ذهبت إلى دمشق «حكومات» فهل تعود حكومة وحدة وطنية؟

طلال سلمان

جميل هو مشهد اللقاء بين الحكومتين اللبنانية والسورية الذي أمتعتنا صور بداياته في مطار دمشق، أمس، بكل المجاملات ومظاهر الود التي تستبطن بعض صلات القربى بين القادمين والمستقبلين، وقد غطت الابتسامات وجوه الحشد، ولولا شيء من التحفظ لفرقعت القبلات ـ كما في الوداع ـ مبشّرة بزوال الغمّة واستئناف ما كان في سالف العصر والأوان وليالي زمان الراسخة في الوجدان، وإن فرض الحذر ضرورة الكتمان.. إلى حين! المشهد جميل بأكثر ممّا تحتمل اللحظة السياسية، وربما لهذا السبب، تحديداً، فإنه لا يعكس ـ مع الأسف ـ روح الأخوة أو التفاهم السياسي بالتنسيق والتعاون والحرص على المصالح المشتركة. مع ذلك، لا بد من شيء من الأمل بأن لا يغلب الشكل على المضمون، وبأن لا ينشق الوفد (اللبناني) وفوداً متى أخلت المجاملة المكان للمواقف الفعلية التي يستبطنها. ذلك أن الطرفين يأنيان إلى التلاقي من بعيد، ومن خلف أكوام من الخلافات الفعلية في المواقف، محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً... هذا إذا ما افترضنا أن الوفد اللبناني واحد موحّد في الرأي والقرار، في حين أن الأمر ليس كذلك، مع الأسف. فالوفد اللبناني الذاهب إلى دمشق وفود بآراء ومواقف متعددة، وأحياناً متناقضة، أقله كما تشهد جلسات مجلس الوزراء في بيروت، وإن كان الأمل يبقى معلقاً على أن تؤدي مواجهة الوقائع الصلبة لضرورة إرساء العلاقات بين البلدين المتكاملين بالجغرافيا والمصالح والتاريخ (؟) إلى سقوط الكثير من الأوهام والأحقاد والضغائن التي تحوّلت ـ في أحيان كثيرة ـ إلى منافع واستثمارات... هذا قبل الحديث عن الارتباطات والمداخلات و«النصائح» والضغوط الأجنبية (والعربية) التي صارت بين ركائز السياسة لدى بعض الأفرقاء الممثلين في الحكومة العالمية اللبنانية. فليس منطقياً أن يكون الوفد الكبير المختلفة مكوّناته في بيروت ستتوحّد رؤاه، وبالتالي سيتبنى موقفاً موحداً عبر نصف ساعة طيران إلى دمشق. خصوصاً أن بين المسائل الخلافية قضايا جدية تهز صورة الحكومة كمصدر للقرار الوطني الموحّد، يستوي في ذلك ما تكشّف من افتراق نافر حول مسائل لا يجوز فيها الافتراق، وإلا كانت الفتنة أو الحرب الأهلية وبينها الاختراقات الإسرائيلية لشبكة الاتصالات بقدر ما من التواطؤ الداخلي، والمحكمة الدولية التي لها من موضوع هذه الشبكة نصيب مؤثر، مروراً بالعلاقة التي يريد لها البعض أن تتوتر مع «اليونيفيل» لأمر في نفس الإسرائيلي... وصولاً إلى موضوع «الفلسطينيين في لبنان» وما فضحته إثارته من عنصرية وعمى ألوان يخلط بين العدو والأخ الشقيق، حتى ليكاد الانحياز يتبدى واضحاً إلى العدو بغير أن يفيد في تغطيته الزجل بل الدجل السياسي الرخيص. ولقد كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قاطعاً في صراحته وهو يشير إلى عناوين المواضيع الخلافية، في كلمته مساء يوم الجمعة الماضي، متوقفاً ـ بالتحديد ـ على الصلة بين موضوع شبكة الاتصالات المكشوفة تماماً للعدو الإسرائيلي وبين التركيز المشبوه على دورها في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ولأن الناس قد تعوّدوا من «السيد» الصدق والمكاشفة والابتعاد عمّا ألفوه من أهل الطبقة السياسية من مزايدات ومناقصات تخدم أغراضهم، فإنهم استمعوا إلى تحذيراته التي لها ما يحدّدها بمزيد من الدقة في ذكرى فشل الحرب الإسرائيلية على لبنان، بعد أسبوعين، باهتمام بالغ يخالطه شيء من القلق وهم ينتبهون إلى الخلل الفاضح في «التضامن الحكومي»، واستمرار الانشقاق وبين أخطر أسبابه الاستثمار المبكر بل السابق على أوانه لموضوع المحكمة الدولية التي كانت تكفي مبادرة أحد ضحايا التحقيق الدولي الذي تحيطه الشبهات، إلى مواجهة المدعي العام فيها حتى كادت تذهب بالكثير من المتداول عن تحقيقها الخطير أدراج الرياح. وإذا كانت شبكة الاتصالات بؤرة خصبة للتجسس الإسرائيلي، ومركز تحكّم بأعمال التحقيق الدولي، فمن الطبيعي أن يصار إلى استعمالها في التمهيد للفتنة الداخلية، في ظل الانشقاق السياسي الخطير الذي مكّن من «تهريب» الموافقة اللبنانية عليها، رسمياً، من فوق رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي، باستغلال حرمة الدم المراق غيلة... وصولاً إلى القرار ـ الفتنة الذي دُبِّر في ليل 5 أيار 2008! [ [ [ قبل دمشق وبعدها يظل «البيت» هو الأساس... فإن كانت العلاقات داخل البيت معتلة فلن يمكن بناء علاقات سليمة مع الخارج، بدءاً بأقرب الجيران ـ الأخوة، وانتهاءً بأبعد «الأصدقاء» الذين يظلون أقرب إلى العدو منا مهما قدمنا من تنازلات وهذه شهادة «السلطة الفلسطينية» علنية ومكشوفة. لكن الاعتراض على النهج السياسي لهذه «السلطة» لا يبرّر، بأي حال، هذه الحملة العنصرية الكريهة على «الوجود الفلسطيني» في لبنان، الذي يتصرف إزاءه بعض أهل الطبقة السياسية وكأنهم اكتشفوه للتو، أو كأنما الأربعمئة ألف مواطن فلسطيني قد هبطوا بالمظلات في الليل الفائت! هل من الضروري التذكير بأن عمر هذا «الوجود الفلسطيني» أكثر من ستين سنة؟ وأن أكثر من أربعمئة ألف رجل وامرأة وطفل وشيخ عجوز يعيشون محصورين ومحاصرين في مساحة بلدة واحدة وإن توزعت مخيماتهم على 12 جهة مختلفة فوق خريطة لبنان، مع استمرار أكثريتهم الساحقة في الجنوب، وأنهم يدفنون الموتى في الخرائب حيث يعيشون، وأنهم يُمنع عليهم إدخال كيس ترابة أو بعض أحجار الباطون إلى مخيماتهم ولو من أجل تأمين المأوى لأطفالهم الجدد؟! لكأن هذه الطبقة السياسية تساعد إسرائيل في حصارها... هي تحاصر مَن في الداخل حتى تمهّد لطردهم مستقبلاً، ونحن نحاصرهم في مخيمات لجوئهم بيننا، كأنما نساعد العدو على تذويب القضية بتشتيت شعبها وإنهاكه بالحصار والمطاردة والمهانة! نعجز عن مواجهة إسرائيل فنتواطأ معها على الضحية؟! وهو الأخ الشقيق؟! [ [ [ مبارك فتح الطريق ـ حكومياً ـ إلى دمشق.. لكن الإنجاز على هذه الطريق مستحيل طالما استمر مستحيلاً إنجاز الحكومة في الداخل. والحق أن هذه الحكومة لما تحقق «وحدتها» فكيف يمكنها أن تتصدى لتثبيت دعائم الوحدة الوطنية... ثم تصحيح الخلل ـ الجرح في العلاقات مع سوريا؟! في كل مسألة «حساسة» كانت الحكومة ترتبك وتكاد تنشق على ذاتها.. وآخر مثال موضوع شبكة الاتصالات التي قام الآن مَن يدافع عن العبث الإسرائيلي فيها بل واستثمارها لتفجير لبنان من داخله، عندما اتخذها ذريعة لمطاردة «حزب الله» بمجاهديه وخطوط مواصلاته، وكأنهم خارجون على القانون! لا محاسبة على الماضي القريب، وإلا تفجّرت الحكومة.. ولا بأس من تمرير الموازنة من دون تدقيق في أرقام معينة، حتى لا تكون فتنة! لا توافق على خطة العمل في الحاضر، لا تفاهم جدياً على مرتكزات المستقبل، لا ثقة. لا يبذل المجهود الكافي من أجل الخروج من ماضي الخصومة لبناء قاعدة صلبة للتفاهم على المهمات المطلوب تنفيذها لليوم والغد. كمائن كثيرة على طريق مشروع الوفاق الوطني. تقدم، في ظل التناحر، هدايا ثمينة للعدو الإسرائيلي الذي يعلن كل يوم أنه لم ينسَ هزيمته في حربه على لبنان، دولة وشعباً ومقاومة في مثل هذه الأيام من العام 2006، وأنه يعد العدة للانتقام. وبائس هو مَن يفكّر بالعودة إلى اللعبة القديمة: نتودد إلى السوري وننافقه ثم ننقض على «خصومنا» ممّن كانوا حلفاءه، وفي الطريق نوجه ضربة جديدة إلى «الفلسطيني» تنفيساً عن مشاعرنا العنصرية التي لا تقبل التحالف مع «عربيين» دفعة واحدة. مع ذلك نتمنى أن تكون دمشق بوابة عبور إلى التفاهم في الداخل، وأن تعود منها الحكومة وقد صارت «حكومة وحدة وطنية»!  

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة