موازنة 2010: في تمجيد السرقة

فجأة، صار ممكناً تقديم مشروع موازنة عام 2010 إلى مجلس الوزراء بعد تأخير طويل وغير مبرر... فلم تعد هناك حاجة ملحّة لزيادة الضريبة على القيمة المضافة، بل بالعكس، صار ممكناً مكافأة المتهربين من تسديد الضرائب والرسوم عبر خفض الغرامات بنسبة 90% نكاية بكل من يخشى مخالفة القوانين ويعمد إلى تسديد ما يجب عليه في المواقيت المحددة، وصار ممكناً أيضاً إلغاء كل الرسوم على الكحول والخمور وإعفاء ما يسمّى «المصارف الإسلامية» من ضرائب كثيرة... بل أكثر من ذلك، صار ممكناً التوسّع في تبذير المال العام عبر حشر الأزلام في قوى الأمن الداخلي بتثبيت 10600 عنصر هُرِّبت قرارات التعاقد معهم في لحظة سياسية ملتبسة، وتطويع 4000 عنصر جديد بذريعة تحقيق بعض التوازن الذي اختل بسبب عملية التهريب المذكورة... صار الكلام الصارم على ضبط العجز وعدم «السماح» بزيادة الدين العام لا ينطبق على هذه الحالة التي ستكلّف اللبنانيين أكثر من 350 مليار ليرة سنوياً كإنفاق إضافي، كذلك لا ينطبق على تلزيم شركة يملكها شخص مقرّب من العائلة «المالكة» بصيانة مبنى وزارة التربية وتنظيفه بكلفة تبلغ مليارين و240 مليون ليرة في هذا العام، أي 187 مليون ليرة شهرياً، أو ما يعادل 124 ألف دولار! وعلى ذكر «النظافة»، فهذا الكلام لا ينبطق بطبيعة الحال على تمديد عقود «سوكلين» و «سوكومي» الملتزمتين تنظيف خزائن بلديات بيروت ومعظم أقضية جبل لبنان عبر فرض أعلى سعر لطن النفايات في العالم (ما بين 120 و155 دولاراً)، وهو ما يستنزف نصف المبالغ المخصصة للبلديات في حسابات الخزينة المرفقة بفذلكة مشروع الموازنة عرضياً وبلا أي تفصيل. هكذا، خرجت وزارة المال على اللبنانيين من دون أي تبرير بمشروع للموازنة يرفع مجمل إنفاق الدولة في هذا العام إلى نحو 21344 مليار ليرة (14.1 مليار دولار)، منه نحو 18652 مليار ليرة (12.3 مليار دولار) كاعتمادات ملحوظة في مشروع قانون الموازنة، ونحو 2692 مليار ليرة (1.8 مليار دولار) مهرّبة كنفقات من خارج الموازنة... صار كل ذلك ممكناً، ومن دون فرض أي زيادة ضريبية مقيتة، بمجرد أن إشارات سياسية ظهرت في اقتراح المشروع الذي تقدّم به النائب علي حسن خليل لتشريع خصخصة بعض المرافق والنشاطات، أو بمعنى آخر تشريع المزيد من السرقات للمال العام الذي يُجبى من الفقراء ومتوسطي الدخل حصراً. المفارقة أن مشروع الموازنة الذي سيبدأ مجلس الوزراء بمناقشته قريباً لا يتضمن أي أثر لهذه الخصخصة، وهنا تكمن الفضيحة تحديداً، فالمسألة، كما يوحي بها المشروع، لا تتعلق بضبط العجز أو بالقرار الحاسم والجازم بعدم زيادة الدين العام، وهو ما يحب الشيخ سعد الحريري أن يخطب به في الناس الغلابة... فالعجز، بحسب ما يبشّر به المشروع، سيرتفع من 4470 مليار ليرة إلى 6056 مليار ليرة، والدين العام سيرتفع أيضاً من 77024 مليار ليرة إلى 83182 مليار ليرة (والمخفي أعظم طبعاً)... المسألة إذاً تتعلق بأمور أخرى، يمكن اختزالها بمصطلح شديد التهذيب: السرقة، وإلّا فما معنى أن يقترن تقديم المشروع إلى مجلس الوزراء بشرط زيادة الضريبة المرفوضة أو التوافق السياسي على الخصخصة، ثم ترفع وزيرة المال ريا الحسن مشروعها من دون زيادة الضريبة ومن دون احتساب أثر الخصخصة على قيمة الإنفاق؟ كيف «ظبط» الحساب بعدما هوّلت مع فريقها وقامت بصولات وAffinityCMSت لإقناع المغلوب على أمرهم بأن لهم مصلحة في الموت جوعاً وفقراً وظلماً وقهراً ومرضاً، باعتبار أن الموت أصلح من هذه الحياة، وبما أن أولويات الحكومة هي أولويات الناس، فلنقتل الناس بدفع نصفهم إلى ما دون خط الفقر بالضريبة على القيمة المضافة أو بخصخصة الخدمات وزيادة أكلافها أضعافاً مضاعفة!

سيقرّ مشروع موازنة عام 2010 في مجلس الوزراء، وسيصدّق عليه المجلس النيابي بالتزامن مع اقتراح القانون الرامي إلى «سرقة الناس» تحت عنوان «إشراك القطاع الخاص»، ولن يسأل أحداً عن مصير قروض وهبات باريس 3 المخصصة لمشاريع التنمية والبنى التحتية، التي حام حولها الكثير من الزعيق والصراخ. لماذا لم يعد أحد يسرد مزاياها ويطالب رئيس المجلس النيابي نبيه بري بالإفراج عنها؟ إن هناك اتفاقيات قروض بأكثر من 3 مليارات دولار لتمويل مشاريع الكهرباء والمياه والطرقات والنقل والصرف الصحّي والبيئة والتنمية الريفية... لقد ساد الصمت، ولم يعد هناك من يريد أن يموّل هذه المشاريع بفوائد متدنية ولآجال طويلة، الكل يريد أن يسرق ما دامت الفرصة سانحة. الكل يريد «سوكلينه». لا شك في أن البنك الدولي يخطئ أكثر مما يصيب، لكنه كان مصيباً عندما حذّر من أن استثمارات القطاع الخاص في الكهرباء ستزيد كلفة إنتاج الكيلوواط ساعة بما بين 1.6 و3 سنتات (وهذا يعني زيادة في الكلفة الإجمالية تقدّر بمئات ملايين الدولارات)، وهذا ينطبق على المياه والاتصالات والطرق والمرافئ والمطارات ومعالجة النفايات... لا يأبهون لذلك، يريدون أن يسرقوا، ومن لا يعجبه الأمر، فأمامه أبواب الهجرة مفتوحة... أو أبواب القبر.

محمد زبيب

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة