uldy

uldy

(هيثم الموسوي)ديما شريف يضحك نوام تشومسكي حين يتذكر كيف قرأ كتاب «الأيام» لطه حسين. كان ذلك منذ عقود بعيدة، ولمّا يزل في الجامعة. «قرأته من دون مساعدة أحد»، يقول، قبل أن يضيف «بالعربية طبعاً». كان ذلك تحدياً كبيراً له أمام لغة جديدة تعلّمها خلال دراسة الألسنيات في «جامعة بنسلفانيا» في الأربعينيات. المفكر الثمانيني الذي يقرأ اليوم بعض الصحف العربية للحفاظ على معرفته بلغة الضاد، لم يكن متأكداً أنّه قد يواصل دراسته. «كنت على وشك أن أترك الجامعة. لم أكن أريد أن أدرس»، يسرّ إلينا صاحب «صناعة الإذعان» (عن الإعلام والبروباغاندا في الأنظمة الديموقراطيّة، 1988)... وإذا به يلتقي بعالم الألسنيات زيليغ هاريس الذي اقترح عليه حضور صفّه، فتعلق بالاختصاص. هكذا تخلى نوام الشاب ابن الباحث التوراتي، عن حلمه بـ«الهجرة إلى فلسطين لأصبح عاملاً يهودياً عربياً» وإذا به من أهم اللغويين في القرن العشرين. لم يكن لقاؤنا طويلاً. المفكر اليساري الأبرز في الولايات المتحدة أنهكه الكلام والمرض. يخفت صوته تباعاً حين يتعب، لكنّه رغم ذلك لا يتوقف. يخبرنا عن أولاده الثلاثة. ابنتاه تأثرتا كثيراً به، الكبرى أفيفا أستاذة جامعية، والثانية ديان تعمل مع منظمة «أوكسفام» في المكسيك. أفيفا تهتم به كثيراً، وخلال رحلته اللبنانية لا تفارق جانبه، وهو يقدّر لها ذلك كثيراً، ويتحدث بشغف عن عملها. يصمت قليلاً ثم يضحك: «أمّا ابني هاري فهو في كاليفورنيا، لا يفعل شيئاً».

تشومسكي الذي يحاضر هذا المساء في بيروت عن «السياسة الأميركية في الشرق الأوسط»، بدعوة من «نادي اللقاء» تحية إلى زميلنا الراحل جوزف سماحة (س 6، قصر الأونيسكو)، تربّى في «بيت صهيوني ليبرالي» كما يصفه. كانت السياسة موجودة في البيت،«لأنّها كانت فترة كساد والسياسة ضرورية»، يوضح صاحب «أسرار، وأكاذيب، وديموقراطية» (1984). لكنّ نوام لم يتأثر بوالده، بل مال إلى الأجواء السياسيّة في عائلة والدته. كلّ أخواله كانوا «أبناء الطبقة العاملة اليسارية... قضيت وقتاً طويلاً معهم، وأخذت عنهم الأفكار اليسارية». بعد نيله الدكتوراه من «جامعة هارفرد»، بدأ تشومسكي التدريس في «معهد ماساشوستس التقني»، كان ذلك في 1955 ولم يزل حتّى الآن. تزوّج حينها بالعالمة اللغويّة كارول شاتز، تلك السيّدة التي عرفها منذ كانا طفلين وبقيت رفيقة دربه حتّى رحيلها قبل عامين. خلال سنوات قليلة، صار من أهم مطوّري عمل الألسنيات. اشتغل على مفهوم بناء الجملة، واخترع «سلّم تشومسكي» الذي يدرسه طلاب اللغات في جميع أنحاء العالم. يقسّم السلّم القواعد اللغوية إلى فئات ومجموعات تنتج كل منها مجموعة لغات رسمية أكبر من تلك التي تسبقها. عمله التطويري هذا ــ إلى جانب مقترحاته الفلسفية ـ فتح باباً لنقاشاته مع مفكرين عالميين عاصرهم مثل ميشال فوكو وجان بياجيه... إلى جانب مساهمته الكبيرة في عالم الألسنيات، ذاع صيته بسبب مواقفه السياسية قبل كلّ شيء. لم يقف عند حدود اختصاصه العلمي، بل تعداه إلى السياسة التي خطّ فيها مئات المقالات والكتب. منذ حرب فييتنام، أعلن موقفه المناهض للنظام الأميركي القائم، ورفضه للحروب التي شنّها ولسياساته الخارجية الإمبريالية. ألم يحقق كتابه «9/ 11» أرقام مبيع قياسيّة؟ ولم يكن ممكناً ألا نصل إلى الحديث عن الوضع الدولي الراهن. جولة في المنطقة بين إيران وفلسطين، وسوريا التي «لا تملك مقوّمات مواجهة إسرائيل عسكرياً»، كما يقول، لن تفك ارتباطها مع إيران قريباً برأيه، رغم إغراء الاندماج في المجتمع الدولي. يقول إنّه إذا «شُنَّت حرب على إيران، فقد يتغير كلّ شيء»، ثمّ يستبعد احتمال الحرب. إيران اليوم، برأيه، في موقع المنتصر بفضل حربي واشنطن في المنطقة: العراق وأفغانستان. أمّا عن العقوبات التي يلوّح بها باراك أوباما، فيعتقد تشومسكي أنّ الرئيس الأميركي «معزول دولياً في موضوع العقوبات». «حتى قبل الاتفاق الذي عقد أخيراً في طهران، صارت البرازيل أكبر من أن يتجاهلها أحد، كما أنّ تركيا تبتعد عن أميركا صوب الشرق». إسرائيل من جهتها، تعلمت الدرس في حرب 2006، برأيه، وهي اليوم مترددة في خوض أي صراع عسكري جديد. «لكنّها أقوى من قبل، ولديها القوة والتقدم التكنولوجي»، يضيف. ثم يبتسم ويقول إنّها مع هذه القوة غير منطقية ولا يمكن التنبؤ بأفعالها، «انظري ماذا فعلوا مع تركيا وسفيرها، وهي أقرب حليف لهم في المنطقة».

يحلم تشومسكي بدولة ذات شعبين في فلسطين. لا ضير من الحلم، لكن «لا جدوى من مناقشة ما نحلم به... الحلّ الوحيد اليوم هو دولتان. حتّى هذا الحلّ صعب التحقيق، فالاسرائيليون يغيّرون رأيهم يومياً». ينتقل هو إلى طرح الاسئلة. يسألنا عن رأينا حيال الصراع، وعن الدورين الإيراني والسوري في المنطقة. وإذا به يشرد، يذهب إلى مكان بعيد في ذاكرته، يوم كان يدخل الأراضي اللبنانيّة أثناء تجواله في بساتين شمال فلسطين. كان ذلك في الخمسينيات، حين كان يزور الأراضي المحتلّة: «حينها، لم يكن هناك تشديد على الحدود». اليوم اختلف الوضع، فقبل أيام لم يسمح له الاحتلال بالوصول إلى «جامعة بيرزيت»، فألقى محاضرته عبر الفيديو كونفرانس من عمّان. نعود إلى طرح الأسئلة. أين اليسار في أميركا؟ وماذا عن معارضة حربي العراق وأفغانستان؟ يقول المفكر المزعج إنَّ تيار المعارضين لحرب العراق ينمو في الولايات المتحدة... «لكنّ الناس مخدوعون في ما يتعلق بأفغانستان، فقد صوّرت الحرب هناك على أنّها عمل دفاعي، ومن هنا عدم وجود معارضة جديّة ومنظمة لها». أما اليسار الأميركي فهو، برأيه، في تراجع مستمر، لكنّه مستمر في المعارضة رغم كلّ شيء. من جهتها، تتمثل المعارضة اليهودية لإسرائيل في منظمة «جاي ستريت»... «لكنّها ليبرالية جداً فهم لا يسمحون لي بالحديث في مؤتمراتهم مثلاً... أما الاعتقاد السائد بأنّهم يساريون، فخاطئ طبعاً». لكنّ تشومسكي أصبح قادراً على إلقاء محاضرة معارضة لسياسة إسرائيل من دون حماية كبيرة من الشرطة كما كان يحصل سابقاً، حسبما يؤكد لنا. لم يعد تشومسكي محارباً من الجميع؟ «ربما»، يقول، «لكنّ صديقي الصحافي كريس هيدجز أخبرني أنّه عثر على مذكّرة موجهة إلى الصحافيين العاملين في «نيويورك تايمز»، تمنعهم فيها من ذكري مطلقاً»!

يقدِّم محاضرة عند السادسة من مساء اليوم في «قصر الأونيسكو»، بدعوة من «نادي اللقاء».

5 تواريخ

1929 الولادة في فيلادلفيا (بنسلفانيا ــــ الولايات المتحدة)

1955 بدأ التدريس في «معهد ماساشوستس التقني»

1979 أصدر كتابه المرجع «الاقتصاد السياسي لحقوق الإنسان» مع صديقه الاقتصادي إدوارد هيرمان في جزءين

2006 زار لبنان للمرة الأولى قبل عدوان تمّوز، وألقى محاضرتين في «الجامعة الأميركية» و«مسرح المدينة»

2010 حاز جائزة Erich Fromm في شتوتغارت ألمانيا. وأصدر كتابي «آمال واحتمالات» و«مقاومة السكان الأصليين»

عند الخروج من صالة السينما في فرع «الغراند سينما» الواقع في الـABC بعد انتهاء عرض فيلم، يبدأ عرض فيلم آخر. ينتظرنا «زنجيٌ»، أو الأنسب أن ننعته موضوعياً «بالعبد». والحال الموضوعية هي موقع الشخص من علاقته مع الآخرين، فكيف إذا كان لهذه الحال كنية متفق عليها؟ إذاً «عبدٌ» ينتظرنا على باب صالة العرض، وهو يحمل في يديه كيساً. وإذ به يمد يديه صوب كل من يخرج من باب القاعة المظلمة، عسى أن يفهم من الزبائن الذين لم يتخلصوا من مستهلكاتهم في أرض الصالة وبين مقاعدها، أنه يؤدي دور «الزبالة التي تأتي إليك(كِ)». تسبب المياه والفشار المستهلكة أثناء مشاهدة الفيلم الحاجة إلى تفريغ المبولة، ما يذهب بالزبائن إلى قصدهم الحمامات. وهناك، في قسم الرجال، يمكننا أن نرى «عبدة»، هذه المرة من الجنس النسائي، وهي تجتهد في تلميع مرايا المكان، بينما أبواب أقسام الخروج من ورائها وأمامها على المرايا، تنفتح وتنغلق على إيقاع أسراب الشباب المبولين وطالبي التبويل، وهم كثر عند انتهاء كل فيلم. هذه المجموعة العاملة من «العبيد»، تحوي احتمالات طبائع متنوعة. فمنهم من أمكننا أن نستشف عنده نوعاً من القرف وهو ينفذ مهماته. قرف قد يُترجَم شعورٌ بالذل، أو قرفٌ تجاه المجتمع من حوله: عند بعضهم، يغلب ازدراؤهم من شخصهم على نظرتهم للحياة، والشعور بأن الحياة لا تكافئ بما فيه الكفاية، وهو نوع من العزلة. وبالتالي، بأن شخصهم فشل. أما عند البعض الآخر، فيغلب شعور الغضب والكره لمحيط وقح، والمعرفة بأن الدنيا والسماوات والآلهة كلها مخطئة، ولن تستوي يوماً على صواب إلا بفعل اليد التي دربها العمل والعبودية، بفعل لكماتها على «وجوه» الوقاحة. والظروف الموضوعية لهؤلاء العاملين في أسفل هرمية العمل والمجتمع كفيلةٌ بأن تقدم الحجج والبراهين على صوابية أفكارهم، بتنوعاتها.

لكن بعيداً عن «دراما» تأويلات الأفكار، ذلك أنه في الحياة الاجتماعية ما يكفي من قوى قامعة للأفكار، تحصرها في عقول أصحابها وفي عيونهم. يسري المجتمع اللبناني على إيقاع آخر، أكثر هدوءاً. وغالباً ما نرى العاملين في ظروف صعبة، حيث لا يعمل غيرهم، مسيطرين على مظاهر القرف التي تسهل تجلياتها عند الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، في ظروف أقل صعوبة. وهذا ما يجعل القمع أكثر مأساوية. فالحقيقة أن مظاهر الاعتراض في لبنان، على تنوّع أشكالها، تتعرض لأقسى أشكال القمع الجسدي، وعدم الفهم. والضرب لعدم الفهم قد يكون أكثر إيلاماً من القمع الجسدي للتمرد. هم يضربون كما يُضرب الأطفال، والابتسامة على وجه الجلاد، لا كمتمردين، حيث تكون صفة التسلط تحت المساءلة، ما يترك أفعال الظلم سارية، على نحو اعتيادي ومن دون معارضة تلمس. لا بل يجعل أفعال الظلم منطقياً مقبولة، أو سارية، لا يناقشها أحد، ولا تستوي في الخطاب السياسي أو حتى في الخطاب الاجتماعي العادي مقام جدلٍ. فغالباً ما يكون الجواب على تمرد العمال المستعبدين في لبنان مسخرة في الشارع، وفي المخفر، ولكمات على الوجه بقصد وقف صوت البكاء وليس دائماً بقصد إسكات «الفضيحة». فيصبح هؤلاء العاملون في أسفل هرمية العمل، في نظام السكوت عن الظلم وعدم إدراكه، كائناتٍ «طبيعية»، في الموقع الذي تستحقه ولا يستحقه غيرها، لأنها «لا تقرف» و«لا تشمئز»، وبكاؤها بين الحين والآخر سببه «هستيريا». باختصار، لأنها تستوجب شروط هذا الموقع الوظيفي. «تخيلوا أن نأتي بلبنانية لتنظيف الحمامات مثلاً؟». هكذا يذهب المنطق العادي. فوظيفة تنظيف الحمامات من ضرورات «الكرم والاهتمام بالضيوف». وجلها من صفات الأيديولوجية الوطنية المهيمنة. لكن لنبدأ من أول الحكاية، حكاية المجتمع اللبناني مع العنصرية. ولهذه أشكال عديدة، فعالة يومياً، في سلب حقوق الناس، في تسهيل استغلالهم، وتعميم الفرقة، وعموماً في صنع القهر في المجتمع. هي كما سنرى، بمعظم أشكالها، مرتبطة بسيطرة الطبقة الحاكمة على المجتمع. تارةً، يسهل انتشارها الحكم، وطوراً يخترعها. وتستدعي اختراع يد عاملة مختصة في تدعيمها وفي الإشراف على سير أمورها.

الطائفية

يمكن من المقطع السابق استخراج منطقين لسير أمور العنصرية يعملان في اللحظة نفسها: قمع الاعتراض، وهو المنطق الأول، والمؤدي إلى الثاني، وهو تكريس الهرمية العنصرية في أي مسألة، على أنها من طبيعة الأمور. أي جعل اللحظة التي تمارس فيها العنصرية من اللحظات العادية. ليس في لبنان عنصرية، بل في لبنان نظام عنصري. والطائفية التي يعرف بها النظام عادةً، تكاد تكون قشرته الأخيرة. فالطائفية محكية، يتحدث بها الناس والسياسيون على تنوعهم. حتى الإسلام السياسي في لبنان منتقد للطائفية. وهي تُشرَّح مراراً، حتى ولو في خدمة تغذيتها. أي عندما تنتقد مثلاً بما تمثله من «إجحاف بحق طائفة». وهذا النوع من النقد، الأكثر شيوعاً بين الطائفيين، تكمن طائفيته بالاعتراف بـ«الطوائف» قبل كل شيء. وبالتالي في تسهيل استخدامه في الخطاب السياسي، كمصطلح، بما يحمله من معانٍ وصور متخيلة، على حساب المصطلحات المنادية بالتمثيل الديموقراطي الدقيق. فالطبقة السياسية في لبنان، منذ استواء النظام الميليشيوي وتصفيته معارضيه ومنتقدي خطابه، أمثال الشهيد مهدي عامل، اعتادت تغذية حجتها التمثيلية من التقسيم الاعتباطي الطائفي والمناطقي للمجتمع. فهنالك من ادعى أثناء الحرب تمثيل المسيحيين، وغيره الشيعة، وغيره سكان بيروت، من دون إجراء انتخابات، والانتخابات عندما أتت، وثقت لعدم تمثيل هؤلاء للناس، ووثقت لتمثيلهم على الناس. طبعاً، القول باعتباطية تقسيمات الحرب لا يعني إنكار بعض أسس هذه التقسيمات الملموسة والتاريخية المنشأ: فقصف جيش أمين جميل مثلاً الضاحية الجنوبية لبيروت كان حقيقياً وسبباً كفيلاً بجعل أي خطاب معاد لدولة أمين جميل خطاباً شرعياً وشعبياً، مهما كان لباس هذا الخطاب واستنتاجات القائلين به التي قد لا تكون بمستوى الشعبية نفسه. ومرحلة الجمهورية الثانية امتازت بعزل مؤسساتي مقصود لسكان المنطقة الشرقية، في تمثيلهم الانتخابي، بدا أكثر انسجاماً مع مبررات الخطاب الطائفي «المسيحي» منه مع المنطق الطائفي «الإسلامي» في المنطقة الغربية، حيث القمع لم يكن أقل دموية إن لم يكن أكثر. لأن القمع جاء في لحظة واحدة، شاملاً ومعمماً، مستهدفاً التيار الشعبي الوحيد الذي أفرزته الحرب الأهلية، أي التيار العوني. ما أثر من دون شك على التنشئة السياسية لقاطني هذه المنطقة، على مدى خمس عشرة سنة، ليس بالضرورة بمنحى التراص «الطائفي» المعني، بل بتنوعات صوره المتخيلة وحججه الثقافية. كل ذلك تماشياً مع عمل إكليريكي دؤوب على تأمين شروط تراصّ طائفي مسيحي عبر تنشئة المدارس والجامعات والرعيات وغيرها من مؤسسات التأطير الاجتماعي، في تقليد عند الإكليروس عمره من عمر لبنان، الفكرة والدولة. في ذلك نرى أن الغربية، بخطابها المهيمن في التسعينيات على الساحة الإعلامية والسياسية، ساهمت في دعم التراص الطائفي في المنطقة الشرقية عبر دعمها شروط حجته، هذا التراص الذي أسمته «بالانعزال» والذي لطالما ادعى بعض قواها الوقوف في وجهه. هذا في بعض التاريخ. والتشديد على اعتباطية التقسيمات للمجتمع اللبناني والعودة تكراراً إلى حلقات توثيق هذه الاعتباطية، مثل انتخابات ١٩٩٢ التي شلحت كل الميليشيات المسيطرة أي شرعية رومانسية كانت لها «تحت هدير المدافع»، هذا التشديد إذاً، هذه العودة إلى اللحظة المؤسسة الكفيلة بإجلاء سببيات هذه اللحظة والشروط الاجتماعية التي فرضتها على الواقع، تبقى ضرورية، في نظام اجتماعي يغذّي نفسه من الأمر الواقع، من القبول بخطاب الأمر الواقع ومن تغييب شروط مساءلة هذا الأمر الواقع. كما سنرى في وضع باقي قشور عنصرية النظام في لبنان. الطائفية بشروطها السائدة حالياً تكاد تكون من إنتاج الطبقة السياسية فقط، إذ وحده الإكليروس الماروني من بين المؤسسات الروحية له كلمة مستقلة وفعالة في الموضوع خارج المجتمع السياسي. والحقيقة أنه لم يسمح حتى لأحزاب طائفية جديدة أن تبرز، دينية كانت أم عقائدية، وأن تزدهر في لبنان في السنين الماضية (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، وبالرغم من وزنها التمثيلي، أخرجت من السياسة في الانتخابات الأخيرة). وفي معظم الأحيان، وكما يتضح من تنوع التحالفات عند كل فريق، يبدو أن الطائفية هي حصرياً من فعل نظرة عنصرية عند الطبقة السياسية تجاه المجتمع. نظرة ليست بالمستغربة عند السياسيين، ولماذا تكون كذلك، عندما الخطاب الأكاديمي المحلي المهيمن يكون هو أيضاً طائفياً. ويشترك بعض الأكاديميين الأكثر مرجعية والسياسيين بالنظر إلى الشعب كالماشية، لا يحركه إلا «الخطاب الجماعاتي» (اقرأه: «الطائفي»). وحيث يبدو بعض السياسيين صادقين في طائفيتهم، في حرصهم على «مصلحة المجتمع المسيحي» أو على «وأد الفتنة بين المسلمين»، لا شيء أكثر من تشاركهم مبادئ «العنصرية الاقتصادوية» يحسم الجدال لمصلحة حقيقة عدم صدقهم الطائفي أو أقله في مركز الطائفية الثانوي في هرمية العنصريات المتفشية في معتقدات مجتمع السياسيين. إذ إن العنصرية الاقتصادوية تكاد تكون النظرة الوحيدة المسموح بها في حقل الخبراء والتكنوقراط في البلاد، من أي حزب أتوا. حتى الطائفية لا كلمة لها في الاقتصاد، بعكس ما توحيه زبائنية الدولة. وهي لذلك أكثر العنصريات فعالية في المجتمع اللبناني، وأقلها مساءلة في تاريخه المعاصر.

العنصرية الاقتصادوية

وبينما يظهر أن استنفار العدة الخطابية الطائفية في الخطاب السياسي لا يأتي إلا في لحظات التصادم بين الفرقاء، ذلك على حساب أي منطق، بما فيه منطق محطة التصادم (يطالب بحصص النفوذ في جسم الدولة على أنها لمصلحة تمثيل طائفة لا على أسس الكفاءة)، تبدو العدة الخطابية الاقتصادوية محط إجماع، لا تستنفر إلا في محطات الإجماع. وإذا كانت العدة الخطابية الطائفية، من اسمها ولغتها، عنوان فرقة وتقسيم للمجتمع، فإن العدة الخطابية الاقتصادوية تجند هي أيضاً في أوساط عملها، في دوائر الخبراء، وعلى نحو يومي، معتقدات عنصرية، تفضّل ناساً على ناس، وترعى مصالح ناس بينما تسلب آخرين حقوقهم وآرزاقهم. هنا أيضاً، تبدو ضرورية قراءة الفصل التأسيسي لهذا المنحى العنصري، أو لنقل، الفصل الذي أعاد صياغة هذا المنحى الذي لطالما تميز به النظام في لبنان (يراجع في تاريخ هذا المنحى في المراحل التي سبقت كتاب فواز طرابلسي «تاريخ لبنان الحديث»، رياض الريس للكتب والنشر، ٢٠٠٨). هو فصلٌ تأسيسي في إرساء قواعد الجمهورية الثانية في لبنان، وفي فضح طابعها المنتج للأزمات الاجتماعية، في مرحلة ادعت فيها الطبقة المهيمنة أنها في طور إخماد الأزمات (في السنين التي تلت اتفاق الطائف). والفصل بالطبع يعني الحريرية مباشرة، إذ من قد يكون عنصرياً في المجتمع أكثر من رأس الهرم الاقتصادي؟ هو فصل سوليدير. وهو بالأرقام الفصل الذي خصص فيه ما يوازي ثلث الدخل القومي آنذاك لبقعة أرض لا تساوي ١/١٠٠٠٠ من مجموع مساحة بلاد خرجت لتوّها من حرب أهلية. (يراجع في ظروف هذه المرحلة ومنطقها الاقتصادي كتاب جورج قرم «لبنان المعاصر: تاريخ ومجتمع»، المكتبة الشرقية، ٢٠٠٤، أو لمزيد من التفاصيل، كتابه «الإعمار والمصلحة العامة: في اقتصاد ما بعد الحرب وسياسته»، مؤسسات الأبحاث المدينية ــــ دار الجديد ــــ مؤسسة فورد، ١٩٩٦). وهي بداية ممارسة، متنوعة الوسائل، سيذهب بها النظام الاقتصادي ومؤسساته إلى أبعد الحدود، في رهن البلاد بمصلحة أقلية من الأغنياء، كما يلاحظ قرم. ستلي حلقة سوليدير حلقات أخرى، أكثرها قهراً لقاطني الأرض، حلقة دين الدولة، حيث ستصبح السلطة الوحيدة الكفيلة بتنظيم توزيع الثروات، أي الدولة، هي نفسها مرهونة بمنطق الجشع الرأسمالي ومصلحته. فكيف للدولة في هذه الظروف أن تأمن توزيعاً عادلاً للثروات بين المواطنين؟ وبالتالي، كيف لها أن تكترث لأمر المواطنين؟ لكن مسألة سوليدير ليست فقط بالارتهان «اللامنطقي» لحجم رأسمال الشركة، وللعبة الأرقام التي لا تلهي سوى الاقتصاديين والتكنوقراط العملاء عند رأس المال. في بروز سوليدير، في تحقيق المشروع «الحلم» عند صاحبه، خطوات سياسية واجتماعية عديدة سبقت عملية الاكتتاب على الأسهم، من إغواء نواب ووزراء وقادة ميليشيات، إلى تمرير مشاريع تعديلات على القوانين وتسويق ضرورتها أمام الطبقة السياسية والإعلام (أبداً أمام الناس وأصحاب الحقوق). والأرقام التي ستفرض واقعها لاحقاً، والتي لن يناقش جدواها أحد، لم تستوِ في الأصل بالمنطق العادي نفسه. كانت عملية التحضير لإنشاء الشركة العقارية تتضمن كثيراً من الخداع، والعمل في الظل، بعيداً عن سبل المساءلة والاستجواب الديموقراطي، على شكل أعمال «الحركات السرية»، بنموذجها الأكثر تآمراً على الناس، والتضخيم في محله، كما سنرى تباعاً.

يمكن العودة إلى محضر أولى جلسات اللجان المشتركة في البرلمان اللبناني للنظر في بعض من سلوكيات المجتمع السياسي في خياطة هذه المسرحية على الناس، وفي مقاومة البعض لهذه المسرحية، وكان آنذاك المجتمع السياسي يعيش آخر أيام انقلاب داخله سوف تختمه المسرحية الانتخابية سنة ١٩٩٢. (مرجعنا كتاب «قانون الشركة العقارية: النصوص التشريعية والتنظيمية»، من تحقيق النقيب عصام كرم وتقديم رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ١٩٩٤). كان من بين مواضيع الجلسة الأولى، في تاريخ ١٨ حزيران ١٩٩١، درس مشروع قانون يرمي إلى تعديل بعض مواد المرسوم الاشتراعي المتعلق بإنشاء مجلس الإنماء والإعمار. سيسمى بالقانون ١١٧ عند إقراره. والمجلس الأخير، كان يرأسه حديثاً آنذاك الفضل شلق، حريريٌ من الطراز الأول منذ أن توظف عنده سنة ١٩٧٨. والتعديلات على المرسوم الاشتراعي تهدف إلى تأسيس شركة عقارية تعنى بإعادة الإعمار، ضمن شروط وتسهيلات معينة مستحدثة.   الدكتور فوّاز طرابلسي (بلال جاويش) تنوعت الآراء في هذه الجلسة، فهناك من كان معارضاً للمشروع بشراسة (حسن الرفاعي وإلياس سابا)، إلى حدود الغضب. وقد كثرت ملاحظاتهم على ما نصه المشروع من تنظيم للعلاقات بين الشركة المزمع تنفيذها لإعمار المناطق المدمرة من جهة، والدولة وأصحاب الحقوق من جهة أخرى. ومن النواب من تحدث حصرياً عن شركة مقصود إنشاؤها لإعادة إعمار الوسط التجاري لمدينة بيروت بالتحديد. وهناك من اكتفى بالاعتراض على بعض بنود المشروع، بداعي الحذر والتأني. وكان عامةً أغلب الحاضرين ساكتين، مشاهدين. لا أثر لهم في نقاشات المحاضر في هذا الموضوع بالتحديد، رغم تأكيد حضورهم في بدء الجلسة. أما في الجهة الأخرى، جهة الحكومة التي صاغت المشروع والنواب المتحمسين له والإداريين، فيبرز موقع التماسيح. في التعاطي مع انتقادات النواب المعترضين، أو حتى في سكوتهم، الذي إن أمكن تفسيره كعلامة رضى على سير الأمور، فإن تفسيره قد يعني أيضاً عدم تسلح هؤلاء بالحجج الأخلاقية الوافية في وجه حجج المنتقدين، وطبعاً،باطمئنانهم إلى أن الأمور الدكتور جورج قرم (مروان بو حيدر )ستسير في المنحى المطلوب، وأن الجلسة ونقاشاتها من الأمور المسرحية التي لا بد منها. فقد أتى بعض النواب على انتقاد أداء مجلس الإنماء والإعمار في العهود السابقة، إذ يعلمنا النائب بيار الحلو مثلاً أن نبيه بري نفسه وصف في ما مضى المجلس «بمغارة علي بابا»! وهذا كبير في كل المعايير. ومجلس الإنماء والإعمار، كما ينص مشروع القانون، هو الموكل إليه تأسيس الشركة العقارية التي ستصبح سوليدير. وجاءت غيرها من الانتقادات التي لم يرَ أحد ضرورة للرد عليها. النائب سليم سعاده يسأل من أين أتت الفكرة على مجلس الوزراء؟ هل «نزل الوحي» على الوزراء الثلاثين المجتمعين؟ يسأل سعاده (ص. ١٣٨) ويلمح إلى وجود «صاحب الفكرة» ووجوب استجوابه «لأنه قد يستطيع أن يقنعنا أكثر من بعض الوزراء». بدا جلياً للمشاركين في الاجتماع أن فريق الحكومة غير مجهز بالحجج المقنعة. وحده أبو إلياس، المر، تطوع للدفاع عن الفكرة، وأي دفاع! «الدولة لا تصرف أموالاً على هذا المشروع»، «يقول أشياء غير صحيحة»، دحض غير مفصل لملاحظات النواب، والمستغرب أن النواب هم من اعتبروا أنفسهم غير مطلعين على المشروع بما فيه الكفاية لمناقشته في هذه الجلسة الأولى. ثم عندما يثابر إلياس سابا على إثبات أن العملية القانونية، المكونة من المشروع المقترح ومن قانون التنظيم المدني، تغير طبيعة ملكيات أصحاب الحقوق التي من المفروض أن تسيطر سياسات الشركة العقارية على التصرف بحقوقهم (وأن تنتزع حقهم بالكامل عن طريق تذويب حصتهم في رأس مال الشركة)، بمعنى أنها تغير الملكية نحو الأسوأ، يقول له ميشال المر «هذا النص لم نضعه نحن» (نص قانون التنظيم المدني)، معترفاً بأن في القوانين مساحات تسمح بالخداع وبتحوير الغاية من إرساء القانون، و«مطنشاً» على الموضوع، كما نقول بالعامية. الياس سابا يجيبه «أنا لم أقل إنك أنت الذي وضعته». يظهر النص جواً من الاتهام والمحاكمة، ترجم ضغطاً على البعض، وتضييعاً لهدف النقاش على حساب الدفاع عن السمعة الشخصية. في ذلك الإطار، جاء بعض النواب المتحمسين للمشروع على أنه أوجد خدمةً لبيروت التي جميعاً نحبها ونعشقها. هكذا مركزية بيروت، واللعب على الوتر الطائفي عبرها، يأتي ليقمع الآخرين ويضعهم في موقف دفاعي. مع أن المشروع، كما قالوا، يصب في إعادة إعمار كل المناطق اللبنانية. لم يكن كذلك عند بعض من دافع عن مشروع القانون. كان أفق هؤلاء واضحاً: سوليدير وسوليدير فقط. في جلسات اللجان المشتركة التي ستتبع (في تاريخ ٢٧ حزيران ١٩٩١)، سيذكر أحد النواب المنتقدين أنه وغيره وفريق الحكومة «نعلم كلنا ويؤسفنا أن نعلم أن المرسوم، أي أشباح الشركة، نُظّم وشُكّل قبل وضع مشروع القانون هذا» (ص. ١٥٢).   الرواية نموذجية على أكثر من صعيد، وفيها الوفير من نماذج السلوكيات الاجتماعية التي ستصبح قاعدة في ما بعد، في تعاطي السياسيين مع حقوق المواطنين. فسوليدير تكاد تكون منذ انطلاقتها، أي منذ اكتمال أول استكتاب على الأسهم، كارثةً على الصعيد الوطني، ومرسيةً لمعادلة جديدة في الاقتصاد، قوامها أن مصلحة قلة من الأغنياء والمالكين، أولاً في تأطير الرساميل من جانب الحكومة من مصلحة ملايين المواطنين. كما أن لحظة الاحتفال بالشركة العقارية تلخص المنطق الأيديولوجي المرفق بهذا المنطق الاقتصادي، إذ إن الاحتفال يصبح حجةً، وركيزة رمزية متخطية للمنطق، في وجه أي خطاب سياسي آخر. هذا الاحتفال بالمعادلة الاقتصادية، العوجاء في معيار مصلحة الفقراء ومصلحة العدد الأكبر، سيتبع انتهاجه في مسألة المصارف اللبنانية، التي يقدسها النظام بشبه كامل أعضائه، بالرغم من علاقتها المدمرة بالدولة وبالمجتمع عن طريق الدولة. 

يتضمن مشروع القانون الذي سردنا مناقشته أعلاه، تنازلاً من الدولة عن تحصيل الضرائب الناتجة من المشروع على مدى عشر سنوات، وهذه ستكون ثابتة النظام الاقتصادي اللبناني الذي سيتبع، أي إعفاء أكبر المنتفعين والرساميل، من المشاركة في إعادة بعض التوازن، لا بل الكثير من التوازن، إلى نظام إعاشة مجتمع اغتنوا من امتيازاتهم فيه. بل أكثر من ذلك، ستشيد الحريرية نظام نفقات للدولة ونظام استدانة بحجة النفقات، استدانة من المصارف وعن طريق إصدار سندات خزينة بفوائد خيالية تفوق كل المعدلات في المنطقة وعلى المستوى العالمي (أي لا تبررها الضرورة التنافسية)، سيجعل هذا النظام الدولة أسيرة للدين. أسيرة أبدية في المنحى الحالي للأمور، حيث يذهب أكثر من نصف نفقاتها السنوية لخدمة هذا الدين، نصف ما تجنيه الدولة من جيوب المواطنين، مساهمةً في إفقارهم. بينما ينشط الخبراء الاقتصاديون ــــ سمّهم العملاء الرّخاص عند رأس المال ــــ في كل مناسبة استحقاقات إدارية (مثل إقرار الموازنة الحكومية وما تتضمنه من تفصيل للنفقات) في الاشتكاء من مصاريف جسم إدارة الدولة، والمضمونين، والمعلمين والوزارات الريعية، وغيرها من الوسائل التي، مهما علا سخفها ومهما قلّت فائدتها، إلا أنها من الوسائل القليلة التي تعيد إلى المواطنين القليل من الذي دفعوه ضرائب تصاعدية، والذي ذهب معظمه إلى المصارف والمودعين الكبار. هكذا يسير الاقتصاديون، وحقل كامل من الخبرات في لبنان، من أعالي مكاتبهم الموزعة بين مباني المصارف الرئيسية، ووزارة المال، ومشاريع الأمم المتحدة، والأقسام الاقتصادية لأغلب الصحف، والقصر وبلاطه، على التنكر يومياً، وفي كل منشور يصدرونه، أو مقال، أو مقابلة تلفزيونية، لا بل في أبحاثهم الداخلية، التنكر لحقيقة أن النظام الاقتصادي كله يذهب في منحى استغلالي بحت، وأن كل مؤشراته الحسابية تدل على طغيان تغذية الاستغلال المطلقة. مساهمون في تماشيهم مع سير الأمور الحسابية في إرساء استمرارية هذا النظام المفلس، من معيار اقتصاد أي مجتمع سلم. فالنظام الاقتصادي في لبنان، كما النظام السياسي، نظام إدارة للأزمات التي يولدها. وهنا ينبغي الفصل بين مستويين اجتماعيين. عند الناس، يجهد الإعلام الحريري وإعلام النظام عامةً في عرض الاحتفال بسوليدير والمصارف، وكأن للنظام القائم بطولاته، للتغطية على فعل جريمة النظام الاقتصادية. ولا يمكن الجزم بتفاصيل فعالية هذا الخطاب على الأرض الاجتماعية، في مدى شعبيته عند بعض أوساط المجتمع، بل يجوز افتراضه فعالاً عند الجمهور الناخب للحريرية. وأسباب اقتناع هذا الجمهور عديدة، لن نفصلها الآن، لكنها حتماً تختلف عن أسباب السياسيين والاقتصاديين الحريريين. عند السياسيين والاقتصاديين، المسألة تختلف. فهؤلاء من المفروض أنهم درسوا نماذج اقتصادية مختلفة، ودرسوا السوابق القانونية للسياسات على اختلافها، وجلهم من البرجوازية المدللة التي استحصلت على شهاداتها في الخارج، ومن المفترض أن لديهم نظرة مقارنة للأمور، ومع ذلك، هم ما زالوا يصدقون على سير الأمور الاقتصادية كما هي عليه. وكما في النموذج الذي سبق عرضه في اجتماع اللجان المشتركة، لا شك بأن عند معظم هؤلاء نظرة فوقية للمجتمع، بحكم مهنتهم طبعاً ومرفقة بصورتها وما تحتويه من عناوين النجاح الاجتماعي، لكن، على مستوى أعمق من ذلك، وخلف الأرقام والعمليات الحسابية واللغة البيروقراطية، ماذا يدور في رؤوسهم؟ هل يتخيلون بيوتاً؟ أم ناساً؟ أم سياسيين تلفزيونيين يجب مراعاتهم؟ ولنكن واضحين، الفساد الإداري لا يكلّف الدولة شيئاً مقارنةً بخدمة الدين. وعندما يقرر هؤلاء زيادة قيمة ضريبة ما على ذوي الدخل المحدود، مثلما ينوون إمراره أخيراً في مشروع الموازنة، أو مصادرة بيت، هل تبدأ معالم صورة ما بالظهور من وراء ضباب التجريد؟ ثم عندما يحسمون قرارهم، ماذا يقولون لأنفسهم؟ فلـ«تصطفل» الناس؟ هم ربما يتخيلون الناس كالقردة: إذا اقتلعت شجرتها، لا مشكلة، فهي قادرةٌ على أن تقفز إلى شجرة أخرى.

هكذا هي الحريرية، والعقيدة الاقتصادوية التي أرستها، والقائلة بأولويات ليست بالضرورة بأولوية في الأخلاق وفي ما تدعيه الحريرية في خطابها السياسي. فالعنصرية الحريرية مثلاً، ونرى ذلك كثيراً في شكاوى اقتصادييها، تتذمر من الأحزاب الريعية الطابع، المطالبة بصرف أموال أكثر في وزاراتها. حتى أن الحريرية أصبحت تدين أي نهج مختلف في وزاراتها وكأنه نهج ريعي، حتى لو لم يكن كذلك. نرى ذلك في مقالات اقتصادييها وصحفها في الأسابيع الأخيرة المتذمرة من نفقات الوزير «العوني» المخططة لشركة الكهرباء («النهار» مثلاً، في صفحتها الأولى في تاريخ ١ آذار ٢٠١٠، لا تذكر زيادة في النفقات سوى في الكهرباء). فالهدف، في الخطاب الاقتصادوي الحريري، ليس انتقاد التطفل، ورفيق الحريري وابنه سعد لم يحصلا على أغلبية نيابية ووزارية إلا بفضل الطفيليات. إنما الهدف تثبيت منطق أولويات، تعني توزيع الأموال في البلاد. والأحزاب الريعية تشترك والحريرية في هذه النظرة العنصرية، لأنها في النهاية تسلّم بأولويات الحريرية الاقتصادية، وترى موقع الحماية عن ناسها محفوظاً فقط في التطفل على الإدارة. وليس في قلب النظام رأساً على عقب. هي ربما ترى ناسها لا يستحقون أكثر، مقارنة بغيرهم. وليس صدفةً أن نرى بعض قيادات الأحزاب الطفيلية، على امتداد «الطوائف»، مشاركة في الصفقات الاقتصادية الكبرى. وليكن واضحاً أن الجالس على شرفة قصره الراس ــــ بيروتي، المطلة على رأس بيروت والبحر، أو على الأوزاعي والبحر، لا يختلف كثيراً عن المستعبد الأبيض، الملاك، الجالس على عتبة قصره المشرف على حقول القطن، حيث يجهد «عبيده» في العمل، ومنظر الفضاء القاري الأميركي من حولهم. الرومانسية هي نفسها. وللكلام تتمة.

 

رائد شرف

منذ ما قبل الاستقلال، لم تحظَ المالية العامة في لبنان باهتمام كبير من الأحزاب والقوى السياسية. ودرجت العادة على أن تمرّ الموازنة في مجلس النواب دون نقاش جدي، وبمادة واحدة. يعود هذا العطل البنيوي إلى بنية الطبقة الحاكمة والنظام اللبناني. فقد كان هذا النظام منذ إنشاء نظام المتصرفية، ليبرالياً بامتياز، يمثّل مصالح التجار ورأس المال المالي، مستلحقاً بمراكز الرأسمالية الغربية، كما وصفه ونظر إليه ميشال شيحا إبّان عهد الانتداب. وما زالت الطبقة الحاكمة في لبنان وممثلوها في السلطة يتشبّثون بهذه الرؤية. ولم يعرف لبنان يوماً حكومة مركزية ممثّلة للجماهير ومصالحها، ممسكة بدورة الإنتاج أو موجّهة لها، مثل دول جنوب شرق آسيا، أو دولة حاضنة تضع الإنسان ومصالحه محوراً لسياساتها الاقتصادية والاجتماعية. ومنذ وصول الرئيس رفيق الحريري إلى السلطة في أواخر سنة 1992، وتولّي فؤاد السنيورة وتلامذته أمر وزارة المالية، تمّ «تخصيص» مشروع الموازنة، وانتقل العمل في إعدادها من وزارة المالية إلى فريق حريري خاص في «السادات تاور» بمساعدة وتوجيهات فاعلة من «إجماع واشنطن»، أي من صندوق النقد والبنك الدوليين ووزارة الخزانة الأميركية، وبالتزام أيديولوجيا الليبرالية الجديدة. وضمن توجّهات هذا الفريق وارتباطاته، فقدت الموازنات ومشاريعها كل مصداقية وكل شفافية. فقد تم تجاوز الإنفاق المقرّر في قانون الموازنة دائماً، وتم تعطيل مؤسسات المراقبة والمحاسبة، كما تم تعطيل دور مجلس النواب في هذا الشأن، وبموافقة النواب ورئيس المجلس، حتى وصل الأمر إلى عدم تقديم مشاريع للموازنة منذ سنة 2005 دون أن يعمد مجلس النواب إلى حجب الثقة عن الحكومة. وبذلك مرّت خمس سنوات لم تتقدم فيها الحكومة إبّانها حتى بمشروع موازنة، وبتقديم قطع حساب عن عمليات الخزينة. أي إنه كان يُجبى ويُنفق المال العام دون رقابة أو موافقة دستورية وشرعية، ودون محاسبة. وأدّت سياسات الإنفاق غير المنضبط إلى هدر كبير في المالية العامة، وإلى زيادة غير مبرّرة للإنفاق الجاري، وتقليص للإنفاق المجدي والاستثماري، ودُفع لبنان عمداً إلى فخ المديونية، ووضع تحت رقابة «إجماع واشنطن» ورحمتها. وأصبح البحث في شأن المالية العامة محصوراً في كيفية تقليص عجز الموازنة والحد من نموّ الدين العام، مع التسليم الضمني بصحة توجّهات وزارة المالية، الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تمثّل أخلاقيات السوق الليبرالية الجديدة، ومصالح الطبقة الحاكمة في لبنان. وتأتي الحلول المطروحة دائماً من واضعي مشروع الموازنة بزيادة الضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على الطبقات الشعبية وأصحاب الدخل المحدود، وتقليص الضرائب المباشرة على الأرباح والمداخيل الريعية، وإلغاء الضرائب على الأرباح الرأسمالية (أرباح المتاجرة بالعقارات والأسهم) وتمكين المؤسسات المالية والتجارية الكبرى، وأصحاب المداخيل المرتفعة جداً، من التهرّب من الضريبة تحت غطاء السرية المصرفية. وجرى التعبير بوضوح عن استهدافات السياسات الضريبية، الهادفة إلى جعل لبنان جنّة ضريبية لكبار الرأسماليين، كما إلى زيادة ربحيّة المصارف اللبنانية إلى معدلات غير مقبولة اقتصادياً واجتماعياً، عبر نهب المالية العامة (فوائد فاحشة على سندات الخزينة) وعبر نهب قطاعات الإنتاج الحقيقي، وخاصة بالنسبة لصغار المنتجين. وعمدت الحكومات الحريرية إلى خفض الإنفاق المجدي، والتوظيفي منه خاصة، إلى حدود أقل من عشرة في المئة من مجمل الإنفاق، والذي كان يمثّل في الماضي حوالى نصف الإنفاق العام. وبحجة تفعيل الاقتصاد، والحد من نمو الدين العام، والبنية الاحتكارية للأسواق، وتآكل الرواتب والأجور الحقيقية، وكذلك فرص العمل، تطرح الطبقة الحاكمة سياسة الخصخصة، التي تحصل عادة باحتيال وخارج الأطر الشرعية، وعبر انسحاب القطاع العام وترهيله، وكذلك عبر إفشال مؤسسات القطاع العام ودفعها لتتكبّد خسائر كبيرة بغية تبرير نهبها من الطبقة الرأسمالية الحاكمة، مثل كهرباء لبنان، ومؤسسات مياه لبنان، والضمان الاجتماعي، والقطاع التعليمي بكل مراحله، والإعلام المرئي والمسموع وتجارة الأدوية... إلخ. إن نقاش الموازنة يجب أن يأخذ مساراً آخر غير الذي تفرضه وزارة المالية ومَن تمثّل. فالموازنة تمثّل رؤية السلطة الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، واستهدافاتها. فعلى الصعيد الأخلاقي، إن الليبرالية الجديدة المعتمَدة لا تهتم إلا بزيادة أرباح رؤوس الأموال وتراكمها لدى المصارف، وزيادة ثروات الأثرياء، وتهتم بإعادة توزيع الناتج المحلي لمصلحة أصحاب رؤوس الأموال وعلى حساب الرواتب والأجور. وهذا ما حدث في مراكز النظام الرأسمالي وأطرافه بعد تبنّي أيديولوجيا الليبرالية الجديدة. فقد جرى تشييء الإنسان، وبدل أن يكون هو المستهدف من وراء السياسات الاقتصادية، أصبح هو ذاته أحد مدخلات الإنتاج بهدف تحقيق أعلى معدل ممكن من الربح، بغضّ النظر عن الظلم الاجتماعي واتّساع نطاق الفقر والعوز والإذلال. والسلطة القائمة لا تهتم إلا بقطاع الخدمات، مع إهمال كلّي لقطاعات الزراعة والصناعة، كما يتّضح من موازنات الوزارات المختصة. فالتنمية المتوازنة بين المناطق، والحدّ من البطالة والهجرة تفرضان سياسات حمائيّة وبنية تحتية ملائمة لنموّ هذه القطاعات، وإنفاقاً عامّاً يمكّن من إنهاض هذه القطاعات، عكس السياسات المالية والضرائبية المتّبعة.

