عن النظام الانتخابي .. والوطن

لم نجد الأسبوع الماضي، ونحن في سفر، أروع من مشهد الديموقراطية الإنكليزية الذي تمثّل في خروج رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون وزوجته وولديه الصغيرين من مقر «10 داونينغ ستريت»، بعدما فشل في الحصول في الانتخابات الاشتراكية على غالبية تمكّنه من البقاء في الحكم وتأليف حكومة عمالية، ليدخله بعد نصف ساعة زعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون وزوجته، بعدما قدم براون استقالته إلى الملكة إليزابيت الثانية مقترحاً تكليف زعيم المعارضة كاميرون تأليف الحكومة الجديدة. وقد أعلن كاميرون أن الملكة عرضت عليه تأليف الحكومة فقبله، وعلى هذا الأساس حضر إلى مقر رئاسة الوزراء. وببساطة وهدوء اعترف الطرفان بنتائج الانتخابات وتصرف كل منهما بحسب العرف المتبع في بريطانيا، ثم تألفت حكومة ائتلافية بين حزب المحافظين الذي لم ينل الغالبية المطلقة التي تمكّنه من الحكم بمفرده، وحزب الديموقراطيين الليبراليين. وهذا ما نفتقده في لبنان، ويا للأسف. إذ لا تكاد تخلو انتخابات في لبنان من شكاوى وتشكيك في نزاهتها وشفافيتها، ومن طعون في مغايرات وتزويرات رافقتها بغية تغليب فريق على آخر والإتيان بأكثرية تستأثر بالسلطة، بفعل إثارة العصبيات الطائفية والمذهبية، وإغراق العمليات الانتخابية بالمال السياسي ما ينتج أكثرية «وهمية»، أي غير تمثيلية لكل الفئات الفاعلة في المجتمع عبر تحكّم جماعة من طائفة معينة أو مذهب معيّن يتمتع أفراده بالأكثرية العددية، بخيارات مرشحي الطوائف أو المذاهب الأخرى، يساعدها على ذلك التقطيع الجغرافي ـ الديموغرافي للمناطق، مما يلغي المساواة بين المواطنين، ويتيح لفئة من مذهب معيّن أن تُنجّح مرشحين من مذهب آخر، فيأتي تمثيله لمجموعته مبتوراً. ومن شأن هذه البهلوانية أن تنتج أكثرية غير متجانسة، تسيطر عليها الجماعة الطائفية الأكثر عدداً. وهذا ما أدى، خصوصاً في صفوف المسيحيين، إلى هجرة هي في تفاقم، من منطقة داخلية إلى أخرى باسم التجانس الطائفي. ومن لبنان إلى الخارج بحثاً عن الاستقرار والمستقبل. وظهر ذلك بوضوح في زحلة في الانتخابات النيابية الماضية، وفي بيروت في الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة التي سجلت فيها أدنى مستويات المشاركة، والتي أحدثت صدمة لدى «الطبّاخين» في قريطم. وقد سلم النظام الانتخابي في بريطانيا من مثل هذه الألاعيب اللبـــنانية الموروثة عن العثمانيين والفرنسيين، لأن الانتــــخابات فيها تقوم على قاعدة ذهبية تعود إلى أكثر من 600 عام وهي: صوت واحد، لرجل واحد. أي إن الدائرة فردية، والمواطن ينتخب مرشـــحاً واحداً، ولا مكان فيها للبوسطات ولا للمــحادل. وكان ظن الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن منح المسيحيين المناصفة في مجلس النواب دستورياً، وفي بقية الهيئات عُرفاً، سيعوّض شعور المسيحيين بـ«الغبن» بعد الطائف وما رافقه من سحب السلطة الإجرائية من يد رئيس الجمهورية وتحويلها إلى مجلس الوزراء بعد جعله مؤسسة. إلا أن ذلك بدا لكثيرين «خدعة» وتلاعباً بالصيغة، فراحوا يغادرون مرقد العنزة الذي يكاد يفرغ من العنوز، ويعجز تالياً عن ترجمة المناصفة! وقد أكد الأستاذ السابق في جامعة هارفارد الأميركية صموئيل هانتنغتن في كتابه «صدام الحضارات» أن التبدل الديموغرافي غالباً ما يكون السبب الرئيسي للنزاعات الطائفية والإثنية، داعماً نظريته هذه بأمثلة من البوسنة التي شهدت أشنع المذابح والتصفيات العرقية والدينية. ففي عام 1961 كانت نسبة المواطنين الصرب هناك 43 في المئة، والمسلمين 26 في المئة. وفي 1991 هبطت نسبة الصرب إلى 31 في المئة، فيما ارتفعت نسبة المسلمين إلى 44 في المئة. الأمر الذي جعل الصرب يقدمون على «تنظيف عرقي» وطائفي ذهب ضحيته عشرات ألوف المسلمين. وحصل مثل ذلك في بعض الأماكن في لبنان أواخر القرن الماضي. وعـــزا هانتنغـــتن الهجرة إلى هذه العوامل. ما العمل الآن؟ هل نُبقي لبنان مجموعة شعوب تتكاثر بطرق غير متناسقة، بحيث تكون السيطرة في المستقبل للأكثر عدداً، ما يُلغي المناصفة على ما أبلغ ذات مرة الرئيس رفيق الحريري البطريرك الماروني، إذا لم تتوقف الهجرة ولم يعد المسيحيون إلى الدولة؟ أم نتوجه نحو مجتمع اتحادي مدني، تُلغى فيه الطائفية السياسية تمهيداً لإلغاء الطائفية عموماً وإزالة الحواجز بين الطوائف والمذاهب وإقرار الزواج المدني، وتحقيق الاندماج الوطني، مع المحافظة على الطوائف كمصدر غنى روحي للمجتمع. فتســــود إذ ذاك العدالة والمــساواة، وتصبح القاعدة هي المواطنة، ويجري إنقاذ الوطن من الهلاك تحت وطأة العنف والفتن؟ نقول هذا الكلام لمناسبة الزيارة التي يعتزم الرئيس سعد الحريري القيام بها إلى الولايات المتحدة، حيث يستقبله الرئيس باراك أوباما في واشنطن في 24 أيار الجاري، عشية الذكرى العاشرة لتحرير المقاومة الجنوب والبقاع الغربي من الاحـــتلال الإسرائيلي. ويــترأس في السادس والعشرين منه جلسة لمجـــلس الأمن تناقش موضوعاً اقترحه لبنان هو: «حـــوار الثقـــافات والأمن والسلام الدوليان». وتكتسب زيارة الحريري لواشنطن أهمية خاصة بعد اللقاء الذي جمعه أول من أمس في دمشق بالرئيس السوري بشار الأسد، والتهديدات التي سبق لإسرائيل أن وجهتها إلى سوريا ولبنان والمقاومة، على خلفية مزاعم إسرائيلية، مدعومة أميركياً، بأن سوريا قد سلّمت «حزب الله» صواريخ من طراز «سكود» لنصبها في جنوب لبنان، وتصويبها نحو إسرائيل. وثمة سؤال يطرح بديهياً بعد مرور نحو خمسة أشهر على زيارة الرئيس الحريري الأولى إلى دمشق: أي حريــــري هذا الــــذي زار دمـــشق الثلاثاء الماضي بموعد مطــلوب من الريـــاض؟ هل هو «الحريري السعودي» الذي استقبله الرئيس الأسد في 19 كانون الأول، بطلب من الملك عبد الله، وكان الرئيس الحريري واضحاً آنذاك بأنه دخل دمشق من النافذة السعودية؟ أم هو «الحريري اللبناني» الذي كانت دمشق تنتظره مع شعبه «الأزرق» طوال هذه الفترة والذي لم يجد أهدأ من الوزير جان أوغاسبيان، معبّراً عن المرحلة الجديدة في العلاقات بين آل الحريري ودمشق، لترؤس الوفد الإداري إلى العاصمة السورية، في انتظار «تنظيف» الرئيس الحريري «البيت الأزرق» من رواسب الماضي المعادي لسوريا والذي يبدو أن دونه عقبات تتعلق بالعمق الذي انغرزت فيه شروش العداء للنظام السوري. وبدا ذلك واضحاً في ما كتبه النائب وليد جنبلاط في جريدة «الأنباء» في 11 أيار حول «التحليلات والمقالات الغريبة التي تنشر في كبريات الصحف وتكتبها أقلام تدعي القرابة السياسية، بينــــما هي تتوزع الأدوار مع من يقف بجانبها بشكل لم يعد مقــــبولاً ويتطلب موقفاً حاسماً. فالتكاذب السياسي هــــو في اعتماد مواقف مزدوجة من قبل البعــض بـــدل أن توضح الأمور وتحسم بشكل نهائي». وأضاف: «إن حماية السلم الأهلي، والوحدة الوطنية، والاستقرار الداخلي، لا يمكن وصفها بالاستسلام أو الإذعان، وهذا موقفنا الثابت ولن نتراجع عنه ولو كتب البعض عكس ذلك. فكفانا توزيعا للدروس والنصح والوعظ الإعلامي»

ادمون صعب

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة