المواكب السيّارة التي تضمّ عشرات الشبّان، والتي تنزل إلى الشوارع في أنحاء مختلفة من البلاد، لترفرف بأعلام نجوم المونديال، إنّما تحمل بشائر سارّة. وكذلك تفعل أعلام الفرق المتنافسة حين تعلو شرفات المنازل في مناطق تعرف «الصفاء» الطائفي. وكلّ هذا يشكّل مثالاً مضادّاً لكلّ الذين يعتقدون أنّ الشعب اللبناني لا يمكن أن تحرّكه إلا غرائزه الطائفيّة، ولكلّ الذين كلّما لاحت ظاهرة اجتماعيّة، عمدوا إلى البحث عن تفسير طائفيّ لها، وإعطاء الحصريّة لهذا التفسير. وكذلك لكلّ الحركات التي حاولت التغيير في لبنان، ولم تتوانَ عن ردّ فشلها إلى عامل وحيد هو الطائفيّة.تصوّروا! يمكن اللبنانيّين أن يتحمّسوا من دون طائفيّة، وأن ينزلوا إلى الشوارع من دون طائفيّة، وأن يتابعوا باهتمام على مدى شهر كامل حدثاً لا يمتّ إلى المحاصصة الطائفيّة بصلة.ليست مسألة جينات إذاً. ربّما كانت مسألة شغف. وللطائفيّة شغفها دون شك، لكنّ شغف المونديال لا علاقة له بانتماءات ضيّقة. إنّه الانتماء إلى فضاء رحب يلفّ الكرة الأرضيّة كلّها، والانتماء إلى حيّز يتجاوز حدود الوطن وبلادة الشعارات الوطنيّة. لعلّ ضعف منتخب لبنان الوطني وضعف شعور اللبنانيين الوطني عموماً، هو ما يتيح هذا الترف. ترف تحويل الأعلام والأناشيد الوطنيّة إلى مجرّد فولكلور.المونديال لم ينحِّ الطائفيّة إلى الصفوف الخلفيّة وحسب، لقد فعل ذلك مع السياسة برمّتها أيضاً. أبطال الشوارع اليوم ليسوا ميشال عون وسعد الحريري (أو نادر أو أحمد أو بهيّة) ونبيه برّي... شاغلو القلوب هم ميسي وكاكا وكلوزه... حتّى الشهداء تراجعت ذكراهم، وبات للمونديال شهداؤه الأحياء كبالاك ورونالدينيو...بعد كلّ ما مرّ على هذه البلاد خلال الأعوام الأربعة الماضية، للمونديال وأعلامه هذا العام نكهة مختلفة. فها نحن نتابع المباريات كمن يأخذ حمّاماً ساخناً كي يغسل تعبه وعاره.