فضيحة النظام المالي: الجميع رهائن للأهداف النقدية

      21700 مليار ليرة شهادات إيداع أصدرها مصرف لبنان لامتصاص السيولة أثبت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، مرّة أخرى، أنه يدير اللعبة وحده. أمّا الحكومة التي مثّلتها وزيرة المال ريا الحسن في جلسة لجنة المال والموازنة النيابية، أمس، فأثبتت أنها تسير بلا هدى، فلا رؤية تحكم سلوكها وقراراتها، ولا أجوبة مقنعة تقدّمها عن أسئلة محورية تتصل بأهدافها الراهنة... معظم النوّاب الذين حضروا هذه الجلسة «الاستثنائية» خرجوا بانطباع واحد «أن الأهداف النقدية لا تزال هي الغالبة، ونحن كلّنا رهائن لها»

محمد زبيب كانت جلسة لجنة المال والموازنة النيابية أمس «استثنائية» في موضوعها وشكلها، فهي من المرّات النادرة جداً التي يناقش فيها النواب السياسة النقدية وأدواتها وأهدافها ومدى تناسقها مع السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية... بل هي من المرّات الأكثر ندرة التي يمثل فيها حاكم مصرف لبنان أمام النواب ليجيب عن أسئلتهم واستيضاحاتهم، إذ لم يحصل في تاريخ المجلس النيابي منذ اتفاق الطائف أن جرت مساءلة السلطة النقدية على أيّ من أعمالها، على الرغم من كل الضجيج حول تنامي الدين العام والعجز المالي ومستويات الفوائد المرتفعة وتثبيت سعر صرف العملة وارتفاع ودائع المصارف بلا أي سقف أو حدود وصرف الأموال العامّة لتمويل شراء العديد من المصارف المتعثّرة أو التي عانت من سوء الإدارة والأمانة. كانت الجلسة «استثنائية» بهذا المعنى، إلا أن حجم المشاركة فيها ومضمون نقاشاتها والخلاصات التي انتهت إليها، لم تكن بالمستوى «الاستثنائي» نفسه، فقد اقتصرت المشاركة فيها على 24 نائباً، معظمهم ليسوا أعضاءً في اللجنة، وأكثر من نصفهم يمثّلون تكتّل التغيير والإصلاح، فيما اقتصر تمثيل تكتّل «لبنان أولاً» على أربعة نوّاب، وحضر ثلاثة نوّاب من كلّ من كتلة التنمية والتحرير وكتلة الوفاء للمقاومة، إضافة إلى نائب واحد من حزب الكتائب، فيما غاب النواب من الكتل الأخرى، ولا سيما «اللقاء الديموقراطي» و«القوات اللبنانية»!