وتُقوَّم السياسات المالية أيضاً عبر دراسة وقع السياسة المالية على إعادة توزيع الناتج المحلي القائم، وعبر توزيع عادل للأعباء الضريبية وإنفاق عادل على الخدمات الضرورية والبنية التحتية، فتُضيَّق الفروقات الطبقية. ففي بريطانياً، مثلاً، ورغم سياسات تاتشر اليمينية، فإن وقع السياسة المالية يقلّص الفروقات في المداخيل الحقيقية بين الأغنى والأفقر من السكان حتى 27 ضعفاً قبل وقع السياسات المالية إلى سبعة أضعاف بعدها. أما في لبنان، فإن وقع السياسة المالية يوسّع الفروقات الطبقية ولا يضيّقها، وهذا غير مقبول في أي بلد في العالم. فالعبء الضريبي يقع على عاتق الطبقات الشعبية وأكثر من نصف هذه الضرائب يذهب إلى جيوب المصارف والأثرياء عبر خدمة الدين العام. والسياسات المتّبعة تقلّص فرص العمل في القطاع العام، ليس لعدم حاجة هذا القطاع إلى قوى عاملة مؤهّلة جديدة، بل لإجهاض القطاع العام وتخصيص كل السلع والخدمات التي ينتجها. وبرغم ما يتحدثون عنه من نموّ اقتصادي إعجازي، فإن هذا النمو يذهب كلّه لمصلحة رؤوس الأموال مع استمرار تدني القيمة الحقيقية للرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص، ودون ربط الأجور والرواتب بنمو الإنتاجية، كما هي الحال في العالم المتحضّر. وقد تمكّنت السلطة اللبنانية من تنفيذ سياسة الإفقار للقوى العاملة عبر تفسيخ النقابات العمالية والمهنية وتمزيقها وتطبيق سياسة «تحرير سوق العمل» ولو بالمواربة والتحايل وتعطيل القضاء المختص لدفع العمال والموظفين لقبول ما يمنّ عليهم به أصحاب رؤوس الأموال. لذلك لا بدّ من مناقشة مشروع الموازنة العامة خارج إطار ابتزاز السلطة المالية في وضع خيارات ظالمة بحق الجماهير في حل مشكلة عجز الموازنة وكبح نمو الدين العام، إلى مناقشة عامة لمجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

غالب أبو مصلح*

تحت جنح الظلام، ومن دون إعلانات رسميّة مُطنطِنة، وفي غياب وزير الدفاع الذي لا يفوّت فرصة للتنويه بإنجازات ــ غير موجودة ــ له، تملّصت حكومة لبنان من القرار الشهير بتجهيز روسيا لبيروت بطائرات الميغ. والموضوع كان يمكن السكوت عنه لو أن المرّ هذا لم يُصدِح الكون بنجاحه الباهر في الحصول على طائرات الميغ. والوزير الذي اعتبر أن وصول الميغ هو من المتغيّرات الاستراتيجيّة في المنطقة العربيّة، غاب عن السمع. والإعلام اللبناني نسي الموضوع ــ ولا علاقة لذلك بإكراميّات أبي الياس وعطاءاته الشهريّة

أسعد أبو خليل فجأة، اكتشفنا أن طائرات الميغ التي هلّل لها لبنان وطبّل، لن تأتي. كاد العلم اللبناني أن يتزيّن بطائرات الميغ. وانتظار طائرات الميغ تحوّل على امتداد الأشهر إلى نوع من انتظار غودو. ويُسأل الوزير الياس المرّ عن الموضوع ويسارع إلى الإجابة أن الطائرات هي على وشك الوصول، وأن ما على الأفئدة والحناجر إلا الانتظار. وقد أطلّ المرّ في برنامج «كلام (بعض) الناس» قبل أسابيع فقط وتحدّث بإسهاب عن طائرات الميغ. وعزا تأخير الوصول إلى مسائل إجرائيّة وتقنيّة، وعدّد الأسباب البريئة للتأخير وذكر منها: تأخّر تأليف الحكومة، توعّك أبي الياس، الخلاف بين سمير جعجع وبيار الضاهر، أزمة معابر غزة، وكاد أن يضيف أن الحرب الأهليّة في الكونغو لعبت دوراً سلبيّاً في سرعة وصول الطائرات. طبعاً، لم يزعج مارسيل غانم ضيفَه وصديقَه (الذي كان قد استضافه في حقبة رستم غزالة للحديث عن خطر «عبدة الشيطان» المستطير، لأن الياس المرّ يرى في خطرهم ما يفوق خطر العدوّ الإسرائيلي). لكن المساءلة واجبة في هذا الموضوع، وخصوصاً أن وزير دفاع دولة ـــــ تتعرّض للتهديد اليومي ـــــ أصبح لسنوات مهزلة المهازل في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. وهو نتاج مدرسة نفاقيّة في السياسة اللبنانيّة: أبو الياس المرّ تحوّل بقدرة قادر من عرّاب المرحلة الإسرائيلية وتنصيب إسرائيل لأسوأ لبناني على الإطلاق رئيساً للجمهوريّة عام 1982 (وقد ساهمت إسرائيل في رشوة النوّاب آنذاك)، تحوّل إلى عرّاب للمرحلة السوريّة بكل مراحلها، وأصرّت استخبارات الدولة السوريّة على تنصيبه هو أو ابنه في مواقع حكوميّة حسّاسة. أذكر عندما رأيت سليم الحص يوم كان رئيساً للوزراء في عهد لحّود، أنني سألته عن سبب توزير المرّ في حكومة أعلنت الحرب على الفساد. شعرت قبل أن يجيبني أنه مُحرج من الجواب، واكتفى بالقول إنه لم يكن موافقاً على التوزير لكن قوى «إقليميّة» أصرّت، ثم طلب منّي تغيير الموضوع. وبلغ إلياس المرّ سن الوزارة برعاية من الاستخبارات السوريّة نفسها، وإن عاد بعد ذلك ليصول ويجول في زعم البطولة ضد النظام السوري. لكن هذا موضوع آخر.

الموضوع الأساسي أن وزير الدفاع اللبناني فقد كل مصداقيّة له في حرب تمّوز، إذا لم نرد أن نقول إنه فقد المصداقيّة قبل أن يجلس على كرسي الوزارة بسبب ظروف توزيره. كان إلياس المرّ يشدّد في الأيام الأولى لعدوان إسرائيل على لبنان على أن الجيش سيدافع عن لبنان، وأعلن أن الجيش «سيلقّن العدو درساً لن ينساه» لو تقدّمت قوّاته في الأراضي اللبنانيّة. وعندما تقدّمت قوات العدو (وإن ببطءٍ مُذلّ)، اختفى وزير الدفاع وترك أمر الدفاع عن لبنان لصبية من البواسل الذين لقّنوا العدو درساً لن ينساه بحق. هي معركة النصر البشري تلك. وكان يمكن لو أن لبنان دولة بحق أن تجري محاسبة ومحاكمة لأداء المرّ أثناء تعرّض لبنان لعدوان وحشي لا مثيل له في تاريخ العدوان الإسرائيلي غير المتوقّف. وعاد المرّ المرّة تلو المرّة إلى موقع الوزارة، مما أعطى صورة حقيقيّة غير جميلة عن طابع العهد الجديد. لا يمكن أن تتوقّع الحكم الفاضل في عهدة أبي الياس المرّ وابنه، الذي يتحدّث ببطء شديد لظنّه أن بطء الكلام يضفي على مُلقيه هيبة يرومها. وذهب المرّ في تلك الرحلة الشهيرة إلى موسكو، واعتمر قبّعة سميكة إمعاناً في إظهار الجديّة في الزيارة. واصطحب معه كعادته فريقاً صحافياً عرمرمياً وكاميرات تلفزيونيّة من «إل.بي.سي» (وهو مثله مثل وزير الداخليّة، زياد بارود، الذي يفاجئ حواجز قوى الأمن في الليل بزيارات تفقديّة، مع أن كاميرات الشبكات التلفزيونيّة لا تفارقه ـــــ يبدو أنها تقع عليه، أو هو يقع عليها بالصدفة). ومن موسكو تحدّث إلياس المرّ عن إنجازه، وكيف أنه «فوجئ» بهذا السخاء الروسي، وكيف أن الطائرات من شأنها (إذا أضيفت إلى طائراتي الهوكر هونتر اللتيْن تشكلان سلاح الجو اللبنانيّ بكامله، هذا إذا لم تُحسَب سلالم بحوزة الجيش، وهي تستطيع أن تذهب بك إلى الأعلى) من شأنها أن تحصّن لبنان. وعندما سأل البعض في الصحافة الوزير المرّ عن إنجازه هذا وإذا كانت أميركا ستسمح للجيش اللبناني بالتزوّد بطائرات الميغ، قطّب المرّ حاجبيْه وخطب في موضوع سيادة لبنان وعزّته. ثم، اختفى موضوع طائرات الميغ إلى أن تحدّث المرّ عنه في البرنامج التلفزيوني المذكور. ولكن بين إعلان حصول لبنان على طائرات الميغ (وقد أسهبت الصحافة في لبنان في التنويه بإنجاز إلياس ونشرت صوراً ملوّنة ورسوماً عن مواصفات الطائرات تلك ـــــ كادت النسوة أن يغنين عن الميغ مثلما غنّى جيل سابق لباخرة «الروزانا» التي ذهبت مثلاً) وقرار «إلغاء» الصفقة زيارةٌ من المرّ لواشنطن. أي إن في موضوع إلغاء الصفقة ما هو «أبعد من موسكو وواشنطن»، كما يقول عنوان أحد كتب ميخائيل نعيمة. وفي واشنطن ـــــ مصطحباً كعادته جيشاً من الصحافيّين وكاميرات من «إل.بي.سي» و«المستقبل الوهابي» ـــــ أعلن إلياس، مرّة أخرى، أنه «فوجئ» (وهو دائماً يُفاجأ بالسخاء الأميركي والروسي نحوه ربما لعلمهما بنظريّاته في العلم العسكري والدفاع التي تُدرّس في الكليّات العسكريّة حول العالم، مثلما أعلنت جريدة «الحياة» أن «نظريّات» خالد بن سلطان تُدرّس في الكليّات العسكريّة حول العالم) بتقديم واشنطن لقائمة من المساعدات العسكريّة للجيش. لكن أي قارئ يستطيع أن يتأكّد أن المساعدات العسكريّة الأميركيّة للبنان غايتها قمع التمرّد والشغب والثورة في داخل لبنان. أي إن برنامج المساعدات الأميركيّة للبنان (وقد تضاعف بعد اغتيال رفيق الحريري) يستهدف الدفاع عن حكومة لبنان بوجه الأعداء الداخليّين، لا الدفاع عن لبنان بوجه إسرائيل. وأي نظرة للتثبّت من زيادة المساعدات بعد تبوُّء السنيورة تكفي لكشف الأهداف الأميركيّة في حماية الحكومات المُوالية لها، لا في حماية الدولة (أية دولة عربيّة) من إسرائيل. وتحرص أميركا في المقابل على عدم حماية لبنان من عدوان إسرائيل. وإبدال الطائرات بالطوّافات يبشّر بحرب جديدة على مخيّم فلسطيني آخر آهل بالسكان. وعاد المرّ من واشنطن وعاد بكلام دعائي تقليدي عن «طائرات»، فيما هي طائرات تُستعمل هنا لرش المبيدات فوق المزروعات. حوّلها الصحافيّون الموالون لآل المرّ إلى طائرات مقاتلة. ووفق هذا التعريف، يصبح الـ«تليفريك» طائرة مقاتلة تسمح بمواجهة إسرائيل. واللجان النيابيّة في لبنان لا تقوم بعملها. لو قامت بعملها، لعقدت لجنة الدفاع والداخليّة جلسة طارئة لكشف ملابسات ما حدث لطائرات المرّ. يجب أن يُسأل إلياس المرّ عن العلاقة ـــــ إذا وجدت ـــــ بين زيارة واشنطن (واللقاء مع عزيزهم «جيف» ـــــ الحليف الوثيق لعتاة الصهاينة وكارهي العرب والمسلمين هنا، وقد بارك أخيراً كتاباً ينضح بالعنصريّة والكراهيّة ضد العرب والإسلام لليكودي «لي سميث»، نصير ثورة «(حرّاس) الأرز») والإعلان المفاجئ عن إلغاء صفقة الطائرات. أما الكلام المُسرّب من القصر الجمهوري عن قرار محض لبناني وبناءً على تقييم عسكري لبناني بحت، فهو كلام لا يُقنع إلا الأخرق أو الرضيع. ألم يكن وزير الدفاع يصطحب وفداً عسكريّاً رفيعاً إلى موسكو عندما أعلن خبر تلقّي الطائرات؟ ولماذا لم يكتشف لبنان عدم ملاءمة الطائرات قبل اليوم، مع العلم أن المرّ وخبراءه كانوا هم أنفسهم يزهون بخبر تلقّي الطائرات؟ الأمر مشبوه على أقلّ تقدير.

وفي غمرة مهزلة طائرات الميغ أو فضيحتها، يُعلن عن التئام عقد هيئة الحوار (الطائفي، لا الوطني) والتصدّي لموضوع «الاستراتيجيا الدفاعيّة» ـــــ والعنوان، على الأقل بالنسبة لفريق «الأمير مقرن أولاً»، لا يعني إلا نزع سلاح المقاومة. وهذه اللجنة ستسمح لحلفاء إسرائيل (في السابق؟) بتقديم المشورة في ما يتعلّق بالدفاع عن لبنان بوجه عدوان... إسرائيل. وأمين الجميّل الذي اعتنق، وحاول أن يفرض، اتفاق 17 أيار الذليل، قبل أن تجبره ثورة مسلّحة على طيّه، يعود ليصبح خبيراً في موضوع الدفاع عن لبنان، وهو الذي لم يستطع أن يحمي قصره في بعبدا من إسرائيل، والذي استقبل أرييل شارون وقادة العدو بقصر العائلة في بكفيّا. لكن سمير جعجع والجميّل تغيّرا لأنهما اعتنقا «العروبة الحضاريّة» ـــــ هكذا يُسمون التحالف مع الأمير مقرن في لبنان. لكن لبنان ليس جديّاً في مواجهة إسرائيل، ولا حتى في الدفاع عن أرضه. الخلل بدأ في صيغة الطائف التي تحدّثت عن «توحيد القوات المسلحة وإعدادها وتدريبها لتكون قادرة على تحمل مسؤولياتها الوطنيّة في مواجهة العدوان الإسرائيلي». وبين تاريخ إقرار الصيغة هذه وعدوان تموز ما يقارب العقديْن من الزمن، أو أقل بقليل، ولم يبدر من الجيش ما يشير إلى القدرة على تحمّل المسؤوليّات الوطنيّة في مواجهة عدوان إسرائيل. طبعاً، هناك من يذكّر بتغيير عقيدة الجيش (من عقيدة مُتحابة مع إسرائيل قبل الحرب الأهليّة حين كانت تتحوّل اجتماعات لجان الهدنة إلى حفلات سمر وإعلان الهويّة الفينيقيّة للوفد اللبناني ـــــ كما حصل في أول اجتماع للجنة الهدنة ـــــ إلى تسريب النأي الرسمي اللبناني عن أية مواجهة بين الجيوش العربيّة وإسرائيل)، وهناك من سيقول إن الجيش تغيّر. وهنا نصل إلى بيت القصيد. إن تغيير عقيدة الجيش ليس، كما صوّرت قيادة الجيش منذ الطائف، عمليّة إنشائية أو أدبيّة تتعلّق ببيان أو بأمر اليوم أو الغد. يترتّب على تغيير عقيدة الجيش تغيير في التسليح والتدريب لهذا الجيش، كما أنه يترتّب على ذلك تغيير في الدبلوماسيّة والسياسة الخارجيّة للبلد المعيّن. لا تتغيّر عقيدة الجيش في لبنان ما لم يتم ذلك بالتناسق مع تغيير جذري في التدريب وفي الإعداد والتسليح. إن تغيير عقيدة الجيش يتطلّب إعداداً هائلاً في طبيعة الجيش اللبناني، وهذا الأمر لم يحدث. إن عقيدة العداء لإسرائيل وعدوانها تقتضي بناء جيش عصري حديث مؤهّل لمواجهة إسرائيل إما وفقاً لحرب تقليديّة أو وفقاً لحرب العصابات. وكلا الأمريْن لم يحدث بعد، ولم يُتطرَّق إليهما. أي إن عقيدة الجيش اللبناني لم تتغيّر فعليّاً لأن السلاح هو نفسه والدبلوماسيّة هي نفسها. طبعاً، لن تسمح الولايات المتحدة للبنان بإعداد جيش قوي لمواجهة إسرائيل، ولكن على لبنان الإقرار بذلك أمام الرأي العام بدل فضيحة التستّر على الفيتو الأميركي الذي منع الجيش من تلقّي طائرات الميغ، وشارك في هذا التستّر ليس فقط وزير الدفاع الهزلي بل رئيس الجمهوريّة نفسه الذي صوّر قرار إلغاء صفقة الطائرات مبنياً على اعتبارات لبنانيّة تقنيّة، وفي هذا خداع ما بعده خداع. لماذا لا يُعلن رئيس الجمهوريّة السبب الحقيقي الصادر من واشنطن؟ وعنها؟ ستلتئم هيئة الحوار وستكرّر تجربة الخداع والتكاذب السابقة. لمَ لا تُعلن الأمور بصراحة؟ فريق السنيورة وتوابعه من قوّات وكتائب لا يريد مواجهة إسرائيل أو الدفاع عن لبنان بوجه عدوان إسرائيل. هؤلاء يؤمنون بضرورة الاستسلام أمام إسرائيل، ويستعملون عبارات من نوع «لا نريد لبنان ساحة مواجهة»، موحين بذلك بأن البادئ بالحروب الإسرائيليّة على لبنان هم أطراف مرتبطون بسوريا أو بإيران، وكأن لا نيّات أو دوافع عدوانيّة لدى إسرائيل حيال لبنان، قبل إنشاء الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران وقبل ولادة حزب الله وقبل وصول البعث إلى السلطة في سوريا. لكن هذا الفريق يتجاهل المعاناة التاريخيّة لأهل الجنوب على يد العدو الإسرائيلي. هذا الفريق يهرع، مثله مثل السادات، للتوصّل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل ـــــ هذا هو المشروع الحقيقي لفقيد عائلته، رفيق الحريري. وما عدا ذلك كلام دعائي مدفوع ثمنه من العائلة.

لو أن الدولة جادّة في تحقيق استراتيجيا دفاعيّة للبنان، لأقرّت بعدم جهوزيّتها. ورئيس الجمهوريّة يقول في حديث مع جريدة «الشرق» إنه يمكن الاستعانة بالمقاومة إذا لم ينجح الجيش في صدّ العدوان. لن نسأل رئيس الجمهوريّة عن تجارب الجيش اللبناني في صدّ العدوان، لكننا نسأل عن محاولة ـــــ فقط محاولة ـــــ الجيش اللبناني عبر تاريخه صدّ العدوان؟ متى وكيف وأين؟ لم يحصل ذلك. وميشال سليمان كان قائداً للجيش أثناء عدوان تمّوز، فلماذا لم يأمر بصدّ العدوان وترك أمر الدفاع عن لبنان لصبية من المتطوّعين الذين يتعرّضون للإهانة بصورة يوميّة في إعلام الحريري ـــــ السعودي؟ يستطيع لبنان أن يلتزم باستراتيجيا دفاعيّة جادّة فيما لو أعلن أن أميركا تمنع الجيش اللبناني من أن يكون جيشاً، وأنه سيتحوّل رسميّاً إلى ما كان عليه أثناء عهد الانتداب، أي فرقة «جندرمة»، كما يقال بالتركيّة. لكن الجيش، الذي أقنع نفسه وأقنع الشعب اللبناني بأنه يستطيع أن يثبت فحولته في قصف مخيّم فلسطيني آهل بالسكان، بينما يتنصّل من مهمة الدفاع عن أرض لبنان في وجه المعتدي الأكبر والتاريخي، غير مؤهّل. وبعد أن يُعلن الجيش أنه غير قادر على الدفاع عن لبنان، تستطيع الدولة اللبنانيّة أن تفعل ما يلي: 1) إعلان رسمي مفصّل ومُفنّد أن لبنان في حلّ من القرار 1701 والقرار 425 الذي لم يُطبّق. والإعلان أن الإخلال المتكرّر بالقرار الدولي يُثبت بالقاطع أن القوات الدولية موجودة لحماية إسرائيل من مقاومتها، وليس لحماية لبنان من إسرائيل. يكفي قراءة تقرير بان كي مون الذي يعظ لبنان، أو يأمره، بضرورة وقف تسلّح مقاومته، فيما لا يمكن تصوّر أنه سينصح ـــــ مجرّد النصح ـــــ لإسرائيل بتخفيف تسلّحها. نجح القرار 1701 المشؤوم في تحويل الجبهة اللبنانيّة ـــــ الإسرائيليّة إلى نسق آخر من جبهة الAffinityCMSن، كما وصف الرفيق عزمي بشارة في مقالة أخيرة له. 2) نقض قرار الهدنة بعدما نقضته إسرائيل منذ أول توقيع. واتفاق الهدنة سمح بلقاءات مشينة بين وفد عسكري عدو ووفود عسكريّة لبنانيّة، تخلّلها في أحايين غزل شبه إباحي بين الفريقيْن. 3) أخذ فضيحة شبكات التجسّس الإسرائيليّة على محمل الجدّ، وخصوصاً تلك التي نخرت في جسم المؤسّسة العسكريّة والأجهزة الأمنيّة، وإنشاء لجنة تحقيق بإشراف قائد الجيش لمعرفة أسباب هذا التغلغل العدو ـــــ وإن طاول أفراداً. ليس ذلك بالأمر الهيّن، ووسائل الإعلام تتعامل مع توقيف شبكات التجسّس مثل التعامل مع اعتقال أفراد عصابة للسرقة. 4) الإصرار على ترك المقاومة كما هي، بإمرتها هي وبأمنها هي. أي ان لا حاجة لإصلاح ما لم ينكسر. 5) التوقّف عن استعمال عبارة «تهريب السلاح» للمقاومة. هذه العبارة مصطلح صهيوني. يجب أن تتبنّى الدولة مدّ ـــــ لا تهريب ـــــ المقاومة بالسلاح من كل حدب وصوب ووفق رؤيتها العسكريّة الخاصّة بها. ويجب دعوة كل من يريد مقاومة إسرائيل بالسلاح إلى التطوّع، على أن تتولّى الدولة ـــــ التي تنفق أكثر من 30 مليون دولار سنويّاً لمعرفة هويّة قاتل فقيد عائلة الحريري ـــــ شأن التدريب والتمويل. 6) التصدّي لأصدقاء إسرائيل في لبنان ـــــ وهم كثر اليوم، ومنهم من زارها خفية ومن زارها علانية ـــــ عندما يعيبون على المقاومة أنها تنحصر بطائفة واحدة، ومطالبة هؤلاء بالتطوّع في فرقة منفصلة يقوم الجيش بإعدادها لمساعدة المقاومة أو لإعداد الأطعمة للمقاتلين. هؤلاء الذين عابوا على المقاومة لونها الطائفي لم يتطوّعوا لمقاومة إسرائيل في 2006. تستطيع الأمانة العامة لـ14 آذار التوجّه إلى الجنوب بثياب الميدان إذا كان أعضاؤها يحرصون على التنويع الطائفي في بنية المقاومة. هم ينسون أن تلك الحرب قضت على كل ما تلاها من خطط استراتيجيّة للفريق الحاكم. 7) جعل القرار الثاني في الحرب والسلم ـــــ لأن القرار الأول هو دائماً بيد المعتدي الإسرائيلي ـــــ في اليد الحصريّة للمقاومة لأنها وحدها تدافع عن لبنان. 8) الحفاظ على السريّة التامة للمقاومة إلا إذا كان الهدف ـــــ وهو الهدف ـــــ اختراق المقاومة خدمة لإسرائيل. 9) تنفيذ عقوبات فوريّة بحق عملاء إسرائيل في لبنان. هذا التساهل في قضيّة العملاء وجزّاري جيش لحد سهّل إعادة تجربة العمالة. 10) الإقلاع عن خطاب «عدم تقديم الذريعة لإسرائيل» لأن الحجة صهيونيّة وتفترض منطقيّاً أن إسرائيل لا تعتدي إلا ردّاً على اعتداء، مع أن العرب بادروا مرّة واحدة إلى الحرب على إسرائيل في كل تاريخ الصراع. بإعلان إلغاء صفقة الطائرات الوهميّة تتكشّف حقيقة الاستراتيجيا الدفاعيّة للفريق الحاكم. تبيّن بالقاطع أن طائرات إلياس المرّ هي طائرات ورقيّة، وأن خطته الدفاعيّة خطة ورقيّة هي الأخرى. يستطيع إلياس المرّ أن يتنحّى جانباً، وأن يتولّى وزارة جديدة لمكافحة خطر «عبدة الشيطان» (والتصدّي لهذا الخطر هو الاختصاص الحقيقي لابن أبي الياس المرّ). وتستطيع المقاومة أن تقاوم. أما الأمانة العامة لـ14 آذار، فهي منصرفة لأمور أخرى، وهي ترفض أن تدين التهديدات الإسرائيليّة للبنان بالاسم فتتحدّث عن «تهديدات خارجيّة» ـــــ أي إنها مجهولة المصدر. البراءة تتمثّل في بيانات الأمانة العامة. أما هيئة الحوار، فيمكنها أن تلتئم وأن تتداول أموراً أخرى مهمّة. وبعد صحن الحمّص العملاق، ماذا عن صحن كوسا محشوّ عملاق؟ هل تجرؤ الصهيونيّة على مقارعة صحن محشوّ عملاق؟ من المستحيل. ملاحظة: يقوم الإعلام الصهيوني بحملات مكثّفة للردّ على أعداء إسرائيل. وهناك من يكتب تعليقات صهيونيّة على مواقع الصحف الإسرائيليّة منتحلاً اسم «العربي الغاضب» مع إقرانه باسمي الأوّل. لكن الكذب والخداع والاختلاق والفبركة جزء لا يتجزأ من الدعاية الصهيونيّة. النبيه (والنبيهة) يدرك ذلك. يبقى أن نسترشد بشعار وديع حدّاد: ... «في كل مكان».

خالد صاغية كان يمكن العقيد وسام الحسن أن يختار تاريخاً غير 14 آذار لزيارة دمشق، أو بالأحرى كان يمكن دمشق أن تحدّد موعداً مختلفاً للعقيد الحسن. أمّا وقد حصلت الزيارة، فلا أحد يستطيع إهمال رمزيّة توقيتها، وخصوصاً أنّ رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي كُلِّف استكمال لائحة الطلبات السورية من سعد الحريري، كي توافق دمشق على تطبيع العلاقات مع العائلة الحاكمة في لبنان. ليست زيارة الحسن وحدها ما يحمل رمزية كبرى، بل أيضاً الاحتفال الجماهيري في 14 شباط مقابل الإحياء المتواضع لذكرى 14 آذار. وإذا أضفنا إلى ذلك اختيار الحريري طابعاً شخصيّاً لزيارته إلى الشام بدلاً من القيام بزيارة عمل رئيساً للحكومة اللبنانية، نفهم أنّه لا مانع من استكمال مراسم دفن «ربيع بيروت»، شرط إنقاذ «الضريح» في ساحة الشهداء. وإذا كان يمكن وضع حركة الحريري في إطار الواقعيّة السياسيّة، فإنّ حركة وليد جنبلاط أكثر خطورة. لقد استطاع جنبلاط، حتّى في لحظات ضعفه، أن يحوّل نفسه إلى محور الحياة السياسيّة اللبنانيّة. كأنّنا لسنا أمام إنقاذ زعامة آل جنبلاط، بل أمام إنقاذ لبنان نفسه. دار سجال بشأن اعتذار جنبلاط أو عدم اعتذاره من الرئيس الأسد. وليس صدفة أن تكون اللعبة قد استهوت الأسد نفسه، إذ فسّر في مقابلة تلفزيونية أخيرة كلام جنبلاط على أنّه اعتذار، قائلاً: من يعترف بأنّه أخطأ، يكُنْ كمن اعتذر. الواقع أنّ جنبلاط قدّم للنظام السوري ما هو أثمن من الاعتذار. لقد ردّ كلامه ضدّ رأس النظام في سوريا، ودعوته الإدارة الأميركيّة إلى التدخّل بطريقة شبيهة لما فعلته في العراق، إلى «التوتّر» و«التخلّي» وسوى ذلك من مفردات يراد منها القول إنّه لم يكن يقصد حقاً ما قاله. لقد كان غائباً عن الوعي. ليس عقل جنبلاط من تفوّه بتلك الكلمات، بل انفعالاته. مصادر ذلك الكلام ليست سياسيّة إذاً، لا علاقة لها بتاريخ العلاقات اللبنانية السورية، ولا باعتراض جزء كبير من اللبنانيين على ممارسات سوريّة في لبنان، ولا بما سمّي تقاطع مصالح بين لبنان وأميركا. مصادر ذلك الكلام هي حالات ماورائية أو نفسيّة. إن كان هناك من تواطؤ، فهذه ذروته. تواطؤ بين الانتهازيّة المستعدّة لإحراق البلاد من أجل زعامة شخصيّة، وبين من يريد أن يصوّر أيّ اعتراض على نظامه بأنّه ضرب من الجنون. في زمن سابق، لم يَرُق بعض الأنظمة أن يكون لديها معارضون. لكنّ ذراعها العسكريّة لم تتولَّ دائماً المهمّة. جنّدت علماءها لهذا الأمر، فاخترعوا أمراضاً نفسيّة وأطلقوا عليها أسماءً أُلصقت بكلّ من يجاهر بمعاداته للنظام. اختفى المعارضون فجأة، وامتلأت المصحّات بالمرضى. الطريقة التي اختارها جنبلاط لاستدارته، تفتح فرعاً لتلك المصحّات في لبنان. (غداً: في عزل القوّات) عدد الاربعاء ٣١ آذار ٢٠١٠
خالد صاغية بعد خروج الجيش السوري من لبنان، تواطأ اللبنانيّون والسوريّون على طمس معالم المرحلة السابقة. أو الأصحّ، تواطآ على التعامل معها كباقة شوك يختار كلاهما ما يريده منها. حسم ثوّار الأرز أمرهم سريعاً: ألقيت كلّ مشاكل البلاد الأمنيّة والسياسيّة وحتّى الاقتصادية، على عاتق ما سمّي الجهاز الأمني اللبناني ـــــ السوري المشترك. وهو جهاز، كما يدلّ اسمه، يرفع المسؤولية عن الطاقم السياسي برمّته. فيصبح بعضهم مجرّد أذيال لا فاعلية لهم، وبعضهم الآخر مجموعة من المغلوبين على أمرهم، استقلاليّين بالفطرة قُمعت ميولهم السياديّة. وعلى الضفّة الأخرى، قام السوريّون بواجباتهم أيضاً. جرى فصلٌ بين القيادة الحاليّة ومندوبيها في لبنان، والثلاثيّ الذي تسلّم الملف اللبناني في مرحلة سابقة. فألصقت كلّ شوائب العلاقات اللبنانية ـــــ السوريّة بثلاثيّ عبد الحليم خدّام، حكمت الشهابي وغازي كنعان. كان هذان التدبيران التوأمان كفيلين بإغلاق ملف العلاقات بين البلدين، بإغفال البحث في مسؤولية أي طرف عن أي شيء. وإذ رأت سوريا أنّها أصيبت بالضبط في المكان الذي تخشاه، وهو الانقلاب اللبناني عليها في ذروة توتّر علاقاتها مع الغرب، رأى «لبنان الجديد» في العمق أنّ صيانة استقلاله لا يمكن أن تكتمل ما لم يتغيّر النظام في سوريا. كلمة واحدة من كوندوليزا رايس عن تغيير السلوك لا النظام، كانت كافية لإقناع وليد جنيلاط بأنّ كلّ شيء قد انتهى. فأمام إحجام الغرب عن فرض التغيير بالقوّة، وأمام البون الشاسع بين المعارضة السوريّة والمعارضة اللبنانيّة آنذاك، بات ثوّار الأرز يتسابقون نحو صياغة انعطافاتهم. والواقع أنّ الإحجام عن توزيع المسؤوليات خلال الحقبة السوريّة سهّل الانتقال بخفّة من موقع إلى آخر، كأنّ شيئاً لم يكن. عودة إلى اللعبة القديمة نفسها. ولمَ لا؟ فالأولاد يتوارثون دائماً ألعاب آبائهم. هكذا سيقارن سعد الحريري ببهجة بين الاستقبال الذي لقيه في دمشق وما كان يلقاه والده. وسيذهب سيّد المختارة إلى الشام بهدف وحيد، هو اصطحاب ابنه تيمور وضمان التوريث السياسي. وكلّ طرف سيقنع الآخر بأنّ في إمكاننا فتح صفحة جديدة بعد رحيل النظام الأمني وانتحار غازي كنعان. لم يبقَ سوى لائحة مطالب صغيرة، على العائدين إلى سوريا تنفيذها للتكفير عن ذنوبهم. وعلى رأس اللائحة طبعاً، كمّ أفواه الإعلاميّين. لا حاجة إلى البحث في نوع العلاقات الجديدة بين البلدين. لا حاجة إلى إقفال ملفّات قديمة. لا حاجة إلى تقديم أيّ دليل، وإن وهميّاً، على نيّة بتغيير ما كانت عليه التسعينيّات. السوريّون غير مضطرّين إلى ذلك. واللبنانيّون العائدون إلى سوريا لا يطالبون بذلك. اللعبة القديمة لم تزعج أحداً على ما يبدو. الانقلاب عليها هو ما أفسد المائدة. حين تسدل الستارة على المشهد الأخير، سيكون الشعب اللبناني مطالباً بأمرين؛ الطوائف، كطوائف، عليها الالتحاق بانعطافة زعمائها. الأفراد، كأفراد، عليهم الاستعداد لموجة جديدة من النهب المنظّم. إنّه عام 1993. لقد أطلق الحريري للتوّ وعوده الربيعيّة. (غداً: في اعتذار وليد جنبلاط)
لم تنتهِ أزمة نهر البارد بعد. المخيّم المدمّر ظاهر للعيان مهما عملت الدولة على إخفاء معالم الجريمة، فيما تشكّل الأبنيّة الحديثة كارثة إنسانيّة بحق. المشكلة في نهر البارد ليست فقط في أن كارثة إنسانيّة لا بل مجزرة أكيدة حصلت بحق الشعب الفلسطيني هناك، بل كون السلطة ومن ورائها شعب لبنان غير العظيم يصرّان على استقاء البطولة والمجد من الحدث الذي أدّى إلى مقتل نحو خمسين من المدنيّين والمدنيّات (فيما كان أحمد فتفت يؤكّد في الإعلام أن مدنيّاً فلسطينيّاً واحداً قُتل في نهر البارد، بسيطة بالنسبة لفتفت صاحب إنجاز ثكنة مرجعيون التي ستقبّح وجه تاريخ لبنان إلى الأبد)

أسعد أبو خليل* سبب العودة إلى الكلام عن نهر البارد هو عرض فيلم «وثائقي» عن نهر البارد على شاشة «أو. تي. في» الشديدة الاعتزاز بالفينيقيّة (والاختصاصيّة بالبذاءة والسوقيّة الجنسيّة في برنامج «لول» غير الظريف). الفيلم شكّل في عرضه استفزازاً صارخاً للشعب الفلسطيني أينما كان، ولمشاعر كل من يناصر قضيّة شعب فلسطين. الفيلم لا علاقة له بالنوع الوثائقي من حيث الإعداد، ودخل في باب الدعايّة السياسيّة من نوع الأفلام «الوثائقيّة» التي تبثّها محطات آل سعود ومحطات آل الحريري. ومديريّة التوجيه في الجيش بدت كأنها هي المخرج والملحّن والمنتج والممثّل في الفيلم. لكن الموضوع يتعلّق بجيش لبنان، لا بالماريشال للّو المرّ الذي يعتبر أي انتقاد له من تدبير العدوّ الإسرائيلي وبمثابة إهانة للجيش وكرامته.

الجيش اللبناني هو من تدبير الحكومة الفرنسيّة وإنشائها، وقد لعب فيه فؤاد شهاب (المتمتع بتقدير ومديح إعلامي وثقافي لا يستحقّهما) الدور الأكبر، وقد رسم حدود دور الجيش بالتنسيق مع السلطات الفرنسيّة، التي كان على وئام تام معها. فؤاد شهاب كان من أكثر اللبنانيّين انبهاراً وإعجاباً بالرجل الأبيض، وخصوصاً إذا ما نطق بالفرنسيّة. معلوم أن مستشاره الفرنسي كان يحضر اجتماعات مجلس الوزراء في عهده، وكان الوزراء لا يجرأون على معارضته أو مخالفته (كما روى فؤاد بطرس في مذكّراته). وكانت أحاديث شهاب عن اللبنانيّين والعرب تستقي ما عندها من تعميمات الرجل الأبيض العنصريّة عن العنصر الإثني «المتوحّش». أما في مجال السياسة العسكريّة للجيش، فقد رسم له شهاب دوراً واضحاً في إبعاده عن كل التزامات الصراع العربي الإسرائيلي وكل مترتّبات المواثيق الجامعة في العالم العربي. ولنتذكّر أن دول المواجهة مثل سوريا ومصر (وحتى الأردن في عام 1967) قدمت تضحيات جساماً من جيوشها ومالها وترابها في الحروب العربيّة الإسرائيليّة رغم فشل ذريع في أداء الأنظمة هناك. وحده لبنان بقي متفرّجاً وصامتاً كأنه في كوكب آخر، وكأن معاناة شعب فلسطين لا تعنيه. كان يوقّع على اتفاقات الدفاع العربي المشترك ويتجاهلها قبل أن يجفّ حبر التوقيع. من يجرؤ على الزعم أن لبنان الرسمي استبسل في حرب 1948؟ من يصدّق أن المير مجيد ردّ العدوان الصهيوني ببَعْكُوره؟ على العكس. فلبنان خالف الخطّة العربيّة الموضوعة عام 1948 ورفض أن يدخل أرض فلسطين لينجد شعبها. كان شهاب واضحاً في أن لا علاقة للبنان بالصراع العربي الإسرائيلي وأن الشعب الفلسطيني في لبنان يُحكم بحذاء المكتب الثاني. نعلم اليوم أن الجيش اللبناني قبل الحرب اللبنانيّة كان يُعاني أزمات عميقة: طائفيّة وبنيويّة وسياسيّة (يُراجع كتاب فؤاد لحّود في هذا الصدد). العدوّ لم يكن إسرائيل بالنسبة للجيش. على العكس، العدوّ بالنسبة للجيش آنذاك كان أعداء إسرائيل في لبنان: هؤلاء اللبنانيّون والفلسطينيّون الذين واللواتي أصرّوا على أن يدفع لبنان قسطاً ولو بسيطاً من تحرير فلسطين، أو على الأقل الدفاع عن لبنان. تعرّض الجيش اللبناني لاعتداءات متكرّرة من إسرائيل، وكان الحكم اللبناني مصرّاً على الانحناء أمام عدوان إسرائيل، وتجاهله. تقرأ في عدد 8 حزيران 1949 من الـ«بالستاين بوست» (سلف «الجيروزالم بوست») مثلاً أن الجيش الإسرائيلي والجيش اللبناني لعبا مباراة كرة قدم وديّة في المنطقة الحدوديّة. هذا فيما كانت الجيوش العربيّة في مصر وسوريا تُعدّ للحرب المقبلة. يكفي أن تتذكّر أن إسرائيل اعتدت 140 مرّة على لبنان بين 1949 و1964. عام 1959، خطفت إسرائيل ثلاث طائرات لبنانيّة (واحدة عسكريّة واثنتيْن مدنيّتين) وأجبرتها على الهبوط في الأرض المحتلّة (راجع كتاب أمين مصطفى، «المقاومة في لبنان»). تفرّج لبنان الرسمي على أفعال إسرائيل وأرسل إشارات عبر لجان الهدنة طالباً السترة ومؤكّداً نيّاته الابتعاد عن الهموم القوميّة آنذاك. ومساهمة في حماية (بصورة مباشرة أو بالنتيجة) ظهر إسرائيل فيما هي تستعدّ لمواجهة مع جيران لبنان العرب، فرضت السلطة اللبنانية القمع في كل مخيّمات اللاجئين. وكان بمستطاع الجيش آنذاك التسلّح بأحدث المعدّات وكان له طائرات حربيّة استعملها في إلقاء الصواريخ على المخيّمات الفلسطينيّة، فيما التزمت تلك الطائرات النوم عندما كانت إسرائيل تستطلع وتقصف فوق لبنان. يكفي أن نذكر أن إسرائيل شنّت أكثر من 3000 اعتداء على لبنان بين 1968 و1974 وقتلت أكثر من 880 مدنياً ومدنيّة بين لبنانيّين وفلسطينيّين (راجع كتاب محمود سويد «الجنوب اللبناني في مواجهة إسرائيل»). اعتبرت السلطة أن لبنان غير معني بالصراع العربي الإسرائيلي، وما نُشر عن أوّل اجتماع للجنة الهدنة بين لبنان وإسرائيل بالعبريّة ذكر أن الوفد اللبناني عاجل إلى تطمين الوفد الإسرائيلي بـ«أننا لسنا عرباً»، وبالتالي غير معنيّين بمسوؤليّات صدّ إسرائيل وتحرير فلسطين، كان هذا شعاراً عربيّاً رسميّاً كاذباً آنذاك. وتضخّم دور الجيش في لبنان بعد محاولة انقلاب الحزب القومي وتفرّغ الجيش إما لأهداف القمع الداخلي الموجّه ضد اليسار (لأسباب بعضها محلّي سياسي وبعضها الآخر يتعلّق بخدمة الحكومات الغربيّة الحنونة طبعاً، حنان «العزيز جيف») وإمّا لتكبيل الطاقة الثوريّة لأهل المخيّمات. وعندما ازدادت الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان، زاد قمع الجيش اللبناني ضد الثورة الفلسطينيّة ومؤيّديها من اللبنانيّين. كرّس الجيش عقيدة ابتعاد لبنان عن كل مترتّبات المساندة لثورة شعب فلسطين. والكلام عن تغيير عقيدة الجيش في لبنان في التسعينيات مهين للدولة اللبنانيّة والجيش لأنه يقرّ بعدم عداء لبنان ضد إسرائيل في معظم التاريخ المعاصر (هذا إذا صدّقنا أن الدولة هي معادية لإسرائيل اليوم فيما تذكر بعض المراجع عن حرب تمّوز أن السنيورة كان يُرسل عبر الفرنسيّين نصائح وإن غير مباشرة للإسرائيليّين حول أفضل الطرق للتخلّص من حزب الله). يمكن تكوين فكرة عن عقيدة الجيش اللبناني في مرحلة ما قبل (وأثناء) الحرب من خلال كتاب طارق عبد الله «المستنقع» وفيه الكثير عن الطائفيّة وعن الجهر بالعداء لمناصرة القضيّة الفلسطينيّة. لم يمثّل عقيدة عدم معاداة إسرائيل أكثر من إسكندر غانم الذي شغل منصب قيادة الجيش في حقبة سليمان فرنجيّة. كان هو الذي نفّذ الأمر بتسليح الميليشيات اليمينيّة وتدريبها، وكان هو الذي مثّل التغاضي عن الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان على مرّ سنوات العهد المذكور. إن إصرار سليمان فرنجيّة على إبقاء إسكندر غانم عام 1973 بعد فضيحة وصول كوماندوس إسرائيلي إرهابي إلى قلب بيروت واغتيال ثلاثة من خيرة قادة المقاومة الفلسطينيّة في لبنان، أشعل أزمة حكوميّة أدّت إلى استقالة صائب سلام. تلا ذلك انقضاض الجيش على المخيّمات الفلسطينيّة المكتظّة وقصفها بطائراتي الهوكر هونتر اللتيْن تحلّقان في احتفالات الجيش مع تخاذلهما عن الدفاع عن لبنان بوجه اعتداءات إسرائيليّة متكرّرة. (لكن الماريشال للّو المرّ يعد باستيراد طائرات ورقيّة من روسيا قريباً). فشل الجيش فشلاً ذريعاً عندما حاول في مهمّة ذات دوافع وحوافز خارجيّة لا تخفى على الأخرق تقليد مجازر أيلول الأسود. منع مقاتلو الثورة الفلسطينيّة الأشدّاء في لبنان الجيش اللبناني من محاكاة الجيش الأردني الذي تنعَّمَ بمؤازرة أميركيّة وإسرائيليّة في مهمته الشنيعة. عندها، سلّمت السلطة السياسية الأمر للميليشيات اللبنانيّة التي كانت مرتبطة مبكّراً بدولة العدو الإسرائيلي وتتلقّى منه المعونات الماديّة والعسكريّة (أما آن الأوان كي يكفّ جوزف أبو خليل عن أكذوبة المركب في عرض البحر، وكيف أنه يممّ وجهه نحو فلسطين المحتلّة وكيف هبط عفواً على الشاطئ ليجد أمامه إسحق رابين وشمعون بيريز وغيرهما من القادة. يمكن تطوير الكذبة أو تحسينها). لم يقف الجيش اللبناني على الحياد أثناء الحرب الأهليّة. على العكس، كان يساهم بصورة فعّالة وقويّة إلى جانب ميليشيات إسرائيل في لبنان (من الطريف أن أدوات العدو الإسرائيلي في لبنان هي الأكثر تغنّياً بشعارات السيادة والاستقلال). كانت حركة «جيش لبنان العربي» المدعومة من أبو جهاد تعبّر عن نقمة ضبّاط وعناصر في الجيش ضدّ انحياز قيادة اليرزة الصارخ (طائفيّاً ووطنيّاً). وقد حدثت انشقاقات في صلب الجيش وكان بعضها غير بعيد عن وجهات النظر الصهيونيّة (عاد الجيش وأرسل بعض نماذج من قادته كملحقين عسكريّين في عواصم مهمّة). شارك الجيش في قصف المخيّمات الفلسطينيّة وكانت قيادته رديفة لقيادة القوّات اللبنانيّة بالرغم من بروز صراع بين الطرفين في عهد سركيس بسبب إصرار بشير الجميّل، أسوأ لبناني على الإطلاق، على فرض نفوذ ميليشياه الإسرائيلي على نفوذ الجيش، بالإضافة إلى تعدّياته واغتيالاته. كان ميشال عون، مثلاً، مستشاراً لبشير الجميّل وساندت مدفعيّته ميليشيات إسرائيل في قصف مخيّم تل الزعتر وتدميره. وعندما اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1978 وعام 1982، لم يطلق الجيش اللبناني رصاصة واحدة. ومن ساهم أو ساعد في فعل مقاومة، فعل ذلك تمرّداً. أما منزل رئيس الشعبة الثانية جوني عبده، فقد شكّل بيت ضيافة غير رسمي لآرييل شارون. كانت العقيدة غير المعادية لإسرائيل سائدة آنذاك: كانت العقيدة هي التنسيق مع إسرائيل. مثّلها جوني عبده. ولم تكن حركتا سعد حدّاد وأنطوان لحد (السيّئتا الذكر) بعيدتيْن عن القيادة السياسيّة (يروي فؤاد بطرس بعضاً من مداولات مجلس الوزراء في هذا الشأن وكيف وقف سليم الحص بوجه سركيس وبطرس اللذين عارضا معاقبة جيش لحد). وتذكر المصادر العبريّة أن سعد حدّاد بدأ علاقته بإسرائيل عام 1972 عندما كان يشغل منصباً رسميّاً في الجيش اللبناني. أما في عهد أمين الجميّل، فقد تحوّل الجيش إلى ميليشيا رديفة لحزب الكتائب وشارك في قهر بيروت الغربيّة والضاحية. وقد ذاقت مناطق مدنيّة سكنيّة في بيروت الغربيّة وضاحيتها الجنوبيّة من حمم الجيش وصواريخه التي لم تكن تلاحظ يومها أن لبنان تحتله إسرائيل. ما علينا، انتهت الحرب (وَوَعدنا زكي ناصيف بإعادة إعمار لبنان) وتغيّرت عقيدة الجيش وتغيّرت البنية الطائفيّة للجيش. وهذا أمر حسن. صحيح أن الجيش لم يعد يعتمد عقليّة طائفيّة في النظر إلى مهمته، مع أنه بقي أسيراً للكوتا الطائفيّة المفروضة والتي لا يهرب منها جهاز في الدولة أو دائرة. اختطّ الجيش لنفسه موقفاً (خطابيّاً) معادياً لإسرائيل. أكثر من ذلك، ساند المقاومة سرّاً. لكن هل على الجيش أن يساند مقاومة بالسرّ وهي تسعى لتحرير أرض يُكلّف الجيش نفسه الدفاع عنها في قسمه الرسمي؟ هذه هي الإشكاليّة. تغيّرت عقيدة الجيش الرسميّة واللفظيّة والخطابيّة، وصعد إلى قيادة الجيش ضباط مُعادون للصهيونيّة (وكأنه كان على لبنان أن ينتظر كل تلك العقود كي تعادي قيادته إسرائيل). تغيّرت عقيدة الجيش ولم تتغيّر ممارسته العسكريّة. يقولون: لكن الجنود سيُقتلون لو واجهوا إسرائيل. الجواب: أليست هذه هي مهمة الجيش؟ الدفاع عن لبنان بوجه المُعتدي التاريخي الذي لم ولا يتوقّف عن الاعتداء، وحتى الموت هو واجبهم؟ ثم، إذا كان صبية من المقاومة قد قاوموا إسرائيل بأسلحة أدنى من مستوى أسلحة الجيش، ألا يجب على الجيش المساهمة؟ يقولون: لكنه سقط للجيش شهداء في عدوان تموز. هذا صحيح، لكنهم سقطوا في قواعدهم من دون قتال. الجيش ساند المقاومة بالسرّ وهذا حسن، وإن كان الماريشال للّو المرّ غائباً عن السمع، وإن كان قد أصدر تهديداً بعدما بدأت إسرائيل بالقصف (وبعدما تمنّع الجيش عن التدخّل) بأن الجيش لن يقف مكتوفاً عندما تدخل قوّات العدو الأراضي اللبنانيّة، وهدّد بأن الجيش سيلقّن العدو «درساً لن ينساه». ودخلت قوّات العدو واختفى للّو المرّ عن السمع، وتم تلقين العدو درساً لن ينساه من قبل المقاومة. وتعالت بعض الأصوات بمجرّد انتهاء الحرب (من يذكر أن أول صوت مشبوه صدر مُطالباً بنشر الجيش في الجنوب لحماية ظهر إسرائيل صدر عن مُفتي صور المطرود، علي الأمين، وفي جريدة «النهار»؟) تشدّد على دور الجيش مع أن الحرب، إن دلّت على شيء، فعلى عدم صلاحية الجيش في مواجهة إسرائيل. لكن الصفاقة هي في عرض ذلك الفيلم بعنوان «نار البارد». الفيلم مفروض أن يكون مستقّلاً، لكنه كان واضحاً أنه معدّ بالاشتراك مع مديريّة التوجيه في الجيش. أولاً، ما هذا الاستسهال في استعمال كلمة «إرهاب» في كل ما يتصل بالمخيّمات الفلسطينيّة، فيما يتمنّع الجيش والدولة عن وصف جرائم إسرائيل بالإرهاب؟ لماذا درج رئيس الجمهوريّة والجيش اللبناني وباقي الإعلام على الإشارة إلى الإرهاب فقط في ما يتعلّق بالشعب الفلسطيني وحركاته؟ لا مجال اليوم لإعادة البحث في موضوع نهر البارد، ولو كان لبنان بلداً ديموقراطيّاً لوجبت الدعوة إلى تشكيل لجنة تحقيق في أسباب ما حدث وعن قدرة عصابة مسلّحة (فتح الإسلام) على الانتقال المدجّج بالسلاح من عين الحلوة إلى نهر البادر. هذا السؤال يرد على ألسنة سكّان نهر البارد باستمرار. نفهم أن الجيش اللبناني يحتاج إلى رفع معنويّاته بسبب التخاذل التاريخي بوجه العدوان الإسرائيلي المتكرّر على لبنان، وبسبب قدرة ميليشيات مسلّحة على منافسة الجيش في عقر داره. لكن أفضل وأوّل طريقة لرفع معنويّات الجيش تكون بوضع خطة جديّة (لا يشرف عليها الماريشال الهزلي للّو المرّ) من أجل مواجهة إسرائيل، ومن أجل استيراد السلاح من أي مصدر مُتاح. وعندما أعلن قائد الجيش هذا الأسبوع بعد اجتماعه بفرديرك هوف أن المعونات العسكريّة الأميركيّة للجيش ستستمرّ، فإن في ذلك إيذاناً بتفاهم ما سرّي ومتين يطمئن الأميركيّين ويضمن عدم استعمال الجيش ضدّ إسرائيل. إذا كان الأمر عكس ذلك، فلتعلن قيادة الجيش أساس التفاهم الذي أدّى إلى استمرار «العون» العسكري الأميركي.فيلم «نار البارد» إهانة لذكاء المشاهد وإهانة لضحايا المخيّم الذين واللواتي لم ينتموا لعصابة فتح الإسلام. ما معنى أن تزهو مديريّة التوجيه بحجم الصواريخ التي كانت تُرمى من الطوّافات فوق المخيّم؟ هل يدرك المتحدّث مدى عدم دقّة الإصابة في هذا الاستعمال المُستحدَث؟ وما معنى أن يقول المتحدّث إن خبراء «عالميّين» أبدوا إعجاباً بقدرات الجيش؟ ألا يتوقّف هذا الهوس اللبناني البائس بطلب شهادات وجوائز لا وجود لها عند الرجل الأبيض من أجل رفع المعنويّات الوطنيّة؟ ثم، ألم يكن مشهد تصوير قارورة غاز كنموذج عن الأسلحة الخطيرة في المخيّم مضحكاً (أو مُبكياً)؟ أنا زرت نهر البارد في تمّوز وسمعت شهادة الناجين والناجيات. أبرز الذين تحدثت إليهم كانوا من اليسار العلماني قبل أن يُتهموا بدعم الأصوليّة. إذلال أهل المخيّم يبدأ على حواجز الجيش حيث شاهدت أكبر نقطة عسكريّة في كل تجوالي في لبنان من الشمال إلى الجنوب هذا الصيف. هل اختلط الأمر على الدولة بين الشمال والجنوب؟ ثم إن المنازل المُعلّبة (وهي أشبه بعلب في الحقيقة) تعامل السكان مثل الحيوانات، والحرّ يصل إلى درجة أن الناس تبيت بين المنازل وفي العراء. والناس في البارد لم يسكتوا على الضيم: قصص معاناتهم تُروى وتنتشر في أوساط الشعب الفلسطيني. ومعرض الصور في المخيّم يختصر القصّة. القول إن تدمير البارد تمّ بقرار سياسي هو صحيح، لكن الجيش بقيادته وعناصره يتحمّلون مسؤوليّة ما جرى أيضاً، وخصوصاً أن أهل البارد تعرّضوا لممارسات من الإذلال والضرب، كما أن المنازل تعرّضت للسرقة وهناك صور كثيرة عن شعارات بذيئة ومهينة كتبها البعض على جدران المنازل. ويتساءل أهل المخيّم عن السبب الذي دفع بالجيش إلى تدمير المخيّم بعد انتهاء القتال رغم الكثير من المنازل كان لا يزال صالحاً للسكن. كان القرار السياسي (المحلّي والإقليمي والدولي) متخذاً، ولم يُقبل أي جدال فيه. طبعاً، يمكن أن نزيد الكثير عن الوعود الكاذبة والمواعيد الخياليّة التي أطلقها السنيورة، لكن الحديث يقتصر على دور الجيش هنا. مَن حاسب ومَن ساءل هؤلاء الجنود الذي أهانوا ضحايا نهر البارد؟ ولماذا سارعت الثقافة اللبنانيّة إلى تبنّي تدمير البارد واعتنقت النظرة الصهيونيّة باعتبار كل فلسطيني إرهابياً (قال ريمون جبارة ذلك جهاراً في ملحق «النهار» الذي يعمل على أساس أن حقوق الإنسان تتعرّض للخرق في دولة عربيّة واحدة، ثم عاد ونسي خرق الحقوق في تلك الدولة عندما زار الشيخ سعد سوريا، إنها المبدئيّة يا ناس، يا هوه). نار البارد لم تُخمد والجراح لم تبرد والدموع لم تجفّ. ومجد الجيش ليس في البارد، وليس في أي مخيّم فلسطيني. وجهة السعي نحو المجد هي جنوبيّة. إلى الجنوب در.

خالد صاغية  عبثاً يحاول بعض اللبنانيّين التفتيش عن انقسامات طائفيّة لمشجّعي المونديال. كأن يقال مثلاً إنّ الشيعة مع البرازيل، والسنّة مع ألمانيا أو العكس... لكنّ الواقع هو أنّ الحزب العابر للطوائف، والمتمتّع بتمثيل شعبيّ واسع، قد وُلد أخيراً. إنّه حزب مشجّعي البرازيل وحزب مشجّعي ألمانيا وحزب مشجّعي الأرجنتين...

المواكب السيّارة التي تضمّ عشرات الشبّان، والتي تنزل إلى الشوارع في أنحاء مختلفة من البلاد، لترفرف بأعلام نجوم المونديال، إنّما تحمل بشائر سارّة. وكذلك تفعل أعلام الفرق المتنافسة حين تعلو شرفات المنازل في مناطق تعرف «الصفاء» الطائفي. وكلّ هذا يشكّل مثالاً مضادّاً لكلّ الذين يعتقدون أنّ الشعب اللبناني لا يمكن أن تحرّكه إلا غرائزه الطائفيّة، ولكلّ الذين كلّما لاحت ظاهرة اجتماعيّة، عمدوا إلى البحث عن تفسير طائفيّ لها، وإعطاء الحصريّة لهذا التفسير. وكذلك لكلّ الحركات التي حاولت التغيير في لبنان، ولم تتوانَ عن ردّ فشلها إلى عامل وحيد هو الطائفيّة.تصوّروا! يمكن اللبنانيّين أن يتحمّسوا من دون طائفيّة، وأن ينزلوا إلى الشوارع من دون طائفيّة، وأن يتابعوا باهتمام على مدى شهر كامل حدثاً لا يمتّ إلى المحاصصة الطائفيّة بصلة.ليست مسألة جينات إذاً. ربّما كانت مسألة شغف. وللطائفيّة شغفها دون شك، لكنّ شغف المونديال لا علاقة له بانتماءات ضيّقة. إنّه الانتماء إلى فضاء رحب يلفّ الكرة الأرضيّة كلّها، والانتماء إلى حيّز يتجاوز حدود الوطن وبلادة الشعارات الوطنيّة. لعلّ ضعف منتخب لبنان الوطني وضعف شعور اللبنانيين الوطني عموماً، هو ما يتيح هذا الترف. ترف تحويل الأعلام والأناشيد الوطنيّة إلى مجرّد فولكلور.المونديال لم ينحِّ الطائفيّة إلى الصفوف الخلفيّة وحسب، لقد فعل ذلك مع السياسة برمّتها أيضاً. أبطال الشوارع اليوم ليسوا ميشال عون وسعد الحريري (أو نادر أو أحمد أو بهيّة) ونبيه برّي... شاغلو القلوب هم ميسي وكاكا وكلوزه... حتّى الشهداء تراجعت ذكراهم، وبات للمونديال شهداؤه الأحياء كبالاك ورونالدينيو...بعد كلّ ما مرّ على هذه البلاد خلال الأعوام الأربعة الماضية، للمونديال وأعلامه هذا العام نكهة مختلفة. فها نحن نتابع المباريات كمن يأخذ حمّاماً ساخناً كي يغسل تعبه وعاره.

ليس شربل ق. كغيره ممن أوقفوا قبله بشبهة التعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية. فما يحكى عنه يشير إلى أنه أدخل الإسرائيليين إلى واحد من أكثر القطاعات خطورة من الناحية الأمنية. ومعه، انفتحت الأسئلة على كثير من القضايا الحسّاسة، أبرزها حماية بيانات الاتصالات الخلوية من التلاعب

حسن عليق «ما خفي أعظم». هذه العبارة تلخص الاجوبة التي ينطق بها الأمنيون المطلعون على ملف الموقوف شربل ق، الموظف في شركة «ألفا» لتشغيل شبكة للهاتف الخلوي، الذي يخضع لتحقيق معمق في مديرية استخبارات الجيش. وساعة بعد أخرى، تحمل القضية معها جديداً مذهلاً، سواء خلال التحقيق معه، أو من خلال مركز عمله في شركة «ألفا» التي لا يزال محققو استخبارات الجيش يُخضعون أنظمتها لتدقيق تفصيلي، في محاولة منهم لتحديد ما كان متاحاً للموقوف فعله والاطلاع عليه. وآخر ما ظهر في هذا الإطار أن الرجل كان يملك «مفاتيح المرور السرية» (password) التي تخوّله استخدام أي جهاز كومبيوتر موصول بشبكة الانترنت، داخل مبنى الشركة أو خارجه، لولوج بيانات الشركة التي يعمل فيها، والتي ينبغي أن تكون سرية. ونظرياً على الأقل، يعني ذلك أن الاستخبارات الإسرائيلية باتت قادرة على التحكم بجزء من بيانات الشركة، من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو من أي مكان في العالم! وأكدت مصادر مطلعة أن الموقوف يملك معرفة معمقة بالأسرار التقنية لشركته، وهو كان قد خضع في شركة «ألفا» (وقبلها سيليس) لعدد من الدورات التدريبية المتقدمة. وأنشأت مديرية استخبارات الجيش فريقاً تقنياً مهمّته دراسة القدرات التقنية والعملية للموقوف، إضافة إلى صلاحياته وما يسمح له موقعه الوظيفي بإجرائه، بهدف تمكين المحققين الأمنيين من طرح الأسئلة المناسبة عليه خلال التحقيق والحصول منه على معلومات تفصيلية توضح حجم الاختراق الذي حققته الاستخبارات الإسرائيلية في الشبكة الخلوية اللبنانية. ويتعدى البحث ما ذكر سابقاً عن تنفيذ بعض العمليات التقنية في محطات بث الهاتف الخلوي لتسهيل مهمة التنصت على المكالمات أمام الإسرائيليين، فضلاً عن السماح لهم بتحديد مواقع الهاتف الخلوي (وهذه العمليات ليست مرتبطة حصراً بزرع أجهزة ومعدات زوّده بها مشغلوه)، إذ إن للموقوف قدرة على التلاعب ببيانات الهاتف الخلوي، وإضافة أو حذف ما يشاء منها، فضلاً عن القدرة التي بإمكانه منحها لمشغليه وجعلهم قادرين على تسجيل بيانات هاتفية لم تحصل (أن تُسجل قاعدة البيانات حصول مكالمات من رقم هاتف محدّد إلى آخر من دون حصول ذلك فعلياً). ولفت أحد الخبراء الأمنيين ـــــ التقنيين إلى أن تنفيذ هذا الطلب ممكن ببساطة، وأنه شبيه بتقنية الرسالة العمياء (Blind message) التي يستخدمها الإسرائيليون لتحديد الموقع الجغرافي الدقيق لمن يريدون من مستخدمي الهاتف الخلوي. وتستند هذه التقنية إلى البعث برسائل نصية لا تظهر لمستخدم الهاتف، ولا تُسجل في حافظة الرسائل (Inbox)، كما أن مستخدم الهاتف لا يعلم بوصولها إلى هاتفه. وتعمل هذه الرسائل غير المرئية وفقاً لبرنامج يدفع الهاتف المستهدف إلى البعث برسالة لا يعلم بها الشخص الذي يستخدم الهاتف، كما لا تسجل في حاوية الرسائل المرسلة (Sent items). وعندما تُبعَث الرسالة، يتمكن الإسرائيليون من تحديد الموقع الجغرافي لحامل الهاتف. ويحتاج الإسرائيليون الى هذه التقنية لأن أنواعاً عديدة من الأجهزة الخلوية (وخاصة القديمة منها)، لا تتيح لهم تحديد الموقع الجغرافي لحامل الهاتف، إلا إذا كان الأخير يجري مكالمة أو يبعث برسالة نصية. وهذه التقنية باتت معروفة عند الاختصاصيين في الأجهزة الأمنية اللبنانية الناشطة في مجال مكافحة التجسس. وحتى أمس، كان الموقوف، الذي يصفه عارفوه بأنه فائق الذكاء، يتعاون مع المحققين، «لكن ببطء»، بحسب ما يقول معنيون بالملف. وأشار بعض هؤلاء إلى أنه أظهر أن توقيفه كشف وجود سهولة داخل شركة «ألفا» للوصول إلى البيانات التي ينبغي أن تكون فائقة السرية. وذكر أحد الأمنيين بأن موظفاً سابقاً في الشركة كان قد تمكن من سرقة 50 ألف بطاقة تعبئة للهاتف الخلوي، قبل انكشاف أمره وتوقيفه في آذار 2009. وحينذاك، بيّنت التحقيقات أن الموقوف كان قد تمكن من الحصول على الأرقام التسلسلية لهذه البطاقات، وعرضها للبيع على عدد من التجار، رغم أنه لم يكن قد مضى على توظيفه أكثر من عام واحد. والأخطر من ذلك، أنه كان قد عرض على من يفاوضهم أن يسلّمهم «مجاناً» ما يريدونه من بيانات الهاتف الخلوي. وتشير تلك الحادثة، وقضية الموقوف شربل ق. إلى سهولة اختراق الأنظمة السرية داخل الشركة. وبحسب المعنيين بالتحقيق، فقد ذكر شربل أن تجنيده عام 1996 تم خلال تردده إلى منطقة الشريط الحدودي المحتل، عندما كان يعمل في مجال تركيب محطات بث الهاتف الخلوي وصيانتها. وفي منطقة جزين، كان عدد من أقاربه ناشطين في ميليشيا لحد، فجنّده أحد هؤلاء للعمل لحساب الاستخبارات الإسرائيلية. ونُقل إلى الأراضي الفلسطينية أكثر من مرة للقاء مشغليه، طوال المدة الفاصلة بين تاريخ تجنيده وتحرير الجنوب عام 2000. ومنذ ذلك الحين، بات شربل يلتقي بمشغليه في بلدان أوروبية عديدة، وخاصة منها فرنسا. وقد زوّده مشغلوه في مقابل عمله بمبالغ مالية طائلة طوال فترة عمله معهم، وخاصة بعدما كشفت مصادر مطلعة ملكيته لمشروع بناء سكني يضم خمس بنايات في منطقة جورة البلوط، ما يشير إلى الأهمية التي يوليها إياه مشغلوه. ردود الفعل على توقيف شربل ق. أتت غير مسبوقة في قضايا مماثلة. فقد نوّه رئيس الجمهورية ميشال سليمان بعملية التوقيف التي نفذتها استخبارات الجيش، واصفاً شربل ق. بـ«أحد المسؤولين البارزين في إحدى الشركتين المشغلتين للهاتف الخلوي». وطلب سليمان من الأجهزة المعنية «التوسّع في التحقيقات لكشف المتورطين في التعامل»، فيما أشارت مصادر مقربة منه إلى ان القضية ينبغي متابعتها إلى نهايتها. أما رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، فقد ذكّر بالمديرة التنفيذية في الشركة التي فرّت من لبنان عام 2008 «فور علمها بأنه سيقبض عليها، ما يثبت أن العدو الإسرائيلي لا يزال يحرّك شبكات عملائه في قطاعات حساسة في لبنان تمس أمن كل لبناني وتعرّض الوطن للانكشاف». كذلك توقف رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون أمام «القصة الخطيرة»، معرباً عن خشيته من إمكان دخول أجهزة إلى شبكة الخلوي. وعقد رئيس لجنة الاتصالات النيابية النائب حسن فضل الله مؤتمراً صحافياً أمس، رأى فيه أن «ما نشر من اعترافات أمر بالغ الخطورة، وخصوصاً أنه يطال قطاعاً حيوياً اقتصادياً وأمنياً، وهو يمس كل لبناني فضلاً عن الدولة بأجهزتها والقوى السياسية وهيئات المجتمع المدني بشرائحه كافة. ووفق ما توافر من معطيات ووفق الاعترافات المدلى بها والمنشورة، فإن البنية التحتية لشبكة الاتصالات الفنية والتقنية باتت في حوزة العدو، واتصالات اللبنانيين ومعاملاتهم عبر هذه الشركة تصل مباشرة الى الاستخبارات الإسرائيلية، فضلاً عن تمكن العدو من تحديد حركة الأشخاص وتنقلاتهم وأماكن وجودهم». ودعا فضل الله الحكومة، «من موقع التعاون، إلى القيام بإجراءات فورية لتحديد الأضرار التي لحقت بقطاع الاتصالات ومعالجتها». وذكرت مصادر مطلعة لـ«الأخبار» أن النائب حسن فضل الله سيبحث مع رئيس مجلس النواب نبيه بري إمكان عقد جلسة للجنة الإعلام والاتصالات النيابية للبحث في سبل الحفاظ على أمن الاتصالات.

القومي: إسرائيل قتلت الحريري

أما الحزب السوري القومي الاحتماعي فقد دعا في تصريح لعميد الدفاع فيه، وائل الحسنية، الحكومة اللبنانية إلى «أن تسارع إلى تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن الدولي، تضمّنها تحفظها على اعتماد المحكمة الدولية مصادر وأدلة ذات صلة بأدوات التجسّس وميادين حصوله، والإسراع في محاكمة عملاء إسرائيل، وإيقاع أشد العقوبات بهم، لأن إسرائيل هي من قتلت رفيق الحريري ورفاقه ومن ألحقتهم بهم وأرادت قتل لبنان وإبادة اللبنانيين بالفتن الطائفية والمذهبية». وحذر الحسنية «من خطورة تغلغل العملاء في المواقع الحساسة، أو من خلال توفير مظلات سياسية لهم عبر بعض الأطر السياسية القائمة في البلد»، معتبراً «أن أي بلد قد يتعرض لخرق أمني. أما أن تتوفر مظلة للعملاء في بعض الأطر السياسية، تتيح للعملاء حرية الحركة على خلفية أن العمالة للعدو وجهة نظر سياسية، فهذا أمر مستهجن وخطير وغير مقبول، وهو الذي كاد يبقي لبنان على خط الزلازل الأمنية». بدورها، هنأت كتلة المستقبل النيابية «الأجهزة العسكرية والأمنية على جهودها والإنجازات التي حققتها في صيانة الأمن الوطني»، طالبة من «الأجهزة القضائية المختصة الإسراع في إنجاز التحقيقات وإجراء المحاكمة تمهيداً للاقتصاص من المجرمين المتورطين وإنزال أقسى العقوبات بهم». ولفتت إلى «ضرورة التنبه والمحاذرة في الوقوع في شرك بعض التسريبات والجهات التي تحاول تسييس بعض هذه الأعمال والقضايا».

عدد الاربعاء ٣٠ حزيران ٢٠١٠

فجأة، صار ممكناً تقديم مشروع موازنة عام 2010 إلى مجلس الوزراء بعد تأخير طويل وغير مبرر... فلم تعد هناك حاجة ملحّة لزيادة الضريبة على القيمة المضافة، بل بالعكس، صار ممكناً مكافأة المتهربين من تسديد الضرائب والرسوم عبر خفض الغرامات بنسبة 90% نكاية بكل من يخشى مخالفة القوانين ويعمد إلى تسديد ما يجب عليه في المواقيت المحددة، وصار ممكناً أيضاً إلغاء كل الرسوم على الكحول والخمور وإعفاء ما يسمّى «المصارف الإسلامية» من ضرائب كثيرة... بل أكثر من ذلك، صار ممكناً التوسّع في تبذير المال العام عبر حشر الأزلام في قوى الأمن الداخلي بتثبيت 10600 عنصر هُرِّبت قرارات التعاقد معهم في لحظة سياسية ملتبسة، وتطويع 4000 عنصر جديد بذريعة تحقيق بعض التوازن الذي اختل بسبب عملية التهريب المذكورة... صار الكلام الصارم على ضبط العجز وعدم «السماح» بزيادة الدين العام لا ينطبق على هذه الحالة التي ستكلّف اللبنانيين أكثر من 350 مليار ليرة سنوياً كإنفاق إضافي، كذلك لا ينطبق على تلزيم شركة يملكها شخص مقرّب من العائلة «المالكة» بصيانة مبنى وزارة التربية وتنظيفه بكلفة تبلغ مليارين و240 مليون ليرة في هذا العام، أي 187 مليون ليرة شهرياً، أو ما يعادل 124 ألف دولار! وعلى ذكر «النظافة»، فهذا الكلام لا ينبطق بطبيعة الحال على تمديد عقود «سوكلين» و «سوكومي» الملتزمتين تنظيف خزائن بلديات بيروت ومعظم أقضية جبل لبنان عبر فرض أعلى سعر لطن النفايات في العالم (ما بين 120 و155 دولاراً)، وهو ما يستنزف نصف المبالغ المخصصة للبلديات في حسابات الخزينة المرفقة بفذلكة مشروع الموازنة عرضياً وبلا أي تفصيل. هكذا، خرجت وزارة المال على اللبنانيين من دون أي تبرير بمشروع للموازنة يرفع مجمل إنفاق الدولة في هذا العام إلى نحو 21344 مليار ليرة (14.1 مليار دولار)، منه نحو 18652 مليار ليرة (12.3 مليار دولار) كاعتمادات ملحوظة في مشروع قانون الموازنة، ونحو 2692 مليار ليرة (1.8 مليار دولار) مهرّبة كنفقات من خارج الموازنة... صار كل ذلك ممكناً، ومن دون فرض أي زيادة ضريبية مقيتة، بمجرد أن إشارات سياسية ظهرت في اقتراح المشروع الذي تقدّم به النائب علي حسن خليل لتشريع خصخصة بعض المرافق والنشاطات، أو بمعنى آخر تشريع المزيد من السرقات للمال العام الذي يُجبى من الفقراء ومتوسطي الدخل حصراً. المفارقة أن مشروع الموازنة الذي سيبدأ مجلس الوزراء بمناقشته قريباً لا يتضمن أي أثر لهذه الخصخصة، وهنا تكمن الفضيحة تحديداً، فالمسألة، كما يوحي بها المشروع، لا تتعلق بضبط العجز أو بالقرار الحاسم والجازم بعدم زيادة الدين العام، وهو ما يحب الشيخ سعد الحريري أن يخطب به في الناس الغلابة... فالعجز، بحسب ما يبشّر به المشروع، سيرتفع من 4470 مليار ليرة إلى 6056 مليار ليرة، والدين العام سيرتفع أيضاً من 77024 مليار ليرة إلى 83182 مليار ليرة (والمخفي أعظم طبعاً)... المسألة إذاً تتعلق بأمور أخرى، يمكن اختزالها بمصطلح شديد التهذيب: السرقة، وإلّا فما معنى أن يقترن تقديم المشروع إلى مجلس الوزراء بشرط زيادة الضريبة المرفوضة أو التوافق السياسي على الخصخصة، ثم ترفع وزيرة المال ريا الحسن مشروعها من دون زيادة الضريبة ومن دون احتساب أثر الخصخصة على قيمة الإنفاق؟ كيف «ظبط» الحساب بعدما هوّلت مع فريقها وقامت بصولات وAffinityCMSت لإقناع المغلوب على أمرهم بأن لهم مصلحة في الموت جوعاً وفقراً وظلماً وقهراً ومرضاً، باعتبار أن الموت أصلح من هذه الحياة، وبما أن أولويات الحكومة هي أولويات الناس، فلنقتل الناس بدفع نصفهم إلى ما دون خط الفقر بالضريبة على القيمة المضافة أو بخصخصة الخدمات وزيادة أكلافها أضعافاً مضاعفة!

سيقرّ مشروع موازنة عام 2010 في مجلس الوزراء، وسيصدّق عليه المجلس النيابي بالتزامن مع اقتراح القانون الرامي إلى «سرقة الناس» تحت عنوان «إشراك القطاع الخاص»، ولن يسأل أحداً عن مصير قروض وهبات باريس 3 المخصصة لمشاريع التنمية والبنى التحتية، التي حام حولها الكثير من الزعيق والصراخ. لماذا لم يعد أحد يسرد مزاياها ويطالب رئيس المجلس النيابي نبيه بري بالإفراج عنها؟ إن هناك اتفاقيات قروض بأكثر من 3 مليارات دولار لتمويل مشاريع الكهرباء والمياه والطرقات والنقل والصرف الصحّي والبيئة والتنمية الريفية... لقد ساد الصمت، ولم يعد هناك من يريد أن يموّل هذه المشاريع بفوائد متدنية ولآجال طويلة، الكل يريد أن يسرق ما دامت الفرصة سانحة. الكل يريد «سوكلينه». لا شك في أن البنك الدولي يخطئ أكثر مما يصيب، لكنه كان مصيباً عندما حذّر من أن استثمارات القطاع الخاص في الكهرباء ستزيد كلفة إنتاج الكيلوواط ساعة بما بين 1.6 و3 سنتات (وهذا يعني زيادة في الكلفة الإجمالية تقدّر بمئات ملايين الدولارات)، وهذا ينطبق على المياه والاتصالات والطرق والمرافئ والمطارات ومعالجة النفايات... لا يأبهون لذلك، يريدون أن يسرقوا، ومن لا يعجبه الأمر، فأمامه أبواب الهجرة مفتوحة... أو أبواب القبر.

محمد زبيب

الأكثر قراءة