كامل جابر
«منذ سنوات وأنا أحلم بتقاعد مبكر». بهذه الكلمات يوجز كمال حمدان توقه القديم إلى بعض الراحة. أكثر من ثلاثة عقود من النشاط الدؤوب في البحث والدراسات والندوات الداخلية والدولية المتخصصة، كرّسته مرجعاً ومحللاً اقتصادياً من الدرجة الأولى. «أردّد دائماً أن لديّ موالاً سأغنيه»، يقول مدير «مؤسسة البحوث والاستشارات». بعض مواويله الكثيرة هي«التفرغ للكتابة والهوايات، من بينها الاهتمام بما بقي من «حيّز نبيل» للفكر والعمل السياسيين، من دون إهمال موضوع الأغنية العربية القديمة وكرة القدم». منذ بدأ عمله في المؤسسة عام 1977، حتّى تسلّمه إدارتها بعد رحيل المؤسس حسين حمدان عام 2007، منح الرجل هذه المؤسسة كل طاقته من خلال المشاركة في مئات الدراسات والإشراف عليها. كان اللقاء معه ليلاً في إحدى زوايا مكتبه. حدّثنا عن ذكريات الدراسة والجامعة في كنف عائلته النازحة عام 1910 من حاروف (النبطية) للعمل في تجارة الأقمشة في سوق سرسق، والاستيطان في الضاحية الجنوبية في الأربعينيات. يتذكّر الجدّ الذي لم يكن يتقن القراءة أو الكتابة وإصراره على تعليم أبنائه، ومنهم حسن حمدان (مهدي عامل) وحسين حمدان (أبو فادي). قبل الجامعة، درس كمال حمدان في الليسيه الفرنسية. هذه المدرسة «التي تعلمت فيها بين 1955 و1967 أدت دوراً أساسياً في صقل شخصيتي ضمن بيئة اجتماعية متنوعة منفتحة على الطبقة الوسطى». كانت المدرسة تتميز بأساتذتها الذين حملوا معهم أفكارهم اليسارية والعلمانية. «من بين كل عشرة أساتذة فرنسيين، كان هناك ستة أو سبعة ماركسيين أو «متمركسين». ومن بين كل جيل طلابي يتخرّج، كان أكثر من الثلث قد نهل من تلك الأفكار». الانتقال من «الليسيه الفرنسية» إلى «الجامعة اليسوعية» انطوى على انقلاب وتناقضات. يتحدّث حمدان عن مرحلة مطلع السبعينيات بتحولاتها العاصفة، من هزيمة عبد الناصر وانتصار الحلف الثلاثي في الانتخابات النيابية، إلى نهوض اليسار اللبناني ودخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان. «نشأ وضع في «الجامعة اليسوعية»، صرتَ مضطراً إلى إخفاء أفكارك خشية التعرض للعنف الجسدي». ووصل الأمر بزميل دراسة، احتل لاحقاً موقعاً رئاسياً في البلد، أن صوّب المسدس نحو رأس حمدان لأنه كان يوزع بياناً للمشاركة في أسبوع فلسطين.حاز حمدان دبلوم دراسات عليا في العلوم الاقتصادية، ثمّ استكمل دراسة الاقتصاد النفطي في باريس. في عام 1972، عاد إلى لبنان، وكان أمين معلوف قد سبقه إلى العمل في «النهار». كان الأديب اللبناني «ركناً من أركان اليسار في اليسوعية، وكانت بيني وبينه صداقة وعلاقة نضال. اتصل بي وقال إنهم يبحثون عن شخص للملحق الاقتصادي». لحق به وليد جنبلاط بعد عام. «صرنا عصابة من ثلاثة، وكان مديرنا الإداري إدمون صعب. وبعد أشهر من انضمام جنبلاط، وجدوا أننا يساريون أكثر من اللازم على الأقل آنذاك، فعينوا علينا المحامي كريم بقرادوني رئيساً للتحرير، لكن صداقة ملتبسة نشأت بيننا نحن الأربعة». توقف ملحق النهار الاقتصادي عن الصدور عام 1976. أخذ كمال حمدان يشارك في اجتماعات يعقدها كمال جنبلاط، لتنظيم أمور الناس الاقتصادية والاجتماعية. ثم يبدأ مع شلّة من الأصدقاء التفكير الفعلي في إنشاء مركز للأبحاث لأغراض المنفعة العامة، بالتزامن مع تبلور التوجهات الإصلاحية للحركة الوطنية. لكن استشهاد كمال جنبلاط في مثل هذا اليوم (16 آذار/ مارس) من عام 1976 أحبط مشروعهم في مهده.
في عام 1977، انشأ حسين حمدان «مؤسسة البحوث والاستشارات»، مع الخبير الإحصائي روجيه الحاج والوزير السابق ألبير منصور والمحامي فؤاد شبقلو. لكنّ استمرار الحرب الأهلية أثار سؤالاً شائكاً: كيف لمؤسسة مماثلة أن تعيش في وقت تتجه فيه «قاعدة الزبائن» (مؤسسات القطاع الخاص، والمنظمات الدولية، والدولة اللبنانية) نحو الهرب أو الانحلال؟ دخل كمال حمدان بسرعة مرحلة الفعل، فأنتج مؤشراً لأسعار السلع والخدمات، بعدما توقفت مديرية الأحصاء المركزي عن احتساب مؤشرها قبل عامين. يقول: «فكرت، هل من المعقول بعد حرب السنتين، أن يبقى البلد من دون معطيات عن غلاء الأسعار؟ جمعتُ الأسعار شخصياً من السوبر ماركت وطبّقت المنهجية الحسابية التي يعتمدها الإحصاء المركزي، وأصدرت أول رقم عن ارتفاع المؤشر خلال حرب السنتين (مارس 1975 ـــــ مارس 1977). أذكر أن كل صحف البلد نشرت الخبر آنذاك على مانشيت الصفحة الأولى، وأدى المؤشر «السحري» إلى إجبار الدولة والقطاع الخاص على تصحيح الأجور». علّم كمال حمدان في «الجامعة اللبنانية» حتّى عام 1984، إلى جانب عمله في المؤسسة. رغم مرارات الحروب اللبنانية المتنقلة وتعاقب الحكومات والتسويات، ظلّ نجماً في المنابر البحثية والإعلام، يحلِّل مكامن الضعف في القرارات الاقتصادية والمالية والضريبية ويكشف أسباب التفاوت الاجتماعي والفقر واختلال علاقة الأجور والمداخيل بكلفة المعيشة. عمل بصفة استشاري أساسي مع العديد من المنظمات الدولية، وحلّ أحياناً مع خبراء اقتصاديين ضيفاً على جلسات الحكومة اللبنانية، وتحوّلت دراساته إلى مراجع بحثيّة. يتحدث بشغف عن دراسته عن «الطغمة المالية في لبنان» (مجلة «الطريق» عام 1979) وعن كتابه باللغة الفرنسية «الأزمة اللبنانية: الطوائف الدينية، الطبقات الاجتماعية، والهوية الوطنية»، الذي صدر في باريس وتولى رياض صوما ترجمته عن «دار الفارابي» عام 1998. لا يمكن الحديث مع كمال حمدان من دون تناول الواقع المعيشي في لبنان الذي تتحكم في إعادة إنتاجه شبكة مصالح طبقية ـــــ طائفية متوارثة ومعقّدة وعصية على الإصلاح. يتحدّث بمرارة عن اغتيال مهدي عامل عام 1987. «كانت فاجعة كبيرة، وهو العمّ والصديق والرفيق والنديم». لكن بعد تجربته المهنية الطويلة، فإنّ أكثر ما يشغله يبقى «إنفاق الدولة وما يسمّى المجتمع المدني كل هذا المال على الدراسات، بينما تقتصر التوصيات المنفّذة فعلاً على نسبة لا تزيد على خمسة في المئة. أنا وشربل نحاس، وتوفيق كسبار، وسمير مقدسي، وجورج قرم، وغسان ديبه، وجواد عدرة، ونجيب عيسى، وإيلي يشوعي، وكثيرون غيرنا، كانت عندنا وجهات نظر أخرى. قد لا نكون مصيبين مئة في المئة، لكن على الأقل، كان يجب الاستماع إلينا».