من جهته، نجح رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان في استدراج وزيرة المال ريا الحسن وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف جوزف طربيه للمشاركة في هذه الجلسة، إلا أن المداخلات النيابية التي اضطروا إلى مواجهتها بدت «ناعمة جداً»، ما عدا مداخلات قليلة أدلى بها كنعان والنائبان علي حسن خليل وياسين جابر، وكانت موجّهة إلى الحسن أكثر مما هي موجّهة إلى سلامة، فتلعثمت الأولى، وقدّمت أجوبة عامّة أو ناقصة أو مغلوطة، أو امتنعت عن الإجابة على أسئلة تناولت سبب تعليقها إصدارات سندات الخزينة بعد نشر تقرير في صحيفة «الأخبار» عن حجم الفائض في حساب الخزينة، وهو سؤال طرحه عليها النائب علي حسن خليل، أو التي تناولت مشروع موازنة 2010 والإجراءات الضريبية وكلفة امتصاص السيولة على الموازنة ومصدر الإجازة الدستورية التي حصلت عليها وزارة المال لإصدار سندات خزينة بقيمة تفوق كثيراً قيمة العجز في الموازنة؟ وهذه أسئلة تردّدت على لسان أكثر من نائب، ما اضطر الوزيرة الحسن إلى القول «إن هذا الفائض في حساب الخزينة لدى مصرف لبنان بلغ 6500 مليار ليرة حتى نهاية شباط الماضي، وهو سيتراجع إلى 4800 مليار ليرة في نهاية الشهر الحالي، بسبب تغطية استحقاقات سندات خزينة بالعملة الأجنبية وبالعملة المحلية لمدة ثلاثة أشهر»! ما دفع النائب ياسين جابر إلى نصحها لكي تتنبّه في إجاباتها بشأن هذا الفائض، إذ إن ذلك يعني أن وزارة المال ستستخدم نحو 1700 مليار ليرة شهرياً من إصدارات سندات الخزينة، أي ما مجموعه 20400 مليار ليرة سنوياً، وهذا أمر غير منطقي، لأن الاستحقاقات هي دون هذا المبلغ، فضلاً عن وجود فائض أوّلي في الموازنة بحسب إعلانات وزارة المال، فيما النائب كنعان لفت نظرها إلى أن تغطية استحقاقات سندات الدين بالليرة وبالعملات الأجنبية تحصل عبر عمليات استبدال لا عبر إطفاء ديون، مشيراً إلى أن الإحصاءات المعلنة من قبل مصرف لبنان تفيد بأن ودائع القطاع العام لديه بلغت نحو 10100 مليار ليرة في نهاية شباط الماضي، فيما أظهر تقرير جمعية المصارف في نهاية 2009 أن ودائع القطاع العام لدى المصارف التجارية المحلّية بلغت نحو 1590 مليار ليرة، وهذا يعني أن الدولة اللبنانية تمتلك الآن ودائع تبلغ 12000 مليار ليرة تقريباً، فما الذي يجبرها على الاحتفاظ بهذه المبالغ وتسديد الفوائد عليها، في الوقت الذي تبحث فيه عن سبل لزيادة الإيرادات في هذا العام؟

تمويل مسبق!

رفضت الحسن الإقرار بأن فائض حساب الخزينة الذي بلغ 8700 مليار ليرة قبل تعليق إصدارات سندات الخزينة وليس 6500 مليار كما ذكرت، هو ناتج من عمليات تعقيم السيولة المتراكمة لدى المصارف، نيابة عن «المركزي»، كما أنكرت وجود خلافات بين الوزارة والمركزي على توزيع الخسائر من جرّاء هذه العمليات، مشيرة إلى أن تعليق إصدار السندات جرى بالتنسيق مع الحاكم، وهو تدبير مؤقّت لمدة شهر واحد فقط، إذ ستعاود الوزارة إصدار السندات اعتباراً من أول نيسان المقبل (انتصار جديد لسلامة!). وأصرّت على «أن فائض السيولة في حساب الخزينة هو عبارة عن تمويل مسبق للاستحقاقات المقبلة، بسبب عدم الاستقرار في المنطقة، وهو ما يحتّم تكوين احتياطي يغطي الاستحقاقات المالية، فضلاً عن الرواتب والأجور لمدّة 3 أشهر»... هذا الإصرار يتناقض مع إعلان الحسن إصدار سندات يوروبوند جديدة بقيمة 1.2 مليار دولار لتغطية استحقاقات السندات بالعملات الأجنبية، كذلك يتناقض مع إعلانها معاودة إصدار السندات بالليرة اعتباراً من مطلع الشهر المقبل، إذ إن استحقاقات سندات الخزينة في هذا الشهر لا تتجاوز 774 مليار ليرة فقط، فيما تبلغ في الشهر المقبل 1654 مليار ليرة.

شهادات الإيداع

ما أخفقت الحسن في تفسيره أمام النوّاب، نجح فيه حاكم مصرف لبنان، الذي بدا واثقاً ومعتدّاً بسياسته، فردّ على أسئلة النواب بأن «مسؤوليتي تقضي بتأمين الاستقرار النقدي ومكافحة التضخّم، وبالتالي سأقوم بكل ما يلزم من أجل ذلك»، ودافع بقوّة عن سياسة امتصاص السيولة «لأنها تخفف من المضاربة بين المصارف»، إذ إنها تحافظ على معدّلات فائدة مناسبة لمنع التسليفات الرخيصة التي تسهم في ارتفاع أسعار الأصول والأسهم! وأشار إلى أن سياسته ترمي إلى خفض مدروس على أسعار الفائدة بما لا يؤدي إلى هروب الودائع، رافضاً الحديث عن سقف لجذب الودائع إلى لبنان، «لأن كل دولار يدخل فيه إفادة كبيرة جداً للبلاد». ورأى سلامة أن سياسته النقدية تضمن «وسادة» مريحة، «إذ من دون امتصاص السيولة الفائضة لدى المصارف، ستكون المشكلة أكبر، ولا سيما في ظل وجود استحقاقات منظورة وغير منظورة، أمنية وغير أمنية»، مشيراً إلى أن كلفة امتصاص السيولة عبر شهادات الإيداع التي يصدرها يتحمّلها مصرف لبنان وحده، وهو ما دفع النواب إلى سؤاله عن مصير الأرباح التي يجب عليه أن يحوّلها إلى الخزينة، وهي بنسبة 80% من أرباح المصرف المركزي، ألا يرى أن عدم تحويل هذه الأرباح هو بمثابة تحميل للخزينة العامّة جزءاً من الخسائر؟ وماذا عن اكتتاباته في سندات الخزينة التي يصدرها لمصلحة وزارة المال؟ ألا يُعدّ ذلك بمثابة تمويل غير مباشر لإصدار شهادات الإيداع؟ لقد أقرّ سلامة في اجتماع لجنة المال والموازنة، أمس، بأن مصرف لبنان أصدر حتى الآن نحو 21700 مليار ليرة من شهادات الإيداع، بالمقارنة مع 9100 مليار ليرة كان يحملها حتى نهاية 2008، أي إنه أصدر 12600 مليار ليرة في 2009... وإذا أضيفت هذه المبالغ إلى فائض إصدارات سندات الخزينة (8700 مليار ليرة) فإن وزارة المال ومصرف لبنان يكونان قد اشتركا في امتصاص 30400 مليار ليرة من السيولة الفائضة لدى المصارف المحلية، بفائدة يبلغ متوسطها 8%، أي إن اللبنانيين المقيمين مضطرين إلى تسديد 2432 مليار ليرة عبر المال العام للإيفاء بكلفة عملية الامتصاص، وهي عملية متواصلة، إذ يعترف سلامة بأنه لا يزال لدى المصارف سيولة تنتظر التعقيم تقدّر بنحو 13 مليار دولار، كما يعترف بأن تشجيع التسليفات للقطاع الخاص لم ينجح، إذ إن مجمل هذه التسليفات، المدعومة وغير المدعومة، لم ترتفع إلا بقيمة 800 مليون دولار!

