خالد صاغيةيقول الخبر إنّ محامياً مصرياً رفع دعوى قضائية على وزير العدل ممدوح مرعي، متّهماً إيّاه بتضليل الشعب المصري وإخفاء الحقيقة عنه. أما الحقيقة التي يخفيها وزير العدل ومن معه، بحسب الدعوى، فهي: موت الرئيس حسني مبارك منذ عام 2004. ويتابع نص الدعوى قائلاً إن السيدة سوزان مبارك ونجليه علاء وجمال مبارك استخدموا بديلاً للرئيس ليظهر في المناسبات العامة، فيما يحكم مصر الآن قرينة الرئيس ونجلاه من وراء الستار.الخبر لا يدعو إلى السخرية. فهو يكاد يختزل المشهد العربي. لقد بلغ الاهتراء حداً بات الديكتاتور نفسه، وسلامته الفردية، غير ذات معنى. لم يعد مصير البلاد مرهوناً بشخص. بات مرهوناً بصورة.فالمهمّ هو صورة الديكتاتور. أن تبقى تلك الصورة معلّقة على الجدران. وأن تجد من يلمّعها كلّ يوم. أمّا أن تكون تلك الصورة لفرد حيّ أو ميت، فالأمر سيّان. سنمرّ كلّ يوم أمام الصورة، وسنؤدّي التحية. ثمة من سيسجّل على ورقة صغيرة أننا أدّينا التحية. وهذا ما يجعل العجلة تستمرّ في الدوران.لكن، ما الذي دفع ذاك المحامي إلى مقاضاة وزير العدل؟ هل يهمّه حقّاً ما إذا كان الرئيس حياً أو ميتاً؟ فنحن نعرف تماماً أنّ هناك من سيتابع السير في خط الرئيس الأزلي، وأنّ الصور المرتاحة داخل البراويز السميكة، ستُستُبدَل بأخرى تحمل ألواناً أكثر إشراقاً.وزير العدل لم يكذب، لأنّ الرئيس لم يمت. وزير العدل كذب لأنّ مصر نفسها ماتت، ولم يخرج أحد على الناس لينعى جمهورية مصر العربية.اسألوا المحاصرين في غزّة. من بقي منهم حياً، ومن أصبح تحت التراب. سيخبركم الجميع أنّ البلاد التي تواطأت مع الحصار لا تدعى مصر.اسألوا العمّال في شوارع القاهرة. سيخبرونكم أنّ الشرطة التي تتولّى قمعهم، والنظام الذي يصادر حقوقهم، والشركات التي اشترت عرقهم بأبخس الأثمان، لا تنتمي إلى دولة تدعى مصر.اسألوا الذين قضوا في السجون تحت ضربات التعذيب، سيصرخون كلّهم: هذه ليست مصر.اسألوا الناس التائهين من المحيط إلى الخليج. ما زالوا يبحثون منذ زمن عن مصر «بتاعتهم».مصر أمّ الدنيا ماتت. لم يعدّ لها الجنازة أحد. لم يخبرنا بذلك أصلاً معالي الوزير.
عدد الخميس ١٥ تموز ٢٠١٠بدا افتتاح فندق «فور سيزونز» في وسط بيروت أمس أشبه بحدث وطني لبناني. فقد شارك الرؤساء الثلاثة الأمير الوليد بن طلال فرحته في إنجاز استثماره اللبناني الجديد، وسط حشد من الوزراء والنوّاب الحاليّين والسابقين
الدولة كلّها كانت مشغولة أمس. أُنجزت الموازنة، وصُدّق على خطّة الكهرباء، وبات بإمكان الرؤساء الثلاثة أن يلتفتوا إلى ما هو أكثر أهميّة. تركوا قصورهم وانطلقوا، كلٌّ في موكب مهيب، ليشاركوا في الحدث الكبير. لا نتحدّث هنا عن احتفال في ذكرى وطنيّة، ولا عن إطلاق خطّة لإطفاء الدين العام، ولا عن اتفاقات لمنح المهمّشين على الأرض اللبنانية بعض حقوقهم. إنّنا نتحدّث عن افتتاح فندق.نعم... حمل الرؤساء الثلاثة أنفسهم وذهبوا ببذلاتهم الرسميّة ليشاركوا في افتتاح... الـ«فور سيزونز»! ففي بلاد قرّرت ألا تنتج أي شيء، وأن تتفرّغ للمضاربات العقارية وللأرباح الريعية ولتصدير أبنائها للدول القريبة والبعيدة، يصبح افتتاح فندق حدثاً وطنياً يستحقّ حضور الدولة بكل مسؤوليها.لائحة الرسميّين الموجودين في ذاك الاحتفال مثيرة للضحك والبكاء في آن معاً. فالاحتفال الذي رعاه رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وحضره رئيس الحكومة ورئيس مجلس النوّاب، شارك فيه أيضاً الرؤساء السابقون أمين الجميّل، فؤاد السنيورة، وحسين الحسيني، والوزراء الحاليون: بطرس حرب، سليم وردة، فادي عبود، علي عبد الله، عدنان القصار، جان أوغاسبيان وعدنان السيد حسين. حتّى الوزير حسن منيمنة، أخذ عطلة من التآمر على حقوق الأساتذة للمشاركة في الحفل الاستثنائي.وإضافة إلى عدد من الوزراء والنوّاب السابقين، شارك 27 نائباً حالياً يمثّلون كل التيارات السياسية، وكان في استقبالهم جميعاً الأمير الوليد بن طلال، رئيس مجلس إدارة شركة المملكة القابضة، والوزيرة السابقة ليلى الصلح حمادة.الطاقم السياسي الذي أعاد هيكلة الاقتصاد اللبناني ليخدم المستثمرين غير المنتجين على حساب أغلبية الشعب اللبناني التي ستستمرّ إلى أجيال مقبلة في دفع فوائد الدين العام، بدا أمس كأنّه يؤدّي التحية للمستثمر الذي جاء أخيراً يلقي ببعض فتاته في بلادنا. وقد ردّ المستثمر التحيّة بمثلها، فدعا الرؤساء سليمان وبري والحريري إلى الجناح الملكي في الطبقة الخامسة والعشرين من الفندق حيث كانت جولة على أقسام الجناح، انتقلوا بعدها الى الطبقة السادسة والعشرين وتفقدوا المسبح. ثم توجه الجميع الى صالة الـ«Ballroom» في الطبقة الأولى حيث انضموا الى المدعوّين.وألقى الأمير الوليد بن طلال كلمة قال فيها: «لطالما شاركنا فخامتكم الرؤية الهادفة إلى تحويل بلدنا لبنان إلى إحدى أبرز الوجهات السياحية في حوض البحر المتوسط، حيث إن بيروت هي اليوم من أكثر مدن العالم إثارة للاهتمام وجذباً للسياح».وأضاف: «أدّى الاستقرار السياسي الذي ساد أخيراً في لبنان في عهدكم الى ارتفاع نسب النمو الاقتصادي ارتفاعاً بارزاً، إضافة الى ازدياد كبير في الاستثمارات الأجنبية وأعداد السياح الوافدين. وإن الاحتفال الذي جمعنا اليوم هو خير دليل على ثقتنا بالمناخ السياسي الحالي».وأردف: «برغم أن استثمارا من هذا النوع يدر فوائد ضخمة على المجتمع المحلي، فإن هذا المعلم السياحي لا تكون فوائده مستدامة إلا عندما تحقق الاستثمارات أرباحاً لأصحابها. وإن استثمارنا في هذا الفندق خير دليل على ثقتنا وحماستنا حيال استقرار لبنان وازدهاره المستمرين». وقال: «لدى شركة المملكة التي نرأس مجلس إدارتها، ولديّ أنا شخصياً العديد من الاستثمارات غير السياحية في لبنان تتمثل في القطاع الاعلامي الممثل في مجموعة «روتانا»، وقناة «تلفزيون lbc»، اضافة الى جرائد محلية عدة والقطاع المصرفي الممثل في «سيتي بنك». وبالتالي، فإن مجمل استثمارات شركة المملكة واستثماراتنا في لبنان قد تعدى ملياراً ونصف مليار دولار. أما القطاع الاقرب إلى قلبي فهو قطاع الخدمات الاجتماعية والانسانية المتمثل في «مؤسسة الوليد بن طلال الانسانية».وبعد إلقائه كلمته، دعا الوليد رئيس الجمهورية لافتتاح الفندق رسمياً. ثم أزاح الرؤساء الثلاثة والوليد بن طلال الستارة عن لوحة الافتتاح التي كتب عليها باللغتين العربية والانكليزية: «برعاية وحضور فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان وفي حضور صاحب السمو الملكي الأمير الوليد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود تم افتتاح فندق «فور سيزونز» بيروت - الثلاثاء 22 حزيران 2010». وأخذوا صورة تذكارية، انضمت إليها الوزيرة السابقة ليلى الصلح حمادة.يقع الفندق على مساحة تزيد على 47,670 متراً مربعاً وهو عبارة عن برج بارتفاع 120 متراً، ويحتوي على 230 غرفة وجناحاً ويضم أربعة مطاعم وقاعة احتفالات ومركز أعمال ومنتجعاً صحياً يشمل حوض سباحة عند سطح المبنى ويطل على جبال لبنان.شركة المملكة القابضة تملك حصة بنسبة 47.5% في إدارة شركة فورسيزونز Four Seasons وتملك فيها أيضاً شركة كاسكاد Cascade التي يملكها بيل غيتس نسبة 47.5%، بالإضافة إلى ازادور شارب Isadore Sharp مؤسس مجموعة فورسيزونز Four Seasons الذي يملك 5% منها.(الأخبار)
عدد الاربعاء ٢٣ حزيران ٢٠١٠ | شاركمحمد زبيب يبدأ مجلس الوزراء اليوم بمناقشة مشروع قانون موازنة عام 2010، بعد تأخير طويل جدّاً، لم يتبرّع أحد بتفسير أسبابه حتى الآن... إلا أن التقرير الذي أرفقته وزيرة المال ريا الحسن مع مشروعها، يكشف عن بعض هذه الأسباب. فإمراره في مجلس الوزراء، ثم في المجلس النيابي، مشروط بالتوافق المسبق على إمرار اقتراح القانون الذي تقدّم به النائب علي حسن خليل، وهو منقول عن مشروع قانون أعدّه وزير المال السابق جهاد أزعور والمجلس الأعلى للخصخصة، وأحيل على المجلس النيابي بموجب مرسوم نافذ حكماً في الفترة التي كان الرئيس نبيه بري يعدّ فيها الحكومة غير ميثاقية. ويجيز هذا الاقتراح للحكومة خصخصة النشاطات والخدمات والمرافق والقطاعات تحت عنوان إشراك القطاع الخاص فيها، ولا سيما القطاع المصرفي، وذلك من دون العودة إلى المجلس النيابي في كل عملية، خلافاً لما تفرضه المادة 89 من الدستور، التي تنص على أنه «لا يجوز منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أي احتكار إلا بموجب قانون وإلى زمن محدود». قد لا يبلغ الوزراء، في مناقشاتهم اليوم، هذا الشرط. فبعضهم سيكون مشغولاً بمحاولة فهم «الأرقام» المبهمة وتفكيك القطب المخفية التي تكتنفها، والبعض الآخر سيركّز على المخالفات الدستورية الكبيرة والكثيرة التي تظلل المشروع برمّته، فيما سيُشغل البعض الثالث بالدفاع عن المشروع باعتباره إنجازاً بحدّ ذاته بعد غياب الموازنات كلّياً في السنوات الماضية. ولن ينسى هذا البعض تمنين اللبنانيين بكرمه عليهم عبر «تأجيل» زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 10% إلى 15% أو 12%، ليبرر من خلال هذا «التمنين» جنوحه نحو زيادة العجز في هذا العام من 8.59% إلى 10.74% من الناتج المحلي (وفق التقديرات المشكوك فيها للناتج وللعجز الحقيقي، التي تستند إليها وزارة المال) وزيادة الدين الحكومي (المعترف به رسمياً طبعاً) من 51.3 مليار دولار إلى 55.4 مليار دولار. هذا الفريق نفسه، الذي يمنّن اللبنانيين، هو الذي سيجرّ النقاش لاحقاً إلى ربط مشروع الموازنة باقتراح القانون المذكور، وهو سيستخدم من أجل ذلك كلاماً كبيراً عن خطورة زيادة العجز والدين العام إذا لم يجر بيع «الدولة» للتخلّص من الأكلاف المترتّبة على ممارسة وظائفها من الصحّة والتعليم إلى الأمن مروراً بالاتصالات والكهرباء والمياه والطرقات والنقل... سيستخدم هذا الخطاب من أجل التعمية على الأسباب الحقيقية وراء اللهاث نحو الخصخصة الآن وفوراً من دون إغفال التهديد بعدم إمرار الموازنة أو العودة إلى نغمة زيادة ضرائب الاستهلاك إذا وقف أحد ما في مواجهة هذا الاتجاه الخطير.
لماذا الخصخصة الآن؟
ففي ظل الأزمة المالية العالمية، شهد لبنان تدفقات كبيرة للودائع، حتى تجاوزت الميزانية المجمّعة للمصارف مستوى 119 مليار دولار في نهاية الفصل الأول من هذا العام، أي إنها باتت تقارب نسبة 400% من الناتج المحلي، وفقاً للتقديرات الموضوعية. وقد أسهمت هذه التدفقات في تراجع الفوائد على سندات الخزينة التي تصدرها وزارة المال وشهادات الإيداع التي يصدرها مصرف لبنان (ولو بنسب لا تتماشى مع الأسواق الخارجية الأخرى) ما جعل المصارف تخشى من ألّا تحقق مستويات الربحية نفسها في مراحل مقبلة، ولا سيما أن قدرة وزارة المال ومصرف لبنان على استيعاب فائض السيولة المتراكم لدى المصارف باتت محدودة جداً، إذ إن الأولى باتت تمتلك فائضاً في حسابها وصل إلى 10100 مليار ليرة في نهاية آذار الماضي، فيما محفظة الثاني من شهادات الإيداع بلغت أكثر من 24 ألف مليار ليرة، أي إن الدولة تحتفظ الآن بنحو 30 ألف مليار ليرة من السيولة المصرفية عبر هاتين الأداتين فقط (هناك أيضاً ودائع المصارف لدى مصرف لبنان)، وتسدد كلفة سنوية من جرّاء ذلك تتجاوز 2100 مليار ليرة، على حساب المكلّفين اللبنانيين! إلا أن المصارف لا تزال تمتلك الآن سيولة فائضة تقدّر بنحو 22 ألف مليار ليرة (نحو 155 مليار دولار)، وتحتاج إلى توظيف بعوائد عالية لا يمكن تحقيقها بواسطة الأدوات النقدية أو أدوات الدين العام أو بواسطة التسليفات للقطاع الخاص، لأن ذلك سيسهم في خفض معدّلات الفوائد أكثر بما ينعكس خفضاً في أرباح المصارف، أو خفضاً في أسعار الفائدة على الودائع بالليرة كما بالعملات الأجنبية، وهو ما لا يريده حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، خوفاً من انعكاسه على مستوى التدفقات الخارجية وموجوداته بالعملات الأجنبية التي بلغت مستويات قياسية غير مبررة. لقد اشتغلت العقول الجهنمية، واكتشفت أن المشكلة يمكن حلّها عبر «الخصخصة»، ولكن بأشكالها «التمويلية»، أي أن يوظّف القطاع المصرفي عبر شركات خاصة وصناديق استثمار سيولته في شراء رخص الاتصالات الخلوية والثابتة والإنترنت والبنى التحتية والخدمات وبناء معامل إنتاج الكهرباء والمحطات وسدود المياه والطرقات والمطارات والمرافئ... فبهذه الطريقة يمكن توظيف الأموال بعوائد أعلى من العوائد المحققة من الفوائد.
تجربة المجرّب
يُسوّق للشراكة كأنها اكتشاف جديد. إلا أن اللبنانيين اختبروا جيداً هذا الشكل من الخصخصة، وهم يتفقون على أن نتائجها كانت كارثية جدّاً. فالشراكة المطروحة هي نفسها التي تُعتمد في تمويل دكاكين التعليم الخاص المجاني بدلاً من تطوير وتعميم وتحديث التعليم الرسمي الإلزامي والمجاني فعلاً... وهي نفسها التي تُعتمد في تمويل الاستشفاء الخاص بدلاً من تطوير الاستشفاء الحكومي وتحديثه وتوسيعه... وهي نفسها التي تُعتمد في سوليدير حيث طُرد أصحاب الحقوق الفعليون ليتحوّل وسط بيروت إلى قطع عقارية مفروزة للمضاربات وجني الأرباح الريعية المعفية من أي ضريبة. لا تقتصر اللائحة على هذه التجارب. فهناك ما هو أكثر كارثية يتصل بنقل احتكار الدولة لقطاع النفط الحيوي بعد التدمير المنهجي للمصفاتين إلى احتكار «كارتيل» من القطاع الخاص يجني أرباحاً خيالية على حساب المستهلكين... كذلك هناك مولّدات الكهرباء في الأحياء بديلاً من الاستثمار في تجهيز معامل إنتاج الكهرباء لتوفير التيار على مدار ساعات اليوم وبكلفة تتماشى مع مستويات المداخيل المحلية... وهناك الآبار الارتوازية التي تمثّل خطراً جدّياً على الموارد المائية الجوفية، فضلاً عن مئات الدكاكين والصهاريج التي تبيع مياه الدولة إلى المستهلكين بدلاً من أن توفّرها الدولة على مدار ساعات اليوم عبر الحنفيّات في البيوت كما في كل العالم... واللائحة تتضمن مصادرة الأملاك العامّة البحرية والنهرية وإقامة منتجعات مقفلة أمام أكثرية اللبنانيين الذين يمتلكون مجموعين الحق الكامل في هذه الأملاك... وهذا ينطبق على استراحتي صور وصيدا وغيرهما، ومغاور كثيرة وآثار تُعدّ موارد طبيعية أو إرثاً تاريخياً لا يجوز لأحد بيعه أو تأجيره تأجيراً دائماً أو مؤقّتاً... إلا أن ما اختبره اللبنانيون بصورة أوضح، وكانوا متحدين في مواجهة نتائجه نظراً إلى الأكلاف الباهظة التي تكبّدوها، وما زالوا بفعل عقود الشراكة مع القطاع الخاص، تشمل نشاطات وقطاعات تكتنز أرباحاً وعوائد ضريبية هائلة، ولا سيما عقدَي BOT لشركتي سيليس وليبانسل في القطاع الخلوي وعقد تلزيم سوكلين في قطاع النظافة وعقد امتياز ليبان بوست في قطاع البريد وعقد BOT المشبوه في مغارة جعيتا. فقد احتكرت شركتا سيليس وليبانسل قطاع الخلوي بين عامي 1994 و2002، وفرضتا أسعاراً مرتفعة جدّاً على المشتركين، علماً بأن الاستثمارات الأولى مُوّلت بواسطة الاشتراك الإلزامي الذي فُرض بقيمة 500 دولار لكل مشترك... وبعيداً عن مفاعيل الاحتكار وما ولّده من أرباح للشركتين، تكبّدت الخزينة خسائر تقدّر بأكثر من مليار دولار بسبب مسلسل الفضائح في هذا القطاع الذي يعرفه الجميع.
أمّا في عقود سوكلين، فقد كشفت التقارير والدراسات أن كلفتها تعدّ من الأعلى عالمياً، إذ إنّ طنّ النفايات الواحد في بيروت وبعض مناطق جبل لبنان يكلّف البلديات أكثر من 120 دولاراً (تقدّر الكلفة وفقاً لدراسات أكثر تفصيلاً بنحو 155 دولاراً للطن)، فيما المتوسط العالمي للكلفة يراوح ما بين 50 و70 دولاراً، بحسب دراسات البنك الدولي (الواردة في برنامج مجلس الإنماء والإعمار لأعوام 2006ـــــ 2009)... والجدير بالذكر أن وزارة المال أعطت الأولوية المطلقة لتسديد كلفة هذه العقود رغماً عن البلديات نفسها، فيما كانت توزّع ما بقي في الصندوق البلدي المستقل على جميع البلديات، وهو ما انعكس سلباً على أدائها. ولُزّمت ليبان بوست في عام 1998 وأعطيت الشركة الملتزمة حصرية العمل في البريد الرسمي في لبنان، ومنذ ذلك الوقت حصلت على امتيازات لم تحظَ بها أي شركة أخرى، فباتت تزيد أسعار خدماتها اعتباطاً، ومن دون الركون إلى أي مرجعية خاصة أو رسمية. وتقوم الشركة الآن بأعمال حصرية لأكثر من 40 خدمة لإنجاز معاملات المواطنين في وزارات الدولة وإداراتها، وهي تحاول حالياً الحصول على حصرية معاملات الضمان الاجتماعي... علماً بأن الشركة تستعمل مكاتب مديرية البريد والهاتف، وكانت تستعمل الهواتف المخصصة للدولة عبر وزارة الاتصالات مجّاناً، فضلاً عن عدم تسديد كلفة استعمال صناديق البريد ومردود الإيجارات... وتطول لائحة الاستعمالات، فيما أسعارها زادت بنسبة تصل إلى 50% منذ انطلاقتها إلى اليوم. كذلك لُزّمت مغارة جعيتا لشركة خاصة من خلال عقد BOT جرى بالتراضي بين وزارة السياحة وشركة «ماباس» في عام 1994، من دون أن يصدر مرسوم بذلك من مجلس الوزراء ومن دون قانون يجيز العملية وينظّمها، باعتبار أن مغارة جعيتا تصنّف مورداً طبيعياً لا يجوز التصرّف به إلا بموجب قانون. ويعدّ هذا التلزيم عبارة عن عمليّة قرصنة على الدولة، وفق وصف رئيس بلدية جعيتا، سمير بارود. فالشركة لم تكن مؤهلة للعمل في هذا القطاع، إذ كانت مسجّلة على أنّها شركة تجارية متخصصة في قطع الغيار، وقد أطلقت حملة قبل منحها العقد، لإيهام الرأي العام بأن كلفة إعادة تأهيل المغارة ستبلغ ملايين الدولارات. لكن هذا الاستثمار يؤكد أن مردوده كبير جداً، إذ بلغت العائدات السنوية من المغارة 1.4 مليار ليرة سنوياً، على أساس أن رسم الدخول يبلغ 5 آلاف ليرة. هذه بعض الأمثلة عن التجارب. فهل اللبنانيون مستعدون لتجريبها مجدداً وتحمّل أكلافها كرمى لعيون المصارف؟
مخالفة أحكام الدستورخُصّص الباب الرابع، البند (ب)، من الدستور للأحكام المتعلّقة بمالية الدولة، ويمكن من خلال قراءتها إدراك مدى إمعان الحكومة في مخالفتها جميعاً: ـــــ المادة 81: تفرض الضرائب العمومية ولا يجوز إحداث ضريبة ما وجبايتها إلا بموجب قانون شامل تطبّق أحكامه على جميع الأراضي اللبنانية دون استثناء. ـــــ المادة 82: لا يجوز تعديل ضريبة أو إلغاؤها إلا بقانون. (أعطيت الحكومة صلاحيات استثنائية بفرض الرسوم الجمركية، فباتت تسمّي ضريبة البنزين رسماً كذلك فإنها تدسّ في قانون الموازنة ضرائب وتعديلات ضريبية يحتاج إقرارها إلى قوانين مستقلّة). ـــــ المادة 83: كل سنة في بدء عقد تشرين الأول، تقدم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة ويقترع على الموازنة بنداً بنداً. (لا تلتزم الحكومة بالمهل الدستورية وهي تنفق وتجبي منذ عام 2005 من دونن موازنة). ـــــ المادة 85: لا يجوز أن يفتح اعتماد استثنائي إلا بقانون خاص. أما إذا دعت ظروف طارئة لنفقات مستعجلة، فيتخذ رئيس الجمهورية مرسوماً، بناءً على قرار صادر عن مجلس الوزراء، بفتح اعتمادات استثنائية أو إضافية وبنقل اعتمادات في الموازنة، على أن لا تتجاوز هذه الاعتمادات حداً أقصى يحدد في قانون الموازنة. ويجب أن تعرض هذه التدابير على موافقة المجلس في أول عقد يلتئم فيه بعد ذلك. (يجري فتح الاعتمادات الاستثنائية من دون مراعاة أحكام هذه المادّة، وتُعتمد تسمية سلفات الخزينة وتُنقل اعتمادات من احتياطي الموازنة إلى أبواب أخرى، وغالباً من دون أن يكون هناك قانون للموازنة أصلاً). ـــــ المادة 86: إذا لم يبتّ مجلس النواب نهائياً في شأن مشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعيّن لدرسه، فرئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة، يدعو المجلس فوراً لعقد استثنائي يستمر لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة. وإذا انقضى العقد الاستثنائي هذا ولم يبتّ نهائياً في مشروع الموازنة، فلمجلس الوزراء أن يتخذ قراراً، يصدر بناءً عليه عن رئيس الجمهورية مرسوم يجعل بموجبه المشروع بالشكل الذي تقدم به إلى المجلس مرعياً ومعمولًا به. ولا يجوز لمجلس الوزراء أن يستعمل هذا الحق إلا إذا كان مشروع الموازنة قد طرح على المجلس قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل. على أنه في مدة العقد الاستثنائي المذكور تجبى الضرائب والتكاليف والرسوم والمكوس والعائدات الأخرى كما في السابق، وتؤخذ ميزانية السنة السابقة أساساً ويضاف إليها ما فتح بها من الاعتمادات الإضافية الدائمة ويحذف منها ما أسقط من الاعتمادات الدائمة وتأخذ الحكومة نفقات شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على القاعدة الاثني عشرية. (إن هذه المادّة تعني أن القاعدة الاثني عشرية تنطبق على شهر واحد من كل سنة هو شهر كانون الثاني فقط، فيما الحكومة تعمد إلى الإنفاق على أساس هذه القاعدة منذ 6 سنوات، بل إنها انفقت في بعض السنوات على أساس مشروع الموازنة غير المقدّم إلى المجلس النيابي، وهذه الممارسات تُعدّ من أهم المخالفات الدستورية المسجّلة) ـــــ المادة 87: إن حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة التالية التي تلي تلك السنة، وسيوضع قانون خاص لتشكيل ديوان المحاسبة. (تجري الآن مناقشة مشروع موازنة عام 2010 قبل تقديم الحسابات بين عامي 2005 و2007 إلى المجلس النيابي). ـــــ المادة 88: لا يجوز عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه إنفاق من مال الخزانة إلا بموجب قانون. (كل اتفاقيات باريس 3 هي باطلة بموجب هذه المادّة). ـــــ المادة 89: لا يجوز منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أي احتكار إلا بموجب قانون وإلى زمن محدود. (اقتراح قانون الشراكة مع القطاع الخاص الذي رُبط مشروع الموازنة به هو باطل وفقاً لهذه المادّة).
كنعان يسأل الحكومة: لماذا التأخير؟يرى رئيس لجنة المال والموازنة النيابية إبراهيم كنعان أن مشروع موازنة 2010، بصيغته الحالية، يتضمّن أقل من 8 في المئة من البنود الدستورية، فيما البنود الباقية «مدسوسة» في الموازنة لتهريب قوانين وتعديلات ضريبية وإدارية وغيرها! هذه المخالفات، دفعت النائب كنعان الى توجيه سؤال الى الحكومة عبر رئاسة مجلس النواب أمس، يتمحور حول تأخير إعداد الموازنة العامة غير المبرّر، والذي يتخطى الاصول الدستورية والالتزامات التي أخذتها الحكومة على نفسها في بيانها الوزاري، الذي نالت الثقة على أساسه. وجاء في السؤال: - إن آخر موازنة مصدّقة من المجلس النيابي تعود لعام 2005 وقد جرى تصديقها في مطلع عام 2006، أي بعد انتهاء سنة الموازنة. أما مشاريع الموازنات العامة العائدة للأعوام 2006 و 2007 و 2008 فلم يجر تقديمها إلى المجلس النيابي. - كنا نأمل أن تتقدم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الثانية بمشروع الموازنة العامة لعام 2009، إلا أن ذلك لم يحصل، لا بل إن هذه الحكومة قد اتخذت قراراً بتنفيذ مشروع موازنة العام المذكور كما أعدته وزارة المال، وأنفقت خلال عام 2009 على هذا الأساس، فخاب أملنا. - نص البند 15 من البيان الوزاري لحكومة الرئيس سعد الدين الحريري على ما يلي: تتعهد الحكومة بالتقدم من مجلس النواب بمشروع موازنة لسنة 2010 يجسد التوجهات الواردة في هذا البيان في مهلة أقصاها نهاية شهر كانون الثاني 2010 يجري إقرارها بعد إقرار مشاريع قوانين الموازنة للأعوام السابقة، فاستبشرنا خيراً، آملين أن يقدّم مشروع الموازنة العامة لسنة 2010 متأخراً أفضل من أن لا يقدم أبداً. إلا أن أملنا قد خاب للمرة الثانية، فقد انقضى شهر كانون الثاني 2010 دون أن تنفذ الحكومة ما التزمت به. واستمر الوضع على هذا المنوال لغاية الرابع عشر من نيسان 2010 حين رفعت وزيرة المال مشروع الموازنة العامة لعام 2010 إلى رئاسة مجلس الوزراء. كنا نأمل أن تعوّض الحكومة عن التأخير الحاصل بالإسراع في دراسة المشروع في مجلس الوزراء، إلا أن أملنا قد خاب للمرة الثالثة إذ إن شهراً إضافياً يوشك أن ينقضي دون أن تباشر الحكومة بدرس المشروع تمهيداً لإقراره وتقديمه إلى المجلس النيابي، لافتاً الى أن حكومة الرئيس سعد الحريري قد باشرت التمرّس بتجربة حكومتي الرئيس فؤاد السنيورة اللتين استسهلتا الإنفاق على أساس القاعدة الاثني عشرية. وأشار كنعان الى أن حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تلي تلك السنة. وبالتالي، فإنّ الحسابات المالية العائدة للسنوات من 2005 ولغاية 2007 ضمناً لم تقدّم إلى المجلس النيابي، ما يستوجب تقديمها ودرسها قبل الموافقة عليها وقبل درس حسابات السنة المالية 2008 المقدّمة والموافقة عليها. وانطلاقاً من دور ممثلي الشعب اللبناني في الرقابة على أعمال الحكومة المكرّس دستورياً (المادة 43)، وبموجب النظام الداخلي لمجلس النواب (المواد 124 وما بعدها)، نسأل الحكومة عما يلي: 1- أسباب عدم التزامها بالمهلة المحددة في بيانها الوزاري الذي نالت ثقة المجلس النيابي على أساسه لجهة تقديم مشروع الموازنة العامة لعام 2010 قبل نهاية شهر كانون الثاني 2010. 2- أسباب عدم المباشرة بدرس مشروع الموازنة العامة لعام 2010 في مجلس الوزراء بعد أن أحيل المشروع إلى رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 14 نيسان 2010. 3- المهلة اللازمة للحكومة لدرس مشروع الموازنة العامة لعام 2010 في مجلس الوزراء وتقديمه إلى المجلس النيابي. 4- المهلة اللازمة للحكومة لتقديم الحسابات المالية العائدة لعام 2008 وبالتالي الحسابات المالية المتأخرة العائدة للسنوات من 2005 ولغاية 2007 نظراً لترابط حسابات أي سنة مالية بنتائج حسابات السنة المالية السابقة لها.
صور- آمال خليل يُتمّ اليوم جاد عصام الحاج علي، ثلاثة أشهر وعشرة أيام من عمره في هذه الدنيا. لكنّ الطفل الذي يترعرع في حضن عائلته اللبنانية على أراضي الدولة اللبنانية، في بلدة معركة (قضاء صور)، ليس له أيّ وجود في سجلّاتها، ليس لأنّ والده لا يملك أوراقا ثبوتية، أو لأنه يرفض تسجيله، بل لأنه لا يملك مذهباً دينياً. فقد شطب عصام وزوجته، أحلام، القيد الطائفي من سجل أحوالهما الشخصية، وبالتالي، سُجّل أطفالهما الثلاثة، في إطار الحملة الدورية التي تنظّمها الأحزاب والمنظمات العلمانية، والتي بدأت منذ أقل من عامين. ومنذ أكثر من عام، لم يعد لعصام وأسرته أيّ ذِكر لمذهبهم الطائفي على إخراج القيد الفردي، والعائلي الخاص بهم، بالنسخ الجديدة المعدّلة التي استحصلوا عليها، على غرار مئات اللبنانيين الآخرين الذين اشتركوا في تلك الحملات، التي سُجل آخرها في نيسان الفائت. استشار عصام، كما يروي لـ«الأخبار»، قانونيّين ورجال دين قبل القيام بهذ الخطوة، إيماناً منه بأنّ «النظام اللبناني مبنيّ على تقسيم طائفي يتحكّم في توزيع الوظائف والخدمات والحقوق، ما قد يحمل تداعيات إدارية وقانونية ومجتمعية إليه وإلى أولاده»، لكنه اطمأنّ إلى أن الأمر ليس منافياً للشرع أو للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء. وأكثر ما عزّز ثقته هو التعميم الصادر عن وزير الداخلية زياد بارود إلى مديرية الأحوال الشخصية ورؤساء أقلام النفوس «بقبول عدم تصريح صاحب العلاقة عن القيد الطائفي، وقبول طلبات شطبه من السجلات النفوس، كما ترد دونما حاجة إلى أيّ إجراء إضافي». واستمدّ بارود تعميمه من «حقّ كل مواطن في عدم التصريح عن القيد الطائفي في سجلات الأحوال الشخصية، أو شطب هذا القيد، المستمد من أحكام الدستور اللبناني، الذي كرس، في المادة التاسعة منه، حرية الاعتقاد»، إلّا أنّ تعميم وزير الداخلية لا يعني إلغاء القيود لجميع اللبنانيّين.
في الانتخابات البلدية ورد اسم عصام دون مذهب في لوائح الشطبلكن ما حصل هو أنّ قلم النفوس في سرايا صور بتاريخ 12 نيسان الفائت، رفض إضافة ابنه جاد إلى السجلات بعد ولادته «لأن والده شاطب مذهبه، والطفل يتبع مذهب والده». وبعد أيام من الأخذ والرد بين عصام والموظفين المسؤولين لتسوية الأمر «الذي لم يسبق ورود مثيله أمامهم»، حُوّلت معاملته حاملةً الرقم 811 في 27 نيسان إلى محافظة الجنوب، ثم إلى مديرية الأحوال الشخصية في وزارة الداخلية للنظر فيها وتسوية وضع جاد، الذي لا يزال خارج الحياة بنظر الدولة اللبنانية حتى اليوم»، يقول عصام. علماً بأنّ المعاملات الأخرى التي تقدّم بها عصام إلى الدوائر الرسمية بشأنه وعائلته جرت بالشكل المعتاد. ومنها، اشتراكه في الانتخابات البلدية الأخيرة، حيث ورد اسمه في لوائح الشطب من دون ذكر مذهبه. ويشير عصام إلى أنّ ذلك لم يستدعِ اعتراضاً من رئيس القلم. من هنا، يسأل عن نسبة تسلسل القوانين اللبنانية التي تناقض نفسها، إذ «تقرّ بحريّة المعتقد من جهة، وتعوق التخلص منه من جهة أخرى»، مشيراً إلى أنّ «النظام اللبناني لا يريد ابني جاد كمواطن بل كمذهبي ينتمي إلى طائفة ما». يبدو أنه ليس ذنب جاد وحده الإشارة (/) التي فضّلها والده لتحل محل نوع مذهبه الطائفي في الخانة المخصصة للمذهب في قيود الأحوال الشخصية، بل إنها أصبحت ذنب كل من قام بهذا الفعل. إذ إن مديرية الأمن العام رفضت قبل أشهر طلب أحد «الشاطبين» التقدم إلى الانضواء في صفوفها، لأن أوراقه الثبوتية غير مكتملة. عدم الاكتمال في رأي الأمن العام يكمن في عدم الإشارة إلى مذهبه الطائفي في إخراج قيده الفردي. أمّا التسوية التي توصّل إليها معهم بعد استشارة وزير الداخلية، فهي قبول قيده الفردي بشرط إبراز قيده العائلي لتبيان طائفته. في المحصّلة، فضّل المواطن الشاب العدول عن فكرة الانضواء في الأمن العام. الموقف ذاته، تكرّر قبل أيام مع «شاطب» آخر رُفض طلب تقدمه إلى الأمن الداخلي للسبب ذاته، في ظل تخييره بين العودة عن شطب المذهب أو إبرازه ما يبيّنه في مواقع أخرى.
عدد الخميس ١٧ حزيران ٢٠١٠ |لا يكفّ الدور التركي عن طرح مزيد من التساؤلات بشأن «وظيفة» تركيا الراهنة في المنطقة: هل هي استمرار لدور سابق في حلّة جديدة، أم هي وظيفة جديدة أملتها جملة مصالح ومتغيّرات وتناقضات وتفاعلات تركية وإقليمية ودولية؟ يزداد طرح هذه التساؤلات، كما ذكرنا، مع كلّ مبادرة تضطلع بها الحكومة التركية. آخر هذه المبادرات، وربّما أهمها، المساهمة المباشرة والنشيطة من رئيس الوزراء التركي ووزير خارجيته، مع الرئيس البرازيلي، في التوصّل مع الحكومة الإيرانية إلى اتفاق بشأن بعض جوانب الملف النووي الإيراني. في هذا العنوان، كما في سواه، يزداد الجدل حول «حقيقة» الدور التركي. ولقد أُتيح لي في الأسبوع الماضي، أثناء زيارة إلى كبرى المدن التركية اسطنبول، لحضور ندوة عن متغيّرات الوضع في المنطقة، وكذلك في لقاءات حوار مع قادة في الحركة اليسارية التركية، أُتيح لي أن أستمع إلى وجهة نظر تجزم بأنّ الدور التركي الراهن، إنّما هو دور منسّق بالكامل مع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما. إنّ هؤلاء المعارضين اليساريين الذين دخل بعضهم السجون التركية مرات عديدة، ولسنوات طويلة، يؤكّدون أنّ حزب «العدالة والتنمية» (الذي بات يُعرف بالأبيض) قد حظي ولا يزال، برعاية أميركية لطالما عبّر عنها مبكرًا ومباشرة أو غير مباشر، رجل الحزب القوي وزعيمه رجب طيّب أردوغان، من خلال القول إنّ تجربة تركيا هي لإثبات «أنّ الإسلام لا يتعارض مع الديموقراطية». وتعود جذور التخلّي الأميركي عن «حكم الجنرالات» إلى مرحلة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش. وكان دعمه للتغيّر في تركيا جزءًا من أسلحته في الحرب على «الإرهاب» الأصولي الذي يمارَس باسم الإسلام، السنّي منه خاصة. يضيف هؤلاء أنّ مصالح البورجوازية التركية كانت تستدعي مثل هذا التغيير في الفريق الحاكم وفي الأسلوب وفي العلاقات. فحكم العسكر الذي اعتمد التغريب والقمع والفرض والإكراه، قد وصل إلى طريق مسدود. فهو، من جهة، مرفوض أوروبيًا لأسباب اقتصادية وديموغرافية (ولو كانت الأسباب المعلنة سياسية)، وهو من جهة ثانية، ملحق بالولايات المتحدة وبحلف الأطلسي وبالغرب وبإسرائيل، بما يمنعه من أن يلعب دورًا إقليميًا يتعدّى دور الهراوة الأمنية الحائلة دون الانفتاح المطلوب على المحيط الشرق أوسطي عمومًا والعربي خصوصًا. ويردّ هؤلاء اليساريون سبب الانفتاح التركي النسبي لأردوغان وحكومته وحزبه في الداخل، كما في الخارج، إلى تشجيع أميركي أيضاً، وخصوصًا لدعم أردوغان في مواجهة البيروقراطية العسكرية. ومعروف تماماً أنّ الجيش والمحكمة الدستورية العليا هما أداة النظام العسكري التركي في البقاء في السلطة وفي الاحتفاظ بها. ويضيف أصدقاؤنا أنّ أوباما قد ذهب أبعد في دعمه للنظام السياسي الراهن في تركيا، وخصوصًا بعد فشل استراتيجية الرئيس السابق جورج دبليو بوش. ويردّ هؤلاء ما يسمّونه المناكفات التركية مع القيادة الإسرائيلية الراهنة، إلى ضيق أوباما بهذه القيادة التي تمنع من خلال تطرّفها وسياساتها وإجراءاتها، كلّ انفراج في الموضوع الفلسطيني الذي هو لبّ الصراع في المنطقة. ومعروف أنّ قيادة أركان الجيوش الأميركية قد قدّمت طلبات واضحة للرئيس أوباما بضرورة إحراز تقدّم في معالجة الملف الفلسطيني، لأنّ من شأن ذلك أن ينعكس إيجابًا على سلامة الجنود الأميركيين في المنطقة. والمقصود بذلك طبعًا، إضعاف قدرة «المتطرّفين المسلمين» والعرب على استخدام مأساة الشعب الفلسطيني لتعزيز المواجهة وتأجيجها مع الجيوش والمصالح الأميركية في المنطقة! يذهب أصدقاؤنا الأتراك في تحليلهم هذا إلى أقصى درجات الوثوق والاطمئنان. وينطلقون من ذلك، أي من كون الدور التركي الرسمي الراهن منسّقًا مع واشنطن وفي خدمة متغيّرات سياستها، من أجل تصعيد معارضتهم للحكومة التركية التي يقودها حزب «العدالة والتنمية» بزعامة رجب طيّب أردوغان. وهم، في هذا السياق، يتحدّثون بزهو شديد عن احتفالهم الرسمي بعيد الأوّل من أيار الجاري. فقد أجازت الحكومة، رسميًا، الاحتفال. وتمكّن المنظّمون من أن يحشدوا حوالى ثلاثمئة ألف مواطن في ساحة «تقسيم» في وسط اسطنبول، المدينة التركية الأهم والأكبر والأكثر ضجيجًا بالحركة السياسية والسياحية والاقتصادية في آن واحد. وأهمية الأوّل من أيار هذه السنة أنه كرّس، حتى إشعار آخر، نهاية مرحلة المنع والقمع بعدما كان أحد التجمّعات في أوّل أيار عام 1973 قد تحوّل إلى ما يشبه المجزرة حين قتلت قوات السلطة من جيش وقوى أمن، سبعة وأربعين متظاهرًا، فضلاً عن مئات الجرحى! لا تفتقر وجهة النظر هذه إلى براهين إضافية لإثبات جديّتها. لكنّها، مع ذلك، غير كافية لإثبات أنْ «ليس بالإمكان سوى ما يقرّره الأميركان»! لا شكّ بأنّ مراكز القرار الأميركية: في الإدارة وكتل المال والمجمع الحربي ــــ الصناعي وفي الاحتكارات الكبرى، تبحث عن بدائل للسياسات التي اعتمدتها الإدارة البوشية السابقة. وهي، في مجرى هذا البحث، تشجّع سياسات جديدة في تركيا وفي سواها. لكنّ ذلك لا يعني أبدًا، أنّها تمتلك كامل القدرة على التحكّم بمجريات الأمور على النحو الذي يراه أحد أطراف المعارضة في الداخل التركي. إنّ ثمّة عوامل أخرى أساسية، في تحديد التوجّهات التركية الراهنة وبلورتها، ومنها: إخفاقات السياسة الأميركية في المنطقة وفي العالم على المستويين الاستراتيجيين العسكري والمالي. إخفاقات العدو الإسرائيلي التي برزت خصوصًا في عدوانه في تموز عام 2006 على لبنان وفي أواخر عام 2008 على غزة. تضعضع مواقع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، مما جعل الفراغ الذي خلّفه التعثّر والإخفاقات الأميركية والإسرائيلية يغري بملئه: والأقربون أولى بالمعروف في كلّ من تركيا وإيران وصولاً إلى البرازيل وفنزويلا...! إنّ متغيّرات كبيرة هي التي ترعى وتشجّع سياسات ومبادرات وتوجّهات تحصل في غير منطقة من العالم. وفي مجرى ذلك تتقدّم قوى نحو البحث عن أدوار وبلورة «وظائف» ارتباطًا بمصالح وبتنافس كتل ومجموعات اقتصادية يتعاظم حجمها وتتزايد قدراتها في أربع أرجاء المعمورة، وخصوصًا: الصين والهند والبرازيل وتركيا وإيران... السؤال يبقى: ماذا عن الدور العربي؟ بدايات التحوّل والتغيير ما زالت خجولة. وهي، إذا قيست بالتحديات التي يواجهها الوضع العربي والمصالح العربية، ما زالت دون المستوى إلى درجة مقلقة.
سعد الله مزرعاني
من حقّ رئيس الحكومة سعد الحريري الإعلان أن لا شيء سيفرّقه عن الرئيس فؤاد السنيورة. ولا يملك المرء إزاء ذلك إلا القول: «اللّه يديم الوفق» أو «اللّه يوفّق لنصفّق»، على أمل ألّا يتحوّل الوفاق بين الرجلين إلى مصدر إلهام يمارسه رئيس الحكومة السابق على الرئيس الحالي.لكن، ما هو غير مفهوم إعلان الحريري أنّ السنيورة «خطّ أحمر». وغير المفهوم يصبح مستنكراً حين يأتي إعلان «الخط الأحمر» بعد نشر صحيفة («الأخبار» أو سواها) تحقيقاً عن نفوذ السنيورة المستمرّ داخل أقبية السلطة، وعن صفقات أصدقائه وحاشيته. والمستنكَر يصبح غير مسموح به حين يرى رئيس حكومة أنّ قيام صحافيّ بواجبه هو طعن بكرامات الناس.إن كان من خطّ أحمر في هذه المسألة، فهو سلوك رئيس الحكومة الذي لا يمكن تفسير كلامه إلا محاولةً لإسكات أيّ اعتراض على الأشخاص المقرّبين منه. فهذا سلوك يلغي ما بقي من فسحة حريّة في هذه البلاد. اللهمّ إلا إذا كان الحريري يتصوّر مستقبل الصحافة في لبنان على غرار الصحف التي تحتكر تصريحاتُه مانشيتاتها، أو تلك التي تتبنّى على صفحتها الأولى بيانات كتلة المستقبل من دون تحفّظ، ومن دون وضعها حتّى بين مزدوجين. ثمّة بين مستشاري الحريري من ينبغي أن يفسّر له أنّ مستقبل الصحافة مختلف عن صحافة المستقبل، رغم التشابه اللفظيّ بين الاثنين.غير أنّ ثمّة مفارقة في سلوك الحريري وكلامه المستمرّ على الخطوط الحمر. فبعد أبلسة كلّ من يتفوّه بكلمة نقد لسياسات الرئيس المغدور رفيق الحريري، رفع الوريث شعار «بيروت خط أحمر». وحين كان مخيّم الفقراء في نهر البارد يتعرّض للتدمير، رفع شعار «الجيش خط أحمر». والآن، ينضمّ فؤاد عبد الباسط السنيورة إلى ثوابت «ثورة الأرز»، فيعلنه الرئيس الشاب خطّاً أحمر. المفارقة تكمن في أنّ الحريري يقود تيّاراً يرفع شعار «حبّ الحياة» في مواجهة حزب اللّه. وهو، حين يملّ من التحريض المذهبي، لا يجد إلا تقديم نفسه كـ«ليبراليّ» يعد اللبنانيين بالتسامح والانفتاح و«ثقافة الوصل» والحوار، في مقابل ما يسمّى «ثقافة الموت» والتحريم.فلندع كلّ ذلك جانباً، ولننتقل إلى الأهمّ. حين يتكلّم الحريري كرئيس طائفة يتوجّه إلى رعاياه، يمكنه الحديث عن خطوط حمر يفرضها باسم طائفته على الطوائف الأخرى. أمّا حين يتكلّم كرئيس حكومة يتوجّه إلى المواطنين، فعليه أن يعرف أنّه موظّف يقبض راتبه من الشعب اللبناني، ويخضع هو وأصدقاء والده لأحكام الدستور، ولرقابة السلطة الرابعة.
أحدث تطبيق الليبرالية الجديدة على الصعيد العالمي تشوّهات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية. فقد ضاعفت الفروقات الطبقية داخل معظم بلدان العالم، كما بين دول الشمال ودول الجنوب. ودفعت إلى مراكمة جبال من المديونية لدى العديد من بلدان المراكز الرأسمالية ودول الأطراف، وأطلقت العنان لتحكم القطاع المالي بالاقتصاد، وتحويل الأسواق المالية إلى ناد عالمي للمقامرة. راكم كل ذلك تشوّهات اقتصادية كبيرة، دفعت النظام إلى أزمة بنيوية، ستفرض في النهاية تغييرات عميقة في بنيته ومؤسساته. إن دراسة تجارب الخصخصة في دول العالم الثالث، تظهر أن لا قيود فيها لحماية المال العام، ومنع إنشاء احتكارات خاصة، وإنتاج سلع أفضل بسعر أقل. في معظم هذه التجارب، نَهبت رؤوسُ أموال محلية وخارجية القطاعَ العام، وتكوّنت احتكارات ترفع الأسعار بمواكبة إنتاج سلع وخدمات أقل جودة. وبعيداً عن التوجهات والضوابط التي حكمت سياسات الخصخصة في بعض دول المراكز الرأسمالية مثل بريطانيا، وأحدثت هزات إيجابية في إطار أداء الاقتصاد البريطاني، ولو على حساب تراجع مؤشرات العدالة الاجتماعية وعلى حساب بعض الحقوق المكتسبة للطبقة العاملة، فإن سياسات الخصخصة كانت سلبية جداً في معظم دول العالم الثالث، على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إذ جرت في بيئة سياسية فاسدة، وسوق مالية غير ناضجة وبنية احتكارية للسوق، وغياب مؤسسات المراقبة والمحاسبة، كما هي الحال في لبنان.
البيئة اللبنانية
(1) إن البنية الأساسية للاقتصاد اللبناني هي بنية احتكارية تطال جميع القطاعات، وتغيب عنها المنافسة الحرة، والقوانين اللبنانية متضاربة في موقفها من مبدأ الاحتكار. فهناك قانون حماية الوكالات الحصرية الذي يشجع المحتكرين ويحميهم، والصادر سنة 1967، وقانون آخر يمنع الاحتكار والحد من المنافسة، صدر إبان حكم أمين الجميل سنة 1983، وهو غير مطبّق ولم يطبّق في الماضي. (2) لا يملك لبنان سوقاً مالية رسمية (بورصة)، شفافة ومراقبة، إذ خُصخصت هذه السوق دون قانون. وهذه السوق غير مؤهلة لإظهار السعر الحقيقي لأي قطاع يطرح للتخصيص، ولو طُرحت أسهمه في البورصة. وهناك قانون جديد لإنشاء سوق مالية رسمية شفافة ومراقبة، وُضع في مصرف لبنان سنة 1996، وحُوّل إلى وزارة المالية، حيث ينام هناك في سبات عميق، بطلب من جمعية المصارف على ما يبدو، ولم يخرج منه بعد. (3) استشراء الفساد وتعطيل مؤسسات المراقبة والمحاسبة. فمنذ وصول الرئيس رفيق الحريري إلى السلطة، عُطّل ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي. كما عُطّل الدور الرقابي للمجلس النيابي. فمنذ خمس سنوات لم تقدم الحكومة اللبنانية مشروع موازنة ولم تتقدم من المجلس بقطع حساب أعمالها للسنوات الخمس الماضية، ولم يحتج المجلس النيابي إلى ذلك. والجميع في لبنان يتكلم عن الهدر والسرقة في القطاع العام، الذي يبلغ 1.5 مليار دولار سنوياً على الأقل. ومعظم المرتكبين معروفون ومحميون، ولم يطبق قانون «من أين لك هذا» رغم ظهور الثراء الواسع على معظم رجال السياسة وكبار الإداريين، ورغم أن هذا القانون وُضع في الخمسينيات من القرن الماضي. في هذه البيئة تحصل عمليات الخصخصة في لبنان، وكانت أولاها قطاع البريد. استفاد الحريري عند وصوله إلى رئاسة مجلس الوزراء، بمواكبة ألف طبل وزمر محلياً وإقليمياً، على صورة المنقذ للبنان، القادر على انتشال البلد من محنته، فدفع بسياسة تخصيص البريد دون معارضة فعلية. فقد خُصخص البريد علناً، بسرعة كبيرة، وخارج كل المقاييس السليمة. ورُفعت الرسوم البريدية أضعاف معدلاتها السابقة، بالقيمة الحقيقية، ما جعل كلفة البريد العادي قريبة جداً من كلفة البريد السريع عالمياً (DHL)، ومن ثم بيعت لشركة كندية. وبالرغم من ذلك صُرف العديد من الخدمة، وأصبحت خدمات الشركة الجديدة أكثر سوءاً. ثم رُخّص لإقامة شركة للهاتف المحمول، التي وضعت رسوماً باهضة جداً لثمن الهواتف والخدمات، وسُوّقت الهواتف والخطوط قبل انطلاق الخدمات، فحققت الشركة أرباحاً كبيرة بعد استرداد رؤوس الأموال الموظفة، قبل إطلاق خدماتها الفعلية. ثم رُخّص لشركة ثانية، ثم تأمّمت الشركتان بخطوة مشبوهة، وضد المنطق السائد لدى الحكم، وكلف هذا التأميم الذي فسخ العقود مع الشركتين مبالغ طائلة، ليعاد طرح خصخصة إدارة الشركتين، وإعطاء الإدارة لشركات أجنبية. ثم يعاد طرح خصخصة القطاع بالكامل أو تأجيرهما لمدة عشرين سنة، ومقابل مبالغ تقل كثيراً عن القيمة الحالية لهذه الريوع المستقبلية، مع احتساب أعلى الفوائد المتوقعة مستقبلاً في السوق.
وبسبب البنية السياسية للبنان، التي تمنع قيام حكم مركزي مستقر قادر على فرض سياسات استبدادية تتخطى القوى السياسية والطائفية الفاعلة، وقمع الرأي الآخر، لم تستطع الحكومات الحريرية المتعاقبة حتى اليوم، فرض رؤيتها وإرادتها الاقتصادية فرضاً شاملاً، وخاصة في إطار سياسات الخصخصة. فقد أثارت هذه السياسات الكثير من الجدل السياسي والاقتصادي، وبالتالي الكثير من النقد والمعارضة. لذلك لجأت الحكومات الحريرية إلى أساليب ملتوية لتهريب خصخصة بعض القطاعات كلياً أو جزئياً. وإلى التمهيد لخصخصة قطاعات أخرى عبر سياسات تعطيل مؤسسات القطاع العام وشل عملها ودفعها إلى الترهّل، ودفع بعضها لتحقيق خسائر تشغيلية كبيرة، لينعكس كل ذلك سلباً على الموازنة العامة كما على حياة المواطنين ودفعهم إلى اللجوء إلى القطاع الخاص لتأمين حاجاتهم من بعض السلع والخدمات. وإقناعهم بضرورة اللجوء إلى خصخصة هذه القطاعات. كذلك جرى تخصيص كلي أو جزئي لبعض القطاعات عبر انسحاب تدريجي للقطاع العام منها، وتوسيع دور القطاع الخاص فيها. والأمثلة عديدة جداً في هذا المضمار، مثل ما حصل في قطاعات الإعلام المرئي والمسموع، التعليم، وخاصة التعليم الجامعي، النقل، والمواصلات، والاتصالات، النفط، الكهرباء، الصحة والبيئة، الأشغال العامة، المياه وغيرها. لذلك سنعمد إلى طرح ما حصل في بعض القطاعات، لا في كل القطاعات، كأمثلة على سياسات الحكومات الحريرية.
قطاع النفط
كان قطاع النفط قطاعاً عاماً بامتياز، قوامه أنابيب النفط من السعودية والعراق، ومصفاتان للتكرير عند مصب الأنبوبين في الزهراني وطرابلس، وفي سنة 1993 شُغّلت المصفاتان تشغيلاً خاطئاً ودون صيانة رغم تحذيرات الخبراء في المصفاتين، وعُطّلتا ووضعتا خارج العمل دون صيانة أيضاً بغية الحفاظ عليهما. كانت كلفة التصليح والصيانة في ذلك الحين لا تتجاوز 150 مليون دولار، وثمن المصفاتين حوالى المليار دولار. وتركت المصفاتان للاهتراء، وتحوّلتا إلى خردة لا قيمة لها. وبالرغم من نشر دراسات جدوى اقتصادية عديدة تظهر ربحية إعادة بناء معامل التكرير، فإن الحكومات المتعاقبة لم تعر هذا الموضوع الاستراتيجي أي اهتمام، وأصبح لبنان يعتمد على استيراد المشتقات النفطية منذ ذلك الحين. وسرعان ما انسحب القطاع العام من مهمة الاستيراد لمصلحة القطاع الخاص. فقد أُنشئت شركات جديدة يملكها كبار السياسيين من قادة الطوائف والميليشيات، انضمت إلى شركات أجنبية كانت تعمل في إطار توزيع المشتقات النفطية، لتأليف مجموعة احتكارية (كارتيل) تتحكم بسوق المشتقات النفطية استيراداً وتوزيعاً. واستولى على خزانات النفط في الزهراني وطرابلس بعض الشركات، وبُنيت خزانات جديدة ومرفأ أيضاً لهذه المهمة. وبذلك خُصخص قطاع النفط في لبنان دون نقاش ودون قانون. ونتج من ذلك ارتفاع في أسعار المشتقات غير مبرر، وتذبذب دائم في العرض. وتُسعّر المشتقات أسبوعياً، وحسب معادلة سرية جداً في وزارة الطاقة، يقال إنها مبنية على معدل أسعار النفط الخام لأربعة أسابيع. وعندما تتجه أسعار النفط عالمياً إلى الارتفاع، تعمد الشركات الاحتكارية في لبنان إلى «تعطيش» السوق وتخزين أكبر كمية ممكنة من المشتقات لكسب فروقات ارتفاع الأسعار. وعندما تتجه أسعار النفط إلى الهبوط يجري تأخير الاستيراد، وتفتقد المشتقات في السوق أيضاً في معظم الأحيان، وخاصة في مراحل التذبذبات الحادة في أسعار النفط. وبيعَ «الفيول أويل» إلى شركة كهرباء لبنان بأسعار تزيد كثيراً عن أسعار السوق العالمية، ورفض لبنان عروضاً عديدة، منها عرض جزائري لتوريد «الفيول أويل» و«الغاز أويل» بأسعار مدعومة، بدعوى أن مواصفات «الفيول أويل» تلك لا تتلاءم مع المعامل الحرارية اللبنانية، بالرغم من أن الوقود المستعمل فعلياً في هذه المعامل هو من أسوأ أنواع الوقود «وقود من الدرجة الثالثة»، الأكثر تلويثاً للبيئة بسبب ارتفاع نسبة الكبريت فيه.
قطاع الكهرباء
بالرغم من الكلام الكثير عن «كفاءة» الإدارة الحريرية ودورها الكبير في إعادة إعمار لبنان وتجديد بنيته التحتية، ورغم إنفاق أكثر من خمسة مليارات دولار على قطاع الكهرباء، فإن أزمة هذا القطاع آخذة في التفاقم. وما زالت سياسات تقنين الطاقة هي السائدة، المواكبة لتوسيع دور المولدات الخاصة، الأقل كفاءة، والأكثر تلويثاً للبيئة، والتي أصبحت تنتج أكثر من 35% من الطاقة المستهلكة في لبنان. ومنذ وصول الحريري إلى السلطة، أُدخلت كهرباء فرنسا (EDF) إلى قطاع الطاقة الكهربائية (خصخصة جزئية). فأصبحت هي الجهة الاستشارية المعتمدة، دون الخبراء اللبنانيين المشهودة خبرتهم، والعاملين على الصعيد العالمي. وبالتالي أصبحت EDF مسؤولة عن أخطاء التخطيط والتنفيذ والتشغيل، كما عن سوء سياسات الطاقة المعتمدة. ويذكرنا دور EDF في لبنان بكتاب جون بركنز “Confessions of an Economic Hitman”. وسيقدم خبراء EDF في الشهر الثالث من سنة 2010 التصاميم اللازمة والمتصلة بمناطق بناء المجموعات الجديدة، ومواصفاتها، مع محطات التحويل والتوزيع، بغية تأمين طاقة إضافية قدرها 700 ميغاوات. ومن المعروف أن نسبة العمولة لأصحاب القرار في تلزيم المحطات جد مرتفعة. والتجارب السابقة في بناء المعامل الحرارية وشبكات التوزيع وبإشراف EDF أظهرت عند استلام الأشغال مخالفات كبيرة وعيوباً في «المراجل» كما في «التوربينات»، وعندما رفض المهندس المسؤول في كهرباء لبنان استلامها قُدّم للمحاكمة بحجة تأخير الإنتاج، وحُكم عليه. وبإشراف EDF تم في السابق بناء قدرات إنتاجية للطاقة، دون تطوير قدرات الشبكة على نقلها وتوزيعها، مما منع من رفع الإنتاج إلى مستوى الطلب الفعلي، وأُبقي على سياسات التقنين، وكان ذلك في أواخر التسعينيات من القرن الماضي. وبالرغم من إعادة بناء أجهزة الدولة القضائية والقمعية، لم تظهر الحكومات المتعاقبة أية حماسة لمنع السرقات على الشبكة. فمنذ سنة 2000 بلغت هذه السرقات حوالى 29%، وبلغ الهدر الفني حوالى 15%، أي إن مجمل الهدر كان حوالى 40% ثم ارتفع إلى أكثر من 42% في ما بعد. ولا تحصل سرقة الطاقة، أو عدم جبايتها في المناطق «الأمنية» العاصية على السلطة فقط، بل أيضاً في أرقى أحياء بيروت. وتعمل الحكومات اللبنانية المتعاقبة على إضعاف مؤسسة كهرباء لبنان، وإبراز عجزها بوسائل شتى أهمها: أ. إضعاف الجهاز البشري للمؤسسة: فالحكومة لا تسمح بتوظيفات جديدة وبديلة من الكفاءات التي جرى «تطفيشها» أو إحالتها إلى التقاعد من فنيين وإداريين. فالجهاز البشري، كما يقول رئيس مجلس الإدارة، يتألف حالياً من 2000 عامل وموظف، مقابل ملاك يتطلب 5020 عاملاً وموظفاً. وبسبب هذه السياسات، ارتفع معدل إعمار العاملين في المؤسسة إلى 57 عاماً. وبالتالي أجبرت المؤسسة على التعاقد مع «متعهدين غب الطلب» يبلغ عددهم حوالى 1800 عامل مياوم (خصخصة جزئية مع «تحرير» سوق العمل). واستُغني عن العديد من مهندسي المؤسسة وتقنييهم أو دُفعوا إلى الاستقالة بأساليب شتى أهمها نزع صلاحياتهم، وتدني الرواتب. كما أن الشركة لم ترسل مهندسين وتقنيين للتدرب على صيانة المعامل الجديدة التي أُنشئت، رغم ورود هذا الشرط في عقود التلزيم، ثم لُزّمت الصيانة إلى شركات أجنبية (تخصيص جزئي) بأكلاف مرتفعة جداً، لا يمكن مقارنتها بكلفة المهندسين والتقنيين اللبنانيين. ب. إعاقة الصيانة الضرورية للمعامل: يقول رئيس إدارة المؤسسة إن الحكومة تعيق أعمال الصيانة والتأهيل الضرورية في أوقاتها، لأسباب تقنية ومالية، وذلك يعيق قدرة المؤسسة على تحسين الإنتاج، إذ يمكن زيادة قدرة الإنتاج بنسبة 20%، إذا توافرت الأموال اللازمة للصيانة. كما أن الشركة الكورية التي أعطيت مهمة تشغيل معملي الزهراني ودير عمار وصيانتهما، لا تقوم بأعمال التشغيل والصيانة كما يجب. وقد دفع ذلك المؤسسة إلى توجيه إنذار لشركة «كييكو» الكورية، بسبب تكرار الأعطال في المصنعين الجديدين نسبياً، وذلك في سنة 2009. والصيانة الملائمة تطيل عمل المحطات في الجية والزوق عشر سنوات حسب تقرير البنك الدولي. ج. تشجيع الهدر المالي في المؤسسة: ــــ أعطيت تراخيص الامتياز لبعض الشركات الخاصة، التي تشتري الطاقة الكهربائية بسعر قدره 50 ليرة للكيلووات ــــ ساعة، وتبيعها للمشتركين بمعدل 127 ليرة. ــــ عدم دفع كامل مستحقات الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات والمخيمات الفلسطينية، التي تبلغ حوالى 150 مليار ليرة سنوياً. ــــ امتناع العديد من القادة السياسيين النافذين عن دفع ثمن الطاقة المستهلكة، وعدم قدرة المؤسسة على قطع التيار عنهم. ــــ حتى سنة 2003 كان هناك 33 ألف محضر بسبب السرقات والتعديات على الشبكة، ولم يبتّ القضاء بأي منها. ــــ تأخير إنجاز مد أنابيب الغاز من معمل دير عمار حتى الحدود السورية لربطه بأنبوب الغاز السوري المنجز حتى الحدود قبل نهاية 2005، لتشغيل محطة دير عمار على الغاز، مما يضاعف إنتاجها ويطيل عمرها التشغيلي. ويقول أحد أعضاء مجلس إدارة المؤسسة إن التأخير في التنفيذ من مسؤولية المتعهد، ويبدو أنه ليس هناك بند جزائي على تأخير التنفيذ. ــــ تلزيم قراءة العدادات وجباية الفواتير للقطاع الخاص (خصخصة جزئية) بأسعار غريبة، مما أثار اعتراض (النائب عن بيروت) محمد قباني، حيث أعطيت شركة الجباية نسبة 2.9% من قيمة الفواتير التي تُجبى، وأعطيت شركة قراءة العدادات نسبة 11% من قيمة الفواتير الصادرة، بالرغم من أن الجباية أصعب من القراءة. د. المبالغة في تقدير العجز المالي للمؤسسة: في 5/11/ 2008 أعلن رئيس مجلس الوزراء، فؤاد السنيورة، أن الخزينة تحملت أكثر من 1200 مليون دولار من عجز مؤسسة كهرباء لبنان في عام 2007. وفي اليوم التالي، أعلن وزير المالية، جهاد أزعور، أن إنفاق الخزينة على المؤسسة لسنة 2007 بلغ 981 مليون دولار. ويشمل رقم الوزير استحقاقات مالية للكويت والجزائر عن توريد المازوت والفيول أويل للمؤسسة عن سنة 2006، أي إن إنفاق الخزينة على المؤسسة لعام 2007 لم يتجاوز 516 مليون دولار. تقول الحكومة إن تحويلات الخزينة للمؤسسة منذ سنة 1982 وحتى نهاية 2008 بلغت حوالى 25431 مليار ليرة. وإذا أضفنا نفقات سنة 2009 يصل المبلغ إلى 27500 مليار ليرة، أي حوالى 18.3 مليار دولار، وما يعادل 35.3% من حجم الدين العام.
ولكن لا يمكن احتساب ما دُفع قبل سنة 1993 لكهرباء لبنان كجزء من الدين المتراكم على المالية العامة، إذ لم يتجاوز هذا الدين مبلغ 1.7 مليار دولار حتى نهاية سنة 1992. ثم إن خسائر كهرباء لبنان بين سنة 1994 وسنة 2000 بلغ معدلها السنوي 200 مليون دولار «نتيجة الطاقة غير المفوترة». أي إن الخسائر عن سنة 2003 وحتى 2000 بلغت حوالى 1600 مليون دولار، كما أن مجمل العقود الموقعة لمصلحة المؤسسة بين 1992 ونهاية 2003 بلغت 1316 مليون دولار. وإذا افترضنا أن معدل العجز السنوي منذ سنة 2001 وحتى 2009 قد بلغ 400 مليون دولار حداً أقصى، فإن كامل مساهمة عجز الكهرباء في الدين العام يبلغ حوالى 6.5 مليارات دولار دون احتساب الفوائد. ومع الفوائد المستحقة يرتفع الدين إلى حوالى 7.8 مليارات دولار. وإذا كان مجمل الدين العام الذي جرى تسنيده والذي لم يجر تسنيده قد بلغ حوالى 58 مليار دولار، فإن نصيب الكهرباء من هذا الدين سيكون 13.4% لا 35.3% كما تشيع الحكومة، وذلك حتى نهاية سنة 2009. هـ. تأخير استجرار الطاقة من الخارج وتعطيله: طرح موضوع استجرار الطاقة الكهربائية من الخارج منذ أواسط التسعينيات، وكانت الطاقة المستوردة أقل كلفة من توليدها داخل لبنان بنسبة عالية جداً، كان ثمن الكيلووات ساعة المستوردة من تركيا 4.5 سنتات، وهو مبلغ يقل عن كلفة الوقود لتوليدها. وكلفة استجرار الطاقة من مصر أقل من 4.5 سنتات. وعندما يتم الربط مع أعالي النيل، فإن كلفة الطاقة المستجرة ستقل عن 2.5 سنت في بعض الأحيان، وتبعاً لثمن برميل النفط، بينما تصل كلفة الفيول أويل اللازمة لتوليد 1 كيلووات ــــ ساعة إلى أكثر من عشر سنتات. ولدى تركيا حالياً فائض في الإنتاج يقدر بنحو 5000 ميغاوات، من مجمل الإنتاج البالغ 40 ألف ميغاوات، وسيرتفع هذا الإنتاج التركي إلى 80 ألف ميغاوات حتى عام 2020 عند اكتمال شبكة السدود التركية. وهناك طاقة تصديرية متنامية في مصر، وفي السعودية ودول الخليج، وخاصة مع استغلال الغاز المصاحب للنفط في توليد الطاقة. كما أن العراق سيصبح مصدِّراً للطاقة الكهربائية بعد ثلاث سنوات. ولاستجرار الطاقة من الخارج، احتاج لبنان إلى محطات تحويل 400/220 ك. ف. في محطة كساره، وإلى محطة ديرنبوح 220 ك.ف. واستجر لبنان الطاقة من سوريا منذ عشر سنوات، ومن مصر منذ 27/4/2009 عبر محطة كساره غير المكتملة بعد. ولكن محطة كساره تأخر إنجاز بنائها أربع سنوات على الأقل، بحجة تأخر الملتزم في التنفيذ (أيضاً دون بنود جزائية)، ولكن استجرار الطاقة من مصر وسوريا عُلّق منذ أشهر لاعتبارات غير معلنة، كما تقول جريدة السفير (17/3/2010). ويقول وزير الطاقة جبران باسيل، إن هناك عوائق أمام استجرار الطاقة، تتمثل بعدم استكمال حلقة التوتر العالي غير المكتملة، وخصوصاً في منطقة المنصورية، وعملية توسيع طاقة محطة كساره، بجانب بناء مركز التحكم، الذي «سيؤمن استقراراً عالياً على الشبكة، وسيكون الهدر أقل بكثير». وهذا التأخير غير المبرر في إتمام بناء محطات التحويل وشبكات نقل التوتر العالي يرفع كلفة الطاقة الموزعة ويبقي على سياسة التقنين. وربما كان التأخير في بناء شبكات الربط الكهربائي يقصد منه إكمال التعاقد لبناء محطات توليد جديدة، ينتفي مبرر بنائها مع اكتمال بنية الربط الثماني. ولإتمام عملية تخصيص جزئي أو كلي لقطاع الطاقة بأسعار متدنية جداً بسبب الخسائر الكبيرة لمؤسسة كهرباء لبنان. وقد نصح خبراء البنك الدولي بعدم تخصيص هذا القطاع، إذ إن تخصيصه سيرفع كلفة إنتاج الكيلووات إلى ثلاثة سنتات على الأقل.
قطاع جمع النفايات الصلبة
خُصخص جمع النفايات المنزلية في بيروت أولاً ثم في مناطق جبل لبنان، وأُنشئت من أجل ذلك شركة «سوكلين» بملكية اسمية لشخص من آل سكّر من صيدا، ولُزّم جمع النفايات ومعالجتها في مطمر الناعمة، لقاء مبلغ سنوي قدره 35 مليون دولار، وبالتراضي. وعرضت شركة بريطانية تولي هذه المهمة من سوكلين بمبلغ سنوي قدره 12 مليون دولار. رفضت سوكلين العرض واقترحت خفضه لمبلغ 7 ملايين دولار ليصبح مقبولاً، وذلك فقط عن نفايات مدينة بيروت. ثم توسع نطاق عمل سوكلين ليشمل قسماً كبيراً من جبل لبنان، حيث لُزّم جمع قمامة البلدات والقرى دون مناقصات، ودون أي دور للقرى والبلديات المعنية، حيث تدفع الكلفة وزارة المالية، ومن حساب البلديات لديها إلى شركة سوكلين، دون رقابة البلديات المعنية، وبغض النظر عن شروط الجمع الدوري للقمامة، ومعالجتها وشروط طمرها في مطمر الناعمة حسب المقاييس البيئية. وأوجد ذلك مشكلة بيئية كبيرة تعانيها بعض قرى الشحار خاصة، وتلويثاً للهواء والمياه الجوفية. وبالرغم من احتجاجات ومؤتمرات عديدة، وتحركات شعبية لتلافي ما يسببه المطمر من مشاكل، وبالرغم من استنفاد طاقة المطمر على استيعاب النفايات، فإن شيئاً لم يتغير، بسبب نفوذ أصحاب شركة سوكلين، وقدرتها على إرضاء أصحاب الأمر في الجبل. ولكل قطاع تقريباً حكاية طويلة في إطار سياسات الخصخصة، مثل خصخصة البنية التحتية في إطار منطقة سوليدير، وإعطاء الشركة حق وضع قوانين خاصة للبناء، وخصخصة التعليم العالي خاصة، عبر الترخيص لعشرات الجامعات الخاصة، وتفتيت الجامعة اللبنانية والتضييق عليها وعلى الجسم التعليمي فيها بغية تقزيم دورها وخفض مستواها العلمي، كما تخصيص وسائل الإعلام المرئي والمسموع عبر الترخيص للعديد من أقنية البت الفضائي لشركات خاصة وتقزيم «تلفزيون لبنان»، بل إطفائه وإلغاء دوره، كما عبر إلغاء مكتب الدواء في وزارة الصحة لمصلحة تجمع شركات استيراد الأدوية ورفع أسعارها إلى ما يفوق نسبة 100% عن معدل الأسعار العالمية، ولائحة الخصخصة الجزئية أو التدريجية تطول كثيراً ولا مجال لطرحها جميعاً في مقال أو محاضرة. غالب أبو مصلححسن شقراني غداة إقفال لبنان «بنجاح» إصدار سندات خزينة بالعملة الأجنبيّة (يوروبوندز) في بداية الأسبوع الجاري، شدّدت وزيرة المال ريّا الحسن على «أنّنا استطعنا الحصول على نسبة فوائد جيدة جداً أفضل من فوائد الحكومة اليونانية بـ 10 نقاط». وأوضحت أنّ لبنان دخل السوق بمعدّل فائدة بلغت 6.5%، وسرعان ما تراجعت إلى 6.375%. إلا أنّ تتبع الإصدارات الأخيرة يبيّن أنّ الفائدة التي حصلت عليها اليونان كانت أقلّ. ويتّضح كذلك أيضاً انتشار نماذج الاقتراض الأقلّ كلفة في بلدان أخرى يمكن تشبيهها بلبنان من حيث معدّل الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي، أو من حيث الحاجات التمويليّة الملحّة.
ما يثير اللعاب!
تسعى اليونان إلى توفير 54 مليار يورو خلال 2009 لتغطية حاجاتها التمويليّة، وهي أساساً تئنّ تحت دين عام تصل قيمته إلى 300 مليار يورو، مسجّلاً 108% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي. رغم ذلك، استطاعت أثينا طرح سندات خزينة في الأسبوع الماضي، بقيمة 5 مليارات يورو، أو حصلت على معدّل فائدة يبلغ 6.37%، أي أقلّ من المعدّل الذي حصل عليه لبنان، وقالت «The Economist» إنّ فائدة اليونان «تثير لعاب المستثمرين». هذا الطرح المسجّل لليونان يعطي فكرة عن طبيعة سوق السندات والقروض الحكوميّة، التي لا تعكس حقيقة الأوضاع الاقتصاديّة ـــــ الماليّة التي يمرّ بها البلد المعني.
وهناك أمثلة مثيرة عن تجربة بلدان أخرى مع الاقتراض العام بدءاً بإسرائيل. فمن المتوقّع أن تطرح الدولة العبريّة خلال 2009 سندات يوروبوند تبلغ قيمتها مليار يورو بالحدّ الأدنى (1.4 مليار دولار). ووفقاً للتقديرات الحاليّة، من المتوقّع أن تحصل على معدّل فائدة يقلّ عن فائدة السندات اليونانيّة بـ 100 نقطة أساس، أي ستبلغ 5.37%. وهذا المعدّل المنخفض رغم بقائه فوق المعدّل الألماني المعياري (3.15%) يتحقّق، وفقاً للمراقبين، بفضل الإنجازات الاقتصاديّة الجيّدة لإسرائيل التي يمثّل دينها العام نحو 84% من ناتجها المحلّي. ففي الفصل الأخير من 2009 نما الاقتصاد بنسبة 4.4%. لكن لبنان أيضاً حقّق معدّل نموّ بلغ 7% بعد تسجيل نسبة 8.5% في العام السابق، مع العلم بأنّ الاقتصاد الإسرائيلي كان قد تقلّص بنسبة 0.8% في 2008. وفي إيطاليا يصل معدّل الدين العام إلى الناتج فيه إلى 115.2%، يتّضح أن معدّل الفائدة المسجّلة على السندات لـ10 سنوات 3.96%. ويشار إلى أنّ إيطاليا سابعة عالمياً لجهة معدّل الدين إلى الناتج، فيما يحلّ لبنان بمعدّله البالغ 156% رابعاً بعد زيمبابوي (30.4.3%) واليابان (192.1%) و«ساينت كيتس ونيفيس» (185%)، وفقاً لقاعدة بيانات «CIA World Factbook» المكونة من معلومات الحكومات المختلفة.
تفاوت بنتيجة واحدة
والمنطق وراء إجراء مقارنة تعتمد على معدّل الدين العام إلى الناتج، يرتكز على تشديد الوزيرة الحسن، على ضرورة الاستمرار بالنهج المالي المتّبع، أي «خفض هذا المعدّل». نهج كمّي قد يغطّي في بعض الأحيان على الفشل المسجّل بسبب عدم إمكان التوصّل إلى إنجازات حقيقيّة، مثل مشروع موازنة عام 2010! ومن حوض المتوسّط عبر الأطلسي إلى المكسيك، حيث أصدر هذا البلد الذي تبلغ مرتبته بحسب معدّل الدين/ الناتج 63 عالمياً، سندات خزينة بالدولار لمدّة 10 سنوات قيمتها مليار دولار، بلغت نسبة الفائدة عليها 5%، أي إنّها أقلّ من فائدة السندات بالعملة الأجنبيّة اللبنانيّة بـ1.37 نقطة مئويّة. وتسجّل سنغافورة أحد أفضل معدّلات الفائدة بين البلدان عموماً، إذ يبلغ معدّل الفائدة على السندات لمدّة 10 سنوات 2.69%. واللافت أنّ معدّل الدين إلى الناتج يصل إلى 117.6% ليحلّ مباشرة بعد لبنان وجامايكا. أمّا في اليابان، فالمفاجأة أن معدّل الفائدة على سندات الخزينة لعشر سنوات يبلغ 1.31%، وفي الولايات المتّحدة 3.72%، وفي أوستراليا 5.54%، وفي سلوفينيا 4.12%. بين تلك البلدان المذكورة، هناك تفاوت من حيث معدّلات النموّ والتنمية، غير أنّ لبنان يتميّز عنها كلّها باجتذابه ودائع قياسيّة في عام 2009 نظراً لانعزاله عن النظام المالي العالمي بسبب جاذبيّة مصادر الربح الداخلي للنظام المصرفي، المرتبط بأدوات الدين العام والأدوات النقدية.
أيّ خصوصيّة؟
إذاً، يبقى لبنان مقترضاً عبر سندات بالعملة الأجنبيّة بمعدّل فائدة هو الأعلى بين البلدان المذكورة! هل هي «الخصوصيّة اللبنانيّة»؟ الأرجح كلّا، لأنّ الحسن تتحدّث عن خصوصيّة «إيجابية»، أي إنّ البلاد تستطيع أن تسجّل معدّلات نموّ لافتة «على الرغم من عدم إقرار موازنة خلال السنوات الخمس الماضية». إذاً، فاقتراض الحكومة بالعملات الأجنبية، هو تماماً كإصدار سندات الخزينة بالليرة (وشهادات الإيداع)، ويبقى مكلفاً، لا سيما أن الطموحات محدودة، فالحكومة اليونانيّة مثلاً تريد خفض معدّل الفائدة على سنداتها إلى دون 6%! وتواجه حالياً معارضة قاسية ضدّ إجراءاتها التقشّفيّة (10 آلاف متظاهر في شوارع أثينا أمس). ملاحظات كثيرة تُطرح في هذه المرحلة الحسّاسة التي اتضح فيها أن فائض السيولة الداخليّة نقمة. ورغم أنّ هناك بلداناً أخرى يُتوقّع أن تقترض عبر السندات الخارجيّة بفوائد أعلى من التي يحصل عليها لبنان مثل رومانيا وأوكرانيا، يجدر بالحكومة أن تعيد التفكير ملياً بما نقصده بـ«شهيّة المستثمرين» و«انخفاض كلفة اقتراضنا من الأسواق الخارجيّة»!
2.15 مليار دولارقيمة سندات الخزينة الأجنبيّة (يوروبوند) التي ستتحقّق في عام 2010. وكانت وزيرة المال قد أشارت إلى أنّها ستلجأ إلى بيع سندات بقيمة ملياري دولار أو ستجري عمليّة استبدال سندات (SWAP) لتغطيتها
خالٍ من المخاطر؟تعدّ السندات أدوات لاقتراض الحكومات والشركات من السوق، وهي مختلفة عن شهادات الإيداع. وتحمل سندات الخزينة معدّل فائدة، يجري التفاوض بشأنه في أسواق المال، ونظرياً يجب أن يوازي معدّل الفائدة الخالي من المخاطر على سندات 10 سنوات، معدّل النموّ المسجّل في البلد المعني. وبما أنّ معدل النموّ المتوقّع للبنان في 2010 هو 4.5% (تقدير الحكومة) و4% (صندوق النقد الدولي)، يجب أن يكون بهذه الحدود! يمكن المحاججة قدر الإمكان بأنّ لبنان يعيش إحدى أفضل المراحل على صعيد تدفّق الأموال إلى نظامه (المصرفي)، لكن كثافة تلك الأموال تمثّل عبئاًَ يفرض كلفة إضافيّة.