لم نجد الأسبوع الماضي، ونحن في سفر، أروع من مشهد الديموقراطية الإنكليزية الذي تمثّل في خروج رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون وزوجته وولديه الصغيرين من مقر «10 داونينغ ستريت»، بعدما فشل في الحصول في الانتخابات الاشتراكية على غالبية تمكّنه من البقاء في الحكم وتأليف حكومة عمالية، ليدخله بعد نصف ساعة زعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون وزوجته، بعدما قدم براون استقالته إلى الملكة إليزابيت الثانية مقترحاً تكليف زعيم المعارضة كاميرون تأليف الحكومة الجديدة. وقد أعلن كاميرون أن الملكة عرضت عليه تأليف الحكومة فقبله، وعلى هذا الأساس حضر إلى مقر رئاسة الوزراء. وببساطة وهدوء اعترف الطرفان بنتائج الانتخابات وتصرف كل منهما بحسب العرف المتبع في بريطانيا، ثم تألفت حكومة ائتلافية بين حزب المحافظين الذي لم ينل الغالبية المطلقة التي تمكّنه من الحكم بمفرده، وحزب الديموقراطيين الليبراليين. وهذا ما نفتقده في لبنان، ويا للأسف. إذ لا تكاد تخلو انتخابات في لبنان من شكاوى وتشكيك في نزاهتها وشفافيتها، ومن طعون في مغايرات وتزويرات رافقتها بغية تغليب فريق على آخر والإتيان بأكثرية تستأثر بالسلطة، بفعل إثارة العصبيات الطائفية والمذهبية، وإغراق العمليات الانتخابية بالمال السياسي ما ينتج أكثرية «وهمية»، أي غير تمثيلية لكل الفئات الفاعلة في المجتمع عبر تحكّم جماعة من طائفة معينة أو مذهب معيّن يتمتع أفراده بالأكثرية العددية، بخيارات مرشحي الطوائف أو المذاهب الأخرى، يساعدها على ذلك التقطيع الجغرافي ـ الديموغرافي للمناطق، مما يلغي المساواة بين المواطنين، ويتيح لفئة من مذهب معيّن أن تُنجّح مرشحين من مذهب آخر، فيأتي تمثيله لمجموعته مبتوراً. ومن شأن هذه البهلوانية أن تنتج أكثرية غير متجانسة، تسيطر عليها الجماعة الطائفية الأكثر عدداً. وهذا ما أدى، خصوصاً في صفوف المسيحيين، إلى هجرة هي في تفاقم، من منطقة داخلية إلى أخرى باسم التجانس الطائفي. ومن لبنان إلى الخارج بحثاً عن الاستقرار والمستقبل. وظهر ذلك بوضوح في زحلة في الانتخابات النيابية الماضية، وفي بيروت في الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة التي سجلت فيها أدنى مستويات المشاركة، والتي أحدثت صدمة لدى «الطبّاخين» في قريطم. وقد سلم النظام الانتخابي في بريطانيا من مثل هذه الألاعيب اللبـــنانية الموروثة عن العثمانيين والفرنسيين، لأن الانتــــخابات فيها تقوم على قاعدة ذهبية تعود إلى أكثر من 600 عام وهي: صوت واحد، لرجل واحد. أي إن الدائرة فردية، والمواطن ينتخب مرشـــحاً واحداً، ولا مكان فيها للبوسطات ولا للمــحادل. وكان ظن الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن منح المسيحيين المناصفة في مجلس النواب دستورياً، وفي بقية الهيئات عُرفاً، سيعوّض شعور المسيحيين بـ«الغبن» بعد الطائف وما رافقه من سحب السلطة الإجرائية من يد رئيس الجمهورية وتحويلها إلى مجلس الوزراء بعد جعله مؤسسة. إلا أن ذلك بدا لكثيرين «خدعة» وتلاعباً بالصيغة، فراحوا يغادرون مرقد العنزة الذي يكاد يفرغ من العنوز، ويعجز تالياً عن ترجمة المناصفة! وقد أكد الأستاذ السابق في جامعة هارفارد الأميركية صموئيل هانتنغتن في كتابه «صدام الحضارات» أن التبدل الديموغرافي غالباً ما يكون السبب الرئيسي للنزاعات الطائفية والإثنية، داعماً نظريته هذه بأمثلة من البوسنة التي شهدت أشنع المذابح والتصفيات العرقية والدينية. ففي عام 1961 كانت نسبة المواطنين الصرب هناك 43 في المئة، والمسلمين 26 في المئة. وفي 1991 هبطت نسبة الصرب إلى 31 في المئة، فيما ارتفعت نسبة المسلمين إلى 44 في المئة. الأمر الذي جعل الصرب يقدمون على «تنظيف عرقي» وطائفي ذهب ضحيته عشرات ألوف المسلمين. وحصل مثل ذلك في بعض الأماكن في لبنان أواخر القرن الماضي. وعـــزا هانتنغـــتن الهجرة إلى هذه العوامل. ما العمل الآن؟ هل نُبقي لبنان مجموعة شعوب تتكاثر بطرق غير متناسقة، بحيث تكون السيطرة في المستقبل للأكثر عدداً، ما يُلغي المناصفة على ما أبلغ ذات مرة الرئيس رفيق الحريري البطريرك الماروني، إذا لم تتوقف الهجرة ولم يعد المسيحيون إلى الدولة؟ أم نتوجه نحو مجتمع اتحادي مدني، تُلغى فيه الطائفية السياسية تمهيداً لإلغاء الطائفية عموماً وإزالة الحواجز بين الطوائف والمذاهب وإقرار الزواج المدني، وتحقيق الاندماج الوطني، مع المحافظة على الطوائف كمصدر غنى روحي للمجتمع. فتســــود إذ ذاك العدالة والمــساواة، وتصبح القاعدة هي المواطنة، ويجري إنقاذ الوطن من الهلاك تحت وطأة العنف والفتن؟ نقول هذا الكلام لمناسبة الزيارة التي يعتزم الرئيس سعد الحريري القيام بها إلى الولايات المتحدة، حيث يستقبله الرئيس باراك أوباما في واشنطن في 24 أيار الجاري، عشية الذكرى العاشرة لتحرير المقاومة الجنوب والبقاع الغربي من الاحـــتلال الإسرائيلي. ويــترأس في السادس والعشرين منه جلسة لمجـــلس الأمن تناقش موضوعاً اقترحه لبنان هو: «حـــوار الثقـــافات والأمن والسلام الدوليان». وتكتسب زيارة الحريري لواشنطن أهمية خاصة بعد اللقاء الذي جمعه أول من أمس في دمشق بالرئيس السوري بشار الأسد، والتهديدات التي سبق لإسرائيل أن وجهتها إلى سوريا ولبنان والمقاومة، على خلفية مزاعم إسرائيلية، مدعومة أميركياً، بأن سوريا قد سلّمت «حزب الله» صواريخ من طراز «سكود» لنصبها في جنوب لبنان، وتصويبها نحو إسرائيل. وثمة سؤال يطرح بديهياً بعد مرور نحو خمسة أشهر على زيارة الرئيس الحريري الأولى إلى دمشق: أي حريــــري هذا الــــذي زار دمـــشق الثلاثاء الماضي بموعد مطــلوب من الريـــاض؟ هل هو «الحريري السعودي» الذي استقبله الرئيس الأسد في 19 كانون الأول، بطلب من الملك عبد الله، وكان الرئيس الحريري واضحاً آنذاك بأنه دخل دمشق من النافذة السعودية؟ أم هو «الحريري اللبناني» الذي كانت دمشق تنتظره مع شعبه «الأزرق» طوال هذه الفترة والذي لم يجد أهدأ من الوزير جان أوغاسبيان، معبّراً عن المرحلة الجديدة في العلاقات بين آل الحريري ودمشق، لترؤس الوفد الإداري إلى العاصمة السورية، في انتظار «تنظيف» الرئيس الحريري «البيت الأزرق» من رواسب الماضي المعادي لسوريا والذي يبدو أن دونه عقبات تتعلق بالعمق الذي انغرزت فيه شروش العداء للنظام السوري. وبدا ذلك واضحاً في ما كتبه النائب وليد جنبلاط في جريدة «الأنباء» في 11 أيار حول «التحليلات والمقالات الغريبة التي تنشر في كبريات الصحف وتكتبها أقلام تدعي القرابة السياسية، بينــــما هي تتوزع الأدوار مع من يقف بجانبها بشكل لم يعد مقــــبولاً ويتطلب موقفاً حاسماً. فالتكاذب السياسي هــــو في اعتماد مواقف مزدوجة من قبل البعــض بـــدل أن توضح الأمور وتحسم بشكل نهائي». وأضاف: «إن حماية السلم الأهلي، والوحدة الوطنية، والاستقرار الداخلي، لا يمكن وصفها بالاستسلام أو الإذعان، وهذا موقفنا الثابت ولن نتراجع عنه ولو كتب البعض عكس ذلك. فكفانا توزيعا للدروس والنصح والوعظ الإعلامي»
ادمون صعب
مخاوف فرنسية من مواجهة مع أطراف لبنانية على خلفية المطالبة بإطلاق سراح جورج إبراهيم عبد الله السجين السياسي العربي الأشهر في أوروبا، الذي يمضي عامه السادس والعشرين في سجن «لانمزان» الفرنسي، متجاوزا باحد عشر عاما منها مدة الخمسة عشر عاما الأولى، التي كان يسمح حكم مؤبد بإطلاقه بعدها، لو شاءت السلطات السياسية، كما يسمح قضائيا باستبقائه أيضا في زنزانته الإنفرادية إلى ما لانهاية. ورفضت محكمة الإستئناف في باريس ثماني طلبات متوالية لإطلاق سراحه منذ العام الفين، وتدخلت وزارة العدل لإبقائه في السجن واستئناف حكم أحد القضاة، الوحيد والمفاجئ، بإطلاق سراحه، وإبعاده إلى لبنان. معلم المدرسة المولود منتصف القرن الماضي في القبيات في عكار، ومؤسس «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» في الثمانينيات لن يغادر زنزانته في «لانمزان»، إلا إذا وافق على «التوبة» عن الكفاح المسلح و«المقاومة» مستقبلاً، وأشهر أمام القضاء الفرنسي، «ندمه» على قتل الملحق العسكري الأميركي في باريس شارل راي، والسكرتير الثاني للسفارة الإسرائيلية في باريس ياكوف بارسيمنتوف، أحد مسؤولي «الموساد»، في العام 1982. ويرفض جورج عبد الله التراجع، كما يرفض القضاء الأخذ بالحسبان، أن العمليات تمت غداة الإجتياح الإسرائيلي للبنان، وفي سياق أعمال المقاومة للإحتلال الإسرائيلي على الساحة الأوروبية. وتذهب تقارير مسوؤلي السجن إلى اعتباره «خطرا» ومتمسكا بقناعاته. وتحذر أوساط أمنية فرنسية من احتمال أن تلجأ حلقة من «رفاق «جورج عبد الله في بيروت»، إلى اختطاف أحد الرعايا الفرنسيين لمقايضته بسجين «لانمزان». وترشح هذه الأوساط يساريين سابقين من مؤيدي «حزب الله» حاليا للقيام بذلك وهم «قد يستغلون سابقة موافقة فرنسا على صفقة إطلاق كلوتيلد رايس، لقاء إطلاقها علي وكيلي راد، قاتل شهبور بختيار بعد 18 عاما على سجنه، للقيام «باختطاف» رهينة غربية ومبادلتها بعبد الله. ووافقت باريس على عدم تسليم واشنطن، مجيد كاكافند، وترحيله إلى طهران، بعد عام على طلب أميركي لاستراداه، للإشتباه به بالعمل في برنامج نووي إيراني سري. وكان جورج عبد الله مرشحا للإنضمام للصفقة نفسها، خلال مفاوضات العام الماضي في دمشق، في اجتماعين فصلت بينهما أشهر ستة، لولا رفض الوسيط الذي عينته طهران، اقتراحا بضمه إلى صفقة تبادل، الإيرانيين بالباحثة الفرنسية، التي احتجزتها طهران ما يقرب العام، بتهمة التجسس. وساهم اختطاف مواطنين بولونيين في البقاع، مطلع الشهر، في إذكاء المخاوف الأمنية الفرنسية من عودة الخطف وأخذ الرهائن وسيلة للضغط عليها. ورغم أن الحادث قد حسم بسرعة، بعد تدخل الجيش اللبناني وقتله أحد الخاطفين وتحرير الرهينتين(على الأرجح قضية مخدرات)، إلا أن الأوساط الأمنية الفرنسية لا تزال تعتقد أن مخاوفها مبررة، وتتحدث عن غربي أخر تعرض لحادث اختطاف مماثل لم يكشف عنه، علما أن المراجع الأمنية اللبنانية تنفي ذلك نفيا قاطعا. ويقول مصدر فرنسي إن باريس تتعرض لضغوط أميركية للإبقاء على عبد الله في السجن فيما لا يعارض الإسرائيليون إطلاقه، ويقول المصدر إن الأميركيين يبررون «تسامح «الإسرائيليين، بنيتهم المبيتة تدبير عملية لاغتياله بمجرد خروجه من السجن. وقال مصدر فرنسي في باريس إن الفريق الأمني المحيط بالسفير الفرنسي في بيروت دوني بييتون، تلقى توجيهات، خلال دورة تدريبية أجراها مؤخرا في فرنسا، أن يتخذ أفراده تدابير احترازية إضافية للحفاظ على أمنهم الشخصي، علما أن هناك من يشير الى أن السفارة الفرنسية أوعزت لرعاياها عدم التجول في بعض المناطق اللبنانية مؤخرا.
