كلها عبارات قد يراها الآخر عبثية، أو في الحد الأدنى حلماً بعيد المنال. لكنها في نظر نجاد جزء من برنامج رؤيوي يعتقد جازماً أنه كلما حقق بنداً من بنوده اقترب ظهور «الإمام المنتظر». هو مقتنع بأن هذه هي الحقيقة، وكل ما عداها هو الحلم.
أبعاد مهدويّة
زيارة نجاد للبنان تأتي كجزء من هذه الرؤية ـــــ المهمّة. تعزيز العلاقات الثنائية وتوقيع الاتفاقات، بنظره، أمران ثانويان، على ما يفيد عارفوه. تحصيل حاصل، سواء حضر إلى لبنان أو لم يفعل. أمور دنيوية من مهمة الوزراء والمديرين العامين والفنيين. بالنسبة إليه، أهم ما في زيارته تلك، على ما يؤكد المطّلعون على طريقة تفكيره ووجدانياته، زيارته لـ«رجال المهدي»، المستشهدين منهم والأحياء. يريد أن يتقرّب إليهم. أن يشمّ رائحتهم. أن يتبرك بهم. أن يلمسهم عن قرب.
توقيت هجري
معروف عن نجاد أنه يفكر في الزمن الهجري (المشرقي الإسلامي) لا الزمن الميلادي (الغربي الحداثوي). هو مدرك تماماً أن الحداثة تخترق جميع المجتمعات الإسلامية، عن طريق العولمة ووسائل الاتصال وغيرها. لكنه يعتقد أن الحداثة الغربية من الهشاشة بمكان أنه قادر على اختراقها وإقامة حداثته الإسلامية الخاصة به. يعتقد أن أسوار الحداثة الغربية تنهار أمام مشروعه الذي يمضي قدماً. ليس في ذلك رفض للمعاصرة، على ما يعتقد، بل تطويع لها كي تصبح في خدمة الإسلام، وتوظيفها في زمن هجري خاص به.
مكسّر الأصنام؟
يرى نجاد أن الغرب والحركة الصهيونية فرضت على العالم مجموعة من التابوهات أشبه بأصنام ممنوع المساس بها. ويقول إن على الدول المتحررة أن تتجمع وتشيع ثقافة عدم التعهد بالتزامات تحرمها عليها ثقافاتها الخاصة وهويتها الوطنية. ولا يتورّع عن وضع كلّ من المجتمع الدولي ومعايير حقوق الإنسان والأمم المتحدة وأسلحة الدمار الشامل وما إلى ذلك ضمن هذه التابوهات. ولعلّ أبرز هذه «التابوهات» إثارةً للجدل، ذاك المتعلق بالمحرقة النازية، التي شكّك فيها مرّات ومرّات من دون أن يرفّ له جفن، لا بل أقام مؤتمرات دولية في طهران لنفي وجودها! يمارس نجاد أيضاً ما يعدّه أشبه بـ«كيّ وعي مضاد». فهو يرى أن إسرائيل والحركة الصهيونية عملتا، على مدى عقود، على كيّ وعي أبناء هذا الشرق الحزين وإيهامهم بأن إسرائيل هي الدولة الأقوى في المنطقة وأن جيشها لا يقهر وأن وجودها بات حقيقة مسلماً بها ما عاد أحد يجرؤ على مناقشتها. من هنا كان تركيزه على مقولة «إزالة إسرائيل عن الخريطة» إلى أن تحولت إلى بند من بنود النقاش على الساحة الدولية. ويعتقد الرئيس الإيراني بضرورة نقل الهجوم إلى ساحة الخصم. يرفض أن يكون المشرقي المسلم في موقع الدفاع، بل يسعى إلى وضع الغرب في هذا الموضع. من هنا تأتي إثارته لمسألة مسؤولية الولايات المتحدة عن هجمات 11 أيلول، وغيرها كثير على قاعدة «تتهمني بانتهاك حقوق الإنسان وأتهمك بانتهاك حقوق الإنسان. تتهمني بقمع الحريات وأتهمك بقمع الحريات وما إلى ذلك». لكنّ استراتيجيّته هذه، وما يراه حرباً على التابوهات، تنقلب أحياناً استعراضاً لا يستفزّ الغرب وحده، بل معظم دول العالم. ولا يزال تصريحه من نيويورك عام 2007 الذي ينفي فيه وجود مثليّين في إيران، يثير حملات إعلاميّة مستنكرة.
أنا ونفسه عليه
وفي السياق، يعتقد نجاد بأن الغرب لا بد من أن ينسحب ويتراجع عندما تتعامل معه بتكتيك حافة الهاوية. يقول إنّ عليك أن تلقّن نفسك والخصم أنك أقوى منه، فتكون قد كسبت نصف المعركة. ويستند نجاد إلى قول للإمام علي، ردّاً على سؤال عن كيفية تحقيقه للانتصارات: أنا ونفسه عليه، فنكون اثنين ضد واحد. ويرى نجاد أن الآخر حكمنا بالتلقين والإيحاء وكيّ الوعي والمعادلات الوهمية التي تحوّلت إلى شيء مادي ملموس، وأن الحل بالتعامل مع هذا الآخر من الند للند ما سيدفع به إلى التراجع.
ولائيّة واعية
علاقة نجاد بالمرشد علي خامنئي يمكن تصنيفها بأنها علاقة ولائية واعية لا عمياء. يعتقد نجاد بأن المؤمنين الحقيقيين بالولي الفقيه يجب أن يكونوا أصحاب رأي لا أن يسيروا خلفه على غير بيّنة، على أن تبقى الكلمة الفصل بيد المرشد. أي صاحب رأي مطيع. وهو في ذلك يشبه رفسنجاني كثيراً، لكن مع فارقين: الأول، هو أن نجاد جاء من خارج المنظومة المؤسساتية التقليدية. والثاني، هو أن نجاد (هو الرئيس الوحيد الذي جاء بـ) لا جدول أعمال خاصاً به، بل أجندته هي نفسها أجندة المرشد. وصدف أن طريقة تنفيذه لهذه الأجندة كانت مريحة جداً لخامنئي. هو يعمل على الطريقة الإسلامية «الأفقية» (على نسق الولاة) لا الطريقة الغربية القائمة على الهرمية، التي اعتمدها الرؤساء السابقون الذين أقاموا تراتبية بالغة التعقيد ورثوها من عهود ما قبل الثورة. قيامتان... قيامة واحدة يزاوج نجاد بين الإسلام وإيران، ويؤمن بقيامتين لا تنفصل الواحدة منهما عن الأخرى. هو يدرك وجود نظريات متعددة في هذا الشأن: هناك المدرسة الإسلامية الصرف التي تقول بالقيامة الدينية. وهناك المدرسة القومية الصرف التي تقول بالقيامة القومية. وهناك مدارس تغلّب واحدة من هاتين القيامتين على الأخرى. غير أن نجاد يرى أن كل هذه المدارس غير حقيقية. هو يؤمن بقيامة واحدة من شقين متساويين في الأهمية: الدين والقومية. يقول بعدم إمكان فصل الإسلام عن إيران ولا إيران عن الإسلام.
مع المجموعة لا الفرد
لا يؤمن نجاد بكونه رئيس جمهورية يعاونه وزراء، بل يرى نفسه أقرب إلى أمير مجموعة يعمل بعضها مع بعض بتجانس وانسجام كاملين. حلقات مترابطة في ما بينها في إطار سلسلة لا يمكن فصل عراها. إن حصل وشذّ أحدهم عن المجموعة، في خططه أو إجراءاته أو سلوكه، فعليه أن يتركها فوراً، أن يستقيل من مجلس الوزراء، مهما كانت أخلاقه حميدة أو على علاقة جيدة بالرئيس. الحل على طريقة «نبقى أصدقاء لكن كل واحد في طريقه». من هنا، لا يؤمن نجاد بوجود وزير فاشل ووزير ناجح. يقول بمجموعة فاشلة أو مجموعة ناجحة. كذلك فإنه لا يؤمن بالمهمات المنفصلة. هو يحترم الاختصاص. لكنه يرى وجود مساحة مشتركة حيث الكل يتدخل في الكل. نظريته في الإدارة أقرب إلى نظرية «التسيير الذاتي». يعتقد بأن على المجتمع أن يسيّر ذاته بذاته من دون أن يلقي بكاهله على الدولة. من هنا، على جميع طبقات الشعب وفئاته المشاركة في تسيير شؤون الدولة من خلال دفع الضرائب وتحمّل الأعباء معاً على قاعدة الكل حسب قدرته. ومن هنا أيضاً، القول بضرورة رفع الدعم عن السلع والاستعاضة عنها بمساعدات نقدية مباشرة، لكل حسب حاجته. ولعل نجاد الرئيس الوحيد الذي تجرّأ على السير بمشروع رفع الدعم، الذي بدأ العمل به، بعدما فُتحت حسابات مصرفية لكل أفراد الشعب الإيراني الذي قُسّم إلى 10 فئات، من الأكثر عوزاً إلى الأكثر تخمة، سيخصص لكل منها كمية من الدعم المالي النقدي شهرياً. نظرية تتوافق مع الاتجاه العام للدولة، حيث رفع مجلس تشخيص مصلحة النظام مشروعاً بتخصيص 65 في المئة من المشاريع والمؤسسات العامة، فرفع النسبة المرشد علي خامنئي، في إشارة بخط يده على المشروع، إلى 85 في المئة.
إصلاحي... على طريقته
يرى نجاد أنه جاء ثائراً على وضع يجد أنه أصبح مترهلاً ومستسلماً لظروف الحصار الدولي. يتعامل معه كأنه حقيقة قائمة لا يمكن مقاومتها، بل يتعايش معها. وهو يمكن تصنيفه على هذا النحو من واقع أنه جاء متمرداً على الأحزاب الحاكمة وواقع احتكار السلطة من اليمين المحافظ واليسار الإصلاحي. لكن أبرز تجليات هذا المنحى عنده يظهر في موقفه من مسألة الشباب والحريات الاجتماعية. يعتقد نجاد أن هذه القضية ليست أمنية أو إرشادية أو وعظية، بل مسألة ثقافية. يقول عن النظام إنه إذا نجح في إشاعة ثقافة المصالحة الوطنية العامة بين الذات الفردية والذات الجمعية، فعندها لا يعود هناك من معنى لاستخدام القوة عن طريق مثيلات «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». منحى لا ينفي واقع أنّ منظمات حقوق الإنسان الدولية توجّه أقسى الانتقادات لإيران في شأن «انتهاكاتها للحريات العامة والحقوق الأساسية للإنسان».
السفارة الأميركيّة تحذّر رعاياهاقبل يوم من زيارة الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، لبيروت، خرجت السفارة الأميركيّة في بيروت عن صمتها، ودعت رعاياها في لبنان إلى «توخي الحذر» خلال الزيارة المرتقبة للرئيس الإيراني، محذّرة من إمكان حدوث أعمال عنف خلال الزيارة. وأبلغت السفارة الأميركيّة في بيان أرسل إلى المواطنين الأميركيين عبر البريد الإلكتروني، أن «السفارة تذكّر المواطنين الأميركيين بأن تجمّعات سلميّة يمكن أن تتطوّر إلى عنف وأن يمتدّ ذلك إلى أحياء مجاورة، حتى من دون إنذار مسبق»، في عبارة توحي بأن هناك من يعرف أن شيئاً ما سيحصل. وحثّت السفارة «المواطنين الأميركيين من الزوار والمقيمين في لبنان على توخي الحذر ومتابعة التقارير الإخباريّة وتفادي التجمّعات الكبيرة». ونصحتهم بأن «يأخذوا في الاعتبار سلامتهم قبل اختيار زيارة مواقع تجمعات شعبيّة، أو أماكن فيها عادة عدد كبير من الأشخاص». وأكّدت السفارة أنه يجب «توقّع حصول تجمعات شعبيّة (خلال زيارة نجاد) وعرقلة في حركة المرور، وخصوصاً في وسط بيروت والمنطقة المحيطة بمطار بيروت الدولي وجنوب لبنان». إلى تحذير السفارة الأميركيّة، الذي وصفه بعض السياسيين «بالمشبوه»، فإن التصريحات السياسيّة كانت مرحّبة بزيارة نجاد؛ فقد قال رئيس حزب الكتائب أمين الجميّل إن «نجاد يأتي بدعوة رسمية، ويهمّنا أن يكون لبنان على تواصل مع المحيط بسبب العلاقة بين بعض الفئات اللبنانيّة والخارج، لكن نتمنى من إيران أن تؤدي دوراً بحجمها، لا أن تنزل إلى التفاصيل والأزقة اللبنانيّة، ونطالبها بتعزيز الحوار والمصالحة اللبنانيّة والعمل من أجل كل لبنان، لأن هذا من شيم الكبار». وقد عقد رئيس الجمهوريّة ميشال سليمان سلسلة اجتماعات أمس مع عدد من معاونيه لوضع اللمسات والترتيبات الأخيرة على برنامج الزيارة التي تبدأ يوم الأربعاء وتستمر ثلاثة أيام. كذلك عُقد في وزارة الخارجية والمغتربين اجتماع بين الجانبين اللبناني والإيراني، تحضيراً للاتفاقيات المزمع توقيعها. ورأى نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أن زيارة نجاد تعبير عن الصداقة والدعم للبنان مقاومةً وجيشاً وشعباً ومؤسسات، وهذه الدعوة «جاءت بناءً على طلب من رئيس الجمهورية»، ما يعني برأيه، أن لبنان يرغب في زيارة الرئيس الصديق له، لتمتين العلاقات والصلات بين لبنان والجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة. و«الكل يعلم خدمات إيران في لبنان، والأعمال الصالحة التي قامت بها إيران في لبنان ولم تطلب شيئاً مقابلها. فهي عملت في البناء والإعمار والطرق، والآن قدمت عرضاً للمساعدة في معالجة مشكلة الكهرباء والماء بمقدار 450 مليون دولار، وسننتظر لنرى كيف سيتعامل لبنان مع هذا العرض السخي الذي قدمته إيران. وقبل ذلك قال إن إيران مستعدة لتسليح الجيش اللبناني إذا طلب ذلك، وبالتالي هناك عروض إيرانيّة ليس وراءها أي شرط أو طلب». وقال قاسم إن ما لفته هو أن الصراخ الكثير الذي علا ضد الزيارة من أميركا وأوروبا وإسرائيل والبعض الآخر من هنا وهناك «دليل على أن هذه الزيارة أهمّ بكثير مما كنا نعتقد، فعادةً الصراخ يكون ضد المهمّين، لا ضدّ من ليس له وزن، وهذا دليل على أن للزيارة منافع كثيرة تعود على لبنان». وسأل قاسم: «هل تلاحظون تدخّل العالم في شؤوننا في لبنان؟ أصبحوا يريدون أن يناقشوا الزيارات، وإذا أردنا أن نتسلح من مكان ما يعارضون، لا تريدون أن تسلّحوا ولا تريدون لغيركم أن يتسلّح، لماذا؟ لا تدعمون ولا تريدون لأحد غيركم أن يدعم؟». بدوره، رأى وزير الخارجية والمغتربين علي الشامي، أن زيارة نجاد للبنان تصبّ في إطار تعزيز العلاقات مع جميع الدول الصديقة أو الشقيقة، لأنه «ليس لدينا دولة عدوة إلا إسرائيل». وأكّد أنه «يحق للرئيس الإيراني الاتصال بمن يشاء وبأيّ فريق، ضمن القوانين اللبنانية، فنحن دولة ديموقراطية تحترم الحريات، ويحق له أن يزور أي منطقة في لبنان». وإذ رحب النائب السابق أسامة سعد بالزيارة، أعرب عن شكره وتقديره «للمواقف السياسيّة الحازمة التي تقفها إيران إلى جانب لبنان وسيادته واستقلاله في مواجهة التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية، وللمساعدات التي قدمتها لإعادة بناء ما دمرته إسرائيل خلال عدوان تموز 2006». ودعا سعد الحكومة إلى الموافقة على العرض الإيراني للمساعدة في إصلاح قطاع الكهرباء وتسليح الجيش. كذلك رحّبت جبهة العمل الإسلامي ولقاء أحزاب 8 آذار بالزيارة. ميدانياً، أعلنت العلاقات الإعلاميّة في «حزب الله» أن الاستعدادات اللوجستيّة لاستقبال الرئيس نجاد شارفت على الاكتمال، ولا سيما في الضاحية الجنوبية. أمّا المناطق الجنوبيّة، فإنها تعيش أجواء استقبال نجاد، حيث أقيمت الورش الإعلانية التي تعمل بكثافة لطباعة اللافتات المرحّبة بالضيف والرايات اللبنانيّة والإيرانيّة وأعلام حزب الله وحركة أمل.
عدد الثلاثاء ١٢ تشرين الأول ٢٠١٠ |صباح أمس، توقّف قلب المرجع الديني السيّد محمد حسين فضل الله، بعد معاناة مع المرض. وبالرغم من إذاعة أخبار تدهور صحّته في الأيام الماضية، إلاّ أن معظم محبّيه وجمهوره بدوا غير مصدّقين، بل كأنّهم لا يريدون لعلاقتهم اليوميّة به أن تتوقّف وتنتهي. وهم الذين كانوا يذهبون إليه ليهمسوا بأسرارهم أو ليطلبوا ما آمن به هو من أن المؤسسات تبعده عن منطق المنّة والعطيّة. أمس، غاب من تربّى عليه معظم قادة التيّار السياسي والديني «الشيعي»، وارتبط لفترة طويلة بحزب الله، مرشداً روحياً. وبالرغم من ذلك، وجد فيه كثيرون من مذاهب فكريّة ودينيّة أخرى عقلاً متنوّراً، محاورته ممكنة وضرورة، ومؤمناً بلا تعصّب، ومختلفاً مع دعوة إلى التفاعل والحوار. غاب المرجع الجريء حتى الإزعاج، الذي استطاع جعل التحرّك مع العصر، ومحاورة العلم والإفادة منه، أمراً لا يمكن تجاوزه في إنتاج الفكر الديني ولا في الإيمان ومعرفته.
محمد محسن الشوارع لا تنطق، لكنّ ملامحها تخبر عنها. هدوؤها لا يشبه لحظات الهدوء الأخرى. هو سكون الموت. الرجل الذي عرفته مساعداً لفقرائها، واحتضنها في أيامها العصيبة، رحل. الصراع مع البكاء كان مستحيلاً. لابتسامة السيد محمد حسين فضل الله، في صوره التي نشرت بعد نعيه، وقع مبكٍ على محبّيه، ربما كان أصعب من وقع خبر وفاته. اللحظة قاسية على كل من عرف السيّد. أيُعقَل أن يرحل في هذا الوقت الحسّاس؟ لقد استعجل الرحيل. سرقه المرض خلسة. أمس، كان الألم غزيراً، والوجوه لم تحتج إلى ضوءٍ يفضح وجعها. في مسجد الإمامين الحسنين بحارة حريك، لا مساحة لشيء غير الحزن، حيث تُلي بيان نعي العلامة السيد محمد حسين فضل الله، بعدما توفي عند التاسعة والنصف صباحاً. ينتحب الحاضرون في قاعة الزهراء. كأنهم يرفضون سماع الخبر. لم يعهدوا على هذا المنبر خطيباً غير السيّد، فكيف به يتحول منبراً ينعاه؟ عند الحادية عشرة والنصف ظهراً أعلن رسمياً وفاة المرجع الديني البارز. حضر مراسلو وسائل الإعلام وفعاليات سياسية ودينية واجتماعية. وانسجاماً مع تقاليد المرجعيّة الشيعية، بألّا ينعى المرجع إلا عالم دين مجتهد، تلا وكيل فضل الله الشرعي في البحرين، وكبير الموظفين في مكتب مرجعيته السيد عبد الله الغريفي بيان النعي. إلى جانبيه، جلس النجل الأكبر لفضل الله، السيّد علي، ومدير مكتبه الإعلامي هاني عبد الله. وعرض البيان مراحل حياة فضل الله من دعمه لحركات المقاومة، مروراً بفكره الوحدوي الإسلامي وإيمانه بالحوار مع الآخر، وصولاً إلى مساعدته الفقراء والمستضعفين.
لولا غياب السيد حسن نصر الله، لكان حضور قيادات حزب الله كاملاًاستقبلت عائلة السيّد المعزّين في الباحة الخارجيّة للمسجد. اصطفّ أخوه وأبناؤه لتلقي العزاء. يتمنّى المنشد الديني محمد رمال على المعزين الاقتصار على التسليم باليد فسحاً للمجال أمام الحشود. بدأ توافد الشخصيات الرسمية منذ اللحظات الأولى للعزاء. لحزب الله الحصة الأكبر من المعزّين. فلولا غياب السيد حسن نصر الله، لكان حضور قيادات الحزب كاملاً. كيف لا وكثيرون منهم من تلامذته الأوائل، ينتمون إلى الرعيل الأول المؤسس للحزب، الذي ربطته علاقات حميمة وعمل جهادي مشترك مع فضل الله. بدا التأثر واضحاً على وجهي الشيخ نعيم قاسم والنائب حسن فضل الله. فالأول كان من تلامذة السيد لفترة، يوم كان أستاذاً للكيمياء. أما الثاني فهو ابن قريته عيناثا وقريبه. أمّا النواب نواف الموسوي وعلي فياض ومحمد فنيش فكانوا من مقربيه وتلامذته. أجهش النائب محمد رعد بالبكاء أكثر من مرّة. وقف والد الشهيد عماد مغنية يتلقّى العزاء ويمسح دموعه. فابنه جهاد كان من بين شهداء متفجرة بئر العبد التي استهدفت فضل الله في عام 1985. أمّا عماد، فكان قائد فرقة الحماية الشخصية الأولى لفضل الله. كان التأثر واضحاً على نجل فضل الله الأكبر علي. أمّا نجله جعفر، فقد تولّى التواصل مع الصحافيين. وفي حديث مع «الأخبار» نقل السيد جعفر أن «آخر كلمة للسيّد قبل وفاته كانت: لن أرتاح قبل زوال إسرائيل». وفيما سرت شائعات عن إجراءات لدفن السيّد في مدينة النجف بالعراق، أكد بيان لمكتبه أن السيّد سيدفن غداً في صحن مسجد الإمامين الحسنين. وكان الرؤساء الثلاثة قد نعوا الراحل الكبير، فرأى الرئيس ميشال سليمان أن غياب السيد فضل الله «خسارة وطنية لشخصية تميزت بالعقل المتنور والمنفتح». أمّا الرئيس نبيه بري، فقد رأى أن الأمتين العربية والإسلامية تفتقدان «داعية من طلائع الدعاة إلى الوحدة الإسلامية، وصوتاً مدوياً من أجل نصرة قضايا الحق والعدالة ومقاومة الظلم والعدوان». من جانبه، رأى الرئيس سعد الحريري أن لبنان «يخسر مرجعية وطنية وروحية كبرى، أسهمت إسهاماً فعالاً في ترسيخ قيم الحق والعدل لمقاومة الظلم». كذلك نعاه السيّد حسن نصر الله، قائلاً: «فقدنا أباً رحيماً ومرشداً حكيماً وكهفاً حصيناً وسنداً قوياً في كل المراحل». ونعاه حزب الله وحركة أمل، والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي جاء في بيانه: «برحيله تفتقد الأمة الإسلامية رمزاً من الرموز العاملين على التقريب بين المذاهب». أمّا مفتي الجمهورية، الشيخ محمد رشيد قباني، فرأى أن لبنان والعالمين العربي والإسلامي فقدوا بوفاته «علماً وعالماً كبيراً من فقهاء المسلمين، له مكانته ودوره في خدمة الإسلام». وأبرق النائب البطريركي للروم الملكيين الكاثوليك المتروبوليت يوحنا حداد معزياً. كذلك نعاه نائب الرئيس العراقي المنتهية ولايته عادل عبد المهدي. إلى ذلك، نعى فضل الله كل من الرؤساء سليم الحص، نجيب ميقاتي، حسين الحسيني، وكامل الأسعد. ومن بين من نعاه أيضاً: الوزير غازي العريضي، والنواب: عمّار حوري، ياسين جابر، علي عسيران، محمد قباني، أسعد حردان، وليد سكرية، والوزير السابق فوزي صلوخ، والنائب السابق فيصل الداود. كذلك نعى فضل الله كل من الشيخ عفيف النابلسي، الشيخ نعيم حسن، الشيخ نصر الدين الغريب، الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية اللبنانية، جبهة العمل الإسلامي، الحزب العربي الديموقراطي، حزب رزكاري، الأمين العام للجماعة الإسلامية، تجمع العلماء المسلمين في لبنان.
