فداء عيتاني مجموعة من القصاصات الورقية التي يبلغ حجمها ربع صفحة A4 توضع كل يوم أمام رئيس الحكومة سعد الحريري، وبعد قراءتها يقتنع في كل مرة بأن ما يقوم به هو الصواب، وفيها معلومات ومعطيات يفترض أنها بالغة الحساسية، وتتحدث عن أمور كبيرة في هذه الدنيا، وكلها تصوّر له أن المعطيات تسير وفق ما يشتهي ويرغب. ضباط من أجهزة أمنية وسياسيون وصحافيون وموظفون رسميون ودبلوماسيون وصنّاع رأي ومخبرون يسهمون في تجميع المعلومات التي ترسل إلى رئيس الحكومة بخط اليد أغلب الأحيان، للدلالة على مدى خطورتها، وكي لا تطبع على أجهزة الكمبيوتر منعاً لنسخها أو اختراقها. أحياناً قد يقرأ رئيس الحكومة أن أجهزة غربية أشارت لمصادر عالية الشأن في لبنان إلى أن سوريا ستتخلى عن حزب الله مقابل المزيد من الاتفاقات التجارية والاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، وأحيانا يقرأ أن «مصادر أمنية قوية» تفيد بأن حزب الله يعاني أزمة داخلية على خلفية المحكمة الدولية، وأحياناً أخرى يُكتب في هذه القصاصات أن مصادر خاصة سورية تفيد بأن حزب الله يعاني من أزمة مالية، إلى آخر ما هناك من معلومات تصل مباشرة أو بالتواتر إلى سمع هؤلاء المشاركين في ضخّ المعلومات لرئيس الحكومة. وهذه الماكينة المعلوماتية بدأت بالعمل منذ تولّي سعد الحريري قيادة المستقبل لغاية اليوم. ولحظة تولّي سعد الحريري قيادة تيار المستقبل، كان القرار 1559 مدار الصراع الأول، وكان دم والده رفيق الحريري لا يزال على الأرض، ومن تلك اللحظة حتى اليوم لم تتغيّر المعطيات الرئيسية في الصراع، ولا يزال الجزء المتعلق بـ«سحب أسلحة الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية» معلّقاً وينتظر من يتمكن من تنفيذه على أرض الواقع، بينما أعلنت سوريا منذ مطلع شهر أيار من عام 2005 تنفيذها الشق المتعلّق بـ«انسحاب القوات غير اللبنانية من لبنان». المعركة كلها التي نعيشها اليوم لا تزال تتمحور حول القرار 1559، وكل ما جرى منذ محاولة اغتيال النائب مروان حمادة حتى اللحظة ناتج من مفاعيل هذا القرار، ولا يزال هناك من يحاول تغطية الأمور والالتفاف عليها وتسميتها بغير مسمّياتها، سواء أكان في فريق الرابع عشر من آذار أم الثامن منه. سبق أن أعلن سعد الحريري أمام قياديين في حزب الله أن «مجموعة الـ13» الجهادية هي من نفّذ عملية اغتيال والده، وأن هذه المجموعة قد اعترفت، ولكن البحث يدور عمّن اخترقها ودفعها إلى التنفيذ، ثم أبلغهم أن المعلومات تشير إلى أن في سوريا من أمر بتنفيذ عملية الاغتيال، وأن التهمة أُثبتت على الضباط الأربعة الذين أودعوا السجن، وبعدها أتى يطرح أمام قيادة الحزب تورّط عناصر منه في عملية الاغتيال، مضيفاً أن البحث يجري عمّن اخترقهم ودفعهم إلى القيام بالعملية. يتحدث معنيون في هذا المجال عن ثلاثة سيناريوهات مختلفة قُدّمت إلى قيادة حزب الله، وفي كل مرة كانت تقدم بصفتها حقائق مثبتة ومستندة إلى براهين قاطعة، ثم يتغيّر السيناريو بحسب تغيّر المناخات السياسية في المنطقة، وصولاً إلى ما بدأ بكشفه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. إلا أن القصاصات التي توضع أمام رئيس الحكومة هذه الأيام يبدو أنها تشجع على اتخاذ مسالك أشد وعورة وخطورة. فهناك من يشجع نظرية أن العلاقات السورية الإيرانية ليست على ما يرام، وأن حزب الله وسوريا يعيشان حالة من الفراق السياسي، وأن سوريا تتجه نحو التخلّي عن حزب الله بعد كثرة الكلام عن تورّط عناصر غير منضبطة من الحزب في عملية اغتيال الحريري. وهناك من يشير إلى خطابات الأمين العام لحزب الله، فيصفه بالهدوء الخائف حيناً، وبالمتوتر القلق حيناً آخر ، وينتقل إلى الحديث عن مضمون كلام الأمين العام للحزب، وخاصة قوله إن «إيران وسوريا دعما الحزب، ولكنّ الحزب هو من قاتل»، وقوله إن سوريا يمكنها أن تتناسى وتسامح، ولكن نحن لا، وكلامه عن زيارة الأسد إلى لبنان كأنه غريب عن الدار، ليخلص إلى القول إن الرجل وحزبه قد عُزلا، والخشية باتت واضحة من مسار الأمور لغير مصلحتهما. لكن لدى حزب الله الكثير ليقوله، وهو في النهاية سيعلن ما يمتلك قبل بداية شهر رمضان، إذ ترى قيادة حزب الله، بحسب ما يقول من يعرف الحزب جيداً، أن الوقت الفاصل بين الخطاب الأول للأمين العام بشأن المحكمة والقرار الاتهامي المزمع إصداره وبداية شهر رمضان هو مدة كافية لسعد الحريري وفريق 14 آذار للعودة خطوة واحدة إلى الخلف، ووقف اللعب بالمحكمة وبورقة التدخل السياسي الدولي بها. ومنذ أشهر قليلة، كان هناك من يستغرب الهدوء والسكينة التي حلّت على فريق رئيس الحكومة، وقبولهم بالواقع الوحدوي الذي تجسّد (بين الطوائف) في حكومة الوحدة الوطنية. ولكن كان هناك من يتحدث في المحافل الدولية وأمام أصدقائه الأميركيين والإسرائيليين بالقول: «لا تعتقدوا أن ما حصل في لبنان من تأزّم في تأليف الحكومة واضطرارنا إلى الموافقة على تأليف حكومة مشتركة مع حلفاء سوريا يعني أننا تراجعنا، ولكن هي مرحلة نحاول تقطيعها دون خسائر بانتظار ما سيكون لاحقاً». اليوم، إن كثرة الحديث عن المسافة التي تفصل بين سوريا وحليفها الرئيسي في لبنان تعتمد على قراءات خاصة للواقع، بينما يجيب في لبنان من تسألهم عن الأمر بأن سوريا لم تكن مرتاحة من قبل كما هي اليوم، وأنها تعرف أن أهم من أوصلها إلى هذا الواقع هو صمود حزب الله، وهي لن تساوم على المقاومات الثلاث في فلسطين والعراق ولبنان. ومن يتصل دائماً بالقيادات السورية يتحدث عن أن هؤلاء يرون أن وصول سوريا اليوم إلى حالة السكينة التي تعيشها نابع من تظاهرات يوم الثامن من آذار عام 2005، ومن الانتصار في حرب تموز، وهما المفصلان اللذان تمكّنا من إحباط الهجوم الأميركي (بالواسطة) على سوريا بهدف تطويعها وتقويض نظامها، وأن سوريا لن تنسى من صنع هذا الصمود. ولا يهتم من في سوريا بالكلام الطيّب الذي يصدر من رئيس الحكومة عن العلاقات بين البلدين، ولا يهتمون بأن من كان يهاجمهم في الأشهر الماضية بات يرسل الطلبات المتكررة لزيارتهم هذه الأيام، ولكنهم ينتظرون التزاماً واضحاً بما اتفق عليه مع رئيس الحكومة اللبنانية.
وفي المنحى نفسه، فإن حزب الله أيضاً لا يهتم بالكلام الطيّب الذي يمكن أن يبدر من هنا أو هناك، ولا بما يقال عبر الإعلام، سواء أكان سلبياً أم إيجابياً، ولكن هناك جدول أعمال يفترض أن يلتزم به رئيس الحكومة، ولا ينفع هنا أن يطلب الرجل موعداً عاجلاً مع الأمين العام لحزب الله ليساومه على موافقة على القرار الاتهامي، بغض النظر عن فحواه، على أن يتكفّل رئيس الحكومة بإخلاء حزب الله من المسؤولية عبر الإعلام لاحقاً. طبعاً، رئيس الحكومة لم ينف مباشرة ما قاله الأمين العام لحزب الله عن العرض الذي قدّمه إليه عن الموافقة على القرار الاتهامي الذي يتهم عناصر غير منضبطة من الحزب، والنفي الذي تكفّل به الصقور في تيار المستقبل لا يحمل الوزن الكبير الذي يدفع الأمور في اتجاه اللاعودة، كذلك فإن اجتهادات النائب عقاب صقر في تدوير الزوايا عبر القول إن نصر الله اضطر إلى الاختصار وإن الاختصار أدى إلى تشويه المضمون، لا تنفع أمام من يصرّ على أن تُطرح الأمور كما هي، ويمكن تذكّر كلمات نصر الله في هذه المناسبة حين قال: «يا حبيبي ليش إنت بتعرف شو كان قصدي؟»، ولا يزال في الوقت متّسع على قاعدة الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه والبدء من جديد في مسار مختلف تماماً. من هذا المسار المختلف أن يُعلَن السبب وراء طلب المحكمة الدولية 400 عنصر وجندي من الجيش يوضعون في تصرفها، بعد أن كانت اللجنة قد طالبت منذ أعوام بعدد أقل من القوى الأمنية يخضعون لأوامرها. وإن كانت قيادة الجيش لم تتعاون في فرز المئات من الجنود اللبنانيين لمصلحة المحكمة الدولية، فإن الطلب نفسه أثار حفيظة القيادات المعنية بالأمر، وخاصة لمحاولة وضع الجيش مجدداً في مواجهة المقاومة وحزب الله. أما أن يكتفي رئيس الحكومة بتصديق ما يُكتب له بخط اليد على قصاصات ورقية عن خلاف ما بين سوريا وحزب الله، فتلك ستكون مصيبة يدفع ثمنها الأطراف كافة، اللهم إلا إذا عاد وقرأ من أرض الواقع قبل بداية شهر رمضان، وتصرّف على أساسها. عندها قد تستقيم الأمور، ويبقى ما حصل في الأسابيع الماضية طيّ الكتمان في الصدور.
حكومة انتقاليةأحد الأمثال المفضّلة لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري هو «من أصعد الحمار إلى المئذنة ينزله»، ولكن هذه المرة، لأن بقاء الحمار على المئذنة يمكن أن يحرق البلاد، فإن دولاً معنية بإنزال الحمار عن المئذنة، أولاها السعودية وتاليها سوريا وبعدها مصر، وإن كانت التصريحات المصرية لا تبدو شديدة الحرص على الهدوء في لبنان، فإن السعودية وسوريا تبدوان على حماسة شديدة لإيجاد حل وسط مرحلي في ملف المحكمة واتهام حزب الله. وأحد الحلول المقترحة، إضافة إلى ما سمعه سعد الحريري في دمشق، أن يتنحّى الرئيس الحريري عن موقعه الحكومي، برعاية تركية وسعودية وسورية، وتُسلّم رئاسة الحكومة إلى الوزير محمد الصفدي (الصورة)، وألّا تضمّ الحكومة وزراء تابعين للقوى السياسية، بل بعض المقرّبين من تيار المستقبل وباقي الأفرقاء، على أن تُستبعد «الروؤس الحامية عنها». وتتكفّل هذه الحكومة الانتقالية بتطبيق الموقف الذي قاله أمس الصفدي من منزل الجنرال ميشال عون، أي رفض توجيه أي اتهام إلى حزب الله، وبعد أن يؤجّل صدور القرار الاتهامي لمدة غير محددة، يمكن الحريري العودة إلى ترؤس حكومة يؤلّفها كما درجت العادة بالتوافق والتكافل.