حسن عليق «ما خفي أعظم». هذه العبارة تلخص الاجوبة التي ينطق بها الأمنيون المطلعون على ملف الموقوف شربل ق، الموظف في شركة «ألفا» لتشغيل شبكة للهاتف الخلوي، الذي يخضع لتحقيق معمق في مديرية استخبارات الجيش. وساعة بعد أخرى، تحمل القضية معها جديداً مذهلاً، سواء خلال التحقيق معه، أو من خلال مركز عمله في شركة «ألفا» التي لا يزال محققو استخبارات الجيش يُخضعون أنظمتها لتدقيق تفصيلي، في محاولة منهم لتحديد ما كان متاحاً للموقوف فعله والاطلاع عليه. وآخر ما ظهر في هذا الإطار أن الرجل كان يملك «مفاتيح المرور السرية» (password) التي تخوّله استخدام أي جهاز كومبيوتر موصول بشبكة الانترنت، داخل مبنى الشركة أو خارجه، لولوج بيانات الشركة التي يعمل فيها، والتي ينبغي أن تكون سرية. ونظرياً على الأقل، يعني ذلك أن الاستخبارات الإسرائيلية باتت قادرة على التحكم بجزء من بيانات الشركة، من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو من أي مكان في العالم! وأكدت مصادر مطلعة أن الموقوف يملك معرفة معمقة بالأسرار التقنية لشركته، وهو كان قد خضع في شركة «ألفا» (وقبلها سيليس) لعدد من الدورات التدريبية المتقدمة. وأنشأت مديرية استخبارات الجيش فريقاً تقنياً مهمّته دراسة القدرات التقنية والعملية للموقوف، إضافة إلى صلاحياته وما يسمح له موقعه الوظيفي بإجرائه، بهدف تمكين المحققين الأمنيين من طرح الأسئلة المناسبة عليه خلال التحقيق والحصول منه على معلومات تفصيلية توضح حجم الاختراق الذي حققته الاستخبارات الإسرائيلية في الشبكة الخلوية اللبنانية. ويتعدى البحث ما ذكر سابقاً عن تنفيذ بعض العمليات التقنية في محطات بث الهاتف الخلوي لتسهيل مهمة التنصت على المكالمات أمام الإسرائيليين، فضلاً عن السماح لهم بتحديد مواقع الهاتف الخلوي (وهذه العمليات ليست مرتبطة حصراً بزرع أجهزة ومعدات زوّده بها مشغلوه)، إذ إن للموقوف قدرة على التلاعب ببيانات الهاتف الخلوي، وإضافة أو حذف ما يشاء منها، فضلاً عن القدرة التي بإمكانه منحها لمشغليه وجعلهم قادرين على تسجيل بيانات هاتفية لم تحصل (أن تُسجل قاعدة البيانات حصول مكالمات من رقم هاتف محدّد إلى آخر من دون حصول ذلك فعلياً). ولفت أحد الخبراء الأمنيين ـــــ التقنيين إلى أن تنفيذ هذا الطلب ممكن ببساطة، وأنه شبيه بتقنية الرسالة العمياء (Blind message) التي يستخدمها الإسرائيليون لتحديد الموقع الجغرافي الدقيق لمن يريدون من مستخدمي الهاتف الخلوي. وتستند هذه التقنية إلى البعث برسائل نصية لا تظهر لمستخدم الهاتف، ولا تُسجل في حافظة الرسائل (Inbox)، كما أن مستخدم الهاتف لا يعلم بوصولها إلى هاتفه. وتعمل هذه الرسائل غير المرئية وفقاً لبرنامج يدفع الهاتف المستهدف إلى البعث برسالة لا يعلم بها الشخص الذي يستخدم الهاتف، كما لا تسجل في حاوية الرسائل المرسلة (Sent items). وعندما تُبعَث الرسالة، يتمكن الإسرائيليون من تحديد الموقع الجغرافي لحامل الهاتف. ويحتاج الإسرائيليون الى هذه التقنية لأن أنواعاً عديدة من الأجهزة الخلوية (وخاصة القديمة منها)، لا تتيح لهم تحديد الموقع الجغرافي لحامل الهاتف، إلا إذا كان الأخير يجري مكالمة أو يبعث برسالة نصية. وهذه التقنية باتت معروفة عند الاختصاصيين في الأجهزة الأمنية اللبنانية الناشطة في مجال مكافحة التجسس. وحتى أمس، كان الموقوف، الذي يصفه عارفوه بأنه فائق الذكاء، يتعاون مع المحققين، «لكن ببطء»، بحسب ما يقول معنيون بالملف. وأشار بعض هؤلاء إلى أنه أظهر أن توقيفه كشف وجود سهولة داخل شركة «ألفا» للوصول إلى البيانات التي ينبغي أن تكون فائقة السرية. وذكر أحد الأمنيين بأن موظفاً سابقاً في الشركة كان قد تمكن من سرقة 50 ألف بطاقة تعبئة للهاتف الخلوي، قبل انكشاف أمره وتوقيفه في آذار 2009. وحينذاك، بيّنت التحقيقات أن الموقوف كان قد تمكن من الحصول على الأرقام التسلسلية لهذه البطاقات، وعرضها للبيع على عدد من التجار، رغم أنه لم يكن قد مضى على توظيفه أكثر من عام واحد. والأخطر من ذلك، أنه كان قد عرض على من يفاوضهم أن يسلّمهم «مجاناً» ما يريدونه من بيانات الهاتف الخلوي. وتشير تلك الحادثة، وقضية الموقوف شربل ق. إلى سهولة اختراق الأنظمة السرية داخل الشركة. وبحسب المعنيين بالتحقيق، فقد ذكر شربل أن تجنيده عام 1996 تم خلال تردده إلى منطقة الشريط الحدودي المحتل، عندما كان يعمل في مجال تركيب محطات بث الهاتف الخلوي وصيانتها. وفي منطقة جزين، كان عدد من أقاربه ناشطين في ميليشيا لحد، فجنّده أحد هؤلاء للعمل لحساب الاستخبارات الإسرائيلية. ونُقل إلى الأراضي الفلسطينية أكثر من مرة للقاء مشغليه، طوال المدة الفاصلة بين تاريخ تجنيده وتحرير الجنوب عام 2000. ومنذ ذلك الحين، بات شربل يلتقي بمشغليه في بلدان أوروبية عديدة، وخاصة منها فرنسا. وقد زوّده مشغلوه في مقابل عمله بمبالغ مالية طائلة طوال فترة عمله معهم، وخاصة بعدما كشفت مصادر مطلعة ملكيته لمشروع بناء سكني يضم خمس بنايات في منطقة جورة البلوط، ما يشير إلى الأهمية التي يوليها إياه مشغلوه. ردود الفعل على توقيف شربل ق. أتت غير مسبوقة في قضايا مماثلة. فقد نوّه رئيس الجمهورية ميشال سليمان بعملية التوقيف التي نفذتها استخبارات الجيش، واصفاً شربل ق. بـ«أحد المسؤولين البارزين في إحدى الشركتين المشغلتين للهاتف الخلوي». وطلب سليمان من الأجهزة المعنية «التوسّع في التحقيقات لكشف المتورطين في التعامل»، فيما أشارت مصادر مقربة منه إلى ان القضية ينبغي متابعتها إلى نهايتها. أما رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، فقد ذكّر بالمديرة التنفيذية في الشركة التي فرّت من لبنان عام 2008 «فور علمها بأنه سيقبض عليها، ما يثبت أن العدو الإسرائيلي لا يزال يحرّك شبكات عملائه في قطاعات حساسة في لبنان تمس أمن كل لبناني وتعرّض الوطن للانكشاف». كذلك توقف رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون أمام «القصة الخطيرة»، معرباً عن خشيته من إمكان دخول أجهزة إلى شبكة الخلوي. وعقد رئيس لجنة الاتصالات النيابية النائب حسن فضل الله مؤتمراً صحافياً أمس، رأى فيه أن «ما نشر من اعترافات أمر بالغ الخطورة، وخصوصاً أنه يطال قطاعاً حيوياً اقتصادياً وأمنياً، وهو يمس كل لبناني فضلاً عن الدولة بأجهزتها والقوى السياسية وهيئات المجتمع المدني بشرائحه كافة. ووفق ما توافر من معطيات ووفق الاعترافات المدلى بها والمنشورة، فإن البنية التحتية لشبكة الاتصالات الفنية والتقنية باتت في حوزة العدو، واتصالات اللبنانيين ومعاملاتهم عبر هذه الشركة تصل مباشرة الى الاستخبارات الإسرائيلية، فضلاً عن تمكن العدو من تحديد حركة الأشخاص وتنقلاتهم وأماكن وجودهم». ودعا فضل الله الحكومة، «من موقع التعاون، إلى القيام بإجراءات فورية لتحديد الأضرار التي لحقت بقطاع الاتصالات ومعالجتها». وذكرت مصادر مطلعة لـ«الأخبار» أن النائب حسن فضل الله سيبحث مع رئيس مجلس النواب نبيه بري إمكان عقد جلسة للجنة الإعلام والاتصالات النيابية للبحث في سبل الحفاظ على أمن الاتصالات.
القومي: إسرائيل قتلت الحريري
أما الحزب السوري القومي الاحتماعي فقد دعا في تصريح لعميد الدفاع فيه، وائل الحسنية، الحكومة اللبنانية إلى «أن تسارع إلى تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن الدولي، تضمّنها تحفظها على اعتماد المحكمة الدولية مصادر وأدلة ذات صلة بأدوات التجسّس وميادين حصوله، والإسراع في محاكمة عملاء إسرائيل، وإيقاع أشد العقوبات بهم، لأن إسرائيل هي من قتلت رفيق الحريري ورفاقه ومن ألحقتهم بهم وأرادت قتل لبنان وإبادة اللبنانيين بالفتن الطائفية والمذهبية». وحذر الحسنية «من خطورة تغلغل العملاء في المواقع الحساسة، أو من خلال توفير مظلات سياسية لهم عبر بعض الأطر السياسية القائمة في البلد»، معتبراً «أن أي بلد قد يتعرض لخرق أمني. أما أن تتوفر مظلة للعملاء في بعض الأطر السياسية، تتيح للعملاء حرية الحركة على خلفية أن العمالة للعدو وجهة نظر سياسية، فهذا أمر مستهجن وخطير وغير مقبول، وهو الذي كاد يبقي لبنان على خط الزلازل الأمنية». بدورها، هنأت كتلة المستقبل النيابية «الأجهزة العسكرية والأمنية على جهودها والإنجازات التي حققتها في صيانة الأمن الوطني»، طالبة من «الأجهزة القضائية المختصة الإسراع في إنجاز التحقيقات وإجراء المحاكمة تمهيداً للاقتصاص من المجرمين المتورطين وإنزال أقسى العقوبات بهم». ولفتت إلى «ضرورة التنبه والمحاذرة في الوقوع في شرك بعض التسريبات والجهات التي تحاول تسييس بعض هذه الأعمال والقضايا».
عدد الاربعاء ٣٠ حزيران ٢٠١٠