فواز طرابلسي«الصبر والسخرية ميزتا المناضل البلشفي» (لينين) إسرائيل دولة قائمة على «الدفاع». اسرائيل دولة لها مبرر وجود أوحد يتلخص في مفردة واحدة: «الدفاع». ولدفاع اسرائيل ـ عن نفسها طبعا ـ تاريخ ووقائع وأشكال وأدوار. منذ ان كان الاستيطان الصهيوني والقوم «يدافعون». وفَدَ مستوطنون يهود إلى بلد يزعمون انهم غادروه عنوة على يد الرومان منذ نيف وألفي سنة. قدموا بناء على وعد وتشجيع من دولة استعمارية احتلت ذلك البلد. ومنذ اللحظة الأولى بدأ المستوطنون يدافعون عن انفسهم ضد «السكان الأصليين». يشترون قطعة أرض، او يحتلونها احتلالا، ويحرسونها بالسلاح وبالأسوار وأبراج المراقبة. ثم يروحون «يدافعون» عن أنفسهم ضد أهالي القرية أو القرى العربية المجاورة. ابتداء بالعام 1936 شكلوا فرقهم المسلحة التي دربها وسلحها ضباط بريطانيون. قادهم هؤلاء ليشنوا الغارات «الدفاعية» على القرى الفلسطينية تأديبا للثوار الذين يرفعون مطالب «هجومية» بل «ارهابية»: الاستقلال ووقف الاستيطان. في العام 1947 أدت تلك الفرق المسلحة مهمات «دفاعية» عديدة مثل نسف «فندق داوود» واغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت، وطبقت خططا لاحتلال الجليل الواقع داخل الدولة العربية، حسب قرار التقسيم، ولتطهير الدولة اليهودية من العرب، فأجلت عشرات الألوف من الفلسطينيين من قراهم وأراضيهم، بوسائط «دفاعية» صرفة كالاغتيالات والمجازر. وفي العام 1948 عندما أعلنت دولة اسرائيل، تكرست الوظيفة «الدفاعية» لتلك القوات بتعميدها أخيرا باسم «جيش الدفاع الاسرائيلي». ومن فرط «دفاعية» ذلك الجيش، كانت التقارير الرسمية الاميركية تؤكد انه ليس فقط اقوى عددا وعتادا من كل الجيوش العربية مجتمعة وانما كانت على يقين ايضا من ان النصر «الدفاعي» معقود له. وكان عرب يظنون انفسهم هم المهاجمون والحربجيون ولا يزالون. بعد ذلك تتالت الأعمال «الدفاعية»: احتل جيش «الدفاع» الاسرائيلي سيناء عام 1956 وصولا إلى قناة السويس لكي «يدافع» عن امن اسرائيل ضد قرار جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. وتوسعت الأعمال الدفاعية لجيش «الدفاع» الاسرائيلي عندما احتل ما تبقى من فلسطين التاريخية عام 1967 ومعها صحراء سيناء المصرية وهضبة الAffinityCMSن السورية قبل ان يلحق بها اجزاء من الأراضي الأردنية ونحو عشرة في المئة من الأراضي اللبنانية. اما سائر الحروب «الدفاعية» ومعها المجازر من صبرا ـ شاتيلا الى جنين فقانا الاولى وقانا الثانية والحرب على لبنان 2006 وعلى غزة 2008 فمنسوب «الدفاع» فيها عال بحيث لا يحتاج الى الكثير من التفاصيل. لكن ما كان مجرد «دفاع» اختياري عن النفس، سرعان ما دخل في حومة «الاضطرار». خلال الانتفاضة الأولى، كان الأطفال والصبية والفتيان الفلسطينيون يضطرون الجنود الاسرائيليين إلى إطلاق النار عليهم «دفاعا» عن أنفسهم بعد ان يئسوا من اقناعهم بالحسنى بوقف الاعتداء عليهم بواسطة... الحجارة. وتصاعدت اضطرارات الجنود الاسرائيليين للدفاع عن انفسهم إزاء الاعتداءات التي شنتها عليهم اشجار الزيتون والبرتقال الفلسطينية ناهيكم عن الاعتداءات التي كانت تشنها البيوت الفلسطينية ذاتها ما يستوجب نسفها. ولما تعرضت احدى جرافات جيش «الدفاع» لـ«هجوم» من متضامنة اميركية أخذت تلوح بالكوفية الفلسطينية، «اضطر» سائق الجرافة الى هرس راشيل كوري. والآن يتأهب جيش «الدفاع» الاسرائيلي لـ«الدفاع» عن الثلاثمئة رأس نووي التي يملكها في وجه ترسانة نووية ايرانية تتكون من 5,7 كليوغرامات من اليورانيوم المخصب! ما جرى خلال الأيام الأخيرة على شواطئ غزة يصعب وصفه بالقرصنة. لأن القراصنة لا يدعون «الدفاع» عندما يهاجمون السفن المدنية فيسبون ويقتلون وينهبون. نحن هنا ايضا في حالة اضطرارية، حيث الجنود الاسرائيليون «اضطروا للدفاع عن انفسهم»، على ما قال رئيس الوزراء نتنياهو بالحرف. تصوروا المشهد. المعروف ان القانون الدولي، ومعه قوانين البحار واليابسات، يحبذ كثيرا فرض الحصار على جيب بشري هو أشبه بمخيم واسع، مفقر، دمّره جيش «الدفاع» الاسرائيلي بعد حملة «دفاعية» منذ ما لا يزيد عن سنة ونصف النصف. هكذا وصل إلى ذلك الجيب البشري المجوع والمحاصر بحرا وجوا وبرا، اسطول مدجج بالحرية وبعشرة آلاف طن من المواد الغذائية والطبية لأهالي غزة، وأصر على مهاجمة «جيش الدفاع» الاسرائيلي وهو يؤدي ذلك الحصار «الدفاعي» عن النفس. تصوروا عدوانية «اسطول الحرية» هذا! عاينوا الصورة التي وزعها الجيش المذكور تدليلا على تعرضه للاعتداء: يد ترفع عصا ـ خشبية او حديدية ـ تهم بالاعتداء الوحشي على اسطول «دفاعي» من بوارج بحرية متنوعة ودزينات من المروحيات وقوات كوماندوس مظلية مجوقلة مكرسة كلها لاغراض «الدفاع». فهل يستغرب احد ان «يضطر الجنود الاسرائيليون للدفاع عن أنفسهم» ضد تلك الذراع المرفوعة؟ وهل قليل ان يقتلوا عشرين فقط من اصحاب الأذرع الحاملة للعصي ويعتقلوا لا أقل من 480 انسانا من جنسيات مختلفة ويصادروا قطع «اسطول الحرية» المعتدية بل ان يعترفوا بأنهم قد خربوا بعضها؟ ومع ان هذه الأعمال كلها اعمال «دفاع عن النفس» واضحة مثل عين الشمس، يقرر مجلس الأمن الدولي «التحقيق النزيه» في الأمر، خصوصا لجهة الكشف عما اذا كانت تلك الأعمال «الدفاعية» انطوت على مقادير من «الافراط في استخدام القوة». ولقد تردد صدى الاحتجاج على «الافراط في استخدام القوة» في أوساط القوى والدول ذاتها التي رفعت الصوت ضد الافراط في استخدام القوة في العدوان على غزة. «الاعتدال» سيد الاحكام في المؤسسة الدولية وفي العلاقات الدولية. ولكن لسائل ساذج ان يسأل هذا العالم الظالم كله، وبإفراط من السذاجة: كيف قياس «الافراط» في استخدام القوة، عندما يستخدم جنود جيش «الدفاع» الاسرائلي لـ«الدفاع» عن انفسهم، في كل مرة، قوة أشد افراطا في القوة من القوة التي سبقتها؟