74 عاماً من العطاء والمقاومة ولد السيد محمد حسين فضل الله في النجف الأشرف في العراق، في تشرين الثاني عام 1935. بدأ دراسته للعلوم الدينية في سنّ التاسعة، وكان من الطلاب البارزين، ما جعله يحوز ثقة المرجع الخوئي، فكانت وكالته المطلقة له في الأمور التي تناط بالمجتهد العالم. عاد إلى لبنان عام 1966، وأسّس حوزة «المعهد الشرعي الإسلامي» في منطقة النبعة، مكوّناً بذلك نقطة البداية لكثير من طلاب العلوم الدينية. مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية انتقل إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، وكان موقفه واضحاً بشأن دعم المقاومة المسلّحة ضد الاحتلال الإسرائيلي. تعرّض لمحاولات اغتيال عدّة، أبرزها كانت عام 1985 عندما استهدفته سيارة ملغومة في بئر العبد. حركته الشاملة جعلت قطاعات واسعة من الشباب تطالبه بالإفتاء، إلّا أنه لم يوافق إلّا بعد رحيل الصف الأول من مراجع التقليد الشيعي في العالم. وقد أثارت أفكاره واجتهاداته الفقهية جدلاً واسعاً في الساحة الإسلامية، وخصوصاً أنّ السيّد امتلك الجرأة العلمية على طرح نظريّاته الفقهية عندما يتوصل إلى قناعة ثابتة بها. آمن بالعمل المؤسساتي، فأسّس جمعية المبرّات الخيريّة التي احتضنت الأيتام في مناطق متعدّدة من لبنان، كما دعم رعاية الأيتام في الأسر. اهتمّ بذوي الاحتياجات الخاصّة من خلال «معهد الهادي للإعاقة السمعيّة والبصرية»، وأنشأ مستشفى بهمن في حارة حريك، ودعم إنشاء العديد من المؤسسات الاجتماعية والتربوية في دول الاغتراب. كاتب غزير الإنتاج، له أكثر من 40 كتاباً عن الإسلام والفقه والسياسة والمرأة، إضافةً إلى الشعرنقولا ناصيف ماذا يحدث بين فرنسا والفريق الشيعي في لبنان؟ أوحت طرحَ هذا التساؤل وطأةُ الجدل العالي النبرة الذي يقوده رئيس المجلس وحزب الله حيال الاتفاق الأمني مع الحكومة الفرنسية، بعد جدل مماثل على اتفاق أمني مشابه مع الولايات المتحدة توقف بعدما وُضع بين يدي رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وقد رجّح الفريق الشيعي موقفه بين تعديل الاتفاق أو إلغائه. تبعاً لمصادر دبلوماسية معنية، ليس لدى باريس تفسير واضح للحملة المتنامية لحركة أمل وحزب الله عليها منذ الحوادث الأخيرة بين اليونيفيل والحزب وأهالي بلدات جنوبي نهر الليطاني. ووفق المصادر نفسها، يتركز موقف باريس من الحملة المزدوجة هذه على المعطيات الآتية: 1ـــــ عند اندلاع الصدام بين اليونيفيل والأهالي في 29 حزيران و30 منه، بدا الاعتقاد أنه موجّه إلى اليونيفيل بكتائبها كلها، عندما غضب الأهالي من مناورات جنودها، وكلها تعرّضت لاعتداءاتهم، ولم يُوحَ بأن فرنسا مستهدفة إلا في أحداث 3 تموز و4 منه عندما طاولت الاعتداءات وردود الفعل الجنود الفرنسيين في تولين. 2ـــــ شعرت باريس بأن المواجهة التي استهدفت الكتيبة الفرنسية كانت منظمة بدراية، خلافاً لما كان قد ذكر أنها عفوية وناجمة عن ردّ فعل ليس إلا، ولم تعكس سوى انزعاج الأهالي أو استيائهم من تدبير إجرائي ما كالمناورات والدوريات التي أجراها الجنود الفرنسيون. 3ـــــ لم يتجاوز الجنود الفرنسيون صلاحياتهم المنصوص عليها في القرار 1701 الذي يحفظ لهم حرّية تحرّكهم، وهو ما أورده لاحقاً (الجمعة 9 تموز) بيان مجلس الأمن، إذ أكد التمسّك بممارسة الصلاحيات تلك، ولم يتبيّن أن باريس كانت تعتزم تغيير قواعد الاشتباك. 4ـــــ حتى قرار مجلس الوزراء اللبناني (الخميس 8 تموز)، شكت اليونيفيل من نقص كبير في عديد الجيش الذي كان قد أصبح 3500 ضابط وجندي، بينما القرار 1701 يتحدّث عن نشر 15000 ضابط وجندي من الجيش كانوا متوافرين عام 2006 عند وضع قرار مجلس الأمن موضع التطبيق، ثم تناقصوا لأسباب شتى. وذلك يشير إلى تقييد في مهمة اليونيفيل التي لم يعد يسعها التحرّك مع الجيش بسبب هذا النقص، ما حتّم ـــــ تنفيذاً لمهمتها المنصوص عليها في القرار 1701ـــــ إجراء دوريات تقتصر على جنودها. إلا أن قرار الحكومة اللبنانية إرسال لواء رابع لسدّ هذه الثغرة، البالغة الحساسية، من شأنه تسهيل عمل الجنود الدوليين وتحريك دورياتهم في القرى بالتنسيق مع الجيش. مع ذلك، رغم ما قيل، لم يُرسل حتى الآن اللواء الرابع إلى جنوبي نهر الليطاني. 5ـــــ لا يسع القوة الدولية البقاء في ثكنها بسبب نقص عديد الجيش أو بسبب رفض الأهالي تحرّكها، وهي المعنية مباشرة بتنفيذ القرار 1701. وهي لم تأتِ إلى لبنان كي تلزم ثكنها، بل لمنع أي وجود مسلح غير شرعي في منطقة عملياتها كقوة مؤازرة للجيش وحماية الجنوب والأهالي، باتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق أهداف دورها جنوبي نهر الليطاني. من ضمن مهمتها هذه الوقوف في وجه إسرائيل إذا حاولت اجتياز الخط الأزرق والاعتداء على منطقة عمليات القرار 1701. 6ـــــ لفرنسا 1500 جندي، وإيطاليا 1700 جندي، وإسبانيا 2000 جندي، وهي الدول الأوروبية الرئيسية المكلّفة تنفيذ القرار 1701، المصرّة على المحافظة على صدقية دورها وسمعتها، وتمثّل بالنسبة إلى لبنان ضماناً أكيداً وحقيقياً لحمايته من أي اعتداء إسرائيلي على أراضيه، نظراً إلى علاقاتها الوثيقة بإسرائيل التي تحول دون إقدام هذه على التعرّض لجنود هذه الدول، ولأنها في صدارة خطوط المواجهة، الأمر غير الممنوح للجنود الآسيويين الذين لا يحظون في مواجهة الدولة العبرية بمثل هذا الامتياز. بذلك لا مصلحة لحزب الله، ولا للأهالي، في تجريد أنفسهم من ضمان كهذا. مع ذلك بلغت جنود الدول الثلاث هذه، والفرنسيين خصوصاً، تنبيهات وإنذارات شتى في مناسبات مختلفة أوحت بأنهم قد يقعون رهائن في يد حزب الله في منطقة عمليات القرار 1701. إلا أن القرار الثابت لحكوماتهم هو تأكيد التزامهم تطبيق إرادة المجتمع الدولي واستمرار مهمتهم في جنوب لبنان حفاظاً على استقراره وإرساء علاقة ودّية مع السكان. 7ـــــ أبلغ حزب الله الفرنسيين أنه لم يكن معنياً بالمواجهة مع الأهالي، وقد وصفها بأنها تحرّك عفوي، فيما تأكد لباريس أن ما حدث لم يكن على هذه الصورة، وعدّت تلك الحوادث لعبة خطيرة، وخصوصاً إذا رمت إلى حصر الجنود الدوليين في ثكنهم وشلّ مقدرتهم على التحرّك والمبادرة. مع ذلك انتهى الأمر بقرار مجلس الوزراء تعزيز الجيش في الجنوب، وببيان مجلس الأمن تأكيد حرية تحرّك اليونيفيل. لكنّ حزب الله لم يقدّم للقوة الدولية ضمانات بعدم تكرار ما حدث. أضف أن باريس شعرت بخيبة أمل من الحكومة اللبنانية التي تأخرت أكثر من أسبوع للاجتماع ووضع حدّ لما حصل، وملء الثغرة الأمنية التي كانت أحيطت علماً بها مراراً بتعزيز نشر الجيش هناك. 9ـــــ لم يخطر في بال باريس أي ربط بين التعرّض لليونيفيل وبين العقوبات الدولية على إيران التي اضطلعت فرنسا بدور أساسي في تحقيقها، ولا بدا لها أن الحزب يتوخى الربط بين الأمرين في محاولة للضغط عليها من خلال القرار 1701 وجنودها كردّ فعل على تلك العقوبات. إلا أن الموقف غير المبرّر لحزب الله من الاتفاق الأمني مع فرنسا وحملته القاسية عليه، بعد حملة سابقة على الاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة، يُرجّح أن يكون قد تعمّد إحداث مثل هذا الربط. 8ـــــ تشعر باريس، بعد التطورات الأخيرة، بأنها واقعة تحت نظر حزب الله وحذره. بالتأكيد لا يتملّكها أي شعور بالتهديد، إلا أن ذلك لا يحجب قلقاً مشروعاً، في وقت لم ينقطع فيه الحوار بينها وبين حزب الله.
لم تحصل فرنسا من حزب الله على ضمانات وخاب أملها في الحكومةلا تشعر الكتيبة الفرنسية بأنها مهدّدة من حزب الله، لكنها تحت ناظريه
10ـــــ تميّز باريس اتفاقها الأمني مع لبنان عن الاتفاق الأمني بين لبنان والولايات المتحدة. فالأخير تولّته حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2007 في ظروف داخلية بالغة التعقيد بعد استقالة الوزراء الشيعة الخمسة منها، ما أفقد الاتفاق إجماع السلطة الإجرائية، بينما الاتفاق الأمني مع فرنسا أعدّته حكومة الرئيس سعد الحريري، وهي حكومة وحدة وطنية لا تفتقر إلى أي من مكوّناتها الأساسية على غرار حكومة السنيورة، وأقرّته في مجلس الوزراء بالإجماع في حضور وزراء حركة أمل وحزب الله، من غير أن يثير أحد منهم مسألة تعريف الإرهاب، ولا سجّل مآخذ عليه، وتصرّف حياله كأي اتفاق عقدته حينذاك. 12ـــــ التعاون الأمني الفرنسي ـــــ اللبناني قائم منذ ما قبل هذا الاتفاق، وبمعزل عنه، فضلاً عن وجود اتفاق مماثل بين البلدين عام 1993، إبان حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري. ولا يعدو الاتفاق الحالي، في نظر باريس على الأقل، كونه إطاراً مؤسسياً لتعاون قديم ومتين وحيوي يرمي إلى تنظيم عناصره، ويشمل مساعدات وتبادل معلومات وخبرات وتأهيل أجهزة وقطاعات، الأمر الذي يبرّر الاستغراب حيال إثارة مشكلة غير قائمة، وتوجيهها في منحى لا يتوخاه الاتفاق، الرامي إلى تثبيت تعاون البلدين وتطويره وتعزيزه. 13ـــــ تتصرّف باريس حيال الجدل السياسي الدائر حول الاتفاق الأمني بأنها غير معنية به. فهو أولاً بين يدي البرلمان الذي لم يتخذ بعد قراراً نهائياً في شأنه، ولا يزال في عهدة اللجنة النيابية المختصة التي طار نصاب انعقادها الأخير قبل ذهاب الاتفاق إلى الهيئة العامة. وهو معلّق ثانياً بين مُطالب باستعجال إقراره وآخر بتعديله، بينما هو معاهدة بين دولتين غير قابلة للتعديل من طرف واحد، فإما يؤخذ كما هو أو يُنبذ كما هو. وقّعه وزيرا الداخلية في البلدين برايس هورتيفو وزياد بارود في 21 كانون الثاني الماضي تحت ناظري رئيسي حكومتي البلدين فرنسوا فيون وسعد الحريري. 11ـــــ تعتقد باريس بأن الفريق الشيعي افتعل مشكلة غير موجودة أساساً. لا الاتفاق الأمني يقدّم تعريفاً للإرهاب ملزماً للحكومة اللبنانية، ولا يورد لائحة بأسماء منظمات إرهابية مكتفياً بالحديث عن مكافحة الإرهاب، ولا يعدّ حزب الله تنظيماً إرهابياً. ومنذ عهد الرئيس السابق جاك شيراك بذلت فرنسا جهوداً أساسية للحؤول دون إدراج اسم حزب الله على لائحة الاتحاد الأوروبي للمنظمات التي يعدّها إرهابية، خلافاً لإرادة بعض الدول الأوروبية التي تمسّكت بإضفاء هذه الصفة عليه. وتحرص باريس على التأكيد دائماً أنها تميّز حزب الله عن حركة حماس التي تعدّها منظمة إرهابية أُدرِج اسمها في لائحة الاتحاد الأوروبي. مع ذلك، فإن في وسع الحكومة اللبنانية، عند تطبيق الاتفاق الأمني، التأكيد أنها لا تتفق مع الحكومة الفرنسية على إجراء يتصل بتناقض موقفيهما من الإرهاب والمنظمات الإرهابية المدرجة في لائحة الاتحاد الأوروبي.
الاتفاقيّة الأمنيّة تفتح الشبّاك لإسرائيلباريس ــ بسّام الطيارة على إيقاع دخول ملف الاتفاق الأمني بين فرنسا ولبنان في مرحلة الشكوك، وقعت الدبلوماسية الفرنسية فريسة التردد والتعتيم. الناطق الرسمي لوزارة الخارجية، وصف لـ«الأخبار» الاتفاق الموقّع في ٢١ كانون الثاني الماضي بين بريس هورتوفو وزير الداخلية ونظيره زياد بارود تحت عنوان «الأمن الداخلي والأمن المدني واللامركزية»، بأنه «كلاسيكي» مماثل لما وقّعته فرنسا مع عدد من البلدان. واستطرد بأنه ينصّ على أنماط تقنية في مكافحة «الجريمة المنظّمة ومجالات أخرى للأمن الداخلي والمدني أو إدارة الأزمات وتنظيم الإدارة المحليّة اللامركزية». تذكّر الاتفاقيّة بمشروع قانون رقم ١٨٩٢ الذي أحيل على لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية العموميّة لدراسته في ٩ تشرين الأول السنة الماضية بشأن «اتفاق أمني مع إسرائيل» تحت عنوان «مكافحة الجريمة والإرهاب» وقّعه رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي في ٢٣ حزيران ٢٠٠٨. ويشير تقرير اللجنة التي ترأسها النائب روبير لوكو إلى وجود كلمة «إرهاب ٣٤ مرة». وإذ يصف البندُ الأول من الفقرة التمهيدية «التعاون الأمني مع دولة إسرائيل» بالـ«مهم خصوصاً»، يرى الفصل الأول الـ«وضع الأمني» في إسرائيل «صعباً»، وينطلق من أن دولة إسرائيل «معرّضة بشدة للإرهاب». ثم يشير مشروع القانون إلى الـ«تعاون القائم بين أجهزة الشرطة»، ويؤكد أن هذا الاتفاق سيعززه ويعطيه إطاراً قانونياً. ويرى خبير في الشؤون الأمنية، طلب عدم ذكر هويته، أن «الدخول إلى الإرهاب من باب الأمن الداخلي» يفسح المجال أمام إسرائيل لملاحقة أي عناصر تشك في أنهم يمثّلون «تهديداً لأمنها الوطني». ويكشف الخبير أن التعاون «موجود أصلاً وليس على مستوى تبادل المعلومات فحسب». وقد طرح أكثر من نائب خلال مناقشة المشروع أسئلة عن التعريف الإسرائيلي للإرهاب. وفيما دعا أكثر من نائب فرنسي إلى عدم إقحام بلادهم في مسألة «بسط الأمن ضمن مجموعات سكانية» تطالب بحقوقها، لم يتردد النائب جان بول لوكوك في طلب الامتناع عن التصويت في اللجنة. يختلف الأمر بالنسبة إلى لبنان، بحسب المصادر ذاتها التي ترى أن مرور هذا القانون «بحلته الحالية» من الجمعية العمومية سيحظى بدعم مكثّف من جميع الأطراف السياسية، منهم من يرى أنه يسهم في حماية لبنان، ومن يرى أنه يسهم في تجفيف منابع الإرهاب في شمالي إسرائيل. ويرى الخبير أن ما يهمّ الدوائر الإسرائيلية من توقيع الاتفاقات الأمنية بين البلاد الموقّعة معها على اتفاقات تعاون أمني هو «شبك المعلومات» عبر الأنظمة الجديدة التي باتت توفرها التقنيات الجديدة، وبالتالي يصبح في إمكان السلطات الإسرائيلية متابعة ملاحقات واهتمامات الشرطة الفرنسية «عبر اتفاقاتها مع الدول الأخرى»، وبثّ «إضبارات بحث أو تقارير تقويمية ودراسات» تتوزع في كامل الشبكات المترابطة وتوجّه نوعاً ما عمل الشرطة الفرنسية والدول المتعاملة معها. وعلمت «الأخبار» أن «إسرائيل تستعد لتوقيع عقد مع الشرطة الأوروبية أوروبول» يفتح أمامها شبكات المعلومات الأوروبية، بما فيها طلبات الفيزا.
عدد الجمعة ١٦ تموز ٢٠١٠على وقع استمرار الحرب الكلاميّة الداخليّة، واصل رئيس الجمهورية ميشال سليمان، أمس ولليوم الثاني على التوالي، لقاءاته مع عدد من المسؤولين ورؤساء الكتل النيابية، «بهدف تمتين الوحدة الوطنية لدرء الأخطار التي يمكن أن تتأتّى عن تزاحم الملفات في المنطقة، وخصوصاً أن نيات العدو الإسرائيلي لخربطة الأوضاع على الساحة اللبنانية لم تعد خافية على أحد»، بحسب ما ذكر المكتب الإعلامي للقصر الجمهوري. وذكر المكتب أن سليمان التقى أمس: الرئيس أمين الجميّل، رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية والوزير بطرس حرب، وتشاور مع كل منهم «في التطورات وسبل تحصين الوضع الداخلي والتحاور الهادئ والعقلاني لمنع أي انعكاسات سلبية خارجية على الساحة الداخلية». ورغم هذه اللقاءات الهادفة إلى الحثّ على التحاور الهادئ، استمرت موجة الانتقاد للخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله، وأبرزها أمس، كان للنائب أنطوان زهرا الذي حاول أن يوظف لقاءات سليمان في إطار ما يريده فريقه، عبر قوله إن من الضروري أن يعيد رئيس الجمهورية «ضبط أصول التعاطي، وأن يبلغ من يعنيه الأمر أن في هذا البلد مؤسسات ولا يستطيع أيّ كان مهما بلغ شأنه أن يصنّف الناس ويعطي توجيهاته ويرسم السياسات ويلزم كل الآخرين بها». ودافع عن المحكمة الدولية، معتبراً أن «نقص الأدلة بالاتهام هو سبب إطلاق الضباط الأربعة، وعندما ستوجّه المحكمة الاتهام، سيكون لديها الأدلة والوقائع». ورأى أن «أدوات التفجير في المنطقة هي إسرائيل وحزب الله، وهما يملكان السلاح، فيما الآخرون يدعون إلى التعقل». وقال النائب عمار حوري إن مواقف نصر الله «أخذت البلد إلى جو متشنج، وخطوة الرئيس سليمان أتت في الاتجاه الصحيح، ويُفترض التجاوب معها من خلال تهدئة الخطاب السياسي». ورأى أن المحكمة «أصبحت في الاتجاه الصحيح، ولنتركها تعمل، وسنقبل نتائجها مهما كان الثمن، ولن نتراجع عن هذا الموقف». وفي ما خص ردود قادة حزب الله على منتقدي خطاب نصر الله، قال الوزير حسين الحاج حسن، إنها جاءت «رداً على تصريحات الجوقات المنظمة، وخصوصاً تلك التي طالت كلام سماحة الأمين العام صاحب الصدقيّة العالية والموقف الوطني المسؤول»، مضيفاً أن «كل ما يطرح هو من منطلق المسؤولية الوطنية والحرص على الاستقرار في البلد، لكنّ هناك أموراً يجب أن توضح، ومواقف يجب أن تؤخذ، ومسؤوليات يجب أن يحملها جميع الشركاء في الوطن». وانتقد الحاج حسن الذين «انبروا للتخفيف من خطورة العمالة للعدو الإسرائيلي»، مشيراً إلى أن «هذا المنهج السياسي أوجد بيئة سياسية تشكك في قضية العمالة». وطالب «بعض الجهات، التي كانت قد صرحت بضرورة انتظار نتائج التحقيقات القضائية بهدف التخفيف من أهمية القضية، بإصدار بيان رسمي في موضوع هؤلاء العملاء»، لافتاً إلى «أن حزب الله لا يدعو إلى استباق الأحكام، لكن لا بد من التشدد فيها وإنزال أقصى العقوبات في حق هؤلاء العملاء». وقد زار وفد من حزب الله، أمس، رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني، كمال شاتيلا، الذي رأى أن خطاب نصر الله «كان محاضرة عالية المستوى في تحصين الأمن الوطني، لا أمن المقاومة والحزب فقط، إذ أوضح الأخطار التي تتربص بلبنان»، مشيراً إلى أن «هناك جهات عالية المستوى متورطة، ونحن نصرّ على استكمال التحقيق وتوفير الحصانة للمحققين، إن كانوا عسكريين أو مدنيين لكشف هؤلاء العملاء».
لم يُنتخَب رؤساء ونواب رؤساء المجالس البلدية في قضاءي صور والزهراني باستثناء تلك الفائزة بالتزكية، وذلك بسبب صدمة النتائج لدى حركة أمل خصوصاً، في كثير من البلدات لناحية خسارتها نسبة كبيرة من المقاعد البلدية. وعلم أن الاجتماع الذي عقد أول من أمس بين المعاونين السياسيين للرئيس نبيه بري والأمين العام لحزب الله، النائب علي حسن خليل وحسين الخليل، وحضره مسؤولو المناطق والأقاليم في الجنوب لدى الطرفين، خصص لمعالجة هذه المشكلة.
جريدة الاخبار
بين «تغييرالاتجاه»، الذي تطلّعت إليه تل أبيب في عدوان تموز ــ دون أن تدركه، و«تغيير وجه المنطقة» الذي يعد به الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في أي حرب مقبلة تشنها إسرائيل، خيطٌ رفيعٌ في المعنى ومسافة شاسعة في المفهوم
محمد بدير عشية الثاني عشر من تموز 2006، عندما قررت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع الرد على عملية الأسر التي نفذتها المقاومة في منطقة حدب عيتا، أطلق الجيش على العملية العسكرية التي باشر بشنها في الليلة نفسها اسم «الجزاء المناسب». قرار الحكومة آنذاك نصّ على «الرد بالشدة اللازمة... بطريقة عنيفة وقاسية على منفذي الهجوم والجهات المسؤولة عنه» من دون أن يحدد إطاراً زمنياً لهذا الرد أو يتطرق إلى الأهداف المطلوب تحقيقها أو شروط إنهائها. في اليوم التالي، الثالث عشر من تموز، اتخذت قيادة الجيش قراراً بتبديل اسم العملية وحوّلته إلى «تغيير الاتجاه». في حينه، أشارت المصادر الإسرائيلية إلى أن هذا التغيير ينطوي على دلالات تتجاوز الجانب الشكلي وتتصل بطموحات استراتيجية أريد التعبير عنها من خلاله. إذ فيما كانت المعاني التي يعكسها اسم «الجزاء المناسب» تقتصر على الإيحاء ببعد «ردّيٍ» ضد المقاومة، الغاية منه معاقبتها على عمليتها، يذهب «تغيير الاتجاه» نحو أبعد من ذلك ليشير إلى ارتباط ما يقوم به الجيش بأبعاد لها علاقة بإعادة رسم المعادلات وموازين القوى الاستراتيجية في المنطقة، وهو الأمر الذي وجد تعبيره لاحقاً في تصريح وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، حول «الشرق الأوسط الجديد». هذه الطموحات تبلورت في صيغتها الأولية عبر أهداف الحرب التي حددها أمر العمليات الذي أصدره قائد أركان الجيش، دان حالوتس، مساء اليوم نفسه، وجاء ضمنها: تعميق الردع الإسرائيلي في المنطقة (اقرأ: تطويع الاستعصاء السوري)، تطبيق قرار مجلس الأمن 1559 (القضاء على المقاومة في لبنان)، تقليص تأثير حزب الله على الساحة الفلسطينية (تطويق الانتفاضة وخنقها)، وفي أسفل اللائحة تمت الإشارة إلى «إيجاد الظروف المناسبة لإعادة الجنديين الأسيرين». بعد ثمانية عشر يوماً من اندلاع الحرب، لخّص رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، في خطاب ألقاه أمام الكنيست، الرؤية الإسرائيلية لأهداف العدوان بالقول «إن الشرق الأوسط بعد الحرب لن يكون كما كان قبلها». نبوءة أولمرت هذه هي الشيء الوحيد ـــــ من أدبيات الرجل ـــــ الذي يُجمع عليه الإسرائيليون في قراءة واقع ما بعد «حرب لبنان الثانية»، وإن كان تفسيرها ينحو نحواً معاكساً لما عناه.
إنجاز الحرب ومفارقة الردع
تقلّبت التقديرات الإسرائيلية كثيراً بعد عدوان تموز قبل أن تستقر منذ وقتٍ غير بعيد على الاعتقاد بوجود جملة من الإنجازات التي نجحت الحرب في تحقيقها. فخلال الفترة التي تلت وقف إطلاق النار مباشرة، ساد إسرائيل وجومٌ جارفٌ من التداعيات السلبية التي خلفتها نتائج الحرب، والتي أفضت إلى بداية تبلور بيئة استراتيجية جديدة تذكر كل يوم بالتصدع الكبير الذي لحق بقدرة الردع الإسرائيلية وتعكس الاختلال الواضح الذي أصاب موازين القوى بين مشروعي الاحتلال والمقاومة. ويمكن المرء أن يقف بسهولة على تصريحاتٍ لمسؤولين إسرائيليين تُنَظِّر لهذا المعنى، لعل أبرزها ما جاء على لسان زعيم المعارضة في حينه، رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو، الذي رأى (في محاضرة ألقاها أمام معهد بيغين السادات بجامعة بار إيلان) أن النتائج التي تمخضت عنها «حرب لبنان الثانية» أعادت إسرائيل أربعين عاماً إلى الوراء، أي إلى ما قبل حرب حزيران 1967، حين كان السؤال الوجودي لا يزال يظلل الكيان اليهودي الناشئ في فلسطين، وكان العرب لا يزالون يعتقدون أن الانتصار عليه أمر لا يدخل ضمن نطاق المستحيل. واستطراداً، يمكن الإشارة إلى اللقاء «السري» الذي كشفت عنه الصحف الإسرائيلية بُعيد الحرب بين أولمرت وقادة الأجهزة الأمنية (الشاباك والموساد) الذين أطلعوه فيه على تقديرهم لنتائج الحرب التي رأوا فيها «كارثة وطنية تلقت إسرائيل فيها ضربة قاصمة».في وقت متأخر (منتصف عام 2008) استفاقت إسرائيل على مفاعيل إيجابية عَزَتها بأثر رجعي للحرب، عنوانُها النجاح في ردع المقاومة في لبنان عن المبادرة إلى عمليات عسكرية عبر الخط الحدودي، الأمر الذي أنتج فترة من الهدوء على الجبهة اللبنانية «هي الأطول منذ ثلاثين عاماً»، كما يطيب للمسؤولين الإسرائيليين أن يكرروا. وفي تمحيصها لمرتكزات هذا الردع، استنتجت النخبة العسكرية والسياسية في إسرائيل أنها تكمن في حجم الرد التدميري المفاجئ وغير المسبوق الذي أنزلته آلة الحرب الإسرائيلية بالبُنى التحتية والمساحات العمرانية المدنية اللبنانية، والذي كان بدرجة من الشدة والشراسة أدت إلى «كي وعي» المقاومة عن التفكير في التحرش بإسرائيل خشية التعرض «لجنونها». لاحقاً، أخذ هذا التلويح بالجنون قالباً مفهومياً في الأدبيات الإسرائيلية أُطلق عليه «عقيدة الضاحية».تأسيساً على «عقيدة الضاحية»، سعت إسرائيل إلى استغلال تعقيدات الموقف الذي تعيشه المقاومة داخلياً من أجل تكريس قواعد لعبة جديدة معها تكون بديلة من تلك التي كانت سائدة قبل الحرب وتحطمت بفعلها.ومن المعلوم أن قواعد اللعبة قبل الحرب كانت راجحة لمصلحة المقاومة التي تمكنت من الاحتفاظ بحق المبادرة إلى تنفيذ عمليات فيما كان العدو ـــــ تحت وطأة الخشية من الانجرار إلى فتح جبهة ثانية لا يريدها ـــــ متموضعاً في خانة الانكفاء ضمن ما سمّي «سياسة الاحتواء» ويكتفي غالباً بردود تحفظ ماء الوجه. أما في مرحلة ما بعد عدوان تموز، فإنّ أداء العدو يشير بوضوح إلى أنه مدفوع بهاجس الحرص على عدم تكرار سابقة ما قبل الحرب لجهة التسليم بدونيته العملانية أمام المقاومة والانصياع لرادعيّتها. وما الردود المدفعية التي حرص الجيش الإسرائيلي على تثبيتها عقب كل واحدة من حوادث إطلاق الصواريخ السبعة من الجنوب باتجاه شمال فلسطين على مر الأعوام الأربعة الأخيرة، إلا دليل على هذا التوجه الإسرائيلي الجديد.بل يمكن القول إن إسرائيل تعمل على إعادة إنتاج سياسة احتواء جديدة معاكسة لنسخة ما قبل الحرب، بحيث تكون هي في موقع المبادرة، والمقاومة في موقع الانكفاء. ولعله يمكن تفسير سلسلة من العمليات الأمنية والعسكرية التي أقدمت عليها إسرائيل خلال السنوات الماضية ضمن هذا السياق، بدءاً من اغتيال القائد العسكري للمقاومة، الشهيد عماد مغنية، مروراً بقصف منشأة دير الزور في سوريا، وصولاً إلى ما تردد أخيراً بشأن نيّات إسرائيلية لتوجيه ضربة تتصل بالأسلحة الكاسرة للتوازن التي تقول إن المقاومة تعمل على امتلاكها.والحقيقة أن الأمثلة الثلاثة الأخيرة، وغيرها من عمليات إسرائيلية أقل صخباً (مصادرة السفينة فرانكوب، الغارة على قافلة أسلحة تابعة للمقاومة الفلسطينية في السودان) تتصل من زاوية أخرى باستراتيجية إسرائيلية رديفة عنوانها العمل على عرقلة محور المقاومة عن بناء قدراته ومراكمتها عبر استهداف ما أمكن من العناصر المؤثرة على هذا الصعيد. وهنا، بالضبط، يأتي الحديث عن المفارقة التي تعيشها إسرائيل على صعيد الردع الذي تقول إنه تعزز في مرحلة ما بعد عدوان تموز. فإسرائيل التي تتغنى بارتفاع منسوب ردعيتها لأعدائها ـــــ وعلى رأسهم المقاومة في لبنان ـــــ تقرّ في الوقت نفسه بعدم قدرتها على ردع هؤلاء الأعداء عن مراكمة إمكاناتهم العسكرية إلى حدٍ باتت تمثّل معه تهديداً استراتيجياً. وقد فاضت وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال الأعوام الثلاثة الماضية بتقارير تتحدث عن مضاعفة المقاومة في لبنان لقدراتها على مستوى الكم (مثال: الترسانة الصاروخية التي قفز عددها من 13 ألف صاروخ قبل الحرب إلى 45 ألفاً بعدها) والطفرة التي تشهدها هذه القدرات على مستوى النوع (الأسلحة الكاسرة للتوازن).ويمكن إيضاح ما تعنيه مفارقة الردع وفقاً للآتي: إذا كان سياق عدوان تموز ونتائجه أثبتت، بمفعول رجعي، صحة الاعتقاد الإسرائيلي الذي ساد قبله بردعيّة المقاومة، لجهة عدم استسهال التصادم معها والتردد قبل اتخاذ قرار بخوض حرب ضدها، فإن العدوان نفسه أعاد تظهير حقيقة طالما لفتت إليها جهات داخل دوائر صنع القرار الإسرائيلية، مفادها التحذير من أن الارتداع عن إجهاض قوة المقاومة، تحسباً للكلفة المقترنة بذلك، يعني حكماً السماح لها بمراكمة قوتها، وتالياً تعزيز قدرتها الردعية من جهة، وجعل الأثمان المترتبة على مواجهتها في المستقبل أكثر ارتفاعاً من جهة أخرى.بعبارة ثانية، إذا كانت فلسفة الردع تقوم على منع الحرب عبر رفع كلفتها، فإن الامتناع عن الحرب ـــــ في حالة مقاومة حزب الله ـــــ يقود نحو رفع كلفة الحرب المقبلة عندما تقع عبر الإمكانات التي تتيح فترة الهدوء الحصول عليها. يمكن الجزم بأن إسرائيل لا تزال تعيش في دوّامة هذه المعضلة دون أن تجد مخرجاً مقنعاً منها.
المقاومة والاستراتيجية النقيضة
كان واضحاً أن المقاومة التي خرجت من عدوان تموز بنصرٍ تاريخيٍ على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي، لم تركن إلى النشوة التي ولّدها إنجازها الاستثنائي وسط محازبيها وأنصارها، وإنما عملت بصمت على الإعداد للمواجهة المقبلة دون أن تلتفت إلى ما يثار حولها من ضوضاء داخلية وخارجية. وهي إذ اكتفت ـــــ لأجل تثبيت رادعيتها في الوعي الإسرائيلي ـــــ في الفترة التي أعقبت الحرب بالإشارة إلى قدرتها على استهداف أي نقطة داخل فلسطين المحتلة (كما صرح أمينها العام، السيد حسن نصر الله، في مقابلة مع قناة الجزيرة بمناسبة الذكرى الأولى للحرب)، عملت لاحقاً على رفع منسوب ردعها بطريقة تدريجية تشير تناسبياً إلى مستوى القدرات التي تمكنت من امتلاكها. وهكذا شهدنا الصعود المدروس من تأكيد القدرة على تعطيل سلاح البحرية الإسرائيلي، إلى الوعد بسحق فرق الجيش الإسرائيلي التي ستدخل لبنان مهما كان عددها، مروراً بمعادلة تل أبيب مقابل الضاحية أو بيروت، وصولاً إلى إعلان القدرة على فرض حصار بحري على الساحل المتوسطي لإسرائيل في مقابل أي حصار تفرضه الأخيرة على السواحل اللبنانية. وفي السياق، كانت المحطة الأبرز هي التلويح بسياسة العين بالعين على مستوى الاستهداف العمقي للمنشآت المدنية والعسكرية والاقتصادية.وإذا كان التعهد بتدمير القوات البرية الإسرائيلية المتوغلة إلى لبنان إعلاناً من جانب المقاومة بقدرتها على تقويض الركيزة الأولى للتفوق العسكري الإسرائيلي، وهي سلاح المدرعات بأسطورته «الميركافا»، فإن ما عنته معادلة «المطار بالمطار، والكهرباء بالكهرباء، والمنشآت النفطية بالمنشآت النفطية» اختزالاً ـــــ ولو نسبياً ـــــ لركيزة التفوق الإسرائيلية الثانية، وهي سلاح الجو. فمن الناحية الفعلية، ما لم تقله المقاومة وفهمته إسرائيل، مع إعلانها المعادلة الجديدة هو أنها استكملت وضع اليد على العناصر الأربعة التي يحوّل تداخلُها السلاحَ الصاروخي الموجود في عهدتها إلى ما يشبه سلاح جو على مستوى الفعالية.وهذه العناصر هي: أولاً، المدى، وتقرّ إسرائيل على لسان وزير دفاعها، إيهود باراك، بقدرة المقاومة على استهداف أي نقطة داخل إسرائيل. ثانياً، الكثافة النارية، وقد تحدث آخر التقارير الإسرائيلية قبل أيام عن قدرة المقاومة على إطلاق نحو 700 صاروخ يومياً باتجاه العمق الإسرائيلي. ثالثاً، القدرة التدميرية، وكانت تقارير إسرائيل قد اعترفت بأن المقاومة تمتلك صواريخ يبلغ حجم رأسها الانفجاري نصف طن، فضلاً عن معادلة «البناء بالأبنية» التي تحدث عنها السيد نصر الله. رابعاً، عنصر الدقة الذي صرّح معلّقون إسرائيليون بأنه المقصود في مصطلح «السلاح الكاسر التوازن» الذي يردده ساسة تل أبيب وعسكرها في إطار تحذيراتهم المتواترة من حصول حزب الله عليه، وذلك لأنه يعني تمكينه من استهداف كل النقاط الحساسة ـــــ العسكرية والمدنية ـــــ داخل إسرائيل، بما يتيح له ممارسة ضغط مباشر على القدرة القتالية للجيش الإسرائيلي من خلال استهداف ثكنه وقواعده، وعلى قدرة صمود المواطنين الإسرائيليين من خلال تدمير مقومات الصمود على مستوى خدمات البنى التحتية.
الضاحية» الإسرائيلية، معيداً من خلالها توازن الرعب والردع الذي كان قائماً مع إسرائيل قبل الحرب، إلى نصابه. ويمكن المرء أن يعتقد أنّ الحزب عندما فعل ذلك، كان يمهّد الأرض لكي يفرش عليها أوراق خططه المتعلقة بالرد على اغتيال الشهيد مغنية، وهي خطط راهنت إسرائيل، حتى وقت قريب، على أن ردعها وحده هو الذي يحول دون إخراج المؤلم والموجع منها إلى حيز التنفيذ.إلا أن الحزب لم يكتفِ بالركون إلى المفاعيل الأكيدة للنوع الجديد من الردع الذي أرسى دعائمه، بل عمد ـــــ في خطوة استثنائية بكل المعايير ـــــ إلى توسيع قاعدته عبر إعلان تحالف عسكري ثلاثي الأضلع ضمّه إلى كل من سوريا وإيران في جبهة أريد لها توجيه رسالة حازمة إلى تل أبيب عبر «قمّة الشر» الدمشقية (كما سمّتها إسرائيل) مفادها أن الحرب، إن وقعت، لن تقتصر على جبهة دون أخرى، وأن عهد الاستفراد بالجبهات قد ولّى ليحل مكانه عهد الحرب الشاملة المفتوحة على آفاق تغيير وجه المنطقة، كما وعد السيد نصر الله.
MAD
بعد أربع سنوات على الحرب، كيف يمكن قراءة الواقع الاستراتيجي المستجد بين حزب الله وإسرائيل؟ بعيداً عن تقدير النيّات، يبسط العرض المتقدم مشهداً تبدو فيه الجبهات متوثبةً للاشتعال على مستوى القدرات المتراكمة كما على مستوى الحوافز الأولية لدى طرفي الصراع. فإسرائيل، كما ذُكر، معنية بإجهاض بناء القدرات لدى حزب الله بقدر ما هي معنية بردعه عن تفعيل هذه القدرات. ومشكلتها أن تحقيق الهدف الأول لا يمر بالضرورة عبر الثاني، إن لم يكن متعارضاً معه من الناحية العملية. أما حزب الله، فيعدّ العدة ليوم المنازلة الكبرى الذي سيؤسس فيه لتحقيق أحد أبرز أهدافه الإيديولوجية: إزالة إسرائيل.الواقع الترادعي المتراكم بين الجانبين أفضى في صيغته الأخيرة إلى إنتاج وعيٍ راسخٍ بأن الحرب المقبلة تنطوي على احتمالات راجحة بالتدحرج لتشمل كل الجبهات، على أن يكون العمق المدني على طرفي الحدود ساحات طحنٍ محكومة لمنطق «عقيدة الضاحية» بنسختيها الأطروحية (Thesis) والنقيضة (Antithesis). هذا الواقع بات يرتكز إلى ما يشبه نظرية «التدمير الحتمي المتبادل» (MAD) المأخوذة من قاموس الردع النووي بين القوى العظمى أيام الحرب الباردة. والمصطلح المذكور يعني أن كلاً من طرفي الصراع يمتلك القدرة على إلحاق تدمير بالغ وأكيد بالطرف الآخر من خلال السلاح النووي، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف إلى ارتداع كلٍّ منهما عن المبادرة إلى شن حرب على الآخر، ما دام ثمنها سيكون دماره هو نفسه بموازاة دمار عدوه.بعد أربع سنوات على الحرب، ثمة في إسرائيل من يقف على أطلالها ليعلن شوقه إليها في ضوء ما يستشرفه من معالم الحرب المقبلة. قبل نحو ستين عاماً، رأى مؤسس إسرائيل وواضع عقيدتها الأمنية، دافيد بن غوريون، أن فترة الهدوء التي تلي الحروب بالنسبة إلى الدولة اليهودية هي أشبه بحالات هدنة أو وقف إطلاق نار طويل قبل الحرب التالية. كان بن غوريون يعتقد أن إسرائيل تمتلك القدرة على تكريس وجودها بالحروب، إلا أنها تفتقد القدرة على تحقيق السلام عبرها. المؤكد أن في خارج إسرائيل اليوم ـــــ وعلى الأرجح داخلها ـــــ من يرى أن «حرب لبنان الثالثة» ستفتح الباب أمام الطعن بصحة الشق الأول من فرضية مؤسس إسرائيل. يعتقد هؤلاء أن هذه الحرب ستؤسس لتغيير جذري في اتجاه المسار التاريخي للمنطقة، سيكون منشأه إفقاد إسرائيل القدرة على ضمانة وجودها عسكرياً بعد إلحاق الهزيمة بها.
ليست حرباً باردة تماماًيمكن المرء أن يجازف في مواصلة الإفادة من التشبيه بين واقع الجبهة اللبنانية الإسرائيلية، وواقع الحرب الباردة بين الجبّارين الأميركي والسوفياتي في حينه. لهذا التشبيه أوجهه الباعثة على التفاؤل كما على التشاؤم. فمن جهة، سبقت الإشارة إلى إيجابية الردع القائم على الدمار التبادلي الحتمي، وهي إيجابية أثبتت السوابق جدواها في منع الحرب بين قوتين عظميين، علماً أنّ المساحة المحدودة لساحة الصراع بين حزب الله (وحلفائه) وإسرائيل، وحجم الطاقات التدميرية التي باتت بحوزة كل منهما تسمح ـــــ بالمعنى النسبي ـــــ بأن تُعزى إلى الردع القائم بينهما ملامح تجاذب بين قوتين عظميين بحجم إقليمي. أمّا من جهة أخرى، فمن المعلوم أنّ التوترات التي كانت تنشأ بين جبّاري الحرب الباردة كانت تجد لها متنفّساً في ساحات فرعية (فيتنام، أفغانستان، كوريا، الشرق الأوسط... إلخ) تجري فيها تصفية حسابات جانبية، وإدارة لعبة التجاذب عبر تسجيل النقاط ومراكمتها، بعيداً عن الضربة القاضية. هذه الساحات كانت أشبه بـ«منطقة امتصاص الكدمات» (Buffer zone)، وكانت تتيح تنفيس الاحتقانات عبر حروب بالوكالة تتّخذ طابع الحروب المنخفضة الوتيرة قياساً إلى حجم القوّتين المُحرّكتين.بين إسرائيل والمقاومة، يمكن القول إنّ الخط الحدودي ومزارع شبعا أدّيا قبل عدوان تموز دور «منطقة الامتصاص»، التي كان يجري توجيه الرسائل المتبادلة عبرها. كما كانت ساحة لمواجهات وردود محدودة، وإن كانت في بعض الأحيان عنيفة (عملية الغجر، المواجهات في شبعا إبّان السور الواقي، المواجهة النارية على امتداد خط الجبهة في أعقاب اغتيال الشهيدين المجذوب في حزيران 2006). لكنّ الأمر لم يعد كذلك بعد عدوان تموز. فخطّ الجبهة، وما وراءه لبنانياً، تحوّل إلى منطقة محكومة لمندرجات قرار دولي ـــــ تراعيه المقاومة لاعتبارات خاصة ـــــ يقضي بوقف العمليات العسكرية بين الجانبين فيها، وينص على خلوّها من سلاح غير سلاح القوى الأمنية الرسمية. معنى ذلك، أنّ قابلية «التنفيس» التي كانت تتيحها هذه المنطقة لم تعد قائمة، الأمر الذي يعني أيضاً أنّ المساحة الفاصلة بين الهدوء المتفجّر القائم حالياً، والحرب الشاملة التي يتوعّد بها الطرفان هي جدّ ضيقة، بحيث يصعب الاعتقاد بأنها تتسع لمواجهات محدودة، إلّا من النوع الذي يقرّر فيه أحد الطرفين الانكسار أولاً ربطاً بحجم الأكلاف التي تكبّدها، أو يخاف أن يتكبّدها في ظل ظروف سياسية وميدانية يرى أنها غير مؤاتية.
عدد الاثنين ١٢ تموز ٢٠١٠