محمد بلوط -
بدت الصحف الإسرائيلية يوم أمس وكأنها تعيش في حمى صدمة حرب تشرين عام 1973 في ذكراها الـ37، إثر السماح بنشر محاضر اجتماع المجلس الوزاري المصغر في اليوم الثاني لتلك الحرب. وشهدت وسائل الإعلام سجالات حول الصدمة من إحساس قادة إسرائيل حينها بأن الدولة العبرية تسير نحو الضياع، وأنها تفقد عناصر تفوقها بقبول وزير الدفاع فيها موشيه ديان، فكرة استسلام جنوده أو حتى ترك المصابين في الميدان يواجهون مصيرهم. وحملت «يديعوت أحرونوت» عناوين مثل «اللحظة التي ظن فيها زعماء الدولة بأن إسرائيل تسير نحو الضياع»، و«ديان: لنترك الجرحى في الاستحكامات». أما «معاريف» فعنونت صفحتها الأولى بـ«يأس في القيادة». وتشاركت «إسرائيل اليوم» و«هآرتس» في عنوان «يريدون تصفية اليهود». ووصف الصحافي إيتان هابر، الذي عمل سكرتيراً لرئيس الحكومة الأسبق اسحق رابين، نشر محضر اجتماع الحكومة بأنه أظهر وزير الدفاع السابق موشيه ديان «ممسحة حقيقية». وقال في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي إن ما نشر يهشم كل صورة ديان في إسرائيل وأرجاء العالم، «فهذه الأوراق تهشم أسطورة رجل الأمن، وربما الإسرائيلي الأكثر شهرة في العالم. الشخص الذي لم يكن له مثيل لا في الماضي ولا الآن، وها هو يتبدى كممسحة حقيقية». وأشار المعلق السياسي في «معاريف» بن كسبيت إلى محضر الاجتماع الوزاري الإسرائيلي (الذي نشرته «السفير» أمس)، حيث كتب أن «هذا النص مثير للقشعريرة. لقد مرت سبع وثلاثون سنة، ولا يزال يثير القشعريرة. إنه نص إلزامي لكل من يريد أن يحيا هنا، لكل من يتطلع الى موقع قيادي، لكل من يظن أنه يعرف ما الذي ينبغي له أن يفعل، لكل من يشارك في الجهد الدفاعي عن هذه الأرض. إن هذا المحضر لجلسة الحكومة، يذكرنا أكثر باجتماع لمن أصيبوا بصدمة المعركة، ويعلمنا كم هو صعب السقوط من ارتفاع شاهق، وكم هو فتاك ومصيري الاستخفاف، وما هي بالضبط حدود القوة».
وأضاف كسبيت إن «ديان، أولاً وقبل كل شيء، الحلم والانكسار، ومونولوج ديان هذا لو نشر علناً، لكان من الواجب طرده مجللاً بالعار من الحياة العامة. وبدلاً من ذلك جلست لجنة أغرانات وطردت حارس الــبوابة، رئيس الأركان دافيد العازار، الذي كان برأيي أحد كبار الأبطال في هذه الملــحمة التــوراتية (الأكبر كان أرييل شارون). وديان كان تقريباً المسؤول الحصري. وهو يعتــرف بكل شيء. لا يقدم تسهيلات لنفسه: لم أقدر جيداً، بالغت، أخــطأت، كان عندي إحساس، كنت واثقاً، تقديــراتي لم تكن صائبة»، كلها نماذج جزئية لمجمــوعة جلد الــذات والندم قالها أمام رئيسة الحكومة، المسؤولة مثله، غولدا مئير».وفي «معاريف» أيضاً كتب المعلق السياسي عوفر شيلح أن «أول ما يصدمك هو مستوى النقاش. هذه هي الساعات الحرجة من الحرب. يجب اتخاذ قرارات مصيرية على الانتشار، إنقاذ الجنود المحاصرين، سلم الأولويات لتفعيل سلاح الجو والاحتياط، ووجهة الجهود السياسية». ويضيف إن «الأمر الثاني الذي يصعق هو أن بعض الأقوال التي قيلت لم تكن تقوم على أساس الوقائع، بل ما يسميه رئيس الأركان العازار نفسه (wishful thinking)». ويشير إلى أن «الأمر الثالث هو إدراك كيف أن العقلية تقرر الوعي والقرارات، أكثر بكثير من أي معرفة كانت. فقد عرفت إسرائيل من مصادرها أن الخطط الحربية المصرية تملي التقدم نحو خط محدود من نحو 10 إلى 15 كيلومتراً عن القناة. ولكن عقلية (العرب يريدون أن يراهنوا على كل بلاد اسرائيل)، والإيمان بأساطير مثل (الجيش الإسرائيلي سينقل الحرب إلى ارض العدو)، حتى عندما لا يكون لهذا أي أساس في الوضع العسكري بحقيقة أمره، تملي في نهاية المطاف القرارات». ويذهب شيلح إلى السؤال: «ما الذي تغير حقا؟ إقرأوا بروتوكولات حرب لبنان الثانية: الوضع مختلف بالطبع من الأقصى إلى الأقصى: هنا هجوم مفاجئ لجيوش نظامية في جبهتين، وهناك عملية اختطاف محلية لمنظمة عصابات. هنا رد مع كل القوة المتوفرة وهناك عملية مبادر إليها. ولكن بقيت على حالها نزعة التبجح الفارغة ذاتها، بدلاً من البحث الموضوعي، والعقلية (نحن نتعرض للهجوم) التي تملي فهم الواقع في خلاف تام مع ما يحصل، تلك المعرفة (ما يريده العرب) والتي ليس لها أي صلة بالعرب الذين هم حقاً موضع الحديث. إذ أن هؤلاء موجودون في صيف عام 2006 وفي خريف عام 2010، مثلما كانوا في صيف عام 1973، في نقاش سياسي وفي نقاش عسكري، في تلك الأيام وفي هذا الزمن». وفي «إسرائيل اليوم» كتب الجنرال يعقوب حسيداي أن «موشيه ديان، وزير الدفاع في حرب يوم الغفران، أحس في ذلك اليوم الذي قال فيه هذا الكلام ـ اليوم الأول للحرب ـ بالخطر والضياع، وهذه حقيقة. وبالمناسبة هناك ولد تعبير (البيت في خطر). وينبغي أن نتذكر أن هذا أيضاً كان اليوم الذي ظن فيه قسم كبير من القيادة أن الجيش الإسرائيلي سيحدث التغيير ويقلب الأمور رأساً على عقب. غير أنه أيضاً فشل الهجوم الذي قاده شارون وأبراهام أدان. حتى الأكثر تفاؤلا شعروا أن الوضع صعب جداً». وشدد حسيداي على أن «حرب يوم الغفران والمفاجأة كانت مثل حمام بارد لمجتمع واثق من نفسه، ظن أن أحداً لا يقدر عليه وأن بوسعنا الوصول إلى حيث نريد من دون مقاومة. وفجأة تعرضنا للضرب. عندما حدث ذلك، لم يكن أحد يتوقعه. لقد خلقت هذه الحرب إرباكاً، والأهم أنها خلقت انعدام ثقة لم نبرأ منه حتى اليوم. والأساس أنها خلقت انكساراً زعامياً لزعامة كانت محبوبة. منذ ذلك الحين فقدنا الثقة بالقيادة. ولم يتوقع أحد ذلك». وكتب دان مرغليت في «إسرائيل اليوم»: «لقد أصيبت القيادة بصدمة. وتآكلت وانهارت كل الفرضيات الأساسية. وتوفر للجيوش العربية جنود أفضل مما كان (المفهوم) المتغطرس لزعماء إسرائيل يتصور. كما كان لديهم معدات قتال أكثر ولا تقل جودة». واعتبر مرغليت أن موشيه ديان هو «تجسيد لشخصية هاملت في المسرحية. وفيما كان واقعاً تحت الصدمة أحس بأن العرب بادروا إلى حرب للقضاء على اليهود وأن الحرب قد تنتهي بخراب الهيكل الثالث. إنه شخصية مأساوية مسؤولة عن إدارة المأساة. وهو جمع مستحيل بين شجاع، فعلاً من دون تردد، صاحب رؤية سوداوية، ومتشائم نموذجي. فكيف تسكن خصائص كهذه في شخص أوكلت إليه القيادة العليا للقوات المحاربة؟». («السفير»)
أعلن عن «صفقة العصر» السعودية لشراء مقاتلات «ف 15» الأميركية، ونحو 150 مروحية حربية، عشية انعقاد المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. قد يكون التزامن بين الحدثين من قبيل المصادفة. لكنها مصادفة لا تلغي عميق الدلالة عن الجديد الناشئ في العلاقة بين النفط العربي وإسرائيل والقضية الفلسطينية. الولايات المتحدة أكبر تاجر سلاح في العالم وصناعاتها الحربية هي القاطرة التي تقطر اقتصادها. والمملكة العربية السعودية أكبر زبون عربي للسلاح الأميركي، بلغت قيمة مشترياتها العسكرية 11,2 مليار دولار خلال الاعوام 2005 ـ 2008. وليس سراً ان مشتريات الدول المنتجة للنفط من السلاح الأميركي، مثلها مثل التوظيفات الترليونية في سندات الخزينة الأميركية كما في القطاع الخاص، تلعب دوراً أساسياً في خفض الاختلال في الميزان التجاري بينها وبين الولايات المتحدة. الى هذا يجب ان يضاف ان وظيفة الصفقة الجوية ـ وصفقة بحرية بقيمة 30 ملياراً قد تلحق بها ـ ان تعوّض عن نسبة لا بأس بها من الانفاق العسكري الترليوني في حروب الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان و«الإرهاب الدولي». لا حاجة للتعمق في البحث عما إذا كانت صفقة الستين مليار دولار سوف تؤثر في التوازن العسكري بين العربية السعودية وإسرائيل. لا يرى المعلقون العسكريون الإسرائيليون أي اثر لذلك. ثم ان تزويد السعودية بطائرات «ف 15» جديدة، قد سبقه الاعلان عن صفقة أميركية لتزويد إسرائيل بطائرات «ف 35» الأكثر تطوراً وتفوقاً. ثم انه لا يكاد يؤتى على ذكر إسرائيل عند تعداد الأسباب الموجبة لانعقاد الصفقة. وقد كشف المعلق العسكري لصحيفة «هآرتس» العنصر الجديد الذي أدخلته الصفقة على الوضع العسكري في المنطقة بقوله: «ليس كل السلاح في الشرق الأوسط موجهاً نحو إسرائيل». فليس غريباً ان لا يأتي ذكر لإسرائيل في ما دبجه محللون سياسيون (لبنانيون) من تبريرات لهذا الهدر الفلكي. ولكن الغرابة، كل الغرابة، ان هذا الإغفال لا يثير استغرابهم. تظهر المملكة، تحت أقلامهم، مهددة بمخاطر وجودية جنوباً من قبل الصومال وتنظيم «القاعدة» والحركة الحوثية المسلحة على حدودها مع اليمن، فيما هي تواجه شمالاً خطر حرب أهلية مذهبية في العراق والأهم خطر إيران الساعية الى امتلاك السلاح النووي. يصعب تصوّر أي دور يستطيع الطيران الحربي لعبه في الدفاع عن المملكة ضد «تنظيم القاعدة» أو لدرء الحروب الأهلية المذهبية، على افتراض ان العراق مقدم عليها لا محالة. وبالقدر ذاته، يصعب أخذ رواية الخطر الحوثي على محمل الجد، إذ دلت التجارب ان حروب صعدة يكاري عليها «مقاول الحروب» اليمني الحاكم، تارة لاستدرار المال السعودي والدعم العسكري السعودي، وطوراً لاستدراج المال القطري والوساطة القطرية. ولكن أي دور للطيران الحربي ضد «الخطر» النووي الإيراني؟ الجواب الوحيد هو في عمليات هجومية ضد المنشآت النووية الإيرانية. ولنفترض ان هذا هو مبرر انفاق ستين مليار دولار، فإنه يأتي متأخراً بعض الشيء. فالراجح ان إيران سوف تنجح في إنتاج سلاح نووي، إن هي نجحت، قبل نهاية السنوات العشر المطلوبة لإتمام تسليم الطائرات للسعودية وتدريب الطيارين عليها واستيعابهم التقنيات الجديدة. فيكون «الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب»، كما يقول المثل. فتضطر المملكة، في حال نشوب حرب جديدة في المنطقة، الى الاستنجاد مرة أخرى بجيوش أميركا وحلفائها لحمايتها مثلما فعلت عام 1991. إذذاك تكون الطائرات أشبه بجوائز ترضية للسعودية للقبول بالأمر الواقع النووي الإيراني أكثر منها أسلحة لمنع قيامه. من جهة أخرى، ليس من الواضح اطلاقاً دور الصفقة في بناء قدرة عسكرية تنافسية وردعية سعودية في مواجهة القدرة الإيرانية. فالهوة العسكرية واسعة بين البلدين، حيث تتمتع إيران بالاسبقية في كل أنواع الأسلحة وخصوصاً بتفوق كاسح في المدفعية والصواريخ والبحرية. والفيصل هنا هو التفاوت الكبير في عديد القوات المسلحة للبلدين حيث الفارق لمصلحة إيران هو بنسبة خمسة الى واحد. الى هذا يجب ان يضاف الفارق في هامش المناورة بين البلدين، حيث العربية السعودية تنفق عشرة في المئة من دخلها الأهلي على السلاح وهي مجرد مستهلك له، فيما تنفق إيران 3% وهي منتج. والأفدح من كل هذا ان تعلن شركة «بوينغ» منتجة الـ«أف 15» وصاحبة النصيب الأكبر من المليارات الستين، ان الصفقة سوف تؤمن استمرار تشغيل 77 ألفاً من عمالها والموظفين في 44 ولاية أميركية. ليست هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها شركة انتاج أسلحة صفقة مليارية على انها انقاذ للعمالة الأميركية من البطالة. هكذا تبدو المليارات الستون كأنما الغرض الرئيس منها تأمين فرص عمل للعمال الأميركيين مع تعاظم ارباح شركة «بوينغ» ومثيلاتها من عمالقة منتجي السلاح، ناهيك عن توفير العمولات للوسطاء والسماسرة السعوديين والعرب والاجانب. لا معنى هنا للدعوة الى استخدام تلك الأموال في «التنمية العربية المستدامة» او في بلوغ العرب «مجتمع المعرفة»، كما تدعونا إليه تقارير «التنمية البشرية العربية» او تعدنا به مؤسسة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، او في تمويل «المشروع النهضوي العربي» العتيد. ولكن ثمة كل المعنى للقول ان العربية السعودية تملك كل المصلحة في الجنوح نحو السلاح والبحث في استخدام أجدى لأموالها لمصلحة شعبها. فالأحرى ان تسهم المليارات الستون في تشغيل 77 ألفاً من العمال والموظفين في العربية السعودية بالذات، حيث يشكل السعوديون 38% فقط من القوى العاملة، وان تسهم في تخفيض نسب البطالة، خصوصاً بطالة الخريجين، التي تصل الى 20%. ففي البلد النفطي الأغنى في العالم، الذي تخطّت ديونه عتبة المئتي مليار دولار جراء تمويله الحروب الأميركية في العراق وأفغانستان، والإنفاق الهدري، يتعايش الـ120 ألف مليونير، الذين يملكون فيما بينهم 500 مليار دولار، مع 20 ـ 30% من السكان يعيشون تحت خطر الفقر، ومع عمالة الأطفال، وفي ظل فوارق طبقية ومناطقية حادة. ولو قاربنا الموضوع من وجهة نظر الحرب على الإرهاب (دون مزدوجين) فالأجدى الإنصات إلى التحذير الذي أطلقه الدكتور تركي الحمد حين حذر من تقلص الطبقة الوسطى السعودية. وأشار إلى حقيقة انه كلما تنامَ الفقر تنامَ معه التطرف الأصولي. والعربية السعودية مصدّر رئيسي للأصولية والإرهاب. على صعيد آخر، ما دام يوجد حاكم عربي يستطيع بجرة قلم ان يمنح احتكارات الأسلحة الأميركية مثل هذه الصفقة، وان يلزم بلاده وشعبه بإنفاق ستين ملياراً من الدولارات دون ان يحتاج قراره لرأي أحد إلاه، او دون ان تناقشه او تقرّه هيئة تمثيلية او رقابية، منتخبة او معينة، نستطيع ان نتأكد من ان الولايات المتحدة الأميركية، سوف تبقى السند السياسي والعسكري والأمني للأنظمة السلالية والفردية الاستبدادية في المنطقة. وسوف يستمر النفاق حول حقول الانسان. وما لنا الا ان نزداد يقيناً بان «المشروع الأميركي» الذي يرمي الى فرض الديموقراطية على بلادنا كما يبشر به ليبراليون او يتخوف منه إسلاميون، ومن لف لفهم من القوميين واليساريين، إن هو الا أضغاث أحلام! لم تحضر المملكة العربية السعودية، راعية دول «الاعتدال» العربية، افتتاح الجولة الجديدة من المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، أسوة بزميلتيها مصر والأردن. لكنها قدمت ما هو أهم بكثير من المشاركة البروتوكولية. قدّمت الإعلان عن تغيير عقيدتها القتالية!
فواز طرابلسي
نعم إنها تدفع للضحك من الألم، لكون مكونات هذه الحكومة هي نفسها مع تغييرات في الشكل منذ عشرات السنين، ولم يتعود شعبنا ان يأخذ هؤلاء، قوى وأشخاصا، أولوياته بعين الاعتبار، فأي صحوة ضمير ستدفعهم اليوم لوضعها اساساً في عمل حكومتهم... وهذه الحكومة هي وليدة طبيعية للنظام الطائفي الزبائني المسؤول عن ويلاتهم منذ ما قبل الاستقلال حتى اليوم، وذلك باعترافهم جميعاً عندما يتكلمون كأفراد أو كمجموعات ويلحسون ذلك عندما يصبحون جزءاً من تكوين الحكومة، اية حكومة. وحتى لا نتهم بأننا نحكم على الحاضر انطلاقاً من الماضي، أو على أساس النيات والأحكام المسبقة، لنر ما انجزت هذه الحكومة او ما هي آثار «اولويات الناس» في عملها خلال الأشهر الماضية. ولنبدأ بالأولوية الأولى عند البشر وهي لقمة العيش، فأين لقمة عيش المواطن وحقه بالحياة الكريمة من ممارسة هذه الحكومة حتى الآن؟ الاشارة الملموسة الوحيدة التي اعطيت حول الموازنة، بعيداً عن التكهنات، هي ما ورد على لسان رئيس حكومة «أولويات الناسٍ»... ما قاله يمكن اختصاره بالتالي «إما زيادة المديونية أو الضرائب غير المباشرة». إنه كمن يقول للمواطن اللبناني «إن تكلمت قتلتك وإن لم تتكلم قتلتك». مرة جديدة جوهر المشروع الاقتصادي المستمر للحكومات السابقة تحميل الناس والفقراء وذوي الدخل المحدود تبعات المديونية الكبيرة على الدولة، التي تكونت بفعل السياسة الاقتصادية التي دمرت الاقتصاد الوطني وربطته بالمؤسسات العالمية في الخارج ووضعته تحت رحمة البنوك والمصارف وجعلته رهينة نمطي الاقتصاد الريعي المصرفي والعقاري، كجزء من السياسة العالمية التي ينتمي لها هؤلاء والتي هي اليوم في أوج أزمتها، ما يهدد دولاً أوروبية عريقة وقوية بالانهيار كما يجري في اليونان والبرتغال وايطاليا على الطريق. نعم، الناس يريدون وقف المديونية التي راكمتموها على كاهلهم وكواهل اطفالهم الذين ولدوا أو لم يولدوا بعد، لكن سؤالهم الأول: هذه المديونية التي لم يستعمل منها سوى 9% على التنمية والبنية التحتية ومصالح الناس (بدون احتساب الهدر)، من المسؤول عنها؟ ومن استفاد منها؟ وكيف سيحاسب؟ أليس على حكومة أولويات الناس ورئيسها واجب الإجابة عن هذه التساؤلات أولاً. وإذا ما تجاوزنا المحاسبة واتبعنا النمط اللبناني بمنطق «عفا الله عما مضى»، فيحق لنا مطالبة الحكومة بوسائل أخرى لوقف المديونية والعجز بعيداً عن «قرش الأرملة واليتيم» وعن عرق العامل وجهد المعلم والموظف. أين المال العام المهدور في مصادرة معظمكم أو معظم معاونيكم للأملاك العامة البحرية، وبالتالي ألا تدر على الخزينة استعادة حقوق الدولة من هؤلاء القراصنة، أموالاً أكثر من التحضير المشبوه لزيادة الـ T.V.A.. ألم يحن الوقت لفرض ضريبة على أرباح المصارف التي استفادت بشكل رئيسي من المديونية وفوائدها، أو على الأقل تخفيض الفائدة على الديون، أم أن «أولويات الناس» تقتضي استمرار استفادة هؤلاء وحماتهم السياسيين من موازنة الدولة وفوائد الدين العام. وأيضاً وأيضاً، الضريبة على ارتفاع اسعار العقارات والشركات العقارية الكبرى، سوليدير واخواتها، أم أن «أولويات الناس» تدفع لطرد الفقراء من بيوتهم عبر قانون ايجارات تهجيري، وغيره من البدائل التي كان يمكن تناولها لو كان هنالك حرص من هذه الحكومة على أولويات الناس فعلاًً. وبالاستنتاج، فإن الخيار الذي تقدمه الحكومة، وهو «المديونية أو الضرائب»، لن يؤدي في ظل هذا التحالف السياسي ـ الطبقي الطائفي إلاّ الى زيادة الضرائب والى زيادة المديونية في الوقت عينه. ومن حقوق الناس وأولوياتها ايضاً، حقها بالمواطَنة والأمن والاستقرار والحرية. ما الذي انجزته الحكومة على هذا المستوى. فسوى اقرار النسبية في الانتخابات البلدية وهو خرق فرضته ظروف الخلاف داخلها، وأيضاً اصرار وزير الداخلية، قامت هذه الحكومة بالتوافق (عبر الموافقة أو التساهل عند البعض الآخر) بالتآمر على مشاريع الإصلاح الممكنة، من التراجع عن حق الشباب اللبناني بالاقتراع الى ضرب حقوق المرأة، سواء بتخفيض الكوتا المقترحة أو بمنعها من إعطاء الجنسية لأبنائها، وسوى ذلك من المشاريع، بما فيها ما هو مطروح اليوم بخصوص التعيينات التي تأخرت سنوات، ليخرج قسم منها على قاعدة المحاصصة وعلى قاعدة وأد امكانيات الاصلاح الإداري والقضائي، وبالتالي استقلالية القضاء والادارة... [[[ تبقى ضرورة الاشارة أخيراً وليس آخراً، الى حق اللبنانيين بالسيادة على أرضهم، وهل أن طريقة التعاطي الحكومي وتعاطي الأجهزة الأمنية مع فضيحة طلب السفارة الأميركية مراقبة اتصالاتهم، ناتجة عن حرص على «أولويات الناس». أليس في ذلك وفي استمرار الدونية والتبعية بالعلاقة مع الولايات المتحدة، انتهاك للحريات الخاصة للمواطنين وكذلك انتهاك للسيادة الوطنية، حتى لا نقول التواطؤ مع الخطة الأميركية ـ الاسرائيلية تجاه لبنان وشعبه. اسمحوا لنا اخيراً بأن نقول لكم، ان الوقت قد حان ليكون رحيلكم هو أولى «أولويات الناس».
خالد حدادة
طلال سلمان
جميل هو مشهد اللقاء بين الحكومتين اللبنانية والسورية الذي أمتعتنا صور بداياته في مطار دمشق، أمس، بكل المجاملات ومظاهر الود التي تستبطن بعض صلات القربى بين القادمين والمستقبلين، وقد غطت الابتسامات وجوه الحشد، ولولا شيء من التحفظ لفرقعت القبلات ـ كما في الوداع ـ مبشّرة بزوال الغمّة واستئناف ما كان في سالف العصر والأوان وليالي زمان الراسخة في الوجدان، وإن فرض الحذر ضرورة الكتمان.. إلى حين! المشهد جميل بأكثر ممّا تحتمل اللحظة السياسية، وربما لهذا السبب، تحديداً، فإنه لا يعكس ـ مع الأسف ـ روح الأخوة أو التفاهم السياسي بالتنسيق والتعاون والحرص على المصالح المشتركة. مع ذلك، لا بد من شيء من الأمل بأن لا يغلب الشكل على المضمون، وبأن لا ينشق الوفد (اللبناني) وفوداً متى أخلت المجاملة المكان للمواقف الفعلية التي يستبطنها. ذلك أن الطرفين يأنيان إلى التلاقي من بعيد، ومن خلف أكوام من الخلافات الفعلية في المواقف، محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً... هذا إذا ما افترضنا أن الوفد اللبناني واحد موحّد في الرأي والقرار، في حين أن الأمر ليس كذلك، مع الأسف. فالوفد اللبناني الذاهب إلى دمشق وفود بآراء ومواقف متعددة، وأحياناً متناقضة، أقله كما تشهد جلسات مجلس الوزراء في بيروت، وإن كان الأمل يبقى معلقاً على أن تؤدي مواجهة الوقائع الصلبة لضرورة إرساء العلاقات بين البلدين المتكاملين بالجغرافيا والمصالح والتاريخ (؟) إلى سقوط الكثير من الأوهام والأحقاد والضغائن التي تحوّلت ـ في أحيان كثيرة ـ إلى منافع واستثمارات... هذا قبل الحديث عن الارتباطات والمداخلات و«النصائح» والضغوط الأجنبية (والعربية) التي صارت بين ركائز السياسة لدى بعض الأفرقاء الممثلين في الحكومة العالمية اللبنانية. فليس منطقياً أن يكون الوفد الكبير المختلفة مكوّناته في بيروت ستتوحّد رؤاه، وبالتالي سيتبنى موقفاً موحداً عبر نصف ساعة طيران إلى دمشق. خصوصاً أن بين المسائل الخلافية قضايا جدية تهز صورة الحكومة كمصدر للقرار الوطني الموحّد، يستوي في ذلك ما تكشّف من افتراق نافر حول مسائل لا يجوز فيها الافتراق، وإلا كانت الفتنة أو الحرب الأهلية وبينها الاختراقات الإسرائيلية لشبكة الاتصالات بقدر ما من التواطؤ الداخلي، والمحكمة الدولية التي لها من موضوع هذه الشبكة نصيب مؤثر، مروراً بالعلاقة التي يريد لها البعض أن تتوتر مع «اليونيفيل» لأمر في نفس الإسرائيلي... وصولاً إلى موضوع «الفلسطينيين في لبنان» وما فضحته إثارته من عنصرية وعمى ألوان يخلط بين العدو والأخ الشقيق، حتى ليكاد الانحياز يتبدى واضحاً إلى العدو بغير أن يفيد في تغطيته الزجل بل الدجل السياسي الرخيص. ولقد كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قاطعاً في صراحته وهو يشير إلى عناوين المواضيع الخلافية، في كلمته مساء يوم الجمعة الماضي، متوقفاً ـ بالتحديد ـ على الصلة بين موضوع شبكة الاتصالات المكشوفة تماماً للعدو الإسرائيلي وبين التركيز المشبوه على دورها في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ولأن الناس قد تعوّدوا من «السيد» الصدق والمكاشفة والابتعاد عمّا ألفوه من أهل الطبقة السياسية من مزايدات ومناقصات تخدم أغراضهم، فإنهم استمعوا إلى تحذيراته التي لها ما يحدّدها بمزيد من الدقة في ذكرى فشل الحرب الإسرائيلية على لبنان، بعد أسبوعين، باهتمام بالغ يخالطه شيء من القلق وهم ينتبهون إلى الخلل الفاضح في «التضامن الحكومي»، واستمرار الانشقاق وبين أخطر أسبابه الاستثمار المبكر بل السابق على أوانه لموضوع المحكمة الدولية التي كانت تكفي مبادرة أحد ضحايا التحقيق الدولي الذي تحيطه الشبهات، إلى مواجهة المدعي العام فيها حتى كادت تذهب بالكثير من المتداول عن تحقيقها الخطير أدراج الرياح. وإذا كانت شبكة الاتصالات بؤرة خصبة للتجسس الإسرائيلي، ومركز تحكّم بأعمال التحقيق الدولي، فمن الطبيعي أن يصار إلى استعمالها في التمهيد للفتنة الداخلية، في ظل الانشقاق السياسي الخطير الذي مكّن من «تهريب» الموافقة اللبنانية عليها، رسمياً، من فوق رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي، باستغلال حرمة الدم المراق غيلة... وصولاً إلى القرار ـ الفتنة الذي دُبِّر في ليل 5 أيار 2008! [ [ [ قبل دمشق وبعدها يظل «البيت» هو الأساس... فإن كانت العلاقات داخل البيت معتلة فلن يمكن بناء علاقات سليمة مع الخارج، بدءاً بأقرب الجيران ـ الأخوة، وانتهاءً بأبعد «الأصدقاء» الذين يظلون أقرب إلى العدو منا مهما قدمنا من تنازلات وهذه شهادة «السلطة الفلسطينية» علنية ومكشوفة. لكن الاعتراض على النهج السياسي لهذه «السلطة» لا يبرّر، بأي حال، هذه الحملة العنصرية الكريهة على «الوجود الفلسطيني» في لبنان، الذي يتصرف إزاءه بعض أهل الطبقة السياسية وكأنهم اكتشفوه للتو، أو كأنما الأربعمئة ألف مواطن فلسطيني قد هبطوا بالمظلات في الليل الفائت! هل من الضروري التذكير بأن عمر هذا «الوجود الفلسطيني» أكثر من ستين سنة؟ وأن أكثر من أربعمئة ألف رجل وامرأة وطفل وشيخ عجوز يعيشون محصورين ومحاصرين في مساحة بلدة واحدة وإن توزعت مخيماتهم على 12 جهة مختلفة فوق خريطة لبنان، مع استمرار أكثريتهم الساحقة في الجنوب، وأنهم يدفنون الموتى في الخرائب حيث يعيشون، وأنهم يُمنع عليهم إدخال كيس ترابة أو بعض أحجار الباطون إلى مخيماتهم ولو من أجل تأمين المأوى لأطفالهم الجدد؟! لكأن هذه الطبقة السياسية تساعد إسرائيل في حصارها... هي تحاصر مَن في الداخل حتى تمهّد لطردهم مستقبلاً، ونحن نحاصرهم في مخيمات لجوئهم بيننا، كأنما نساعد العدو على تذويب القضية بتشتيت شعبها وإنهاكه بالحصار والمطاردة والمهانة! نعجز عن مواجهة إسرائيل فنتواطأ معها على الضحية؟! وهو الأخ الشقيق؟! [ [ [ مبارك فتح الطريق ـ حكومياً ـ إلى دمشق.. لكن الإنجاز على هذه الطريق مستحيل طالما استمر مستحيلاً إنجاز الحكومة في الداخل. والحق أن هذه الحكومة لما تحقق «وحدتها» فكيف يمكنها أن تتصدى لتثبيت دعائم الوحدة الوطنية... ثم تصحيح الخلل ـ الجرح في العلاقات مع سوريا؟! في كل مسألة «حساسة» كانت الحكومة ترتبك وتكاد تنشق على ذاتها.. وآخر مثال موضوع شبكة الاتصالات التي قام الآن مَن يدافع عن العبث الإسرائيلي فيها بل واستثمارها لتفجير لبنان من داخله، عندما اتخذها ذريعة لمطاردة «حزب الله» بمجاهديه وخطوط مواصلاته، وكأنهم خارجون على القانون! لا محاسبة على الماضي القريب، وإلا تفجّرت الحكومة.. ولا بأس من تمرير الموازنة من دون تدقيق في أرقام معينة، حتى لا تكون فتنة! لا توافق على خطة العمل في الحاضر، لا تفاهم جدياً على مرتكزات المستقبل، لا ثقة. لا يبذل المجهود الكافي من أجل الخروج من ماضي الخصومة لبناء قاعدة صلبة للتفاهم على المهمات المطلوب تنفيذها لليوم والغد. كمائن كثيرة على طريق مشروع الوفاق الوطني. تقدم، في ظل التناحر، هدايا ثمينة للعدو الإسرائيلي الذي يعلن كل يوم أنه لم ينسَ هزيمته في حربه على لبنان، دولة وشعباً ومقاومة في مثل هذه الأيام من العام 2006، وأنه يعد العدة للانتقام. وبائس هو مَن يفكّر بالعودة إلى اللعبة القديمة: نتودد إلى السوري وننافقه ثم ننقض على «خصومنا» ممّن كانوا حلفاءه، وفي الطريق نوجه ضربة جديدة إلى «الفلسطيني» تنفيساً عن مشاعرنا العنصرية التي لا تقبل التحالف مع «عربيين» دفعة واحدة. مع ذلك نتمنى أن تكون دمشق بوابة عبور إلى التفاهم في الداخل، وأن تعود منها الحكومة وقد صارت «حكومة وحدة وطنية»!
فواز طرابلسي«الصبر والسخرية ميزتا المناضل البلشفي» (لينين) إسرائيل دولة قائمة على «الدفاع». اسرائيل دولة لها مبرر وجود أوحد يتلخص في مفردة واحدة: «الدفاع». ولدفاع اسرائيل ـ عن نفسها طبعا ـ تاريخ ووقائع وأشكال وأدوار. منذ ان كان الاستيطان الصهيوني والقوم «يدافعون». وفَدَ مستوطنون يهود إلى بلد يزعمون انهم غادروه عنوة على يد الرومان منذ نيف وألفي سنة. قدموا بناء على وعد وتشجيع من دولة استعمارية احتلت ذلك البلد. ومنذ اللحظة الأولى بدأ المستوطنون يدافعون عن انفسهم ضد «السكان الأصليين». يشترون قطعة أرض، او يحتلونها احتلالا، ويحرسونها بالسلاح وبالأسوار وأبراج المراقبة. ثم يروحون «يدافعون» عن أنفسهم ضد أهالي القرية أو القرى العربية المجاورة. ابتداء بالعام 1936 شكلوا فرقهم المسلحة التي دربها وسلحها ضباط بريطانيون. قادهم هؤلاء ليشنوا الغارات «الدفاعية» على القرى الفلسطينية تأديبا للثوار الذين يرفعون مطالب «هجومية» بل «ارهابية»: الاستقلال ووقف الاستيطان. في العام 1947 أدت تلك الفرق المسلحة مهمات «دفاعية» عديدة مثل نسف «فندق داوود» واغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت، وطبقت خططا لاحتلال الجليل الواقع داخل الدولة العربية، حسب قرار التقسيم، ولتطهير الدولة اليهودية من العرب، فأجلت عشرات الألوف من الفلسطينيين من قراهم وأراضيهم، بوسائط «دفاعية» صرفة كالاغتيالات والمجازر. وفي العام 1948 عندما أعلنت دولة اسرائيل، تكرست الوظيفة «الدفاعية» لتلك القوات بتعميدها أخيرا باسم «جيش الدفاع الاسرائيلي». ومن فرط «دفاعية» ذلك الجيش، كانت التقارير الرسمية الاميركية تؤكد انه ليس فقط اقوى عددا وعتادا من كل الجيوش العربية مجتمعة وانما كانت على يقين ايضا من ان النصر «الدفاعي» معقود له. وكان عرب يظنون انفسهم هم المهاجمون والحربجيون ولا يزالون. بعد ذلك تتالت الأعمال «الدفاعية»: احتل جيش «الدفاع» الاسرائيلي سيناء عام 1956 وصولا إلى قناة السويس لكي «يدافع» عن امن اسرائيل ضد قرار جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. وتوسعت الأعمال الدفاعية لجيش «الدفاع» الاسرائيلي عندما احتل ما تبقى من فلسطين التاريخية عام 1967 ومعها صحراء سيناء المصرية وهضبة الAffinityCMSن السورية قبل ان يلحق بها اجزاء من الأراضي الأردنية ونحو عشرة في المئة من الأراضي اللبنانية. اما سائر الحروب «الدفاعية» ومعها المجازر من صبرا ـ شاتيلا الى جنين فقانا الاولى وقانا الثانية والحرب على لبنان 2006 وعلى غزة 2008 فمنسوب «الدفاع» فيها عال بحيث لا يحتاج الى الكثير من التفاصيل. لكن ما كان مجرد «دفاع» اختياري عن النفس، سرعان ما دخل في حومة «الاضطرار». خلال الانتفاضة الأولى، كان الأطفال والصبية والفتيان الفلسطينيون يضطرون الجنود الاسرائيليين إلى إطلاق النار عليهم «دفاعا» عن أنفسهم بعد ان يئسوا من اقناعهم بالحسنى بوقف الاعتداء عليهم بواسطة... الحجارة. وتصاعدت اضطرارات الجنود الاسرائيليين للدفاع عن انفسهم إزاء الاعتداءات التي شنتها عليهم اشجار الزيتون والبرتقال الفلسطينية ناهيكم عن الاعتداءات التي كانت تشنها البيوت الفلسطينية ذاتها ما يستوجب نسفها. ولما تعرضت احدى جرافات جيش «الدفاع» لـ«هجوم» من متضامنة اميركية أخذت تلوح بالكوفية الفلسطينية، «اضطر» سائق الجرافة الى هرس راشيل كوري. والآن يتأهب جيش «الدفاع» الاسرائيلي لـ«الدفاع» عن الثلاثمئة رأس نووي التي يملكها في وجه ترسانة نووية ايرانية تتكون من 5,7 كليوغرامات من اليورانيوم المخصب! ما جرى خلال الأيام الأخيرة على شواطئ غزة يصعب وصفه بالقرصنة. لأن القراصنة لا يدعون «الدفاع» عندما يهاجمون السفن المدنية فيسبون ويقتلون وينهبون. نحن هنا ايضا في حالة اضطرارية، حيث الجنود الاسرائيليون «اضطروا للدفاع عن انفسهم»، على ما قال رئيس الوزراء نتنياهو بالحرف. تصوروا المشهد. المعروف ان القانون الدولي، ومعه قوانين البحار واليابسات، يحبذ كثيرا فرض الحصار على جيب بشري هو أشبه بمخيم واسع، مفقر، دمّره جيش «الدفاع» الاسرائيلي بعد حملة «دفاعية» منذ ما لا يزيد عن سنة ونصف النصف. هكذا وصل إلى ذلك الجيب البشري المجوع والمحاصر بحرا وجوا وبرا، اسطول مدجج بالحرية وبعشرة آلاف طن من المواد الغذائية والطبية لأهالي غزة، وأصر على مهاجمة «جيش الدفاع» الاسرائيلي وهو يؤدي ذلك الحصار «الدفاعي» عن النفس. تصوروا عدوانية «اسطول الحرية» هذا! عاينوا الصورة التي وزعها الجيش المذكور تدليلا على تعرضه للاعتداء: يد ترفع عصا ـ خشبية او حديدية ـ تهم بالاعتداء الوحشي على اسطول «دفاعي» من بوارج بحرية متنوعة ودزينات من المروحيات وقوات كوماندوس مظلية مجوقلة مكرسة كلها لاغراض «الدفاع». فهل يستغرب احد ان «يضطر الجنود الاسرائيليون للدفاع عن أنفسهم» ضد تلك الذراع المرفوعة؟ وهل قليل ان يقتلوا عشرين فقط من اصحاب الأذرع الحاملة للعصي ويعتقلوا لا أقل من 480 انسانا من جنسيات مختلفة ويصادروا قطع «اسطول الحرية» المعتدية بل ان يعترفوا بأنهم قد خربوا بعضها؟ ومع ان هذه الأعمال كلها اعمال «دفاع عن النفس» واضحة مثل عين الشمس، يقرر مجلس الأمن الدولي «التحقيق النزيه» في الأمر، خصوصا لجهة الكشف عما اذا كانت تلك الأعمال «الدفاعية» انطوت على مقادير من «الافراط في استخدام القوة». ولقد تردد صدى الاحتجاج على «الافراط في استخدام القوة» في أوساط القوى والدول ذاتها التي رفعت الصوت ضد الافراط في استخدام القوة في العدوان على غزة. «الاعتدال» سيد الاحكام في المؤسسة الدولية وفي العلاقات الدولية. ولكن لسائل ساذج ان يسأل هذا العالم الظالم كله، وبإفراط من السذاجة: كيف قياس «الافراط» في استخدام القوة، عندما يستخدم جنود جيش «الدفاع» الاسرائلي لـ«الدفاع» عن انفسهم، في كل مرة، قوة أشد افراطا في القوة من القوة التي سبقتها؟