منذ ما قبل الاستقلال، لم تحظَ المالية العامة في لبنان باهتمام كبير من الأحزاب والقوى السياسية. ودرجت العادة على أن تمرّ الموازنة في مجلس النواب دون نقاش جدي، وبمادة واحدة. يعود هذا العطل البنيوي إلى بنية الطبقة الحاكمة والنظام اللبناني. فقد كان هذا النظام منذ إنشاء نظام المتصرفية، ليبرالياً بامتياز، يمثّل مصالح التجار ورأس المال المالي، مستلحقاً بمراكز الرأسمالية الغربية، كما وصفه ونظر إليه ميشال شيحا إبّان عهد الانتداب. وما زالت الطبقة الحاكمة في لبنان وممثلوها في السلطة يتشبّثون بهذه الرؤية. ولم يعرف لبنان يوماً حكومة مركزية ممثّلة للجماهير ومصالحها، ممسكة بدورة الإنتاج أو موجّهة لها، مثل دول جنوب شرق آسيا، أو دولة حاضنة تضع الإنسان ومصالحه محوراً لسياساتها الاقتصادية والاجتماعية. ومنذ وصول الرئيس رفيق الحريري إلى السلطة في أواخر سنة 1992، وتولّي فؤاد السنيورة وتلامذته أمر وزارة المالية، تمّ «تخصيص» مشروع الموازنة، وانتقل العمل في إعدادها من وزارة المالية إلى فريق حريري خاص في «السادات تاور» بمساعدة وتوجيهات فاعلة من «إجماع واشنطن»، أي من صندوق النقد والبنك الدوليين ووزارة الخزانة الأميركية، وبالتزام أيديولوجيا الليبرالية الجديدة. وضمن توجّهات هذا الفريق وارتباطاته، فقدت الموازنات ومشاريعها كل مصداقية وكل شفافية. فقد تم تجاوز الإنفاق المقرّر في قانون الموازنة دائماً، وتم تعطيل مؤسسات المراقبة والمحاسبة، كما تم تعطيل دور مجلس النواب في هذا الشأن، وبموافقة النواب ورئيس المجلس، حتى وصل الأمر إلى عدم تقديم مشاريع للموازنة منذ سنة 2005 دون أن يعمد مجلس النواب إلى حجب الثقة عن الحكومة. وبذلك مرّت خمس سنوات لم تتقدم فيها الحكومة إبّانها حتى بمشروع موازنة، وبتقديم قطع حساب عن عمليات الخزينة. أي إنه كان يُجبى ويُنفق المال العام دون رقابة أو موافقة دستورية وشرعية، ودون محاسبة. وأدّت سياسات الإنفاق غير المنضبط إلى هدر كبير في المالية العامة، وإلى زيادة غير مبرّرة للإنفاق الجاري، وتقليص للإنفاق المجدي والاستثماري، ودُفع لبنان عمداً إلى فخ المديونية، ووضع تحت رقابة «إجماع واشنطن» ورحمتها. وأصبح البحث في شأن المالية العامة محصوراً في كيفية تقليص عجز الموازنة والحد من نموّ الدين العام، مع التسليم الضمني بصحة توجّهات وزارة المالية، الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تمثّل أخلاقيات السوق الليبرالية الجديدة، ومصالح الطبقة الحاكمة في لبنان. وتأتي الحلول المطروحة دائماً من واضعي مشروع الموازنة بزيادة الضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على الطبقات الشعبية وأصحاب الدخل المحدود، وتقليص الضرائب المباشرة على الأرباح والمداخيل الريعية، وإلغاء الضرائب على الأرباح الرأسمالية (أرباح المتاجرة بالعقارات والأسهم) وتمكين المؤسسات المالية والتجارية الكبرى، وأصحاب المداخيل المرتفعة جداً، من التهرّب من الضريبة تحت غطاء السرية المصرفية. وجرى التعبير بوضوح عن استهدافات السياسات الضريبية، الهادفة إلى جعل لبنان جنّة ضريبية لكبار الرأسماليين، كما إلى زيادة ربحيّة المصارف اللبنانية إلى معدلات غير مقبولة اقتصادياً واجتماعياً، عبر نهب المالية العامة (فوائد فاحشة على سندات الخزينة) وعبر نهب قطاعات الإنتاج الحقيقي، وخاصة بالنسبة لصغار المنتجين. وعمدت الحكومات الحريرية إلى خفض الإنفاق المجدي، والتوظيفي منه خاصة، إلى حدود أقل من عشرة في المئة من مجمل الإنفاق، والذي كان يمثّل في الماضي حوالى نصف الإنفاق العام. وبحجة تفعيل الاقتصاد، والحد من نمو الدين العام، والبنية الاحتكارية للأسواق، وتآكل الرواتب والأجور الحقيقية، وكذلك فرص العمل، تطرح الطبقة الحاكمة سياسة الخصخصة، التي تحصل عادة باحتيال وخارج الأطر الشرعية، وعبر انسحاب القطاع العام وترهيله، وكذلك عبر إفشال مؤسسات القطاع العام ودفعها لتتكبّد خسائر كبيرة بغية تبرير نهبها من الطبقة الرأسمالية الحاكمة، مثل كهرباء لبنان، ومؤسسات مياه لبنان، والضمان الاجتماعي، والقطاع التعليمي بكل مراحله، والإعلام المرئي والمسموع وتجارة الأدوية... إلخ. إن نقاش الموازنة يجب أن يأخذ مساراً آخر غير الذي تفرضه وزارة المالية ومَن تمثّل. فالموازنة تمثّل رؤية السلطة الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، واستهدافاتها. فعلى الصعيد الأخلاقي، إن الليبرالية الجديدة المعتمَدة لا تهتم إلا بزيادة أرباح رؤوس الأموال وتراكمها لدى المصارف، وزيادة ثروات الأثرياء، وتهتم بإعادة توزيع الناتج المحلي لمصلحة أصحاب رؤوس الأموال وعلى حساب الرواتب والأجور. وهذا ما حدث في مراكز النظام الرأسمالي وأطرافه بعد تبنّي أيديولوجيا الليبرالية الجديدة. فقد جرى تشييء الإنسان، وبدل أن يكون هو المستهدف من وراء السياسات الاقتصادية، أصبح هو ذاته أحد مدخلات الإنتاج بهدف تحقيق أعلى معدل ممكن من الربح، بغضّ النظر عن الظلم الاجتماعي واتّساع نطاق الفقر والعوز والإذلال. والسلطة القائمة لا تهتم إلا بقطاع الخدمات، مع إهمال كلّي لقطاعات الزراعة والصناعة، كما يتّضح من موازنات الوزارات المختصة. فالتنمية المتوازنة بين المناطق، والحدّ من البطالة والهجرة تفرضان سياسات حمائيّة وبنية تحتية ملائمة لنموّ هذه القطاعات، وإنفاقاً عامّاً يمكّن من إنهاض هذه القطاعات، عكس السياسات المالية والضرائبية المتّبعة.
وتُقوَّم السياسات المالية أيضاً عبر دراسة وقع السياسة المالية على إعادة توزيع الناتج المحلي القائم، وعبر توزيع عادل للأعباء الضريبية وإنفاق عادل على الخدمات الضرورية والبنية التحتية، فتُضيَّق الفروقات الطبقية. ففي بريطانياً، مثلاً، ورغم سياسات تاتشر اليمينية، فإن وقع السياسة المالية يقلّص الفروقات في المداخيل الحقيقية بين الأغنى والأفقر من السكان حتى 27 ضعفاً قبل وقع السياسات المالية إلى سبعة أضعاف بعدها. أما في لبنان، فإن وقع السياسة المالية يوسّع الفروقات الطبقية ولا يضيّقها، وهذا غير مقبول في أي بلد في العالم. فالعبء الضريبي يقع على عاتق الطبقات الشعبية وأكثر من نصف هذه الضرائب يذهب إلى جيوب المصارف والأثرياء عبر خدمة الدين العام. والسياسات المتّبعة تقلّص فرص العمل في القطاع العام، ليس لعدم حاجة هذا القطاع إلى قوى عاملة مؤهّلة جديدة، بل لإجهاض القطاع العام وتخصيص كل السلع والخدمات التي ينتجها. وبرغم ما يتحدثون عنه من نموّ اقتصادي إعجازي، فإن هذا النمو يذهب كلّه لمصلحة رؤوس الأموال مع استمرار تدني القيمة الحقيقية للرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص، ودون ربط الأجور والرواتب بنمو الإنتاجية، كما هي الحال في العالم المتحضّر. وقد تمكّنت السلطة اللبنانية من تنفيذ سياسة الإفقار للقوى العاملة عبر تفسيخ النقابات العمالية والمهنية وتمزيقها وتطبيق سياسة «تحرير سوق العمل» ولو بالمواربة والتحايل وتعطيل القضاء المختص لدفع العمال والموظفين لقبول ما يمنّ عليهم به أصحاب رؤوس الأموال. لذلك لا بدّ من مناقشة مشروع الموازنة العامة خارج إطار ابتزاز السلطة المالية في وضع خيارات ظالمة بحق الجماهير في حل مشكلة عجز الموازنة وكبح نمو الدين العام، إلى مناقشة عامة لمجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
غالب أبو مصلح*