ديما شريف يضحك نوام تشومسكي حين يتذكر كيف قرأ كتاب «الأيام» لطه حسين. كان ذلك منذ عقود بعيدة، ولمّا يزل في الجامعة. «قرأته من دون مساعدة أحد»، يقول، قبل أن يضيف «بالعربية طبعاً». كان ذلك تحدياً كبيراً له أمام لغة جديدة تعلّمها خلال دراسة الألسنيات في «جامعة بنسلفانيا» في الأربعينيات. المفكر الثمانيني الذي يقرأ اليوم بعض الصحف العربية للحفاظ على معرفته بلغة الضاد، لم يكن متأكداً أنّه قد يواصل دراسته. «كنت على وشك أن أترك الجامعة. لم أكن أريد أن أدرس»، يسرّ إلينا صاحب «صناعة الإذعان» (عن الإعلام والبروباغاندا في الأنظمة الديموقراطيّة، 1988)... وإذا به يلتقي بعالم الألسنيات زيليغ هاريس الذي اقترح عليه حضور صفّه، فتعلق بالاختصاص. هكذا تخلى نوام الشاب ابن الباحث التوراتي، عن حلمه بـ«الهجرة إلى فلسطين لأصبح عاملاً يهودياً عربياً» وإذا به من أهم اللغويين في القرن العشرين. لم يكن لقاؤنا طويلاً. المفكر اليساري الأبرز في الولايات المتحدة أنهكه الكلام والمرض. يخفت صوته تباعاً حين يتعب، لكنّه رغم ذلك لا يتوقف. يخبرنا عن أولاده الثلاثة. ابنتاه تأثرتا كثيراً به، الكبرى أفيفا أستاذة جامعية، والثانية ديان تعمل مع منظمة «أوكسفام» في المكسيك. أفيفا تهتم به كثيراً، وخلال رحلته اللبنانية لا تفارق جانبه، وهو يقدّر لها ذلك كثيراً، ويتحدث بشغف عن عملها. يصمت قليلاً ثم يضحك: «أمّا ابني هاري فهو في كاليفورنيا، لا يفعل شيئاً».
تشومسكي الذي يحاضر هذا المساء في بيروت عن «السياسة الأميركية في الشرق الأوسط»، بدعوة من «نادي اللقاء» تحية إلى زميلنا الراحل جوزف سماحة (س 6، قصر الأونيسكو)، تربّى في «بيت صهيوني ليبرالي» كما يصفه. كانت السياسة موجودة في البيت،«لأنّها كانت فترة كساد والسياسة ضرورية»، يوضح صاحب «أسرار، وأكاذيب، وديموقراطية» (1984). لكنّ نوام لم يتأثر بوالده، بل مال إلى الأجواء السياسيّة في عائلة والدته. كلّ أخواله كانوا «أبناء الطبقة العاملة اليسارية... قضيت وقتاً طويلاً معهم، وأخذت عنهم الأفكار اليسارية». بعد نيله الدكتوراه من «جامعة هارفرد»، بدأ تشومسكي التدريس في «معهد ماساشوستس التقني»، كان ذلك في 1955 ولم يزل حتّى الآن. تزوّج حينها بالعالمة اللغويّة كارول شاتز، تلك السيّدة التي عرفها منذ كانا طفلين وبقيت رفيقة دربه حتّى رحيلها قبل عامين. خلال سنوات قليلة، صار من أهم مطوّري عمل الألسنيات. اشتغل على مفهوم بناء الجملة، واخترع «سلّم تشومسكي» الذي يدرسه طلاب اللغات في جميع أنحاء العالم. يقسّم السلّم القواعد اللغوية إلى فئات ومجموعات تنتج كل منها مجموعة لغات رسمية أكبر من تلك التي تسبقها. عمله التطويري هذا ــ إلى جانب مقترحاته الفلسفية ـ فتح باباً لنقاشاته مع مفكرين عالميين عاصرهم مثل ميشال فوكو وجان بياجيه... إلى جانب مساهمته الكبيرة في عالم الألسنيات، ذاع صيته بسبب مواقفه السياسية قبل كلّ شيء. لم يقف عند حدود اختصاصه العلمي، بل تعداه إلى السياسة التي خطّ فيها مئات المقالات والكتب. منذ حرب فييتنام، أعلن موقفه المناهض للنظام الأميركي القائم، ورفضه للحروب التي شنّها ولسياساته الخارجية الإمبريالية. ألم يحقق كتابه «9/ 11» أرقام مبيع قياسيّة؟ ولم يكن ممكناً ألا نصل إلى الحديث عن الوضع الدولي الراهن. جولة في المنطقة بين إيران وفلسطين، وسوريا التي «لا تملك مقوّمات مواجهة إسرائيل عسكرياً»، كما يقول، لن تفك ارتباطها مع إيران قريباً برأيه، رغم إغراء الاندماج في المجتمع الدولي. يقول إنّه إذا «شُنَّت حرب على إيران، فقد يتغير كلّ شيء»، ثمّ يستبعد احتمال الحرب. إيران اليوم، برأيه، في موقع المنتصر بفضل حربي واشنطن في المنطقة: العراق وأفغانستان. أمّا عن العقوبات التي يلوّح بها باراك أوباما، فيعتقد تشومسكي أنّ الرئيس الأميركي «معزول دولياً في موضوع العقوبات». «حتى قبل الاتفاق الذي عقد أخيراً في طهران، صارت البرازيل أكبر من أن يتجاهلها أحد، كما أنّ تركيا تبتعد عن أميركا صوب الشرق». إسرائيل من جهتها، تعلمت الدرس في حرب 2006، برأيه، وهي اليوم مترددة في خوض أي صراع عسكري جديد. «لكنّها أقوى من قبل، ولديها القوة والتقدم التكنولوجي»، يضيف. ثم يبتسم ويقول إنّها مع هذه القوة غير منطقية ولا يمكن التنبؤ بأفعالها، «انظري ماذا فعلوا مع تركيا وسفيرها، وهي أقرب حليف لهم في المنطقة».
يحلم تشومسكي بدولة ذات شعبين في فلسطين. لا ضير من الحلم، لكن «لا جدوى من مناقشة ما نحلم به... الحلّ الوحيد اليوم هو دولتان. حتّى هذا الحلّ صعب التحقيق، فالاسرائيليون يغيّرون رأيهم يومياً». ينتقل هو إلى طرح الاسئلة. يسألنا عن رأينا حيال الصراع، وعن الدورين الإيراني والسوري في المنطقة. وإذا به يشرد، يذهب إلى مكان بعيد في ذاكرته، يوم كان يدخل الأراضي اللبنانيّة أثناء تجواله في بساتين شمال فلسطين. كان ذلك في الخمسينيات، حين كان يزور الأراضي المحتلّة: «حينها، لم يكن هناك تشديد على الحدود». اليوم اختلف الوضع، فقبل أيام لم يسمح له الاحتلال بالوصول إلى «جامعة بيرزيت»، فألقى محاضرته عبر الفيديو كونفرانس من عمّان. نعود إلى طرح الأسئلة. أين اليسار في أميركا؟ وماذا عن معارضة حربي العراق وأفغانستان؟ يقول المفكر المزعج إنَّ تيار المعارضين لحرب العراق ينمو في الولايات المتحدة... «لكنّ الناس مخدوعون في ما يتعلق بأفغانستان، فقد صوّرت الحرب هناك على أنّها عمل دفاعي، ومن هنا عدم وجود معارضة جديّة ومنظمة لها». أما اليسار الأميركي فهو، برأيه، في تراجع مستمر، لكنّه مستمر في المعارضة رغم كلّ شيء. من جهتها، تتمثل المعارضة اليهودية لإسرائيل في منظمة «جاي ستريت»... «لكنّها ليبرالية جداً فهم لا يسمحون لي بالحديث في مؤتمراتهم مثلاً... أما الاعتقاد السائد بأنّهم يساريون، فخاطئ طبعاً». لكنّ تشومسكي أصبح قادراً على إلقاء محاضرة معارضة لسياسة إسرائيل من دون حماية كبيرة من الشرطة كما كان يحصل سابقاً، حسبما يؤكد لنا. لم يعد تشومسكي محارباً من الجميع؟ «ربما»، يقول، «لكنّ صديقي الصحافي كريس هيدجز أخبرني أنّه عثر على مذكّرة موجهة إلى الصحافيين العاملين في «نيويورك تايمز»، تمنعهم فيها من ذكري مطلقاً»!
يقدِّم محاضرة عند السادسة من مساء اليوم في «قصر الأونيسكو»، بدعوة من «نادي اللقاء».
5 تواريخ1929 الولادة في فيلادلفيا (بنسلفانيا ــــ الولايات المتحدة)
1955 بدأ التدريس في «معهد ماساشوستس التقني»
1979 أصدر كتابه المرجع «الاقتصاد السياسي لحقوق الإنسان» مع صديقه الاقتصادي إدوارد هيرمان في جزءين
2006 زار لبنان للمرة الأولى قبل عدوان تمّوز، وألقى محاضرتين في «الجامعة الأميركية» و«مسرح المدينة»
2010 حاز جائزة Erich Fromm في شتوتغارت ألمانيا. وأصدر كتابي «آمال واحتمالات» و«مقاومة السكان الأصليين»