مصير الموازنة؟

لخّص النائب كنعان نتائج جلسة اللجنة، أمس، بالقول «استطعنا أن نتوصل إلى فهم بعض السياسات، ولكننا لم نتلقّ كلياً، أو حتى جزئياً، إجابات كافية على كل ما طرح من أسئلة بشأن السياسات، فالمطلوب أن نستكمل هذه الخطوة، ونتابع هذا العمل، وأن نحدد جلسة ثانية لكي نستطيع التعمّق أكثر في هذه السياسات، ولا سيما أن لها انعكاساتها الكبيرة جداً على الموازنة وعلى السياسة المالية، وتحديد ما إذا كنا نستطيع السير في سياسة زيادة الضرائب». وأوضح النائب كنعان، في مؤتمر صحافي عقده بعد الجلسة، أن وزيرة المال رفضت إعطاء أي توضيحات عن مشروع موازنة عام 2010، بذريعة أنها لم تُنجز بعد، وقال إن إنجاز الموازنة مسألة أساسية وهي من الأولويات لمعرفة الاتجاه الذي نسير عليه. إلا أن الحسن كانت، في الوقت نفسه، تعقد مؤتمراً صحافياً في وزارة المال لإعلان نتائج إصدار سندات يوروبوند بقيمة 1.2 مليار دولار، وبفائدة بلغت 6.375 %، على 10 سنوات، و ردّت على أسئلة الصحافيين عن مشروع الموازنة، بأنها لا تريد أن تحدد موعداً لتقديمها، ولكن الأكيد أنّ ذلك سيحصل خلال أسابيع». إن الحديث عن «أسابيع» يؤكّد النيّة بتأجيل تقديم المشروع بعد فشل محاولات إمرار زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15% أو 12%، ولا سيما أنها كانت قد أعلنت الأسبوع الماضي أنها ستتقدّم بالموازنة مطلع هذا الأسبوع، علماً بأن الحكومة التزمت في بيانها الوزاري تقديم المشروع إلى المجلس النيابي قبل نهاية كانون الثاني الماضي. الخيارات المرّة ولم تنف الحسن النية بزيادة الضرائب، بل قالت إن لديها ما يمكن أن تتقدّم به إلى مجلس الوزراء، مشيرة إلى 3 خيارات أساسية، هي: 1ـــــ الاقتراض لتغطية عجز الموازنة بأكمله، لكنّ رئيس الحكومة وأنا مصرّان على عدم الابتعاد عن المسار الإصلاحي المالي المتّبع، بمعنى أننا متمسكان بعدم زيادة المديونية، ومن هنا فهذا الطرح غير وارد بالنسبة لرئيس الحكومة ووزارة المال. 2ـــــ زيادة الإيرادات من خلال خيارات عدة، بينها خيار العائدات الضريبية، وكل طرح في هذا المجال لا يأتي وحده بل من ضمن سلة متكاملة، بحيث لا يُحمّل ذوو الدخل المحدود أعباءً لا طاقة لهم بها. وسيُطرح هذا الخيار على مجلس الوزراء لبحثه. 3ـــــ ثمة خيار ثالث، إذا ارتأى مجلس الوزراء الأخذ به، وهو إشراك القطاع الخاص بدلاً من الاستدانة وزيادة الإيرادات الضريبية، وهو خيار أحبّذه كوزيرة مال، لأنه يخفف من عبء المديونية على الخزينة ويتيح الفرصة للاستثمار في القطاعات الحيوية. إلا أن هذا الأمر يتطلّب إجراءات وخطوات لا بد من أن يقوم بها مجلس الوزراء حتى يسمح بإشراك القطاع الخاص من خلال مقاربات عدة.

13 مليار دولار

هي السيولة الباقية لدى المصارف، التي تحتاج إلى تعقيم، بحسب سلامة، الذي أوضح أن أدواته تقضي بتوزيعها مثالثة، بين مصرف لبنان ووزارة المال والاحتياط الإلزامي والمؤونات والسيولة الجاهزة. وهذا يعني أن على الحكومة أن تقترض مجدداً 4.3 مليارت دولار.

الحكومة تابعة لمصرف لبنان

يقول أحد النواب، من الذين شاركوا في جلسة لجنة المال والموازنة النيابية أمس، إن تردد وزيرة المال في البوح بالحقائق وثقة حاكم مصرف لبنان الزائدة بصوابية سياساته، تدفعان إلى الاعتقاد بوجود نوع من سوء إدارة السيولة وعدم وجود تنسيق جدّي بين الوزارة والمصرف، بل تدفعان إلى الاعتقاد أيضاً بأن الحكومة لا تملك أي تأثير على السياسة النقدية، وتعمل أداةً تابعة للسلطة النقدية، لا العكس، إذ إن إعلان الوزيرة ريا الحسن عودة إصدارات سندات الخزينة في مطلع الشهر المقبل يعني أنها رضخت لأولويات الحاكم، لا لأولوياتها لجهة ضبط العجز والمديونية.

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة