سلاح النفط في المعركة ... الأخرى

أعلن عن «صفقة العصر» السعودية لشراء مقاتلات «ف 15» الأميركية، ونحو 150 مروحية حربية، عشية انعقاد المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. قد يكون التزامن بين الحدثين من قبيل المصادفة. لكنها مصادفة لا تلغي عميق الدلالة عن الجديد الناشئ في العلاقة بين النفط العربي وإسرائيل والقضية الفلسطينية. الولايات المتحدة أكبر تاجر سلاح في العالم وصناعاتها الحربية هي القاطرة التي تقطر اقتصادها. والمملكة العربية السعودية أكبر زبون عربي للسلاح الأميركي، بلغت قيمة مشترياتها العسكرية 11,2 مليار دولار خلال الاعوام 2005 ـ 2008. وليس سراً ان مشتريات الدول المنتجة للنفط من السلاح الأميركي، مثلها مثل التوظيفات الترليونية في سندات الخزينة الأميركية كما في القطاع الخاص، تلعب دوراً أساسياً في خفض الاختلال في الميزان التجاري بينها وبين الولايات المتحدة. الى هذا يجب ان يضاف ان وظيفة الصفقة الجوية ـ وصفقة بحرية بقيمة 30 ملياراً قد تلحق بها ـ ان تعوّض عن نسبة لا بأس بها من الانفاق العسكري الترليوني في حروب الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان و«الإرهاب الدولي». لا حاجة للتعمق في البحث عما إذا كانت صفقة الستين مليار دولار سوف تؤثر في التوازن العسكري بين العربية السعودية وإسرائيل. لا يرى المعلقون العسكريون الإسرائيليون أي اثر لذلك. ثم ان تزويد السعودية بطائرات «ف 15» جديدة، قد سبقه الاعلان عن صفقة أميركية لتزويد إسرائيل بطائرات «ف 35» الأكثر تطوراً وتفوقاً. ثم انه لا يكاد يؤتى على ذكر إسرائيل عند تعداد الأسباب الموجبة لانعقاد الصفقة. وقد كشف المعلق العسكري لصحيفة «هآرتس» العنصر الجديد الذي أدخلته الصفقة على الوضع العسكري في المنطقة بقوله: «ليس كل السلاح في الشرق الأوسط موجهاً نحو إسرائيل». فليس غريباً ان لا يأتي ذكر لإسرائيل في ما دبجه محللون سياسيون (لبنانيون) من تبريرات لهذا الهدر الفلكي. ولكن الغرابة، كل الغرابة، ان هذا الإغفال لا يثير استغرابهم. تظهر المملكة، تحت أقلامهم، مهددة بمخاطر وجودية جنوباً من قبل الصومال وتنظيم «القاعدة» والحركة الحوثية المسلحة على حدودها مع اليمن، فيما هي تواجه شمالاً خطر حرب أهلية مذهبية في العراق والأهم خطر إيران الساعية الى امتلاك السلاح النووي. يصعب تصوّر أي دور يستطيع الطيران الحربي لعبه في الدفاع عن المملكة ضد «تنظيم القاعدة» أو لدرء الحروب الأهلية المذهبية، على افتراض ان العراق مقدم عليها لا محالة. وبالقدر ذاته، يصعب أخذ رواية الخطر الحوثي على محمل الجد، إذ دلت التجارب ان حروب صعدة يكاري عليها «مقاول الحروب» اليمني الحاكم، تارة لاستدرار المال السعودي والدعم العسكري السعودي، وطوراً لاستدراج المال القطري والوساطة القطرية. ولكن أي دور للطيران الحربي ضد «الخطر» النووي الإيراني؟ الجواب الوحيد هو في عمليات هجومية ضد المنشآت النووية الإيرانية. ولنفترض ان هذا هو مبرر انفاق ستين مليار دولار، فإنه يأتي متأخراً بعض الشيء. فالراجح ان إيران سوف تنجح في إنتاج سلاح نووي، إن هي نجحت، قبل نهاية السنوات العشر المطلوبة لإتمام تسليم الطائرات للسعودية وتدريب الطيارين عليها واستيعابهم التقنيات الجديدة. فيكون «الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب»، كما يقول المثل. فتضطر المملكة، في حال نشوب حرب جديدة في المنطقة، الى الاستنجاد مرة أخرى بجيوش أميركا وحلفائها لحمايتها مثلما فعلت عام 1991. إذذاك تكون الطائرات أشبه بجوائز ترضية للسعودية للقبول بالأمر الواقع النووي الإيراني أكثر منها أسلحة لمنع قيامه. من جهة أخرى، ليس من الواضح اطلاقاً دور الصفقة في بناء قدرة عسكرية تنافسية وردعية سعودية في مواجهة القدرة الإيرانية. فالهوة العسكرية واسعة بين البلدين، حيث تتمتع إيران بالاسبقية في كل أنواع الأسلحة وخصوصاً بتفوق كاسح في المدفعية والصواريخ والبحرية. والفيصل هنا هو التفاوت الكبير في عديد القوات المسلحة للبلدين حيث الفارق لمصلحة إيران هو بنسبة خمسة الى واحد. الى هذا يجب ان يضاف الفارق في هامش المناورة بين البلدين، حيث العربية السعودية تنفق عشرة في المئة من دخلها الأهلي على السلاح وهي مجرد مستهلك له، فيما تنفق إيران 3% وهي منتج. والأفدح من كل هذا ان تعلن شركة «بوينغ» منتجة الـ«أف 15» وصاحبة النصيب الأكبر من المليارات الستين، ان الصفقة سوف تؤمن استمرار تشغيل 77 ألفاً من عمالها والموظفين في 44 ولاية أميركية. ليست هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها شركة انتاج أسلحة صفقة مليارية على انها انقاذ للعمالة الأميركية من البطالة. هكذا تبدو المليارات الستون كأنما الغرض الرئيس منها تأمين فرص عمل للعمال الأميركيين مع تعاظم ارباح شركة «بوينغ» ومثيلاتها من عمالقة منتجي السلاح، ناهيك عن توفير العمولات للوسطاء والسماسرة السعوديين والعرب والاجانب. لا معنى هنا للدعوة الى استخدام تلك الأموال في «التنمية العربية المستدامة» او في بلوغ العرب «مجتمع المعرفة»، كما تدعونا إليه تقارير «التنمية البشرية العربية» او تعدنا به مؤسسة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، او في تمويل «المشروع النهضوي العربي» العتيد. ولكن ثمة كل المعنى للقول ان العربية السعودية تملك كل المصلحة في الجنوح نحو السلاح والبحث في استخدام أجدى لأموالها لمصلحة شعبها. فالأحرى ان تسهم المليارات الستون في تشغيل 77 ألفاً من العمال والموظفين في العربية السعودية بالذات، حيث يشكل السعوديون 38% فقط من القوى العاملة، وان تسهم في تخفيض نسب البطالة، خصوصاً بطالة الخريجين، التي تصل الى 20%. ففي البلد النفطي الأغنى في العالم، الذي تخطّت ديونه عتبة المئتي مليار دولار جراء تمويله الحروب الأميركية في العراق وأفغانستان، والإنفاق الهدري، يتعايش الـ120 ألف مليونير، الذين يملكون فيما بينهم 500 مليار دولار، مع 20 ـ 30% من السكان يعيشون تحت خطر الفقر، ومع عمالة الأطفال، وفي ظل فوارق طبقية ومناطقية حادة. ولو قاربنا الموضوع من وجهة نظر الحرب على الإرهاب (دون مزدوجين) فالأجدى الإنصات إلى التحذير الذي أطلقه الدكتور تركي الحمد حين حذر من تقلص الطبقة الوسطى السعودية. وأشار إلى حقيقة انه كلما تنامَ الفقر تنامَ معه التطرف الأصولي. والعربية السعودية مصدّر رئيسي للأصولية والإرهاب. على صعيد آخر، ما دام يوجد حاكم عربي يستطيع بجرة قلم ان يمنح احتكارات الأسلحة الأميركية مثل هذه الصفقة، وان يلزم بلاده وشعبه بإنفاق ستين ملياراً من الدولارات دون ان يحتاج قراره لرأي أحد إلاه، او دون ان تناقشه او تقرّه هيئة تمثيلية او رقابية، منتخبة او معينة، نستطيع ان نتأكد من ان الولايات المتحدة الأميركية، سوف تبقى السند السياسي والعسكري والأمني للأنظمة السلالية والفردية الاستبدادية في المنطقة. وسوف يستمر النفاق حول حقول الانسان. وما لنا الا ان نزداد يقيناً بان «المشروع الأميركي» الذي يرمي الى فرض الديموقراطية على بلادنا كما يبشر به ليبراليون او يتخوف منه إسلاميون، ومن لف لفهم من القوميين واليساريين، إن هو الا أضغاث أحلام! لم تحضر المملكة العربية السعودية، راعية دول «الاعتدال» العربية، افتتاح الجولة الجديدة من المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، أسوة بزميلتيها مصر والأردن. لكنها قدمت ما هو أهم بكثير من المشاركة البروتوكولية. قدّمت الإعلان عن تغيير عقيدتها القتالية!

 

فواز طرابلسي

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة