قيادة رابطتي الأساتذة الثانويين والمهنيين ونقابة المعلمين في أحد الاجتماعات (أرشيف ـ بلال جاويش) يراهن الأساتذة الثانويون في لقاء رئيس الحكومة سعد الحريري، الرابعة من بعد ظهر اليوم، على حل يحقق الحد الأدنى من مطلبهم، أي الـ20% في صلب الراتب، لعلّ ذلك يكون مخرجاً لتعليق مقاطعة التصحيح في الامتحانات الرسمية
فاتن الحاج هل يخرج، اليوم، الدخان الأبيض من السرايا الحكومية على قاعدة إنضاج الحل المتوازن لمطلب الأساتذة الثانويين الرسميين بالدرجات السبع، فيُسدل الستار على مجرد التفكير بالخيارات المرفوضة من الجميع، مثل إعطاء «إفادات نجاح» واستبدال الأساتذة المقاطعين للتصحيح بأساتذة مصححين من المدارس الخاصة لا تتوافر فيهم الشروط الأكاديميّة العلمية المطلوبة لتصحيح امتحانات شهادة الثانوية العامة؟ ثلاثة مواعيد على أجندة رئيس الحكومة سعد الحريري اليوم، يترقب المعنيون أن تؤتي ثمارها إيجاباً، فتفتح منافذ للحل الذي يرضي الجميع ويريح 44 ألف طالب ينتظرون نتائج امتحاناتهم الرسمية. أما الموعد الأول فهو، عند الثانية من بعد الظهر، مع نقابة المعلمين في المدارس الخاصة، برئاسة النقيب نعمه محفوض الذي أدرج في الخانة الإيجابية إعطاء الحريري موعداً لرابطة الثانويين من دون اشتراط تعليق التحرك. وأعلن في اتصال مع «الأخبار» أنّه فُوّض من الرابطة بالتفاوض بشأن الـ20%، التي بتقديره تدور حول 5 درجات. لكن ماذا لو أتى الرد سلبياً من رئيس الحكومة، قال: «إذا ما وصلنا بكرا (اليوم) لحل رايحين على أفق مسدود والكل محشور». وعما إذا كانت نقابة المعلمين ستؤازر رابطة أساتذة التعليم الثانوي في مقاطعة التصحيح في حال عدم التجاوب مع الطرح، جدد التأكيد «أنّ المعلمين كانوا وما زالوا صفّاً واحداً، وعلى المسؤولين أن يتصرّفوا بمسؤولية كبيرة ومش نعمه محفوض اللي بيخرق الصف النقابي ووحدة المعلمين التي هي بالنسبة إلينا أهم من المطلب». وعلمت «الأخبار» أنّ الرئيس الحريري سيلتقي عند السادسة من مساء اليوم النائب وليد جنبلاط، ما قد يسهم في تعزيز الأجواء الإيجابية للحل. أما الهيئة الإدارية لرابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي، فأعلنت في بيان أصدرته أمس، أنّها تلقّت خلال اجتماع كانت تعقده بعد ظهر أمس، اتصالاً من وزير التربية والتعليم العالي حسن منيمنة، أعلمها من خلاله بالموعد الذي حدّده رئيس الحكومة مع الرابطة، عند الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم الثلاثاء في السرايا الحكومية. وكان وفد من الرابطة قد التقى، صباح أمس، وزير التربية بناءً على طلبه لإطلاع الوفد على جديد اقتراحاته. وجرى خلال اللقاء تبادل وجهات النظر، فطلبت الرابطة من الوزير رفع خلاصة مطالعته القانونية إلى رئيس الحكومة، القاضية بإعطاء أساتذة التعليم الثانوي 20% في صلب الراتب باعتباره أساساً للحل المناسب على المستويات كلها: فمن جهة يحقق ما طرحه الوزير من صيغة للحل، ومن جهة يؤمن الحد الأدنى من مطالب الأساتذة، ويكون مدخلاً لتعليق مقاطعة التصحيح. وتمنّت الهيئة الإدارية الموافقة على هذا الحل بما يحقق التوافق الذي يرضي الجميع. إلى ذلك، برز أمس تراجع في اللهجة التصعيدية لوزير التربية الذي أكد «أنه ضد اللجوء إلى إعطاء الإفادات للمرشحين إلى الامتحانات الرسمية إلا إذا أصرّت رابطة أساتذة التعليم الثانوي على الاستمرار بمقاطعة التصحيح، وهذا الموضوع غير مطروح راهناً». وقال منيمنة، في حديث تلفزيوني، إن «هذا الأمر ليس اقتراحاً ولا خياراً، ولن نقبل به بصورة مطلقة ما دام هناك أمل في إيجاد حل لمسألة مقاطعة التصحيح. ويمكن أن يكون الحل الإجباري إذا لم يتوصل الحوار مع رابطة أساتذة التعليم الثانوي إلى نتيجة مرضية تجعل النتائج تصدر في الوقت المناسب لتمكين الطلاب من الالتحاق بالجامعات. وأمل الوزير «أن تؤدي جلسات الحوار مع الرابطة إلى نهاية سعيدة لهذه الأزمة تجنبنا وتجنب الطلاب تجرّع هذه الكأس المرة، التي لا نرغب فيها ولا نتمناها إلا في حال بلوغ الطريق المسدود». في المقابل، بدا لافتاً أن يستمر منيمنة في الوقوف عند رغبة المدارس الخاصة لجهة المساهمة في تصحيح الامتحانات الرسمية، إذ أعلن مكتبه الإعلامي، أمس، عن نية الوزير استقبال 30 ممثلاً للمدارس الخاصة التي لا تنضوي تحت لواء اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة، وذلك عند العاشرة من صباح اليوم. على صعيد آخر، لم يخرج أي موقف لاتحاد المؤسسات التربوية الخاصة بشأن مشاركة مؤسساته في تصحيح الامتحانات الرسمية كما كان متوقّعاً بعدما سألهم الوزير في اجتماع أول من أمس عما يمكن أن يقدموه من إمكانات للخروج من أزمة تحرك الأساتذة الثانويين. هكذا، اكتفى بيان الاتحاد باعتبار الإفادات بديلاً من النتائج الرسمية أمراً غير مقبول، محذراً من النتائج السلبيّة لهذا الطرح مستقبلاً. وطالب الاتحاد بعدم الربط بين المطالب والتصحيح وإصدار النتائج، مناشداً المعلمين المعنيين تحمّل المسؤولية في المشاركة بالتصحيح كواجب وطني وتربوي وإنساني واعتماد وسائل أخرى لمقاربة المشكلة. وبدت لافتة دعوة الاتحاد الحكومةَ إلى معالجة الشؤون التربوية بطريقة متوازنة وعلمية بما يحفظ حقوق الجميع من أهل ومعلمين وطلاب ومؤسسات تربوية، ولا سيما الابتعاد عن المعالجات المجتزأة كما حصل سابقاً عند إقرار القانون المتعلق بالدرجات الثلاث.
عدد الثلاثاء ٢٢ حزيران ٢٠١٠ | شاركمن يتابع لقاء رئيس الحكومة سعد الحريري برابطتَي أساتذة التعليم الثانوي والمهني الرسمي، يمكنه الخروج بإيجابية واحدة هي كسر الجليد بين الطرفين. فالحريري، على عكس مواقفه السابقة، قبل بالتفاوض تحت ضغط مقاطعة تصحيح الامتحانات، رامياً الكرة في ملعب مجلس الوزراء اليوم
فاتن الحاجهل «يُقرَّش» الجوّ الإيجابي الذي اتّسم به لقاء رئيس الحكومة سعد الحريري برابطتّي أساتذة التعليم الثانوي والمهني الرسمي نسباً ودرجات للأساتذة في جلسة مجلس الوزراء اليوم؟ وهل سيتحمل الوزراء مجتمعين مسؤولياتهم الوطنية في إقفال ملف لم يعد يحتمل «التمييع» الذي دأب هؤلاء على انتهاجه منذ بداية التحرك قبل بضعة أشهر؟هذا، على الأقل، ما تنتظره القيادة النقابية بعدما ارتسمت ملامح الارتياح على وجوه أعضائها أمس «للانفتاح من قبل الرئيس ومن قبلنا» من دون أن يترجم ذلك لا بموافقة الحريري على الحد الأدنى من مطلب الأساتذة المتمثل بإعطائهم 20 في المئة في صلب الراتب ولا بعودة هؤلاء عن مقاطعة تصحيح امتحانات شهادة الثانوية العامة.صحيح أنّ الحريري لم يشترط على رابطتي الأساتذة تعليق مقاطعة تصحيح الامتحانات كأساس للتفاوض، لكن الصحيح أيضاً أنّه لم يتفق معهما على رقم المطالعة القانونية التي عممها وزير التربية والتعليم العالي د. حسن منيمنة على الثانويات والمهنيات الرسمية. وفي أجواء الجلسة أنّ رئيس الحكومة استمع على مدى ساعتين إلى حيثيات القضية التي باتت معروفة للجميع. أما الأساتذة فقد اكتفوا بطرح نسبة الـ20 في المئة في صلب الراتب من دون تحديد عدد الدرجات، حتى عندما طلب منهم الحريري الاختيار بين «4 درجات (سقف وزير التربية) و7 درجات (سقف الأساتذة)»، متمنين إعلان التوافق من السرايا الحكومية ومن مكتب الرئيس الحريري تحديداً. وبالنسبة إلى نتائج الاجتماع، علق أحد النقابيين: «لا سلبي ولا إيجابي ولم ندخل في جدولة الدرجات لأننا لم نتفق عليها أولاً». ولفت حنا غريب، رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي، في تصريح له بعيد الاجتماع، إلى «أننا وضعنا رئيس الحكومة في أجواء حقنا الذي أعطي لنا لقاء الزيادة في ساعات العمل، وقدمنا شرحاً تاريخياً مفصلاً باسم الرابطتين معاً حول الموضوع، منذ بدايته في عام 1961 مروراً بمحطة عام 1966 ومحطة عام 1998 وحتى الآن». وأشار غريب إلى «أننا أظهرنا لرئيس الحكومة كيف جرى إخفاء نسبة الـ60 في المئة وكيف ظل أساتذة التعليم الثانوي الرسمي يعلّمون ساعات عمل إضافية من دون أن ينالوا حقهم، منذ حكومة الرئيس سليم الحص في عام 1999 وحتى الآن». وجدد رئيس الرابطة التأكيد «أنّ تحركنا نقابي ديموقراطي مستقل، بعيد كل البعد عن التجاذبات السياسية وأن لا خلفيات له ولا أبعاد، وأن الرابطتين في تحركهما المشترك وبالتنسيق مع نقابة المعلمين في المدارس الخاصة ومع المجلس المركزي لرابطات المعلمين في التعليم الأساسي الرسمي على وفاق ووحدة نقابية كاملة، وخصوصاً أن الروابط تضم كل التلاوين السياسية على اختلاف أنواعها، وأن الأساتذة ملتزمون نقابياً بقرار الروابط، وهم الذين وقّعوا على مقاطعة أسس التصحيح والتصحيح من أجل الوصول إلى حقهم بالدرجات السبع».ونفى غريب «أن يكون الاجتماع قد توصل إلى نهاية سعيدة، ومع ذلك فالحوار سيستمر، وقد اتفقنا على أن يطرح الرئيس الحريري نتائج النقاش أمام مجلس الوزراء الذي سيعقد غداً (اليوم)، ومن جهتنا سنسير على خطَّي المقاطعة والحوار حتى نصل إلى إنهاء هذا الملف في أسرع وقت ممكن».ورداً على سؤال بشأن التراجع عن المقاطعة بانتظار استكمال الحوار، ما دام للأساتذة ثقة بكلام الرئيس الحريري كما يقولون؟ قال غريب: «سبق أن تراجعنا وقدمنا حسن النية في هذا الموضوع بالنسبة إلى الشهادة المتوسطة (البريفيه)، لكننا لم نصل إلى حقنا، وفي هذا الإطار نطمئن الأهالي إلى أنّ نتائج هذه الشهادة ستصدر خلال عشرة أيام لستين ألف طالب، واليوم أصبح لدينا بارقة أمل وسننتظر قليلاً لكي نصل إلى نتيجة نحل بموجبها مشكلة الطلاب، ونعطي الأساتذة حقوقهم التي لم يأخذوها منذ 12 سنة». وتعهد غريب «بأننا لن نقبل إلا بإعطاء تلامذتنا شهادة على مستوى، وعلى أيدي أساتذتهم».وماذا عن المدارس الخاصة التي أبدت استعدادها لتصحيح الامتحانات الرسمية؟ أوضح غريب أنّ هناك إجراءات وآليات بالنسبة إلى تصحيح الامتحانات الرسمية، ونحن مع رسمية الامتحانات الرسمية، لذلك اطمئنوا لا مشكلة».وعما إذا شعر الأساتذة المقاطعون لتصحيح الامتحانات بأنّهم اتخذوا خطوة ناقصة بأخذ الطلاب رهائن؟ أكد غريب أن «لا أحد يستطيع أن يزايد علينا في موضوع الطلاب، هؤلاء نعيش معهم منذ 40 سنة تماماً كما يعيش معهم أهلهم، ونحن بدورنا أهل، ولدينا أولاد قدموا الامتحانات الرسمية، والجميع يعلم كم عملت الرابطتان لتفادي الوصول إلى خطوة أبغض الحلال، فلم نترك باباً إلا طرقناه منذ مطلع العام الدراسي الجاري حتى الآن، بدءاً من باب رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، مروراً بكل الكتل النيابية والوزراء والنواب، ونفذنا إضراباً واعتصاماً وتظاهرة وأظهرنا حقنا مراراً وتكراراً، والحق يعلو ولا يعلى عليه».
وسبق الاجتماع بين رئيس الحكومة ورابطتي الأساتذة الثانويين والمهنيين لقاء تمهيدي مع نقابة المعلمين في المدارس الخاصة برئاسة نعمه محفوض. وأشار محفوض في اتصال مع «الأخبار» إلى «أنّ النقابة المفوّضة من رابطة أساتذة التعليم الثانوي بالتفاوض مع رئيس الحكومة بشأن نسبة الـ20 في المئة والتي هي بتقديرنا 5 درجات، حاولت أن تمهّد لأجواء نتمنى أن تنتهي بصورة إيجابية». ومع ذلك، نقل محفوض عن الحريري قوله «لا أفاوض تحت الضغط ولا أحد يستطيع أن يأخذني إلى موقع لا أريده، وقد حددتُ الموعد مع الأساتذة للاستماع إلى وجهة نظرهم، وليس بالضرورة أن ألبّي ما يطلبونه ولو كنت سأعطيهم 5 درجات لكنت وافقت على مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري».ثم شرحت النقابة أهمية المطلب ودور الأستاذ في العملية التعليمية وأنّ الدرجات الخمس هي حل وسط بين 4 و7 درجات. وجدد النقيب التأكيد «أنّ الكل محشور ويجب الوصول إلى نقطة مشتركة بين الجهات الثلاث: الحكومة التي تقول «ما فينا نعطي كل هيدي المبالغ المالية»، والأهالي والطلاب الذين ينتظرون شهاداتهم الرسمية والأساتذة الذين يطالبون بحقوقهم.على صعيد آخر، أكد د. حسن زين الدين، المسؤول التربوي المركزي في حركة أمل، في اتصال مع «الأخبار» أنّ الاتجاه لدى وزراء حركة أمل هو نحو دعم مطالب الأساتذة سواء في الدرجات الخمس أو الـ20 في المئة.
منيمنة: الاستعانة بـ«الخاصة» لإبعاد شبح الإفاداتاستبق وزير التربية د. حسن منيمنة لقاء الأساتذة برئيس الحكومة باجتماع مع 30 ممثلاً لمدارس خاصة لا تنضوي داخل اتحاد المؤسسات التربوية. وتناول البحث رغبة المؤسسات في إيفاد مصححين للمشاركة في تصحيح الامتحانات الرسمية إذا لم تصل المفاوضات مع رابطة الأساتذة الثانويين إلى نتيجة إيجابية تنهي المقاطعة، و«لكي لا نقع في الفراغ ونصل إلى خيار الإفادات الذي يرفضه الجميع». وأعرب المجتمعون عن الاستعداد للقيام بتدابير فورية في هذا الإطار. وكرر الوزير القول «إننا ضد مبدأ إعطاء الإفادة، لكن إذا استمرت المقاطعة فربما نلجأ إليها كحل أخير».وأعلن الوزير أنّ جميع المؤسسات داخل الاتحاد وخارجه، أبدت استعدادها التام للتصحيح، طبقاً لما ينص عليه القانون بالمشاركة بين القطاعين في لجان الأسئلة والتصحيح. وأوضح أنّه دعا الرابطة إلى استئناف الحوار وطلب من الرئيس الحريري أن يلتقيها، «فليس نحن من يتعنّت، بل هم يتعنتون بإصرارهم على رفض الاقتراحات، وهناك طرق عدة للضغط، لكن ليس على الطلاب».
عدد الاربعاء ٢٣ حزيران ٢٠١٠هل الحرب القادمة على لبنان... قادمة؟ ملفّ يتناول آراء 9 باحثين في احتمالات وقوع حرب إسرائيليّة وشيكة على لبنان. بعضهم أجاب عن كلّ سؤال على حدة، وبعضهم آثر إجابة واحدة عن الأسئلة جميعها. أما الأسئلة فهي كالآتي: 1) هل تعتقدون أنّ إسرائيل ستهاجم لبنان؟ 2) ماذا ستكون أهدافُ إسرائيل من هذه الحرب؟ 3) هل ستعطي الولاياتُ المتحدة إسرائيل ضوءًا أخضر، أمْ برتقاليًا، أمْ أحمر؟ 4) ماذا يمكن عمله لمنع وقوع مثل هذا الهجوم؟ وقد أجاب عن هذه الأسئلة كلٌّ من: نوام تشومسكي، وجون ميرشايمر، ونورمن فنكلستين، ومايكل دش، ورشيد خالدي، وأغوستوس نورتون، ومعين ربّاني وآخرين. الملفّ من إعداد وترجمة: رئيس تحرير مجلّة «الآداب» سماح إدريس، وسيصدر كاملاً في العدد المقبل من المجلّة، فيما تنشر «الأخبار» هنا أجزاءً منه.
■ ■ ■
إسرائيل لن تستطيع الفوزَجون مِيرشايْمِر * هناك كلامٌ كثير هذه الأيّام عن أنّ إسرائيل قد تشنّ قريبًا حربًا ثالثة كبيرةً على لبنان بهدف إنزال هزيمةٍ حاسمةٍ بحزب اللّه. لكنْ يرجَّح ألا يحدثَ ذلك، أساسًا لأنّ إسرائيل لن تستطيع الفوزَ في هذه الحرب بأيّ طريقةٍ ذاتِ معنًى. فلنتأمّل الخياراتِ العسكريّة الأساسيّة أمام الجيش الإسرائيليّ. بمقدور هذا الجيش أن يغزو جنوبَ لبنان بأعدادٍ كبيرةٍ من القوات البرّية، وأَنْ يَسْعى إلى هزيمة حزب اللّه هزيمةً منكرةً. لكنّ إسرائيل ستَخْسر لأنّ مقاتلي الحزب سيََذُوبون في المناطق الآهلة بالسكّان وفي القرى، ومن هناك سيَشنّون حربَ عصاباتٍ ضدّها. هذا ما حدث أثناء حرب لبنان الأولى (1982ــــ2000) التي انتهت بعدما سلّمتْ إسرائيل بأنّها لم تستطع هزيمةَ حزب اللّه، وسحبتْ قوّاتها من لبنان. وليس مستغربًا أنّ إسرائيلُ لم تشنّ هجومًا بريًا ضخمًا على جنوب لبنان أثناء حربها الثانية (2006)؛ فلقد خاف جيشُها أن يشتبكَ مع حزب اللّه على الأرض لأنّه كان يَعْرف أنّه لن يستطيع الفوزَ وأنّه قد ينتهي على الأرجح عالقًا في مستنقع من الأوحال شبيه بذاك الذي عَلِقَ فيه ثمانيةَ عشر عامًا أثناء الحرب الأولى (1982ــــ2000). وفي صيف 2006 حاولتْ إسرائيل أن تعتمد على سلاح الجوّ، بدلاً من القوّات البريّة، لهزيمة حزب اللّه. فسعى جيشُها إلى نزع سلاح الحزب بقصف مقاتليه وقواعده من الجوّ، وعاقب الحكومةَ اللبنانيّةَ والشعبَ اللبنانيّ بالقصف الجويّ أيضًا. وكان يُفترض بالخطوة الأخيرة أن تُقنعَ الحكومةَ اللبنانيّةَ بمعاقبة حزب اللّه بنفسها. غير أنّ هذه الاستراتيجيّة المزدوجة فشلتْ، وستفشل من جديد إن اعتمدتها إسرائيلُ في حربٍ مقبلة. فبدايةً، يَصْعب كثيرًا العثورُ على مقاتلي حزب اللّه، وتدميرُهم بالقوّة الجوّيّة، لأنّ هؤلاء يتألّفون إلى حدّ كبير من قواتٍ عصابيّةٍ guerilla، يُقاتلون في مجموعاتٍ صغيرة، ونادرًا ما يَخْرجون إلى مساحاتٍ مكشوفةٍ تُسهِّل العثورَ عليهم وتدميرَهم. إنّ مطاردة حزب اللّه ليست كمطاردة فرقةٍ مدرّعة سيكون أسهلَ كثيرًا إيجادُها واستهدافُها. غير أنّه لا شكّ على الإطلاق في قدرة الجيش الإسرائيليّ على تدمير عددٍ كبيرٍ من صواريخ الحزب، كما سبق أن فعل عام 2006. لكنّه لن يكون واثقًا بقدرته على تدميرها كلّها، وسيستطيع حزبُ اللّه إطلاقَ عددٍ كبير منها على إسرائيل أثناء الحرب. بعد ذلك ستملأ إيرانُ وسوريا ما نقَص من ترسانة الحزب، الأمرُ الذي سيعيد إسرائيلَ إلى ما كانت عليه قبل الحرب. بل قد تصير في وضع أسوأ إذا تلقّى حزبُ اللّه صواريخَ أشدّ تطوّرًا، وهو ما يبدو أنّه حدث خلال الأعوام الأربعة الأخيرة. ثم إنّ قصفَ بيروت وأهدافٍ مدنيّةٍ أخرى عملٌ أحمقُ هو الآخر. وأمامنا وفرةٌ من البراهين التاريخيّة ــــ بما فيها حربُ عام 2006 ــــ تبيِّن بجلاء أنّ قصف المراكز السكّانيّة والبنيةِ التحتيّة والمقارّ الحكوميّة سيَدْفع الشعبَ اللبنانيّ وحكومتَه إلى الدفاع عن حزب اللّه وإلى اعتبار إسرائيل المجرم الشرير. ولكنْ إنْ حصلتْ معجزةٌ وأدّى القصفُ غرضَه، فإنّ زعماءَ لبنان لا يَمْلكون من العضلات السياسيّة ما يُجْبر حزبَ اللّه على تغيير تصرّفاته حيال إسرائيل. باختصار، لا قوّاتُ إسرائيل البريّة، ولا قوتُها الجويّة، وسيلةٌ مفيدةٌ لمحو خطر حزب اللّه، بل لا للتقليل منه كثيراً.
هناك سببان إضافيّان لعدم ترجيح شنّ إسرائيل حربًا جديدةً على لبنان. فكثير من الإسرائيليّين قلقون من أنّ أعدادًا كبيرة من الناس في العالم اليوم يَعتبرون إسرائيل دولةً منبوذةً. وقد قال المستطلَعون في استطلاع للرأي العام العالميّ جرى هذا العام (2010) إنّ إسرائيل وإيران وباكستان تمتلك أكبرَ تأثير سلبيّ في العالم؛ بل إنّ كوريا الشماليّة حازت مرتبةً أفضل! وهذا الوضع جاء إلى حدّ كبير نتيجةً لحرب إسرائيل على لبنان عام 2006، ومجزرةِ غزّة 2008ــــ2009، والهجوم على سفينة مرمرة عام 2010، والوحشيّة المتواصلة ضدّ الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة عام 67. لذا فإنّ حربًا جديدةً دمويّةً وغيرَ مجدية على لبنان ستزيد من تدمير سمعة إسرائيل الملطّخة. ويتّصل بهذا كلّه سببٌ آخر، وهو أنّ حكومة نتنياهو ملتزمةٌ التزامًا عميقًا بدفع المجتمع الدوليّ إلى تركيز انتباهه على وقف البرنامج النوويّ الإيرانيّ. لذا فإنّ بدءَ حرب أخرى على لبنان، وهي حربٌ قد تَشْمل ضربَ أهداف في سوريا، يُمْكن أن تَحْرف الانتباهَ عن إيران، وتجعلَ من الصعب على الولايات المتحدة أن تحافظ على جبهة موحّدة ضدّ هذا البلد. ومع ذلك فإنّه لا يمكن أبدًا استبعادُ احتمال أن تفتعلَ إسرائيلُ قتالاً مع حزب اللّه، وإنْ كان ذلك بلا أيّ معنى استراتيجيّ. فإسرائيل، في نهاية المطاف، تُدمِنُ استخدامَ القوّة الوحشيّة ضدّ العرب، مع أنّ معدّلَ نجاحها في السنوات الأخيرة منخفضٌ إلى حدٍّ يُرثى له. والحقيقة أنّ كلّ محاولة فاشلة تولِّد ضغطًا لشنّ حرب جديدة؛ ذلك أنّ الهزيمة تَدْفع بإسرائيل إلى الاعتقاد أنّ سمعتها الردعيّة قد أُضعفتْ، وأنّ عليها أن تُستعادَ. قد يأمل المرءُ في أن يوقفَ الرئيس أوباما إسرائيلَ إنْ هي بدأتْ، بحماقة، الإعدادَ لشنّ حرب ثالثة على لبنان. غير أنّ ذلك لن يحصل لأنّ اللوبي الإسرائيليّ سيجعل من شبه المستحيل على أوباما أن يواجهَ إسرائيل. بل سيُجبر اللوبي أوباما على دعم إسرائيل إلى النهاية، مثلما ضَغَطَ على الرئيس جورج دبليو بوش لدعم إسرائيل دعمًا تامًا أثناء حرب لبنان عام 2006. ولمن يظنّون أنّ أوباما يمكن أن يكون مختلفًا عن بوش، فليتذكّروا أنّ أوباما التزم الصمتَ أثناء مجزرة غزّة، ثم سَمَحَ لإدارته بأن تستخفَّ بتقرير غولدستون الذي قدّم تعميمًا دقيقًا ومتأنّيًا لأفعال إسرائيل في تلك الأزمة الدامية. إنّ أوباما ليس ندًا للّوبي الإسرائيلي. الأملُ الأساسُ للحؤول دون حرب كبيرة جديدة على لبنان هو أن يدرك نتنياهو وضبّاطُه أنّ مثل هذه الحرب ليست في مصلحة إسرائيل. ولمّا كانت إسرائيل قد خسرتْ مرتين في لبنان، ولمّا كان ينبغي أن يتّضح اليوم أنْ لا معادلةَ سريّةً لكسب حرب ثالثة ضدّ حزب اللّه، فمن المأمون أن نَفترض أنّ إسرائيل لن «تطلق النارَ على قدمها» من جديد. غير أنّ أحدًا لا يدري على وجه التعيين! * أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة شيكاغو، وأحد مؤلّفَي الكتاب الشهير: «اللوبي الصهيونيّ والسياسة الخارجيّة الأميركيّة» (مع ستيفان والت).
■ ■ ■
السيناريو الكابوسيّرشيد الخالدي * إذا هاجمتْ إسرائيل لبنانَ في المستقبل القريب، فسيكون ذلك من أجل النيل من إيران أساسًا. ذلك أنّ قلقَ القادة الإسرائيليين من إيران، كمنافسٍ إقليميّ، يفوق بكثيرٍ قلقَهم من لبنان في حدّ ذاته. لبنان، إذاً، هو في الأساس عاملٌ فحسب في الحسابات الإسرائيليّة حيال إيران. فعلاوةً على طموحات إيران النوويّة (مهما كان مداها الفعليّ)، فإنّ هذا البلد هو القوةُ الرئيسةُ الوحيدةُ في الشرق الأوسط إلى جانب إسرائيل وتركيا، وهي كانت وما زالت محطّ قلق صنّاع السياسة الإسرائيليين الأولَ منذ تدمير العراق كقوةٍ إقليميّةٍ عام 2003. ما هي الحسابات الإسرائيليّة حيال إيران، التي قد تدفع إسرائيلَ إلى مهاجمة لبنان؟ الواقع أنّ هناك حملةً متواصلةً شرسةً في الولايات المتحدة، يقودها محافظون جددٌ قريبون من إسرائيل، من أجل إرغام إدارة أوباما على دعم هجوم إسرائيليّ على إيران، أو (وهذا أشدُّ احتمالاً بكثير) من أجل إرغام الولايات المتحدة على مهاجمة إيران بدلاً من ذلك. وفي حال فشل هذين الخيارين (وكلاهما ليس جدّيًا جدًا: فإسرائيل وحدها غيرُ قادرةٍ على مهاجمة إيران عمليًا، ويرجَّح ألاّ تقوم الولاياتُ المتحدة بذلك)، فسيكون الهدفُ الإسرائيليّ إضعافَ الرئيس أوباما بإظهاره «ضعيفًا إزاء إيران»، وهو ما سيساعد على ضمان انتخاب رئيس جمهوريٍّ عام 2012، الأمرُ الذي يولّد من ثمّ احتمالَ نشوء وضعيّة أميركيّة أكثر عداءً لإيران.
غير أنّ هجومًا إسرائيليًا على لبنان لن يلائم السيناريوهاتِ السابقة إلا إذا قرّر القادةُ الإسرائيليون أنّ أوباما لن يهاجم إيران (لا شكّ في أنّ أوباما ومستشاريه يمتلكون من الحسّ الاستراتيجيّ ما يحول دون هذا الهجوم)، وإلا إذا قرّروا أنّ إيران على وشك امتلاك سلاح نوويّ (لا خبيرَ عاقلاً يعتقد ذلك)، وأنّ هجومًا إسرائيليًا على إيران من دون ذريعةٍ ملائمةٍ سيكون مكلفًا جدًا بسبب علاقات إسرائيل الهشّة بالإدارة الأميركيّة الحاليّة وبسبب تدهور الدعم الأميركيّ الشعبيّ لإسرائيل (أوردتْ هآرتس في 18/8/2010 استطلاعًا يشير إلى هبوط دعم الأميركيين لإسرائيل، خلال الشهور الأحد عشر الأخيرة، من 63% إلى 51%). وفي مثل هذه الحال فإنّ استفزازًا على ساحة لبنان، يدفع إلى نشوب نزاع إسرائيليّ مع حزب الله، وإلى هجوم إسرائيليّ هائل على لبنان، قد يتوسّع إلى حربٍ شاملةٍ ضدّ إيران تُرغم الولاياتُ المتحدة فيها على القتال إلى جانب إسرائيل. ومع أنّ الولايات المتحدة، كما قيل، حذّرتْ إسرائيلَ من شنّ هجوم على إيران بلا داعٍ استفزازيّ، فإنه سيكون أصعبَ بالنسبة إليها أن تمنع مثل هذه الحرب على إيران إذا جاءت ضمن سياق سلسلة من الأحداث كهذه لا يمكن ضبطُها. بيْد أنّ سيناريو كهذا بالغُ الخطر على إسرائيل. ذلك أنه قد يؤدّي إلى حرب أميركيّة أخرى في العالم الإسلاميّ لا يمْكن إلا أن تخسرها الولاياتُ المتحدةُ في خاتمة المطاف، وستكون إسرائيلُ هذه المرة هي الطرفَ المَلُومَ بما لا يقبل التأويل. ولمّا كانت المصالحُ الأميركيّة ستعاني معاناةً هائلةً إنْ حدث هذا، فإنه (هذا السيناريو) يهدّد إلى الأبد بتنفير الجيش الأميركيّ والمؤسّسات الاستخباراتيّة والدبلوماسيّة الأميركيّة من إسرائيل. وكلا الطرفين أشدُّ فتورًا [أصلاً]، وعلى نحو جليّ، حيال إسرائيل من أيّ وقت مضى منذ ستينيّات القرن العشرين. وهجومٌ كهذا قد يقوّي على الأرجح النظامَ القائمَ في إيران، ويجبر إيرانَ على تطوير السلاح النوويّ وسيلةً وحيدةً لحماية نفسها من اعتداءات أخرى في المستقبل. لكنْ أن تبدو مثلُ هذه السياسة غيرَ عاقلة فذلك لا يعني بالضرورة ألاّ تتبنّاها الحكومة الإسرائيليّة. أما العائق الرئيس دونها فهو أنها ستخالف مخالفة صريحةً سياسةَ إدارة أوباما في الشرق الأوسط، وستثير غضبها، وربما غضبَ الجمهور الأميركيّ. غير أنّ نتنياهو قد يَحسب أنّ الدعمَ القويَّ الذي يتلقّاه من الكونغرس والإعلام الأميركيّ يمكن أن يحميَه، وأنّه قد يكون عليه في كلّ الأحوال أن يقلقَ بشأن أوباما حتى حلول انتخابات عام 2012 فقط، وهي انتخاباتٌ يبدو أنّ أصدقاءه الجمهوريين يمتلكون حاليًا حظًا جيدًا في كسبها. من بين الأمور الأخرى التي قد تَحول دون وقوع مثل هذا الهجوم سياسةٌ عربيّة جمعيّةٌ عاقلةٌ تجاه إيران، تتضمّن حلاً للنزاعات، فضلاً عن تهديدات عربيّة حازمة بعواقبَ وخيمة إن هاجمتْ إسرائيلُ لبنانَ بهدف استفزاز حرب إقليميّة على إيران. لكنّ الأمرين مستبعدان للأسف، نظرًا إلى ضعف معظم الأنظمة العربيّة، وعداوةِ عددٍ كبيرٍ منها لإيران واعتمادِه على الولايات المتحدة. ومع أنّ إمكانيّة عقد صفقةٍ نوويّةٍ إيرانيّة ـــــ أميركيّة أمرٌ مستبعد، وإمكانيّةَ حصولِ «مقايضةٍ كونيّةٍ» تشمل حلاً للنزاعات بين الطرفين أمرٌ أكثرُ استبعادًا، فإنّ الإمكانيتيْن كلتيهما قد تجعلان من هجوم إسرائيليّ على لبنان أمرًا أقلَّ احتمالاً. لكنّ تقاربًا أميركيًا ــــ إيرانيًا قد يستفزّ إسرائيلَ للهجوم على لبنان، لمجرّد أن تَمنع حصولَ ذلك على حسابها. على أنّ تقاربًا كهذا، أو حتى صفقةً نوويّةً تتيح لإيران أن تواصلَ تخصيب اليورانيوم تحت إشرافٍ دوليّ قاسٍ، غير مرجّحين نظرًا إلى ضعف النظام الإيرانيّ، ونظرًا إلى المعارضة القويّة التي يبديها الحزبُ الجمهوريُّ الأميركيّ وقسمٌ كبيرٌ من الحزب الديموقراطيّ الأميركيّ حيال اعتماد سياسةٍ عقلانيّةٍ تجاه إيران. ونتيجةً لذلك، فإنّ أوباما لا يحظى إلا بدعم شعبيّ ضئيل للسياسة التي يَظْهر أنه يؤْثرها، وهو لم يفعل سوى القليل لبناء دعمٍ كهذا. إذاً، مع أنّ الهجوم على لبنان في المستقبل القريب لا يبدو مرجّحًا، فإنه لا يمكن استبعادُه. إنّ الانجرافَ المتواصلَ باتجاه مواجهةٍ أميركيّةٍ ــــ إيرانيّة، يخشاها المسؤولون العسكريون والاستخباراتيون والدبلوماسيون الأعلون في واشنطن، والضعفَ السياسيّ المتزايدَ لإدارة أوباما، قد يسهّلان حصولَ هذا السيناريو الكابوسيّ. وهذا السيناريو قد يبدأ بهجومٍ على لبنان، الذي قد لا يكون سوى ميدانٍ لتنفيذ خطّةٍ أكبر وأشدّ شيطانيّةً. * أستاذ كرسيّ إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا في نيويورك
■ ■ ■
الضوء برتقاليّ في لبناننوام تشومسكي * 1) إسرائيل تتصرّف في الفترة الأخيرة بطريقة لاعقلانيّة، وهي في حالٍ عاليةٍ من البارانويا [جنون الارتياب أو الاضطهاد] بحيث لا يمكن التيقّنُ من التنبّؤ.
2) أحد أهداف إسرائيل من شنّ حرب على لبنان قد يكون نزعَ رادعٍ أمام الهجوم على إيران. الهدف الآخر قد يكون ترسيخَ فكرة أنّ الإسرائيليّين هم القوّة الإقليميّة المهيمنة، وأنّ على الآخرين ألاّ يتجرّأوا على «رفع رؤوسهم»، وهذا تعبير ليس بغير المألوف في الخطاب الإسرائيليّ عن العرب. والهدف الثالث قد يكون بناء «الصدقيّة»، أي بناء الخوف، وذلك بعد سلسلة فشلهم عام 2006 وردّة الفعل الدوليّة على مجازرهم في غزّة وجرائمهم على أسطول الحريّة بعد ذلك. ولمّا كانت إسرائيل لا ترغب في قبول هدنة مع «حماس»، ولا (على نحو أعمّ) قبول تسوية سياسيّة تنسجم مع الإجماع الدوليّ والقانون الدوليّ، فإنّها ستواجه هذه المشاكل دائماً؛ وهذه هي الحال منذ عام 1971 حين اتّخذت القرارَ الكارثيّ بإيثار التوسّع على الأمن، رافضةً عرضَ السادات للسلام. ولقد استطاع الإسرائيليّون، بدعم حازم من الولايات المتحدة، فرضَ إرادتهم، على نحو كبير جدًا. أما في لبنان، فقد يكون الضوء برتقاليًا على الأقلّ، وربّما أخضرَ، شأن كلّ الاجتياحات الإسرائيليّة للبنان، إلى حين يبدأ الهجومُ بإلحاق الأذى بالمصالح الأميركيّة: فإذّاك، ستأمر الولاياتُ المتحدةُ بوقفه، فتطيع إسرائيلُ الأمرَ، كما حدث عام 1982 وبعد ذلك.
3) في ما يخصّ إيران، أعطت الولايات المتحدة حتى الآن ضوءًا أحمر. ولكنّ هذا قد يتغيّر إنْ تصرّفتْ واشنطن بيأس نتيجةً لفشلها في أمكنة أخرى في المنطقة. وهي تبني استعدادات كبيرةً وواضحةً للهجوم [على إيران].
4) ما يمكن عمله لوقف الحرب؟ المألوف! حاولوا أن تصدّعوا حواجز التضليل الإعلاميّ، وسوء الفهم، وأحيانًا الخداع الصُراح. وعبِّئوا ما يكفي من المعارضة الشعبيّة للتأثير في السياسة الأميركيّة، التي هي العامل الحاسم.
* مفكّر أميركي
■ ■ ■
لبنان لم يعد استثناءًمعين ربّاني * تشير كلُّ الدلائل المتوافرة إلى أنّ اندلاع الحرب الإسرائيليّة ــــ اللبنانيّة المقبلة ما هي إلا مسألةُ وقتٍ فحسب. وعلى الرغم من أنّ احتمال بدء الحرب من جانب اللبنانيين أو غيرهم من العرب لا يُمْكن استبعادُها، فإنّ السيناريو الأرجح هو أنّ إسرائيل هي مَنْ سيُشعلها. لقد برهنَ لبنانُ، على امتداد العقديْن الأخيريْن، ولا سيّما منذ عام 2006، أنّ الزمن الذي كانت فيه إسرائيلُ قادرةً على محو أعدائها، أو تركيعِهم، قد ولّى إلى غير رجعة. وتكمن مشكلة إسرائيل في أنّ لبنان لم يعد الاستثناءَ الذي يُثْبت القاعدة، بل غدا تجسيدًا لقاعدة جديدة. لقد أشار البعضُ إلى أنّ عجزَ إسرائيل عن تحقيق نصر حاسم [ضدّ حزب الله] يعني أنّها لن تهاجمَ لبنانَ، وأنها إنْ أرادت فلن تستطيع ذلك. غير أنّ هذا القصورَ قد يكون تحديدًا السببَ الذي سيدفعها إلى مهاجمة لبنان. إنّ خيار إسرائيل البديل من الحرب، ألا وهو السماحُ لتحدٍّ استراتيجيٍّ صاعدٍ [إيران] بأن ينمو بلا عوائق، وبأن يشجّع (وربّما يساعد) آخرين في المنطقة على طرح تحدّيات مماثلة، إنما هو بديلٌ يساوي موتَ إسرائيل بألف طعنة. بيْد أنّ تدميرَ حزب اللّه ليس على قائمة أهداف المخطّطين الإسرائيليّين، إلا إذا فقدوا صوابهم نهائيًا. الأرجح أنّ الجيش الإسرائيليّ سيُكلَّف بمهمّة إضعاف قدرات الحزب وقيادته السياسيّة وبنيته التنظيميّة التحتيّة إضعافًا كبيرًا. ولهذا فإنّ الجيش سيسعى، بالقوّة الكاسحة، إلى إلحاق أكبر حجم ممكن من الدمار في أقلّ وقت ممكن.
ما يهمّ إسرائيلَ أكثر ممّا سبق هو أن تَشلَّ قدرةَ حزب اللّه على إعادة بناء نفسه بعد الحرب، بحيث تَحول دون أن ينهض أقوى ممّا كان، كما حدث بعد عام 2000 ومجدّدًا في أعقاب حرب 2006. ولتحقيق ذلك ستبذل إسرائيلُ قصارى جهدها لمحو الدولة اللبنانيّة، والجيشِ اللبنانيّ، والبنيةِ التحتيّةِ المدنيّةِ اللبنانيّة، وكلُّها اعتادت إسرائيلُ وصفَها روتينيّاً بأنها امتداد لحزب اللّه. إنّ التسبُّب المتعمَّد في وقوع عدد هائل من الضحايا المدنيّين أمرٌ ينبغي أن يكون متوقّعًا، لا لأنّ هذا هو أسلوبُ إسرائيل في الحرب فحسب، بل لأنّ المخطّطين الإسرائيليِّين يَعتبرون أيضًا أنّ ذلك ــــ مترافقًا مع تدمير لبنان ــــ أمرٌ حاسمٌ في التعجيل بقيام معارضة شعبيّة [لبنانيّة] منظّمة ضدّ حزب اللّه. وليس أقلَّ من ذلك أهمّيّةً أن تَعتبر إسرائيلُ أنّ هجومًا شاملاً على الدولة والمجتمع اللبنانيّيْن هو أكثرُ السياسات «الوقائيّة» فعّاليّةً ضدّ مَنْ لا يكفّ عن التململ والإزعاج في أمكنة أخرى من المنطقة، شعوبًا وأنظمةً. أمّا إذا كان هذا الهجوم الإسرائيليّ سيتمتّع بموافقة أميركيّة مسبقة، أو إذا كانت واشنطن ستشجّع عليه كما فعلتْ عام 2006، فذلك أمرٌ لا أهميّة له تقريبًا. ذلك أنّه منذ اللحظة الأولى التي يتعرّض فيها أولُ مواطن عربيّ للإصابة والتشويه جرّاء إطلاق إسرائيل النارَ من أسلحتها الأميركيّة الصنع، ستنبري «النخبُ» الأميركيّة مهلّلة كالمراهقين في مهرجان لموسيقى الروك مطالبةً بالمزيد والمزيد. وكما حدث في عام 2006 فإنّ هذه النخب لن تُخْرسَها إلا الهزيمة. إذا كان هذا التشخيص معقولاً، فإنّ قوّة حزب اللّه العسكريّة، وازديادَ حزمِ الجيش اللبنانيّ، سيعجّلان في وقوع الحرب بدلاً من أن يؤجّلاها. والحقّ أنّ لبنان لا يبدو قادرًا على إحباط النوايا الإسرائيليّة، إلاّ إذا أحيا بشير الجميّل من بين الأموات ونصَّبَه رئيسًا للجمهوريّة وعيَّنَ حكومةً جديدةً من أشخاص اتُّهموا أخيرًا بالتجسّس لحساب إسرائيل. كما أنّ التزامات سوريا (وإيران) بالدفاع عن لبنان ــــ إنْ كانت هذه الالتزاماتُ جدّيةً فعلاً ــــ ستزيد على الأرجح، بدلاً من أن تقلّل، من حوافز إسرائيل على التعامل [بقسوة] مع مشكلتها الاستراتيجيّة المتنامية. لكنْ، مثلما أنّ إسرائيل تتّجه نحو الحرب بسبب فشلها في إعادة بناء لبنان سياسيًا (وبخاصّة عبر مبادرات تيري رود ــــ لارسن السامّة)، فإنّ خيارَ لبنان الأوحد للحؤول دون نشوب نزاع مسلّح قد يكون في معالجة مشكلة أهمّ، وهي: حصانةُ إسرائيل وعدمُ خضوعها للمحاسبة عند تعاملها مع العرب. غير أنّ هذا مشروعٌ بعيدُ الأمل ولن يؤتي ثمارَه على الأرجح قبل أن تطوي الحربُ أوزارها. وإذا كانت أعمالُ العداء محتومةً فعلاً فإنّنا نأمل أن يكون لبنانُ، وأن يكون الآخرون الذين يدركون الأخطار المحتملة، قادرين على القيام بما يرسِّخ عدم جدوى الحرب في وعي الإسرائيليِّين لأجيال قادمة! * أحد محرّري مجلة «ميدل إيست ريبورت»
■ ■ ■
غاية لا وسيلةنورمن فنكلستين * إنّ كلّ مهمّة كارثيّة إسرائيليّة تزيد مخاطرَ رميةِ النَّرْد المقبلة. ولقد بات على إسرائيل أن تشنّ هجمةً أكثرَ استعراضيّةً من قبلُ لكي تعوِّض سلسلة إخفاقاتها الطويلة (في لبنان عام 2006، وفي غزّة 2008 ــــ 2009، وعلى متن مافي مرمرة ودبيْ 2010،...). ولكنْ يرجَّح أن تركّز أنظارَها على ما هو أكثرُ طموحًا من مجرّد عمليّةِ كوماندوس محدودة ترمي إلى استعادة قدرتها الردعيّة. وإذا كان قادةُ إسرائيل ينظرون إلى غارة عنتيبة بوصفها أنموذجًا لعمليّة كوماندوس متقنة، فإنّهم يَنْظرون إلى حرب حزيران 1967 بوصفها أنموذجًا لعمليّة جيش متقنة. ولّدتْ عقابيلُ مذبحة الأسطول تشكيلةً جديدةً من القوى في الشرق الأوسط. فقد رفضتْ تركيا أن تُذعنَ للضغط الإسرائيليّ (والأميركيّ)؛ وكانت قبل ذلك قد اصطفّت إلى جانب إيران، مصوِّتةً في مجلس الأمن ضدّ فرض العقوبات عليها. وسافر بشّار الأسد إلى أنقرة لإبداء الدعم السوريّ لتركيا. وذُكر أنّ حزبَ اللّه تزوَّدَ بصواريخ سوريّة. «إنّ محورَ تركيا ــــ إيران ــــ سوريا ــــ حزب اللّه ــــ حماس هو القوّة الصاعدة، ومحور مصر ــــ السعودية ــــ الأردن ــــ حركة فتح إلى هبوط» (يوري أفنيري). في هذه الأثناء تصاعدت الضغوطُ الدوليّةُ على إسرائيل لدفعها إلى التفاوض مع حماس، وبدأ الرأيُ العامُّ العالميُّ بالتحوّل ضدّ إسرائيل. كان لا بدّ لهذه التطوّرات من أن تستحضرَ في إسرائيل ذكرياتِ عشيّة حرب حزيران 1967. فها هي اليومَ «مطوَّقةٌ» من جديد بأعداء يحثّون الخطى لتدميرها، فيما كان العالم «يتخلّى» بأسره عنها. لقد بات الوضعُ اليومَ مثلما كان في عام 1967 تمامًا: مشهدًا راعبًا للإسرائيليّ العاديّ، وجذّابًا للقادة الإسرائيليِّين. إنّها، بالمعنى العميق، اللحظةُ المُثلى لشنّ ضربة استباقيّة. لا أساسَ لأن نفترض أنّ جيرانَ إسرائيل ينوون مهاجمتها. لكنّ ذلك ليس هو ما يهمُّ إسرائيل. فهي لم ترضَ، ولن ترضى، أن تقيَّدَ حريّتُها في المناورة؛ بل تُطالب بأن تكون لها قدرةٌ مطلقةٌ على التصرّف بالوحشيّة والاستهتار اللذين يَحْلُوان لها. ولعلّ قادةَ إسرائيل يَحْلمون الآن بأنْ تستطيع ضربةٌ قاضيةٌ واحدةٌ أن تعيدَ إليها أيامَ المجد التي شَهِدَتْها بعد حرب حزيران 1967، حين تربّعتْ على الأراضي العربيّة المحتلّة خارج حدودها [عام 48]. الهدف المرجَّحُ الأوّلُ للهجوم الإسرائيليّ هو لبنان، وهو ما تستعدّ إسرائيل بدأب له في الفترة الأخيرة. حتى إنّ أكثر المدافعين عن إسرائيل ابتذالاً، أمثال دانييل كورترز، السفير الأميركيّ السابق لدى إسرائيل، يُقرّ بأنّ إسرائيل ستكون «على الأرجح» هي المبادِرةَ في حال اندلاع أعمال عدائيّة. وهو يورد تخمينات بأنّ الحرب ستقع خلال الشهور 12ـــــ18 المقبلة، ويتنبّأ بأنّ الولايات المتحدة لن تَحول دونها أو لن تكون قادرةً على ذلك.
قد تكون ذريعةُ إسرائيل لضربة عسكريّة أولى على لبنان أنّ حزب اللّه كدّس ترسانةً هائلةً من الصواريخ والقذائف التي تستهدفها. الواضح أنّ الهجوم الإسرائيليّ سيكون صورةً مكرَّرةً عن غزو غزّة، ولكنْ على نطاق أضخمَ بكثير. وقد أعلن جنرالٌ إسرائيليٌّ بعيْد غزو غزّة أنّ جيش الدفاع الإسرائيليّ «سيواصل تطبيقَ» عقيدة الضاحية، وذلك بتسديد قوة هائلة إلى البنية التحتيّة المدنيّة «في المستقبل». وفي اليوم الذي جرت فيه مذبحةُ أسطول الحريّة، أوردتْ «أخبار الدفاع» Defense News المقرَّبةُ من السلطة أنّ هجومًا إسرائيليًا محتملاً على لبنان «سيَشْمل أعمالَ هجوم على البنية التحتيّة الوطنيّة [اللبنانيّة]، وحصارًا بحريًا شاملاً، وضربات تدميريّةً على الجسور والطرق العامّة»، في الوقت الذي «تنفِّذ فيه القواتُ البرّيّةُ استيلاءً ضاريًا على الأراضي في ما يتخطّى بكثيرٍ نهرَ الليطاني». إنَّ جوهرَ العقيدة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة، على ما أوضح نائبُ قائد الأركان في جيش الدفاع، هو أنّ على «كلّ جولة جديدة من القتال أن تأتي بنتائجَ أسوأَ من الجولة الأخيرة» على أعداء إسرائيل. لقد أورد محلّلون عسكريون بارزون في هآرتس، استنادًا إلى «معلومات استخباراتيّة قيّمة»، أنّ «حزبَ اللّه نقل معظمَ مستودعاته ومراكز توجيهه ومخازن صواريخه إلى جنوب لبنان، بعيدًا عن الحقول، وداخل القرى والبلدات الشيعيّة الـ160 في المنطقة». الهدف الواضح وراء نشر هذه المعلومات «الاستخباراتيّة» الإسرائيليّة الأخيرة ليس، كما يدّعي الإسرائيليّون، «تحذيرَ حزب اللّه»، بل ليبرِّروا هجومًا هائلاً آخرَ على مدنيّي لبنان وبنيته التحتيّة المدنيّة، علمًا بأنّ قوّات الأمم المتحدة المتمركزةَ في جنوب لبنان (اليونيفيل) «لم تعثرْ على أيّ دليل على بنية تحتيّة عسكريّة جديدة في منطقة عملها». كثيرٌ من اللبنانيين يجدون العزاءَ في أنّ الحرب المقبلة لن تكون أسوأَ من سابقتها، لكنّ إسرائيل، مهما كان هولُ الدمار الذي ألحقتْه بلبنان عام 2006، «استثنت معظمَ الضواحي السكنيّة والبنية التحتيّة الأساسيّة غير الشيعيّة، مثل قطاع الاتصالات والطاقة والمياه». وقد أخبر وزيرُ الدفاع الإسرائيليّ باراك الواشنطن بوست أنه في حال اندلاع أعمال العداء من جديد «فسيكون مشروعًا ضربُ أيِّ هدف يخصّ الدولةَ اللبنانيّةَ، لا حزبَ اللّه فقط». قد تُمْكن المُحاجّة بأنّ إسرائيل بعد هزيمتها عام 2006 لن تفتعلَ قتالاً مع حزب اللّه، ناهيك بأن تجازفَ بمواجهة إقليميّة. غير أنّ إسرائيل لم تسلِّم بأنّها لم تعد تمتلك القدرةَ على توجيهِ ضربة هائلة إلى خصومها، بل هي لا تأخذ في الاعتبار أنّ القوّة الإسرائيليّة المقاتلة اليوم، على ما بيّنتْ مهزلةُ الكوماندوس من جديد، لم تعد كما كانت في السنوات الماضية؛ وأنّ القوى التي تصطفّ في مواجهتها أشدُّ بأسًا من القوة الناضبة التي هزمتْها إسرائيلُ عام 67. وإنَّه لأمرٌ ذو دلالة أن يتحدّث الإسرائيليّون، بعد كلّ عمليّة فاشلة جديدة، عن أخطاء «عملانيّة»، لا عن أخطاء في المفاهيم؛ والافتراضُ الإسرائيليُّ الضمنيُّ هنا هو أنّه في حال تصحيح تلك «الأخطاء العملانيّة» فسيكون تحقيقُ الأهداف الإسرائيليّة في المرّة المقبلة ممكنًا وأكيدًا.
الافتراض الثاني الخطأ هو أنّ إسرائيل لن تهاجم حزبَ اللّه إلا إذا ضمنتْ هزيمتَه عسكريًا. لكنّ الواقع هو أنّ السياسة بالنسبة إلى إسرائيل، نقضًا لمبدأ كلاوشفيتس، غالبًا ما تكون حربًا بوسائلَ أخرى. فإذ رَسَخَ في النفسيّة الإسرائيليّة أنّ «العرب لا يفهمون إلا لغةَ القوّة»، فإنّ القادة الإسرائيليِّين يَشْعرون بدافع دوريٍّ إلى القيام باستعراض كاسح لقوّتهم الناريّة. الحرب عندهم ليست وسيلةً إلى غاية؛ إنّها الغاية نفسُها. أحد الأخطاء الرئيسيّة التي يُقال إنّ القادة الإسرائيليِّين ارتكبوها عام 2006 هو أنّهم أعلنوا هدفًا طَموحًا مُبالغًا فيه: القضاء على حزب اللّه. فلو كان الهدف المعلن للحرب منْع حزب اللّه من إطلاق صواريخه على إسرائيل، لاستطاعت أن تعلن النصرَ على نحو مُقْنع؛ فالواقع أنّ الحدود الإسرائيليّة ــــ اللبنانيّة شهدتْ هدوءًا غيرَ مسبوق بعد الهجوم الإسرائيليّ آنذاك، تحديدًا بسبب الموت والدمار الهائليْن اللذيْن ألحقهما بالمجتمع اللبنانيّ. في حرب مقبلة مع حزب اللّه قد تعلن إسرائيلُ أنّ هدفها هو إضعافُ قدرات حزب اللّه الصاروخيّة في المدى القريب؛ ثم تشنّ حربَ «ترويع وصدم» لنزع بضعة آلاف من صواريخ حزب اللّه؛ وبعدها تعلن النصرَ. وفي الوقت نفسه، ومثلما فعلتْ في غزّة تمامًا، ستعمد إلى تدمير البنية التحتيّة المدنيّة اللبنانيّة لإنذار العالم العربيّ ــــ الإسلاميّ بألا يفكّر في تقييد حركة إسرائيل في المناورة، ولقَلْب الشعب اللبنانيّ ضدّ حزب اللّه. لقد أعلن نصر اللّه مرارًا وتكرارًا أنّه في حال نشوب حرب جديدة فسيكون الردّ هو العينُ بالعين والسنُّ بالسنّ. سمعةُ نصر اللّه بأَسْرها، وهو يَعْلم ذلك، تستند إلى التطابق التامّ بين كلماته وأفعاله، خلافًا للقادة العرب، من عبد الناصر إلى صدّام حسين. بكلامٍ آخر، كلُّ الأسباب تؤكِّد فرضيّة أنّ نصر اللّه يعني ما يقول وأنّه سيفي ــــ وينبغي أن يفي ــــ بما وعد به. من المخيف تصوُّرُ ما ستفعله إسرائيل إذا استهدف حزبُ اللّه تل أبيب. فحين سُئل ضابطٌ رفيعٌ في الأركان العامّة الإسرائيليّة إنْ كان القانونُ الدوليُّ سيَرْدع إسرائيلَ، أجاب بلا تردُّد: «حين تحلِِّّق الصواريخُ فوق تل أبيب في الحرب المقبلة، ونحن نفترض أنّها ستفعل، فسنردُّ بكلّ القوّة اللازمة. لا توهموا أنفسَكم أنّ أحدًا سينتظر رجالَ القانون!». ويغدو الاحتمالُ أكثرُ هولاً إذا اعتبرنا أنّ هجومًا إسرائيليًا على لبنان قد يستدعي تدخّلَ إيران وسوريا، ولا سيّما إذا قرّرتْ إسرائيلُ أن تستعيد حزيران 1967 لتوجيه ضربة قاضية واحدة إلى كلّ خصومها، أو إذا تصوّرتْ إيرانُ وسوريا (بحقّ) أنّ هجومًا على حزب اللّه وهزيمتَه مقدِّمةٌ للهجوم عليهما. النقطة الجوهريّة هي أنّ إسرائيل لن تتحمّلَ هزيمةً أخرى على يد حزب اللّه، وأنّ الولايات المتّحدة ستتدخّل إذا أوشكتْ إسرائيلُ على الهزيمة، وأنّ حزب اللّه لن يتحمّل هو الآخر هزيمةً على يد إسرائيل، وأنّ إيران وسوريا ستتدخّلان هما أيضًا تدخلاً شبه مؤكّد إذا أوشك الحزبُ على الهزيمة. والواقع أنّ هجومًا إسرائيليًا على حزب اللّه سيجرّ سلسلةً من ردود الفعل التي لن يريد أيُّ إنسان عاقل أن يتصوّرَ أبعادَها! يَظْهر أنّ حسابات حزب اللّه تقول إنّ تصميمه المعلن على ضرب الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة، في حال هجوم إسرائيل على لبنان، سيَمْنعها من هذا الهجوم. غير أنّ القادة الإسرائيليّين قد يكونون على استعداد للمجازفة بوقوع عدد كبير من القتلى المدنيِّين الإسرائيليِّين من أجل توجيه الضربة القاضية إلى الحزب. هذا، وقد استثمرتْ إسرائيلُ منذ حربها على لبنان عام 2006 مبالغَ هائلةً في البنية التحتيّة للدفاع المدنيّ، وأجرت تدريباتِ دفاع مدنيّ سنويًا وكأنّها تُعدّ جبهتَها الداخليّةَ لضربات ثأريّة محتملة. وهي في كلّ الأحوال عاجزةٌ بنيويًا عن تصوّر نفسها في العالم العربيّ ــــ الإسلاميّ إلا في موقع «السيّد»، وعَبْر لغة القوّة. بل إنّ قادتها قد يستسيغون هجومًا [من حزب اللّه] على المدنيِّين الإسرائيليِّين لكي يُثيروا هستيريا داخليّةً ويَضْمنوا تعاطفًا عالميًا مع نهاية إجراميّة إسرائيليّة. لكنْ إذا واصلتْ ضرباتُ حزب اللّه الثأريّة إيقاعَ ضحايا مدنيِّين إسرائيليِّين بما يتجاوز حدًا معيَّنًا، فإنّه لن يكون في مقدور إسرائيل إعلانُ نصر عسكريّ بعد حربها الماحقة، وقد يَخْرج الدمارُ المتبادلُ بين الطرفيْن عن السيطرة. * باحث أميركيّ. يصدر له قريبًا كتابٌ جديد عن دار الآداب بعنوان: «هذه المرّة تماديْنا كثيرًا».
■ ■ ■
إسرائيل تستسلم لأخطائهاأوغوستوس نورتون * بمقدورنا أن نبني حجّةً عقلانيّةً جداً لكي تحافظ إسرائيلُ على وضعها الراهن حيال لبنان، بدلاً من مهاجمته بهدفٍ مفترضٍ هو نزعُ سلاح حزب اللّه. فبغضّ النظر عن «حادثة الشجرة» مطلعَ آب هذا العام، فإنّ حدودها مع لبنان هادئة جداً منذ انتهاء حرب 2006. وباستثناء الأراضي المتنازع عليها في مرتفعات الAffinityCMSن المحتلّ، وبخاصةٍ مزارع شبعا، فإنّ المنطقة الحدوديّة كانت هادئةً هي الأخرى منذ الانسحاب الإسرائيليّ منها عام 2000 وحتى تمّوز 2006. ومنذ تسعينيّات القرن الماضي وقواعدُ اللعبة بين حزب اللّه وإسرائيل مفهومةٌ جداً، وأفعالُهما وردودُ أفعالهما محسوبةٌ عموماً (خلافًا لخُطَبِهما). أمّا تمّوز ـــــ آب 2006 فكانت استثناءً بالطبع. ثمة احتقاناتٌ مذهبيّةٌ لبنانيّةٌ داخليّةٌ مقلقة، ولا سيّما بين الشيعة والسنّة، لا تلبث أن تندلع في مواجهات قاتلة، كما حصل في أواخر آب بين حزب اللّه و«جمعيّة المشاريع». ومع ذلك، فإنّ رواية حزب اللّه عن المقاومة ضدّ إسرائيل مدعومةٌ في أوساط الشيعة دعماً واسعاً، وإنْ كانت محطَّ سخريةِ بعض الأوساط اللبنانيّة الأخرى. ثم إنّ البيان الوزاريّ اللبنانيّ بتاريخ تشرين الثاني 2009، وهو الذي تألّفت الحكومةُ اللبنانيّةُ الحاليّةُ على أساسه، تبنّى حقّ «المقاومة»، وأَلْزم الحكومةَ ـــــ في الوقت نفسه وبطريقة متناقضة ـــــ بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701. ومع أنّ التعليقات الساذجة في الولايات المتحدة تركِّز على حاجة الجيش اللبنانيّ إلى نزع سلاح حزب اللّه، فإنّه من الواضح أنّ مقاومة إسرائيل تحظى بالموافقة في صفوف الجيش وضبّاطه؛ واحتمالاتُ نزع الجيش سلاحَ الحزب معدومة تماماً. إذا هاجمتْ إسرائيلُ لبنانَ بهدف إضعاف حزب اللّه، إنْ لم يكن بهدف هزمه وتدمير قسمٍ مهمٍّ من ترسانته الصاروخيّة، فإنّها ستجازف بعدم تحقيق هدفها. وفي هذه الحال فإنّ رواية حزب اللّه لن تُضعَف، بل ستُعزَّز مرّةً أخرى. لقد زعمتْ مصادرُ عسكريّة إسرائيليّة مؤخّراً أنّ حزب اللّه يمتلك «قواعد» في أكثر من 100 قرية في الجنوب. وهذا يوحي بقيام حملةٍ عسكريّةٍ إسرائيليّةٍ تسبّب دماراً أوسع من دمار حرب عام 2006. غير أنّ مشهد دمارٍ ينبعث منه اللهبُ على امتداد الجنوب اللبنانيّ يُرجَّح أن يُلهِمَ، لا أن يوهِنَ، دعمَ الناس لحزب اللّه.
علاوةً على ذلك فإنّ إسرائيل لن تَسْلم من الأذى إنْ شَنّت الحربَ على لبنان. فالحال أنّ نيران الصواريخ المدمِّرة المنصبّة على شمال إسرائيل ستؤدّي إلى تهجير مليون إسرائيليّ أو أكثر. وإذا وفى حزبُ اللّه بوعده بالثأر لأيّ هجومٍ إسرائيليّ على لبنان، فإنّ الأخطار ستتساقط على إسرائيل [كالشلّال]. وهذا يقدِّم، في المحصّلة، أسباباً عقلانيّةً لعدم مهاجمة إسرائيل لبنان. غير أنّ هناك سبباً وجيهاً قد يستدعي القلقَ من أنّ الإسرائيليّين لن يرتدعوا. فإسرائيل ـــــ وبدعمٍ سخيٍّ جداً من الولايات المتحدة ـــــ ملتزمةٌ بالحفاظ على تفوّقها العسكريّ على أيّ مزيجٍ من الخصوم الإقليميّين. كما أنّ الثقافة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تؤكّد حاجةَ إسرائيل إلى «الحفاظ على قوّتها الردعيّة»: وهذا يعني أنّ خصومَ إسرائيل [بحسب هذه الثقافة] لن يفكّروا جدّياً في مهاجمتها لأنّ هزيمتهم ستكون مؤكّدة، وستصبّ عليهم إسرائيلُ قوّةً عسكريّةً غيرَ متكافئة إنْ حاولوا ذلك؛ وما الحملةُ العقابيّة على غزّة في كانون الأوّل 2008 إلّا مثالٌ على الحالة الأخيرة. وفي حالة حزب اللّه تحديداً، فإنّ إسرائيل تواجه خصماً أعيد تسليحُه من جديد، خصماً يزدهي باحتقاره للهيمنة الإسرائيليّة. فإذا حصلتْ ذريعةٌ أو سوءُ حساب، فلن يُستبعدَ تصوّرُ خطّة حرب إسرائيليّة تستند إلى فرضيّة هجوم بريٍّ وحشيٍّ وسريع، يترافق مع هجوم جويّ كاسح يهدف إلى هزم المقاومة اللبنانيّة في غضون أسابيع. وستبيّن إسرائيلُ في هذه الحال، كما يُفترض، أنّ حزب اللّه لن يردعها. أما إذا شنّت إسرائيلُ حرباً جويّةً على بنية إيران النوويّة، فإنّه من المسلَّم به أنّ هجوماً إسرائيلياً «وقائيًاً» على لبنان سوف يكون على قائمة أهداف إسرائيل، لأنّه يُفترض أن تأتي أولُ موجةٍ انتقاميّةٍ إيرانيّةٍ على شكل صواريخ يطْلقها حزبُ اللّه. والحقّ أنّ إدارتيْ بوش وأوباما حذّرتا، وبحزمٍ، إسرائيلَ من مغبّة قصف إيران؛ وهناك حماسة ضعيفة في وزارة الدفاع الأميركيّة لشنّ حربٍ على إيران. ونظراً إلى ثقافة إسرائيل الاستراتيجيّة، وإلى ولعها [المَرَضيّ] بـ«الحفاظ على قوّتها الردعيّة»، فإنّها ستبرِّر هجومَها على لبنان أيضاً بالسعي إلى إعاقة مطامح إيران للهيمنة على المنطقة، وإلى التخفيف ـــــ في الوقت نفسه ـــــ من الخطر الذي يَفْرضه حزبُ اللّه على إسرائيل. أثناء حكم بوش شجّع المسؤولون في «مجلس الأمن القوميّ» الحربَ على غزّة بشدّة. أما إدارة أوباما، فالأرجح أن تحثّ إسرائيلَ على ضبط النفس. غير أنّ ذلك لن يمنعَ إسرائيلَ من شنّ حربٍ جديدةٍ إن اختارت القيام بذلك. قد تسود النصيحةُ الحكيمة. وقد تتواصل الأوضاعُ المشحونةُ على امتداد الحدود الإسرائيليّة ـــــ اللبنانيّة لبعض الوقت. لكنّ القرارات الإسرائيليّة غير الحكيمة، والمعادية لأيّ حلٍّ منتِج، باتت شائعةً بطريقة متزايدة. يُضاف إلى ذلك أنّ المسؤولين الإسرائيليّين يستسلمون غالباً لخطأ، وهو أنّ إلحاق الألم بلبنان سيُضعف من دعم حزب اللّه ـــــ وهذا ما لا يحْصل في العادة، وغالباً ما يؤدّي إلى نتائج عكسيّة. * أستاذ الأنثروبولوجيا والعلاقات الدوليّة في جامعة بوسطن، وأستاذ زائر في مادة سياسات الشرق الأوسط في جامعة أوكسفورد. وهو أيضاً عضوٌ في مجلس العلاقات الخارجيّة. آخر كتبه: حزب الله: تأريخٌ قصير (منشورات جامعة برنستون، 2009).
■ ■ ■
إيران أوّلاًمايكل دَش * 1) يبدو واضحًا جدًا أنّ إسرائيل عَيّنتْ حزبَ اللّه في جنوب لبنان خطرًا على أمنها: هو خطر في حدّ ذاته، وخطر لكونه عضوًا في «محور المقاومة» الذي يتضمّن أيضًا حركة حماس وسوريا وإيران. أمّا السؤال عمّا إذا كانت ستهاجم لبنان للتعامل مع خطر حزب اللّه فمركّب، ويعتمد على عواملَ أخرى، وبخاصة على ما ستفعله الولاياتُ المتحدة حيال إيران. شخصيًا لا أعتقد أنّ إسرائيل ستهاجم لبنان، إلاّ إذا هاجمت الولاياتُ المتحدة إيران. 2) إيران وحزب اللّه مرتبطان ارتباطاً لا فكاك منه في عقول القادة الإسرائيليِّين (والجمهور الإسرائيليّ). الخطر الحقيقيّ على إسرائيل من برنامج نوويّ إيرانيّ لأغراض عسكريّة (وهو ما لم تَثْبت حقيقتُه بعد) لا يكمن في أنّ إيران قد تستخدم هذه الأسلحة ضدّ إسرائيل، بل في أنّ إيران الردعيّة النوويّة قد تشعر أنها أقلُّ ضبطًا للنفس في دعم حزب اللّه عسكريًا وفي تشجيعه على مهاجمة إسرائيل بترسانته المتزايدة من الصواريخ التقليديّة. والإسرائيليّون، بصرف النظر عن تبجّحهم، لا يثقون بقدرتهم على مهاجمة بنية إيران النوويّة بنجاح: فلديهم طائراتٌ أقلّ ممّا ينبغي، وعلى هذه أن تعمل عند الحافّة الخارجيّة لمداهم العملانيّ، وضمن مجالٍ جويٍّ متنازعٍ عليه أو «غيرِ صديق» على الأقلّ.
وحدها الولاياتُ المتحدة تملك ما يلزم من الطائرات، ومن القواعد في المنطقة، ومن العلاقات الداعمة لها من طرف جيران إيران، لكي تُنجز هذه المهمّةَ بأمل معقول من النجاح. وبالإجمال، فإنّ إسرائيل تتلهّف لمهاجمة حزب اللّه في سياق حرب أكبرَ ضدّ محور المقاومة، ولكنّي أشكّ في أنّها ستفعل ذلك خارج الاحتمال السابق ذكره. ففي النهاية بيّنتْ حربُ لبنان الثانية عام 2006 أنّ حملةً عسكريّةً ضدّ حزب اللّه وحده ستكون عمليّةً ضخمةً، وإذا لم تهاجم الولاياتُ المتحدة إيرانَ فإنّ راعي حزب اللّه الأساس [أيْ إيران] سيجد طرقًا لمعاقبة إسرائيل ولإعادة بناء حزب اللّه بسرعة.3) «الضوء الأخضر» الأوحد الذي ستعطيه الولاياتُ المتحدة إلى إسرائيل في لبنان هو أن تهاجم الأولى إيرانَ نفسَها. غير أنّني لا أعتقد أنّ الولايات المتحدة، وتحديدًا في ظلّ إدارة أوباما التي تسعى إلى أن تنهي تدريجيًا حربًا في العراق، وتسعى إلى أن تجد سبيلاً للخروج من أفغانستان، متلهّفةٌ على التزام عسكريٍّ كبير جديد. إنّ الوضع في العراق خطرٌ جدًا، وتمتلك إيران هناك عددًا كبيرًا من الأوراق الرابحة. وإنّ هجومًا أميركيًا على إيران سيؤدّي بلا شكّ إلى مزيد من التدخّل الإيرانيّ في العراق. وعليه، فإنّني أشكّ في أن تَدْعم الولاياتُ المتحدة هجومًا إسرائيليًا على لبنان، إلا في حال استفزاز خطير يقوم به حزبُ اللّه (وهو ما لا يُبدي الحزبُ أيّة إشارة إليه).
4) إنّ مفتاح الحؤول دون هجوم إسرائيليّ على لبنان هو أن تكبح الولاياتُ المتّحدة نفسَها من الهجوم على إيران. المفارقة اللاذعة هي أنّ الارتباطات المتداخلة بين حزب اللّه وإيران، التي يشير إليها القادةُ الإسرائيليون دوماً، لهي أسبابٌ قويّةٌ أيضًا لكي تكبحَ إسرائيلُ نفسَها هي الأخرى من الهجوم على لبنان، هذا في حال عدم تورّط الولايات المتحدة في صراع أكبر كما سبق الذكر. * بروفسور ورئيس قسم العلوم السياسيّة في جامعة نوتردام. آخر كتبه هو بعنوان: القوة والفعّاليّة العسكريّة: وهم الانتصاريّة الديموقراطيّة (منشورات جامعة جونز هوبكينز، 2008)
ما خلا بضعة مواقف أدلى بها قائده العماد جان قهوجي يوم الاثنين، بعد اجتماعه بقائد القوة الدولية في الجنوب الجنرال ألبرتو أسارتا، لم يقل الجيش كلمته في ما حدث في الأسبوعين المنصرمين في الجنوب
نقولا ناصيف التزام المؤسسة العسكرية الصمت، وتفاديها شرح ما وقع أو اتخاذ موقف، عبّر ضمناً عن موقف مكتوم. لم تشأ الدخول في سجال مماثل للذي دار بين قيادة القوة الدولية وحزب الله، وبين السياسيين الذين دعموا هذا الفريق أو ذاك، واكتفت بتوجيه رسائل إليهما عكست التسوية التي انتهى بها يوم السبت الفائت الاتفاق بين الجيش وقيادة القوة الدولية. ظاهر الاتفاق البنود الآتية: كان الوجه الآخر لهذا الاتفاق تسوية لم تُشعِر أياً من فريقي المواجهة، القوة الدولية وحزب الله، أنه خسر هيبة موقعه ودوره جنوبيّ نهر الليطاني، وهي العودة بالوضع في هذه المنطقة إلى ما قبل الأحداث الأخيرة. وهكذا بدا ما حصل كأنه سوء تفاهم عابر متبادل، بعدما أكد الطرفان تمسّكهما بالقرار 1701 وعلاقة حسن الجوار واستمرار مهمة القوة الدولية جنوبيّ نهر الليطاني. على مرّ هذه الحوادث، لم يُطرح مرة احتمال إنهاء مهمة أي من وحدات القوة الدولية ولا التهديد بذلك. ولا بدا حزب الله ـــــ في نظر الجيش على الأقل ـــــ يقدّم ذريعة مجانية لمشكلة خطيرة مع القوة الدولية، ولا سبّبها سلاحه تحت أرض القرار 1701. ورغم أن الأزمة تلك نشبت بين القوة الدولية وحزب الله، ومن خلاله السكان، فإن تسوية السبت اقترنت بتفاهم الجيش والقوة الدولية، من غير أن يبدو الحزب طرفاً مباشراً في ما حصل. لم يطلب منه الجيش سوى إشاعة الاطمئنان لدى الأهالي لتطبيع علاقة كانوا قد خبروهما مع رجال القبعات الزرق بتفاوت منذ عام 1978. أما باطن التسوية، فهو أن الجيش لم يكن راضياً عن الطريقة التي أدارت بها القوة الدولية وحزب الله، مباشرة أو عبر السكان، التوتر المتنقل بين قرى الجنوب لأسباب: أولها، أن مبرّرات الحوادث ومؤشراتها ظهرت بداية في المرحلة الانتقالية بين انتهاء مهمة القائد الإيطالي السابق للقوة الدولية الجنرال كلاوديو غراتسيانو وبدء مهمة خلفه الإسباني الجنرال ألبرتو أسارتا. في الأعوام الثلاثة الماضية التي قاد فيها غراتسيانو القوة الدولية، وقعت حوادث مشابهة لم تتفاقم نتائجها، ولا بالغ طرفاها في التصعيد، وأمكن تطويقها كمشكلات محتملة يمكن أن تقع بين جنود دوليين وحزب الله، أو بينهم وبين أهالي البلدات المشمولة بمنطقة عمليات القرار 1701. في المرحلة الانتقالية التي استمرت شهرين، لاحظ الجيش أن ضباطاً كباراً في قيادة القوة الدولية سعوا إلى اتباع قواعد جديدة في ممارسة هذه القوة صلاحياتها وأدائها مهمتها، وبدا الأمر اجتهاداً من ضمن التفسير غير الملتبس لقواعد الاشتباك التي درجت القوة الدولية منذ عام 2006 على التزامها في دورياتها في البلدات الجنوبية. عَكَسَ هذا الاجتهاد، تبعاً لما لمسه الجيش، تعاطياً مختلفاً تمثّل أولاً في التصرّف بفردية غير مسبوقة في مهمات القوة الدولية المكلفة وفقاً للقرار 1701 مساعدة الجيش على بسط الشرعية اللبنانية جنوبيّ نهر الليطاني، وثانياً في خفض مستوى التنسيق مع الجيش، ما أوحى أن عمل القوة الدولية يسعه أن يكون مستقلاً عن عمل الجيش، انطلاقاً من أن للقوة الدولية حق ممارسة حرية التحرّك في تنفيذ قرار مجلس الأمن. في المقابل، كانت للجيش وجهة نظر مختلفة، هي أنه هو صاحب الأرض، وهو الذي يقدّر كيفية التصرّف والتحرّك من ضمن القرار 1701. ثانيها، الدور الذي اضطلع به رئيس أركان القوة الدولية، وهو الرجل الثالث في سلّم هرميتها ويكون غالباً فرنسياً، وقائد الوحدة الفرنسية الجنرال فانسان لافونتين في مجموعة تحرّكات قامت بها وحدته، لم تحظَ دائماً برضى الجيش. انتهت مهمة لافونتين أمس، وينتظر أن يغادر لبنان قبل نهاية هذا الأسبوع بعدما وصل خلفه البارحة إلى بيروت، إلا أنه أربك الجيش في الأسبوعين الأخيرين، وخصوصاً في المرحلة الانتقالية بين مغادرة غراتسيانو ومباشرة أسارتا مهماته. لم توافق المؤسسة العسكرية على عدد من الإجراءات التي اقترحها لدوريات الوحدة الفرنسية كأن تتجوّل في أحياء ضيقة وبآليات ثقيلة غير مألوفة، وتعمّد التصوير في بلدات أثار بدوره قلق حزب الله الذي لاحظ، بشكوك، تكثيف الجنود الفرنسيين دورياتهم والتصوير في بلدات شهدت اشتباكات وتماساً حاداً بين الحزب والجيش الإسرائيلي في حرب تموز 2006. ورغم أن الحزب لفت الجنود إلى عدم تحبيذه تصوير هذه البلدات، لم تكترث الدوريات الفرنسية. عزّز ريبته ما سمعه الحزب من جنود آسيويين، ماليزيين وإندونسيين، عاملين في القوة الدولية من أن القيادة الأوروبية لا تسمح للجنود الآسيويين في الانتشار والتحرّك على الخطوط الأمامية، المنوطة بالوحدات الأوروبية وأخصّها الفرنسية. ثالثها، أن السكان بالغوا بدورهم في ردّ الفعل حيال دوريات 1 ـــــ زيادة التنسيق العملاني بين قيادتي الجيش والقوة الدولية. 2 ـــــ دوام التواصل على امتداد 24 ساعة، وتطويق كل حادث صغير أو عابر تجنّباً لتحميله أي تفسيرات أو تردّدات. 3 ـــــ اتخاذ خطوات إجرائية للعودة بالوضع إلى ما كان عليه في البلدات التي شهدت توتراً بين سكانها وبين الجنود الفرنسيين، بهدف إعادة بناء الثقة بين الطرفين.
الوحدة الفرنسية على نحو ضاعف وطأة التوتر. في جانب من هذا التصعيد دور اضطلع به حزب الله، سواء عبر مسؤوليه الكبار أو مسؤوليه المحليين في رفع نبرة التوتر وإصراره على إبقاء مهمة الجنود الدوليين في نطاق ما اعتادوه منذ عام 2006. كان ذروة ما قيل هو ما أدلى به رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، الأحد، بإعلانه أن الحزب لن يسمح للقوة الدولية بحرية تحرّك خارج نطاق المهمة الفعلية لها والتنسيق الكامل مع الجيش. رابعها، أن الجيش لم يكن راضياً تماماً عن بعض إجراءات الوحدة الفرنسية، ولم تكن البيانات التي أصدرتها قيادة القوة الدولية عن التنسيق بينها وبين المؤسسة العسكرية، في معرض الردّ على انتقادات، تعبّر عن حقيقة موقف الجيش من هذا التنسيق. لم يعنِ الإعلان عن التنسيق مع الجيش على إجراءات معينة أن الجيش كان قد وافق عليها لمجرد أنه أخذ علماً بها، ولا القرار 1701 يتحدّث عن تنسيق بين القوة الدولية والجيش في نطاق إطلاع الأخير على ما تعتزم القوة الدولية، أو تقرّر القيام به. في هذه المسألة بالذات، وقع تناقض بين وجهتي نظر الطرفين المعنيين بالتنسيق. عارض الجيش بعض الإجراءات، فلم توافقه الوحدة الفرنسية على رأيه، عندئذ انتقل الصدام إلى الشارع. وهو مغزى التسوية التي أعادت المؤسسة العسكرية تثبيتها السبت في اجتماع قيادة القوة الدولية مع مديرية الاستخبارات في الجيش، عندما تقرّرت العودة إلى التقيّد بقواعد الاشتباك المنصوص عليها في القرار 1701، والمعمول بها منذ عام 2006. كان الجنرال أسارتا قد أسرّ إلى الجيش بوقوع خطأ في التنسيق معه، في معرض تأكيد تمسّكه بالقرار 1701 وتطبيقه بتفاصيله كاملة. والواقع في نظر الجيش أنّ القوة الدولية لا تستطيع تنفيذ مهمتها دون التنسيق معه، الأمر الذي يقتضي أن يفضي إلى تفاهم الطرفين على هذا التنسيق من ضمن وجهة نظر مشتركة إليه، غير ملتبسة ولا مفتوحة على اجتهادات غير مسبوقة. يؤيد الجيش حرية تحرّك القوة الدولية من ضمن الضوابط التي تنصّ عليها قواعد الاشتباك، فيما نظرت القوة الدولية، ولا سيما ضباط الوحدة الفرنسية، إلى أن حرية التحرّك ينبغي أن تكون مطلقة وأن لا تلقى أيّ تحفظ أو اعتراض من حزب الله أو الأهالي.
اليونيفيل تعمل لتوضيح موقفهانيويورك ــ نزار عبود شدّد المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان الحق، على أن قوات اليونيفيل لم تتصرف من تلقاء نفسها في المناورات التي أجرتها مطلع الأسبوع الماضي في عدد من بلدات جنوب لبنان، وأن الجيش اللبناني الذي لم يشارك فيها كان على علم كامل ومسبق بتفاصيلها. ونفى الحق أن يكون لديه أي علم باستفزازات مارستها قوات اليونيفيل من نوع اجتياح حقول زراعية بالآليات وتدمير موارد رزق الأهالي. ورأى أن اليونيفيل «اتخذت خلال عملياتها التي جرت قبل أكثر من أسبوع عناية خاصة لتقليص الإزعاج والمضايقة للمواطنين. وتبذل اليونيفيل بالتعاون مع الجيش اللبناني كل جهد من أجل التحاور مع الأهالي وتوضيح طبيعة نشاطها لهم. وكما تذكرون، عقد مايكل وليامز (المبعوث الخاص للأمين العام) الأسبوع الماضي لقاءً مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ونقل إليه قلقه حيال بعض الأحداث المحلية التي أدّت إلى عمليات الاعتداء على اليونيفيل». فرحان الحق رفض الرد صراحة على حق اليونيفيل في إطلاق النار على الأهالي، وأكد أن ولاية اليونيفيل تنصّ على حماية الأهالي كما ورد في القرار 1701. وفسّر قوله بأن «ولاية اليونيفيل منصوص عليها في قرارات مجلس الأمن الدولي، ولا سيما القرار 1701. واليونيفيل هناك من أجل حماية المدنيين، هذا جزء من ولايتها. ولن أزيد على ما ورد في قرار مجلس الأمن الدولي». ورداً على سؤال «الأخبار» عن تفسير قيادة اليونيفيل لتدمير الكتيبة الفرنسية حقول التبغ في عدد من القرى الحدودية جنوب لبنان، نفى علمه «بأي نشاط تدميري قامت به قوات من اليونيفيل. والمناورات التي يقومون بها كانت مصممة في الأساس للحصول على صورة واضحة عن القدرات العسكرية القائمة على الأرض... كان هناك سوء نقل وفهم، واليونيفيل تحاول توضيح موقفها وتعمل مع الأهالي على الأرض لتوضيح موقفها، وهم يفعلون ذلك في وقت وقع فيه سوء نقل».
خالد صاغية لكلّ مرحلة أُلعبانُها الفصيح، وخصوصاً حين يكون أصحاب الشأن من غير القادرين على النطق. فاللغة ليست ممّا حسبوا أنّه يدخل حيّز الإفادة. ثمّة عسكريّون وأمنيّون يجدون أنفسهم فجأة في السلطة. اللغة لم تكن جزءاً ممّا يعتدّون به، وهم الرجال الذين افتتنوا زمناً بإمكانياتهم العضليّة. ثمّة رجال أعمال يجلسون على كراسي الحكم. اللغة لا تسعفهم كثيراً في حسابات الصفقات. هؤلاء اعتادوا النوم مع الأرقام. الأرقام ذات الأصفار الكثيرة. هذان الصنفان يخترقان المعسكرات. لا يسار ولا يمين. لا 8 ولا 14. لا تقدّم ولا تخلّف. على جميع الجبهات، باتت القدرة على الكلام العاديّ ممّا يصعب العثور عليه. في ظروف كهذه، ينفش الألعبان ريشه. فهو الذي يتمكّن من صياغة عشر جُمل في دقيقة واحدة. وهو الثابت على مواقفه، لكن المستعدّ لتسلّم أيّ وظيفة قذرة يُكلَّف بها. كذبٌ على الريق. تشهيرٌُ عند الظهر. وتحريضٌ في المساء. الألعبان لا يعمل وحيداً. إنّه الكشّاف الذي يتلقّى الأوامر، فيقود جوقة من الببغاوات الذين يردّدون شعاراته وأقاويله. ببغاوات بربطات عنق، وأحياناً بنمر زرقاء. تحوّلوا جميعاً إلى أزرار يضغطها الألعبان ليسمع تنويعات على جمله الموسيقيّة. ماذا لو سمعنا اليوم مثلاً شتيمة للوزير شربل نحاس على لسان الزر الرقم 1؟ الصوت ممتاز، لكنّ الصياغة غير موفّقة. فلنضغط الزر الرقم 2. الصياغة أفضل، لكنّ الببغاء مبحوح. الزر الرقم 3. ببغاء تحت الدوش. الزر الرقم 4. إنّه الأفضل. تنويعات ما كانت تخطر في البال. نقلٌ أمين للمعلومات الكاذبة. تشويه متقن للحقائق. سيترقّى هذا الببغاء. سيخرج من القفص إلى القنّ. الألعبان نفسه سيوقّع ورقة الترقية، ويرفعها إلى السيّد صاحب اللسان الثقيل. السيّد ضاق خلقه فعلاً. فهو لا يتحمّل التدقيق في تفاصيل كلّ ما يطرح على جدول أعمال مجلس الوزراء. ولا يريد أن يسمع اعتراضات على الرواتب الخياليّة لأدعياء الخبرة. ولا يهمّه النقاش في جدوى الخصخصة. ولا يرغب في فضح ثغر الموازنة والمشاريع المشبوهة. والإنترنت في قصره «ماشي وعال»، فمن أين جاء الفايبر أوبتيكس؟ هيّا أيّها الألعبان. شغِّل لسانك. أيقظ الجوقة. أمامكم نهار عمل طويل.
عدد الثلاثاء ٢٧ نيسان ٢٠١٠ |ثائر غندور لحظة أُعلنت نيّة إجراء الانتخابات في موعدها من دون إصلاحات، سادت حالة من الوجوم في أوساط المستقلين واليساريين في الجنوب. كان لسان هؤلاء ينطق بعبارة واحدة: «لسنا جاهزين». أيّام قليلة وأعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله التفاهم مع حركة أمل على جميع البلديّات في الجنوب والبقاع. ارتفع مستوى اليأس والإحباط. بدأت النقاشات هنا وهناك. ثمة من يقول بضرورة المقاطعة، ومن يقول بأهميّة الترشّح في وجه هذا الثنائي. تواصل حزب الله وحركة أمل مع الحزب الشيوعي بنيّة إدخاله في تفاهمهما في القرى الموجود فيها، ما وجّه ضربة قاسىة لمن كان يُراهن على هذا الحزب بأن يقود عمليّة المواجهة. منذ ثلاثة أسابيع، بدأت تلوح في الأفق تبدّلات: الثنائي الشيعي لم يصل إلى إعلان لوائح مشتركة في عدد كبير من البلدات. الطرفان يتبادلان «الفيتوات» على أسماء المرشّحين. حزب الله يرغب في أن تكون حالة «آل الخليل» ممثّلة، وحركة أمل ترى في ذلك عودةً إلى الإقطاع. هذا الأمر دفع المستقلين واليسار إلى خوض المعركة مجدداً. ويوماً بعد آخر بدأت تتكشّف الأسباب الحقيقيّة وراء الخلافات التي نشبت بين مناصري الفريقين في القرى. فمناصرو حزب الله وعدد من مسؤوليه والمنتسبين إليه يرفضون أن يكونوا غطاءً لما يرونه فساداً في حركة أمل. وهو موقف ليس بجديد عند هؤلاء، بل هو قديم يعود إلى الانتخابات النيابيّة في عام 2000، إذ رأى هؤلاء أن التحالف مع أمل يُمثّل غطاءً لممارساتها، لكن التحالف حصل. وعندما ناقشت قيادة حزب الله إمكان التحالف مع حركة أمل في الانتخابات البلديّة في عام 2004، كان هناك فريق يُعارض هذا الأمر بامتياز، ونجح في منع التحالف. بعد حرب تمّوز 2006، عادت هذه الأصوات إلى الارتفاع، اعتراضاً على ممارسات لمسؤولي حركة أمل وجدوا أنها خاطئة وتُسيء إلى المقاومة في ملف التعويضات. لكنّ هذا الصوت لم يكن مؤثّراً في خيار انتخابات 2009 النيابيّة لأن الضرورات السياسيّة فرضت أحكامها. جاءت الانتخابات البلديّة. حصل التفاهم السياسي. اعترض بعض مسؤولي حزب الله، أو ابتعدوا عن العمل في هذا الاستحقاق، وهو ما انعكس بوضوح في القرى الجنوبيّة، إذ طلب عدد منهم تكليف آخرين متابعة عمليّة التفاوض مع حركة أمل. الأثر الآخر كان على مناصري حزب الله. فجزء من هؤلاء لجأوا إلى حزب الله بسبب اعتراضه على حركة أمل أو لحماية نفسه من «بطشها»، كما يقول هؤلاء، وخصوصاً مناصري آل الخليل وآل الأسعد وبعض المستقلين والمستقيلين من الأحزاب اليساريّة. وهؤلاء خاضوا معاركهم البلديّة إلى جانب حزب الله في الدورتين السابقتين. واليوم، بدأوا يتحدّثون عن أن حزب الله خذلهم وتجاوزهم. أمّا عند حركة أمل فالاعتراض على مستويين:
ـــــ المستوى الأول رسمي، يُحاذر أصحابه ذكر أسمائهم، لكنّهم يتحدّثون عن أن حزب الله يأخذ حجماً أكبر من حجمه الحقيقيّ، وذلك «لأن الجمهور الجنوبي متعاطف مع المقاومة، لكنه يملك خيارات سياسيّة مختلفة». يُضيف هؤلاء أن حزب الله يسعى اليوم إلى «السطو» على مكتسبات حركة أمل في الدولة وفي النظام السياسي، «فنحن من قاتل في عام 1984 في بيروت للحصول على مكتسبات الطائفة الشيعيّة، ونحن الذين خضنا معارك سياسيّة طوال عشرين عاماً، وقدّمنا كلّ شيء لحماية المقاومة وظهرها يوم كان حزب الله خارج السلطة، واليوم يُريد الحزب أن يدخل الدولة ويأخذ حصّته في الوزارة وفي التوظيف». أمّا المستوى الثاني، فهو الشعبي. يتحدّث أعضاء حركة أمل ومناصروها عن محاولات حزب الله للسيطرة على كلّ شيء، كما «يعملون لفرض تزمّت ديني نحن بعيدون عنه»، يقول مسؤول تنظيمي لحركة أمل في إحدى قرى صور. هذه المُعطيات وغيرها، تتعلّق برغبة أفراد في أن يكونوا موجودين في لوائح التوافق، تُرجمت على الأرض من خلال اعتراض مقرّبين من الحزبين على لائحة التوافق. ففي بلدة صريفا مثلاً، ترشّح عدد من أعضاء حركة أمل مدعومين من العائلات في وجه لائحة التوافق، وذلك في ظلّ وجود لائحة ثالثة في البلدة مدعومة من الحزب الشيوعي والتيّار الأسعدي والعائلات. وفي معروب مثلاً (بلدة الوزير محمّد فنيش) ترشّحت لائحة كاملة مقابل لائحة التوافق، وهي تضم مقربين من حزب الله. ومن المعلوم أن هذه البلدة أعطت أصواتها على نحو شبه كامل، لحزب الله وحركة أمل في الانتخابات النيابيّة. يتكرّر الأمر ذاته في زوطر الشرقيّة، حيث يخوض أحد أبناء عائلة إسماعيل (أكبر عائلة)، معركة في وجهة التحالف بلائحة قويّة، لأن رئيسها له تاريخ في تقديم الخدمات، وهو كان يُعدّ من المقرّبين جداً من حركة أمل. وبوجه عام، تتجه أقضية الجنوب والنبطيّة بعد أسبوع إلى معارك في العديد من القرى والبلدات، وهي سجّلت حتى اليوم، نسبة متدنيّة جداً من البلدات التي فازت بالتزكية، إذ إن مجموعها في محافظتي الجنوب وصل إلى 7 بلدات توزّعت على أربعة أقضية: ثلاث بلدات في جزين، اثنتان في صور، وواحدة في كلّ من الزهراني والنبطيّة. وقد شهدت مراكز الأقضية زحمة مرشّحين في الساعات الأخيرة من اليوم الذي تُقدّم فيه الترشيحات، لكنّ هذه الزحمة والحيويّة تترافق مع غياب البديل الجدي، سواء كان على صعيد التنظيمات الحزبيّة أو المشاريع البلديّة، إذ يصعب إيجاد لائحة أعلنت برنامجاً بلدياً. أمّا قراءة واقع كلّ قضاء في الجنوب والنبطيّة فتأتي على الشكل الآتي: ــ قضاء صور: يوجد في هذا القضاء 744 مقعداً بلدياً، ترشّح عنها 1476 مرشّحاً، بنسبة تتخطّى المرشّحَين لكلّ مقعد. كذلك ترشّح 316 مرشّحاً لـ130 مقعداً اختيارياً. وهذا ما يُشير إلى وجود معركة في معظم قرى هذا القضاء. مدينة صور، مركز القضاء، تغيب عنها أجواء المعركة الحقيقيّة، وذلك بسبب إحجام عدد من رموز المدينة عن الترشّح، وبعدما فازت بلديّتا برج رحال وبرج الشمالي بالتزكيّة. لكن من البلدات التي ستشهد انتخابات، هي بلدة معركة، ومن مفارقات هذه البلدة أن للنساء دوراً أساسياً في اللائحة المعارضة للتوافق، وهي لائحة غير مكتملة، وهو ما دفع بعض النساء الفاعلات في حركة أمل إلى إعلان تبنيهن النساء المرشّحات. ومن اللافت حديث نجل الشهيد خليل جرادي عن ترشّحه لأحد المقاعد الاختياريّة مستقلاً، لا على لائحة حركة أمل، لكنّه أحجم عن ذلك بعد اتصالات. كذلك تتجه بلدة القليلة إلى معركة يكون آل أبو خليل أساسها في وجه لائحة التحالف، وهم العائلة الأكبر في البلدة. أمّا في بلدة الحلّوسيّة، فإن العائلات والمستقلين والحالة الأسعديّة يعملون لخوض معركة قاسية في وجه لائحة التوافق، ويتكرّر الأمر ذاته في بلدة فرون التي تتميّز بوجود يساري وازن. وتستعد بلدات الناقورة وشمع والشهابيّة لمعركة أيضاً. ــ قضاء الزهراني: ترشّح في هذا القضاء 1110 مرشحين لـ555 مقعداً بلدياً، وذلك بنسبة مرشّحَين لكل مقعد. كذلك ترشّح 400 مرشّح لـ108 مقاعد اختيارية. قد تكون بلديّة الزراريّة أهم معركة في هذا القضاء، إذ تتحالف أكبر عائلتين، آل مروّة وآل زرقط (وهذا يحصل للمرّة الأولى ربما) مع الحزب الشيوعي ورياض الأسعد والعائلات الصغيرة بوجه لائحة التوافق، ويرى فيها البعض معركة حاسمة لتحديد هويّة البلدة السياسيّة، وخصوصاً مع وجود حراك يساري شبابي نشيط فيها. وتتكرّر المواجهة في عدلون، حيث يخوضها الشيوعيّون والعائلات بوجه اللائحة التوافقيّة، التي تشهد حالة عدم استقرار حتى اليوم، إذ يجري تبديل الأسماء لإرضاء العائلات بعدما تألفت لائحة مقابلة، ي فيها رئيس البلديّة الحالي ورئيس البلديّة الأسبق. وفي أنصاريّة، يخوض تحالف أمل وحزب الله ورياض الأسعد المعركة في وجه اليساريين والمستقلين وبعض حركة أمل المتحالفين مع العائلات. ــ قضاء النبطيّة: يترشّح في هذا القضاء 1075 مرشّحاً للفوز بـ513 مقعداً بلدياً بنسبة مرشحَين لكل مقعد، ويترشّح 270 مواطناً للفوز بـ91 مقعداً اختيارياً.
في ظلّ غياب المعركة عن مدينة النبطيّة، هناك معركة في العديد من البلدات، فإضافة إلى زوطر الشرقيّة، تخوض لائحة مستقلين مواجهة مع التوافق في بلدة عبّا، وهي من القرى التي تُعدّ من معاقل حزب الله في النبطيّة. أمّا في كفرتبنيت، فيخوض مؤيّدون لحركة أمل الانتخابات بوجه التحالف، وذلك بالتنسيق مع العائلات. وفي بلدة كفرصير، تتحالف العائلات والحزب الشيوعي في لائحة واحدة في وجه الثنائي الشيعي، أمّا في بريقع، فيواجه الحزب السوري القومي الاجتماعي والعائلات لائحة التوافق. وأحدثت صير الغربيّة مفاجأة للكثيرين، إذ فشل التوافق بين أمل وحزب الله، فتحالفت حركة أمل مع مناصري رياض الأسعد في وجه حزب الله. وفي بلدة أنصار، يتواجه الشيوعيّون والعائلات والمستقلون مع لائحة التوافق. أمّا في بلدة الدوير، فلم يستطع تفاهم أمل وحزب الله أن يُترجم على الأرض في ظلّ خلافات بين الطرفين وخلافات داخل حركة أمل أيضاً. ولا تزال بلدة يُحمر الشقيف تنتظر المشاورات بين المستقلين والأسعديين وبعض المعترضين داخل حركة أمل الذين يسعون إلى تأليف لائحة. ــ قضاء مرجعيون: يترشّح 722 مرشحاً على 165 مقعداً بلدياً و220 مرشّحاً على 77 مقعداً اختيارياً. وتتركّز المعارك في هذا القضاء في بلدة الطيبة التي تتميّز بوجود يساريين يتحالفون مع العائلات، كما في بلدة عيناتا، فيما يتحالف اليساريّون مع التيّار الأسعدي في بلدة دير سريان في وجه لائحة التوافق، وفي بلدة ميس الجبل معركة يخوض مستقلون معركة في وجه التحالف، كذلك تخوض حولا والخيام معركة بسبب وصول الحوار بين اليساريين وأمل وحزب الله إلى حائط مسدود. ــ قضاء بنت جبيل: تغيب الانتخابات الحقيقيّة عن هذا القضاء، الذي يترشّح فيه 960 مرشّحاً عن 489 مقعداً بلدياً، و254 مرشّحاً عن 95 مقعداً اختيارياً. لكنّ مركز القضاء، بنت جبيل، يعيش أجواء معركة، كما يُتوقّع أن تعيش، كما تخوض عيترون معركة لذات أسباب الخيام وحولا. يسأل المعترضون على التفاهم من داخل حزب الله وحركة أمل عن جدواه، إذ إنه يمنع كلّ فريق من معرفة حجمه الحقيقي، ويمنع التنافس الديموقراطي بينهما، وخصوصاً أن الموضوع حُصر بشقّه البلدي والإنمائي، لذلك يتوقّع هؤلاء موجات متبادلة من التشطيب.
الشيوعيّون يواجهون فتات التمثيلنادر فوز بعد أسبوع تتوجّه المحادل جنوباً لـ«قشّ» الأخضر واليابس في البلديات. لم يجد الحزب الشيوعي خياراً سوى مواجهة هذه الماكينات الحديدية التي أحكمت سيطرتها على تمثيل المناطق الجنوبية. ورغم أنّ الشيوعيين دخلوا مبدأ التقاسمات مع حزب الله وحركة أمل في بعض القرى، إلا أنهم عبّروا في القسم الأكبر من البلدات والقرى عن استيائهم من التوافق الحاصل. ورغم تشديد الشيوعيين على إيجابية التوافق وتوحيد الجميع في العمل الإنمائي والاجتماعي، إلا أنهم اصطدموا بعقلية المحادل التي لا تترك لهم سوى فتات التمثيل. فجاء القرار الشيوعي بخوض المعارك حيث يجب، بهدف إثبات الوجود، لكون نتائج الاستحقاق قد حسمت قبل أشهر. ويدخل الحزب الشيوعي معارك البلديات في الجنوب، بعدما حُسمت النقاشات الداخلية بتأكيد ضرورة خوض هذا الاستحقاق رغم القانون الانتخابي غير العادل. فقرر الشيوعيون السير في المعركة رغم أن القوى السياسية اتّفقت في ما بينها وأجهضت الإصلاحات الانتخابية. وتأتي هذه المشاركة بناءًَ على مجموعة من الأسس درستها ووضعتها اللجنة المركزية، وهي ثلاثة: أولاً، محاسبة المجالس المحلية ورؤساء البلديات وتقويم عمل هذه المؤسسات في المرحلة السابقة. ثانياً، دعم مفهوم التوافق، لكن بعيداً عن مبدأي الحصص والنسب اللذين ينتجان الخلل على صعيد التمثيل ومن ثم على صعيد عمل المجالس البلدية، إذ يتحوّل الشعار البلدي من إنمائي إلى سياسي ثم حزبي. ثالثاً، الانطلاق من كون الحزب الشيوعي منتشراً في كل لبنان، والتأكيد أن التمثّل في المجالس المحلية يسمح للحزب بإبراز البرامج الاجتماعية والاقتصادية التي يراها الشيوعيون مناسبة لتطوير وجود البلديات وعملها. اللافت أنّ الحزب الشيوعي اختار في البلديات إعطاء الحيّز الأهم للعائلات في التوافق في ما بينها، وسط تأكيد المسؤولين الشيوعيين أنّ أي ترشيح من قبلهم وافقت عليه العائلات. حتى إنّ الحزب اختار الترشح مع العائلات والمستقلين في القرى التي يعجز فيها عن مواجهة محدلتي حزب الله وحركة أمل مباشرة. وهي الحال في الزرارية وعدلون والهبارية والقنطرة وغيرها. من صور حتى جبل الشيخ، عمد الحزب إلى ترشيح اللوائح أو تأليف نواتها أو دعم أخرى ألّفتها العائلات. أما أبرز القرى التي دخل فيها الشيوعيون إلى جانب المحادل، فهي حولا والبازورية وطير دبا. ويلاحظ أن لا مرشحين شيوعيين في صور، حيث تشير أجواء الشيوعيين إلى أنّ الصوريين مستاؤون، إذ يُكتفى بتقاسم الحصص بين الحزب والحركة دون أخذ معايير الكفاءة والعمل. أما في بنت جبيل، حيث المعركة محسومة أيضاً، فقد اختار الحزب الشيوعي دعم نواة لائحة «بنت جبيل للكل»، المؤلّفة من شيوعيين ويساريين، وضمّت الزميلة فاديا بزي. وتؤكد الأخيرة أنّ المشاركة هي للاعتراض «على تعامل الآخرين مع المدينة بكونها تحصيل حاصل».
العرقوب يترنّح بين معركة وتوافقمحمد وهبة عائلات منشقّة وأخرى متماسكة. «فيتوات» متبادلة. تحالفات هشّة تسقط سريعاً. شروط تعجيزية للتوافق. استدعاء زعماء العائلات إلى مراكز النفوذ. تشكيل بيضة القبان. معركة كسر عظم... هذه هي الحال في انتخابات قرى العرقوب السنية، أي في شبعا وكفرشوبا والهبارية وكفرحمام. لكن البارز في هذه الانتخابات، بحسب متابعين، أمران أساسيان: الأول يتعلق بدخول لاعبين جدد إلى خريطة الانتخابات بمذهبيتها الضيقة، تتمثّل بترشيح جمعية المشاريع الإسلامية لائحة ثالثة في كفرشوبا، ومحاولة الحصول على مرشحين في الهبارية، وترشيح بعض عناصر الحركات السلفية إلى مقاعد المخترة في شبعا وللبلدية في كفرشوبا، فيما دخلت الجماعة الاسلامية بقوّة في شبعا، وعزّزت نفوذها في الهبارية وتحاول أخذ موطئ قدم في كفرحمام. الأمر الثاني يتعلق بتراجع حركة ترشّح عسكريين متقاعدين في القرى الأربع بعدما تبيّن أن هذا النمط من المسؤولين في البلديات لا يلبّي طموح العائلات ولا الأحزاب، فهذه الفئة من الناس ليست ليّنة بالمقدار الذي تحتاج إليه التنمية، وبلوغها مراكز السلطة يعزّز جموحها في استخدام سلطتها. في موازاة هذين الأمرين، شهدت هذه القرى حركة استدعاء لوجهاء العائلات من جانب مراكز النفوذ، ولا سيما من تيار المستقبل في مجدليون ضمن محاولة استنهاض مذهبي ـــــ سياسي. لكن العرقوب بحالته المتناثرة وسياسياً، لم يقصِ، حتى الآن، احتمال حصول مواجهات قاسية بين تيارات وأحزاب لديها قواعد شعبية، مثل تيار المستقبل، الشيوعي، حزب الله، القومي السوري، وحزب البعث، فضلاً عن عائلات تسعى إلى تجديد أو خلق زعامات محليّة. وفي شبعا، حيث يتوقع انتخاب 5 آلاف ناخب، لا يزال التوافق يترنّح بين مساعي «الوجهاء» من أصحاب العباءات الرسمية، الذين رشّحوا زياد هاشم لرئاسة البلدية بعد لقائه أحمد الحريري، لإبعاد منيف الخطيب الذي أسرّ إلى أقاربه بأنه لن يكون جزءاً من المشكلة، بل من الحلّ، فقسموا مناصري تيار المستقبل ومحازبيه إلى لائحتين بين هاشم وبين رئيس البلدية عمر الزهيري. أما هيئة أبناء العرقوب فتتجه إلى إعلان لائحة مستقلّة، لعلّها تستفيد من تركيبة عائلات شبعا التي تقسم إلى 4 أجباب شبه متساوية: هاشم، زليخة، برغش، وعساف. أما في الهبارية، حيث يتوقع أن ينتخب 1500 شخص، فسيتنافس 40 مرشحاً على 15 مقعداً بلدياً، ويتوزعون على 4 لوائح، 3 منها تتقاسم غالبية الأصوات: الأولى برئاسة سعيد زاهر وهي مدعومة من الحزب الشيوعي وتيار المستقبل، والثانية برئاسة الجماعة الاسلامية فيما الثالثة التي تمثّل «بيضة القبان»، فهي برئاسة علي بركات. أما في كفرشوبا فلم تنته مرحلة التوافق بعد، ولا سيما أن الأصعب قد أنجز بين رئيس البلدية السابق عزت القادري المدعوم من حزب الله، وبين لائحة قاسم القادري المحسوب على تيار المستقبل، لكن الجماعة الاسلامية تبحث عن موطئ قدم فرشّحت لائحة غير مكتملة برئاسة وسيم قصب. وفي كفرحمام، يذهب الجميع باتجاه معركة قوية تتركز في لائحتين، الأولى قوامها جمعية آل فارس وسويد التي يقودها اللواء المتقاعد ياسين سويد، والجماعة الاسلامية، وبعض مناصري تيار المستقبل، والثانية قوامها تيار المستقبل، الحزب الشيوعي، ومناصرو حزب الله.
عاموس يدلين *سُمع في البلاد صوت خافت، في نهاية العام الماضي، يشير إلى أن حركة حماس لا تطلق النار، بل وتمنع منظمات صغيرة من إطلاق الصواريخ. وسمع أيضاً أنّ حزب الله لم يتدخل في القتال جنوباً (قطاع غزة)، وواصل الهدوء منذ حرب لبنان الثانية. بالطبع، لا يعود الهدوء إلى أن أعداءنا أصبحوا صهاينة، بل هو مزيج من بين عدة عوامل كابحة، قسم منها من صنع أيدينا، وقسم آخر يأتي من ظروف غير خاضعة لسيطرتنا.العامل الأول في الهدوء الحالي مرتبط بالردع الإسرائيلي. الردع الذي بدأ بالثمن الذي جبيناه من حزب الله في حرب لبنان الثانية، وصولاً إلى عملية الرصاص المسكوب. إلا أن الردع حالة متملّصة وغير قابلة للقياس، ومن الصعب توقّع مداه في المستقبل. رغم ذلك، وفي نظرة إلى الوراء، تجنّب العدو الضغط على الزناد والإضرار بإسرائيل.يعتمد الردع، في أساسه، على حساب بسيط يجريه العدو بين الربح والخسارة، بين فائدة الإضرار بنا والتداعيات والثمن. والثمن مشتق من إدراك العدو لقدرتنا على الإضرار به، واستعداده للمخاطرة رغم ذلك، والعدو يقدّر حالياً أن الثمن مرتفع، ولديه شك في قدرته على توقع خطواتنا بعد فشله في ذلك عام 2006 في لبنان وعام 2008 في غزة.زُعم في الماضي أنه جرّاء عدم وجود أي شيء تخسره المنظمات الإرهابية، فلا مجال للاعتماد على الردع. لكن الواقع أظهر وجود تغيير في طابع المنظمتين، حزب الله وحماس، وهو التمأسس والانضمام إلى المؤسسات السياسية وتحمّل المسؤولية، وبالتالي الإصغاء جيداً إلى مطالب الشعب، ويتجسّد ذلك في الكلمة الإنكليزية «Accountability»، التي لا رديف كاملاً لها في اللغة العبرية، وتعني «تحمّل المسؤولية والمحاسبة».دفعت العمليات العسكرية في لبنان وغزة حزب الله وحماس والموجودين أساساً في حالة من التوتر بين الهويات، أي توتر بين السيادة والمعارضة، وبين العمل على الوصول إلى السلطة والمواجهة، شيئاً فشيئاً إلى اختيار الهدوء المؤقت.
ما دامت العملية السياسية غير مفعّلة، فإن مكانة إسرائيل السياسية آخذة بالانسحاقمع ذلك، لا يمكن ردّ الهدوء السائد إلى الردع الإسرائيلي، ولـ«تحمّل المسؤولية» (Accountability) وحسب. فثمة عوامل أخرى مساهمة، وعلينا فهمها كي لا نقع في الوهم بأن الهدوء سيستمر إلى الأبد. فالجبهات هادئة لأن أعداءنا يستغلون الهدوء ويقضون ليلهم ونهارهم في عمليات ترميم القوة وبنائها تمهيداً للجولة المقبلة. كذلك فإن أعداءنا يواجهون صراعات قوى داخلية، سواء على الساحة اللبنانية، أو الفلسطينية أو الإيرانية، وهي صراعات تتطلب منهم صرف طاقة وموارد، وقد لا يسهم الاشتباك مع إسرائيل في تعزيز مكانتهم الداخلية.وفي النهاية، أدركت المنظمات الإرهابية أهمية الشرعية، وأهمية تعاطف العالم والإعلام الدولي، والحاجة إلى الحصول على شرعية للحكم وللمواقف، وبالتالي فإن الإضرار بشرعية إسرائيل ما هو إلا حافز إضافي للهدوء ومواصلة وقف إطلاق النار.ننتقل إلى التحديات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل، وأرصد في هذا المجال سبعة تحديات، وهي:- تحدي تحوّل إيران إلى دولة نووية.- تحدي التعاون والتعلم في المحور الراديكالي.- تحدي ساحة القتال الهجينة التي تواجهنا.- تحدي الكيانين الفلسطينيين- تحدّي المحافظة على الشرعية.- تحدّي التنسيق مع حلفائنا.- تحدي المحافظة على الفجوة التكنولوجية.
أوّلاً: تحدّي تحوّل إيران إلى دولة نووية
تمكنت إيران في السنوات الأخيرة من التقدم نحو السلاح النووي، لكنّ التوقيت مرتبط بقرارها هي، إضافة إلى سعيها إلى الهيمنة الإقليمية.والبرنامج النووي، بحسب الاستراتيجية الإيرانية المتبعة، لا يرتبط بالوصول التكنولوجي السريع إلى القنبلة، بل باستراتيجية موزونة ودقيقة، وهي التقدم بنطاق واسع لتثبيت أساس نووي، مع تقصير المدة الزمنية نحو القنبلة، عبر دفع أثمان دنيا.أنشأت إيران بنى تحتيّة متنوعة لمصانع ذات صلة، وطوّرت قدرات نووية في مسارات كثيرة، تحت مبادئ: الأولوية، التوزيع والحماية. ويتعلق الأمر بقنوات تخصيب اليورانيوم، وتوزيع البرنامج على مواقع مختلفة، علنيّة وسريّة، مدنية وعسكرية، الأمر الذي يتيح لها الاختراق في الوقت الذي تراه مناسباً. وإلى ذلك الحين، تعمل ضمن وتيرة تقدم مرتبطة بالضغط الدولي الممارس عليها، في محاولة منها لدفع أقل الأثمان.الحركة نحو القنبلة النووية ستحدث في توقيت مستقبلي، تقدّر فيه إيران أن الظروف الاستراتيجية تتيح لها تقدّماً آمناً نسبياً. وهناك بديلان من الاختراق، الأول بواسطة الانسحاب من اتفاقية الحدّ من انتشار الاسلحة الذرية ـــــ NPT ، والثاني أن تتقدم بمسار سرّي.وفي ما يخصّ التحدّي الإيراني، من المناسب إنعام النظر إلى ثلاث ساعات. وهي الساعة التكنولوجية والساعة الدبلوماسية وساعة استقرار النظام.لقد أوشكت الساعة التكنولوجية على إكمال دورتها. ففي عام 2008، تحكّمت إيران في تكنولوجيا التخصيب تماماً.وفي عام 2009، جمعت في نتانز كمية من المواد تكفي لصنع قنبلة أولى.. وفي موازاة ذلك، تثابر إيران على تحسين قدراتها الصاروخية، التي تعمل بالوقود الصلب، وتعمل على إطالة مداها.ولجهة الساعة الدبلوماسية، فقد بدأت بالتحرك، بعد أن كانت عالقة في السنوات الأخيرة. قبل حوالى عام، أشرنا إلى أن حواراً ناجحاً هو خيار جيد لمعالجة الملف النووي الإيراني، لكننا قدّرنا أيضاً أن هناك شكاً في أن ينجح هذا الخيار. وللأسف، فإن تقديرنا يتحقق، لكن كان من المهم التروّي قليلاً وإعطاء فرصة للحوار، من أجل ربط الدول العظمى الست بعجلة المرحلة المقبلة، وهي مرحلة العقوبات.يدور نقاش في شأن فائدة العقوبات على إيران، وثمة من يعتقد بأنها لن تؤدي إلى تأثير فعلي، بل من الممكن أن تسبّب التفاف الشعب حول النظام. وفي المقابل، ثمة من يعتقد بنموذج جنوب أفريقيا، دليلاً على قدرة العقوبات في الوصول إلى أهداف سياسية. ومن جهتي أطالب بالانحياز إلى الرأي الثاني.. فالخشية من أن تؤدي العقوبات إلى الالتفاف حول مؤسسة الحكم قد ضعفت جوهرياً في أعقاب حوادث الانتخابات عام 2009، وبات من المشكوك فيه أن يتحمّل الجمهور الإيراني استفزاز قادته للعالم بأسره.أما لجهة استقرار النظام، فالبشرى الجديدة التي حملها عام 2009 هي بداية التحرّك، المتردد في الواقع، لعقارب ساعة تغيير النظام، التي كانت في السابق معطوبة ولا تضبط مواعيدها. الأنباء السيّئة هي أن النظام عالج الاحتجاج بنجاعة وأوقف زخمها، وفي الوقت نفسه لم يغمر شوارع طهران بالدم، بل أدار معركة حاسمة وسرية وناجعة ضد مراكز الاحتجاج. أما الأنباء الجيدة فهي بروز صدعين أساسيين في إيران: الأول بين النظام والشعب، والثاني داخل النظام نفسه، بين أبناء الثورة.بلا علاقة بالساعات الثلاث، من المهم أن ندرك أنه في اللحظة التي تنجح فيها إيران، نهائياً، في تثبيت مكانتها وصورتها كدولة أساسية ومفتاحية، وتمتلك العلم والقدرة للسير إلى ما وراء الحدود (نووياً)، سيشعر حلفاء إيران في المحور الراديكالي بالمزيد من الثقة للقيام بخطوات، لا يجرؤون اليوم على المخاطرة بها.
التحدّي الثاني: التعاون والتعلّم في المحور الراديكالي
يشمل المحور الراديكالي كلاً من إيران، سوريا، حزب الله والمنظمات الإرهابية الفلسطينية. وقد سبّبت الضربات العسكرية التي تلقّاها المحور في الأعوام الثلاثة الماضية، إضافة إلى الصعوبات في الساحة الداخلية لإيران ولبنان، تعزيز التعاون بين هذه الجهات إلى مستويات لم نر مثيلاً لها في السابق.ثمة مواقع معروفة جيداً في إيران وسوريا، تجري فيها تجارب لمنظومات أسلحة، ويمكن تشخيص وجود ضباط إيرانيين وضباط سوريين ونشطاء من حزب الله يتحركون خلالها، بل إنهم في بعض الأحيان يدعون عناصر من حماس أو الجهاد الإسلامي الفلسطيني للمشاركة.وما يحصل هو الآتي: الإيديولوجيا، التدريب، التكنولوجيا، العقيدة والتوجيه من إيران. الصناعة، من الأفضل أن تكون في سوريا. والناتج موزّع بين كل أعضاء المحور. وبالتالي، فإن الشرق الأوسط مخروق بعدة شبكات مشتركة بين إيران وسوريا وحزب الله وأيضاً حماس. وهذه الشبكات تعمل في تهريب الوسائل القتالية عبر البر والبحر والجو. عبر السودان إلى غزة، وفي الشمال إلى سوريا ومنها إلى حزب الله.أزال الإيرانيون والسوريون تقريباً كل القيود الموضوعة على نقل السلاح إلى حزب الله وحماس. وفرضية العمل لدى الاستخبارات الإسرائيلية هي أن كل سلاح، مهما كان حديثاً ومتطوراً، موجود لدى إيران أو سوريا، فسيصل عاجلاً أو آجلاً إلى لبنان. كذلك لدى هذا المحور شبكات أخرى استخبارية وإنذار مبكر ترصد نشاطات الجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل..بصفتي رئيساً للاستخبارات العسكرية، من واجبي أن أحذر إن كانت المواجهة قريبة أو لا، لكن في الوقت نفسه، هناك مجال لا يقل أهمية، وهو الإشارة إلى ما يحصل عندما لا ترعد أصوات القذائف.ما يحصل في حالة الهدوء الحالية هو نشاط إضافي ذو بُعد سرّي لدى المحور الراديكالي. وهو بُعد أسمّيه «سباق التعلّم». فجهات المحور الراديكالي درست جيداً عِبر الحرب في لبنان وتعمل على تطبيقها وملاءمتها، سواء في الجيش السوري أو في الجيش الإيراني. وتُحلّل المواجهة في غزة (عام 2009) في طهران وفي بيروت، بالمقدار نفسه من العناية التي توليها حماس.وهكذا تمرّ مفاهيم استخبارية، ونظريات فلسفية، ومناقشة نقاط الضعف والقوة الخاصة بالمجتمع الإسرائيلي. كذلك فإن المعلومات الموجودة في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ووسائل الإعلام، تقدّم ميزة مهمة لتحصيل المعلومات المطلوبة عن إسرائيل من قبل المحور الراديكالي، ويعود ذلك لكثرة المعلومات المتوافرة والتكنولوجيات المتقدّمة الموضوعة في خدمة العدوّ، مع وجوب الإدراك أن لدى العدو أهليّة للتعلّم، وبالتالي، المطلوب من إسرائيل أن تقوم بعمل مضاد واستخبارات نوعية وأهلية بحث واستخلاص العبر، وعليها أن تنتصر في المنافسة على المعلومات، وهو تحدّ قائم ومهم جداً، وآخذ بالتعاظم.
التحدّي الثالث: ساحة القتال الهجينة
على إسرائيل أن تكون مستعدة في الوقت نفسه لمواجهة ثلاثة أنواع من التهديدات بما يرتبط بطبيعة المواجهة المقبلة. الأوّل هو التهديد التناظريّ والتقليدي بين الجيوش، كما في الخمسينيات، والستّينيات والسبعينات. والثاني هو التهديد غير التناظري، الذي بدأ بالاتساع حتى وصل إلى الجيوش النظامية، ويرتبط هذا النوع بعدو لا يرتدي زياً عسكرياً ولديه عبوّات، وانتحاريّون، وصواريخ قصيرة المدى، ويعمل على الإضرار بالمدنيين ويختبئ خلف المدنيين. أما النوع الثالث، وهو الأكثر أهمّيّة، فقد جرت العادة على تسميته بالتهديد الهجين، أي المزج بين ميزات تناظريّة لمعارك ذات وسائل قتال كبيرة وقدرات على السيطرة والتحكم من العالم التناظريّ، وأدوات ووسائل إرهابيّة من العالم غير التناظريّ.ثمّة ظاهرتان بارزتان لا يمكن تجاهلهما في تعاظم العدوّ، وهما التجهّز غير المتوقّف بسلاح منحني المسار، انطلاقاً من زيادة الكميّات، الأمداء، والدقّة، والانتقال إلى القتال من تحت الأرض، ونحن نتواجه اليوم قبالة جبهات مختلفة، من سوريا إلى إيران وحزب الله، المنظّمة الإرهابيّة الوحيدة في العالم التي تملك صواريخ أرض ـــــ أرض، ولديها القدرة على تهديد غوش دان، بل إنّ حماس تحاول التوصّل إلى هذه القدرة. فأعداؤنا لا يهدأون ويبذلون كلّ جهد ممكن لتحسين قدراتهم وجلب المزيد من الوسائل القتالية الأكثر دقّة، والأكثر تنوّعاً، والأكثر عمقاً، ضد إسرائيل.الظاهرة الإضافية في هذا المجال، التي يتّسم بها ميدان المعركة، هي الانتقال إلى تحت الأرض. فتجربة حرب لبنان الثانية علّمت أعداءنا ميزات إقامة الخنادق والاحتماء ضدّ قدرات التسليح الموجّه والدقيق، والتفوّق الجوّي لإسرائيل. إنّهم يستعدّون للقتال من داخل الحفر، إطلاق النار من الأنفاق، والتحرّك من مكان إلى آخر دون الظهور على سطح الأرض. وهذا التحدي، إضافة إلى عشرات الآلاف من الصواريخ، لا يمكّن من احتلال الأرض وحسم المعركة. فتأثير من يختبئ تحت الأرض على ميدان المعركة هو تأثير إشكالي ومقيّد، وبالتالي على الجيش الإسرائيلي أن يطوّر عقائد وأساليب قتالية تعالج العيوب، وتعرف كيف تحسم المعركة رغم هذه الصعوبات.
التحدّي الرابع: الكيانان الفلسطينيّان
تلوح في السنوات الأخيرة، صعوبة بارزة في إيجاد حل متماسك للموضوع الفلسطيني، إزاء تباين وإقامة كيانين فلسطينيين منفصلين ومختلفين بعضهما عن بعض، إيديولوجياً وسياسياً، وكلاهما لا يسارع حتى الآن، للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل.ليس في غزة ولا في الضفة الغربية مؤسسات لدولة مقبلة تتطلع للحصول على شرعية داخلية وخارجية. يترسخ في غزة كيان متطرف معادٍ يرى في المعارضة الإسلامية وسيلة مركزيّة للقضاء على إسرائيل وإقامة دولة شريعة إسلامية على كل أراضي فلسطين التاريخية، من البحر الى النهر. أمّا لدى السلطة الفلسطينية في الضفة، فهناك شخصيات على رأسها الرئيس أبو مازن، تعارض الإرهاب وتنفر منه وتؤمن بحل تسووي كخيار وحيد. لكن في أعقاب الانفصال الأحادي الجانب عام 2005، برزت في السلطة الفلسطينية فكرة جديدة بشأن تقدّم أحادي الجانب. فالسلطة الفلسطينية ترسل إشارات بأنها لا تزال مهتمة بدفع العملية السياسية قدماً، وتعمل في الوقت نفسه على أدوات أخرى. إن كانت إسرائيل غير مستعدة للالتزام بشرط الانطلاق بالعملية السياسية، فلا بدّ من محاولة فرض أبرز نتائج الاتفاق عليها، قبل الانتقال إلى المفاوضات. ولتطبيق هذه الفكرة، تعمل السلطة في نهج كمّاشة، أي من الأسفل والأعلى.تبني السلطة من الأسفل المؤسسات العتيدة للدولة الفلسطينية بدعم اقتصادي وسياسي من المجتمع الدولي. وفي المقابل، من الأعلى، يقود أبو مازن ومسؤولو السلطة عملية تُملى فيها شروط التسوية، من قبل المجتمع الدولي، على إسرائيل.
التحدّي الخامس: المحافظة على الشرعيّة
يحظى سلوك إسرائيل ومواقفها بشرعية متضائلة وسط المجتمع الدولي. ويمثّل الهدوء، على نحو غير معقول، أحد العوامل المسؤولة عن ذلك. الهدوء الذي ذكرته في بداية حديثي. فالعالم ينحو للوقوف إلى جانب من يُعدّ ضعيفاً، وحقيقة أن إسرائيل لا تعاني في الفترة الأخيرة من الإرهاب، ولا من التهديد العسكري المباشر، يجعل من السهل على المجتمع الدولي الطلب من إسرائيل تغيير مواقفها وإظهار الليونة والتساهل. وما دامت العملية السياسية غير مفعّلة، فإن مكانة إسرائيل السياسية، آخذة بالانسحاق.والمثال البارز على الصعوبة السياسية والإضرار بميزان الشرعية، هو التحسّن في المكانة الدولية لسوريا، إذ تحولت سوريا من دولة محاصرة ومعزولة إلى دولة شرعية، وهذا دون أن تغيّر طابع نشاطاتها السلبية حيال العراق ولبنان وإسرائيل. فكل أسبوع، يستضيف الأسد في قصره وزراء خارجية محترمين من أوروبا، أعضاء من مجلس الشيوخ، أعضاء من الكونغرس، ملوكاً وأمراء من دول عربية.في الوقت الذي يصطفّ فيه الضيوف على مدخل مكتب الرئيس السوري، ينسلّ من الباب الخلفي حسن نصر الله وخالد مشعل وعناصر أمنية إيرانية، أنهوا الاتفاق على شراء وسائل قتالية ونقل العلوم والمعرفة، التي ذكرتها سابقاً. وفي هذه الحالة، لا عجب في أن الأسد سيشعر بثقة كافية لتأجيل المطالب التي وضعتها أوروبا في المجال الاقتصادي وفي مجال حقوق الإنسان، وأن يرفض التوقيع على اتفاقية شراكة كانت صيغت سابقاً، كما أنه سيواصل غضّ النظر عن تيار نشطاء الجهاد العالمي، الذين ينتقلون إلى العراق.وتحدي الحاكم السوري، الحاصل على شرعية جديدة رغم نشاطه السلبي، هو تحدٍ سيرافقنا في السنوات المقبلة. ومع هذا، أودّ الإشارة إلى أنه مع مرور الوقت، يتعمّق الدور السلبي السوري، ويتركز مكان الأسد في المحور الراديكالي. الأسد ليس مغروزاً طبيعياً في هذا المحور، فسوريا هي دولة علمانية، ولا تَستبعد، خلافاً لإيران ولحزب الله ولحماس، إمكان التوصل إلى سلام مع إسرائيل. ويكمن في اتفاق سلام معها، تغيير إيجابي في المحيط الاستراتيجي لإسرائيل، أي إخراج سوريا من دائرة العداء، وقطع حلقة الاتصال بالمفهوم الجغرافي ومفاهيم أخرى، عن المحور الراديكالي، كما يكمن في الاتفاق وقف الدعم السوري للإرهاب، الأمر الذي سيتقلّص من التهديد حيال دولة إسرائيل.
التحدّي السادس: التنسيق مع حلفائنا
نتشارك في صراعنا مع إيران ومع المحور الراديكالي، مع دول غربية وعربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. والحلف بين أميركا وإسرائيل هو حلف متين، يستند الى مصالح متماثلة وتقليد يمتد لعشرات السنين. والمحافظة على هذا الحلف هو تحدّ، وهو التحدّي الأهم.إننا أمام إدارة أميركية تواجه مشاكل كثيرة وقاسية: في الاقتصاد، وفي استقرار المنظومة المالية، وفي المواجهة على التأمين الصحي، وهذه هي اهتماماتها في الشأن الداخلي، أما في الشأن الخارجي، فنجد أن باكستان وأفغانستان والعراق وكوريا الشمالية، تأتي قبل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وأحياناً قبل قضية إيران. والاختلاف في جدول الأعمال بين إسرائيل والولايات المتحدة، يقتضي منا محاولة فهم العالم كما تراه واشنطن، ومحاولة مشاركتها هي النظرة بقدر المستطاع. ففي الوقت الذي يصاب فيه جنود أميركيون كل أسبوع في أفغانستان والعراق، إلى جانب التحدّيات الاقتصادية الهائلة أمام الإدارة الأميركية، من الطبيعي أن لا تحتل اهتمامات إسرائيل دائماً، المكان الأول لدى واشنطن، مقارنة بالسابق.مع هذا، أشعر أنه مع مرور عام على ولايتها، فإن الإدارة الأميركية تدرك جيداً جداً حجم التحديات التي تواجهها في منطقتنا، وتدرك أنه إلى جانب التحديات الكبيرة «للإقفال» على الوسائل الدبلوماسية داخل صندوق، وتفضيل وسائل استقرار الدول، أن ثمة قيوداً لهذه الوسائل. هناك من بين حلفائنا من يعتقد أن حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، هو المفتاح لحل كل الصراعات في العالم. وجميعنا نبتغي حل الصراع ذي المئة عام، بيننا وبين الفلسطينيين، لكن مع هذا، من المشكوك فيه إن كان هناك في رام الله أو غزة مفتاح حل الصراعات في كوريا الشمالية، وباكستان، وأفغانستان، وإيران، والسودان والصومال.إذا كان هناك من مشكلة يجب علينا إيجاد حل لها، على أمل التحسن في أوبئة الشرق الأوسط، فهي إيران. مع حل مشكلة إيران، فإن المشكلة العراقية ستكون أبسط، ومن شأن أفغانستان أن تصبح أقل تعقيداً، وميل سوريا إلى التصرف على نحو سلبي سيضعف، ونصر الله سيضطر إلى دراسة خطواته بحذر أكبر، بل إن المشكلة الفلسطينية ستصبح أكثر قابلية للحل، بعد سقوط قاعدة الدعم عن أرجل حماس.
التحدّي السابع: المحافظة على الفجوة التكنولوجيّة
تبلور في الجيش الإسرائيلي، وبصورة أساسية كعبرة من حرب يوم الغفران، أن التميّز التكنولوجي هو عامل مصيري في القدرة على ردع العدو والتغلّب عليه عند الحاجة. تجسّدت الأمور بالصورة الأوضح في تنمية وتطوير عاملي التفوق الجوي والتفوق الاستخباري، وفي التقاء العاملين في ساحة القتال الذي تُرمى فيه ذخيرة دقيقة على أهداف، يحسم تدميرها معارك. والتفوق في هذه المجالات، تحول إلى حجر الزاوية في الأمن القومي الإسرائيلي.الفجوة التكنولوجية بين إسرائيل وأعدائها مهددة في دوائر كثيرة. فأعداؤنا، يتَحدّون في مجال الدفاع والهجوم، وفي التفوق الجوي للجيش الإسرائيلي وفي السلاح الدقيق وفي التفوق الاستخباري. قسم من القدرات التي كانت محصورة بنا، أصبحت اليوم في متناول أيدي الأعداء. وحالياً، يعمل أعداؤنا على تهديد ثروات أمنية إسرائيلية، وتقلص قدراتنا الهجومية والدفاعية، وذلك من خلال صواريخ دقيقة، سلاح مضاد للدروع من أجيال متطورة، حوسبة متقدمة ورصد عبر الأقمار الاصطناعية، منظومات «جي بي اس»، طائرات من دون طيّار، وطائرات صغيرة من دون طيّار. مع هذا، ورغم أن العدو أصبح مجهزاً أفضل من الماضي، إلا أنه لا يزال بعيداً عن قدرات الجيش الإسرائيلي، والتحدّي أمامنا هو في المحافظة على الفجوة.ضمن ذلك، يمكن الحديث عن موضوع مرتبط بالفجوة التكنولوجية، وهو البعد «السيبيري» (cybernetic)، إذ باستطاعة العدو تطوير منظومات قيادة وتحكّم، تخزين ومشاركة حجم هائل من المعلومات، تشفير معلومات وحماية منظوماته بسهولة، بينما كان الأمر قبل عدة سنوات غير ممكن بالنسبة إليه.توقّفوا لحظة وفكّروا بحاسوبكم الشخصي الموجود في المنزل، فكّروا في أرشيف الصور الكامل الخاص بكم، وبماذا يمكن أن يعطي معلومات عن مجال اهتمامات العدو. خصّصوا لحظات عدة من التأمل في الوثائق المهنية المحفوظة في جهازكم، وماذا يمكن غريباً أن يفهم منها، ماذا يفهم من حسابكم المصرفي، ومن طلبات وحجوزات السفر إلى الخارج، ومن عناوين بريدكم الإلكتروني. كل حياتنا اليوم هي في محيط عالم محوسب، من حاسوب بحجم كف اليد، مروراً بالخلوي والإنترنت، ومن ينجح في اختراق هذه العوالم، قادر على معرفة الكثير جداً من الأمور، واللبيب من الإشارة يفهم.المسألة لا تقتصر فقط على معلومات مخزنة في شبكات الحاسوب، كل التحكم بمنظومات حياتنا هو عبر الحواسيب. ففي نيسان 2007، هوجمت مواقع حكومية، ومصارف وصحف في أستونيا، ووجهت أستونيا أصبع الاتهام إلى روسيا، لكن حتى اليوم لم يتأكّد نهائياً من وقف خلف الهجوم. في الحرب في جورجيا، اتهم المواطنون الروس بمهاجمة شبكات تحكم محليّة خلال الحرب في صيف 2008. والحادثة الأخيرة في هذه اللائحة الجزئية، هي مهاجمة شبكات حواسيب في أميركا وكوريا الجنوبية، وقد اتهمت استخبارات كوريا الجنوبية جارتها كوريا الشمالية بالهجوم، وحتى اليوم لم يجر التأكد من الادّعاء.دعونا نترك هجمات الماضي، وننظر إلى المستقبل، حلّلوا بأنفسكم حجم الضرر الذي يمكن أن يحدثه مخترق حاسوب ماهر في حال نجاحه في التسلل إلى منظومات الرقابة المحوسبة لشركات بنى تحتية، مواصلات واتصالات (في إسرائيل).عندما نبحث اليوم بصورة صحيحة عن مواجهة البعد السيبيري، يعتقد الكثيرون أن الدفاع يجب أن يكون في مكان واحد، مع قدرة على الجمع والهجوم.ما زال من الصعب تقدير كيف سيغيّر السايبر عالم الحروب. السايبر يقدّم لدول صغيرة ولأفراد، قوة كانت في السابق محفوظة فقط لدول عظمى، وبشكل يشبه التقدّم الذي طرأ على مجال الطيران غير المأهول، فإن هناك إمكانية قائمة بتفعيل قوة لا تعرّض حياة المقاتلين للخطر، لكنها قادرة على الإضرار بعوامل قوة عسكرية وبأداء اقتصادي للدول، الأمر الذي يطرح أسئلة مثيرة للاهتمام، أسئلة غير بسيطة يجب علينا بحثها، ليس فقط داخل الغرف المغلقة.تتعلق هذه الأسئلة بطبيعة الردع، الذي سيمنع حرباً في العالم السيبيري، بطبيعة الردع من هجوم محتمل، وكيف نحدّد المسؤولية عن أحداث في هذا العالم، وبأي شكل نبدأ مواجهة تتصاعد من مفاتيح مجهولة. أصدقاؤنا في العالم يتشاطرون معنا القلق من هذه الأمور المحيّرة، فقد أقيمت في أميركا قيادة سايبر، وفي بريطانيا أقيمت هيئة رسمية مسؤولة عن هذا المجال.
ما يحصل في فترة الهدوء الحالية لدى المحور الراديكالي، يمكن أن أسمّيه «سباق التعلّم»
تشخص الدول العظمى وجود عالم جديد، يجب على أحد ما تحمّل مسؤوليته. وأنا أطلب الإشارة في هذا المنتدى المحترم إلى أن مدى القتال في السايبر يناسب جداً المفهوم الأمني لدولة إسرائيل، ويتعلق الأمر ببعد لا يستلزم موارد مالية باهظة ولا يحتاج إلى طبيعة خاصة جداً، بل يتعلق الأمر بمشروع مشغّل بقدرات إسرائيلية، وغير مرتبط بمساعدة أو بتكنولوجيا أجنبية، يدور الحديث عن مجال معروف جيداً لدى الشبان الإسرائيليين، في دولة جرى تعريفها أخيراً بأنها دولة تكنولوجية ناهضة جداً، والمحافظة على الريادة في هذا المجال مهمة وخاصة، على ضوء وتيرة التغيرات المسبّبة للقلق في عالم السايبر.إن كان لدى الطيارين الأوائل سنوات عدّة للاعتياد على كل قفزة نوعية، فإن أمامنا اليوم، وفي أفضل الأحوال، أشهراً معدودة للاستجابة لكل تغيير. ومن دواعي سروري، أنني ألتقي يومياً الجنود والضباط الشبان، الذين وظيفتهم قيادتنا بأمان إلى هذا العالم الجديد، ومن هذه اللقاءات استمد التشجيع، حيث إن لدينا كل ما يلزم لمواجهة نخبة السايبر.وفي الختام، عرضت أمامكم سبعة من التحديات المركزية التي تواجهنا، ومن طبيعة الكلام، كفرد من الاستخبارات، فإن نظري موجه باتجاه العالم الذي يحيط بنا، وليس باتجاه دولة إسرائيل في الداخل. ومن المهم أن نعرف أنه في كل لحظة، هناك من يثابر على إيجاد حلول لمواجهة هذهالتحديات.وأنا من منطلق معرفتي بالذين يجهدون في إيجاد حل، كلي ثقة بأن لدى إسرائيل القدرة، وستتمكن من مواجهة التحديات، وستبقى اليوم وغداً مكاناً آمناً ومزدهراً للحياة فيها.* رئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة
تنمو المخيمات الفلسطينية عامودياً (مروان بو حيدر)
ممنوع العمل في 72 مهنة. ممنوع التملّك. ممنوع التوريث. ممنوع البناء خارج المخيمات. ممنوع البناء داخل المخيمات. ممنوع شراء العقارات. ممنوع إنشاء الجمعيات. ممنوع ممارسة العمل السياسي. ممنوع الانتساب إلى النقابات. ممنوع ممارسة الطبابة. ممنوع زيارة الجنوب المحرر. هكذا، تعددت الممنوعات على الفلسطينيين، وآخرها كان منع دخول مواد البناء إلى مخيّم برج البراجنة، ما أثّر سلباً على عمل الأونروا
قاسم س. قاسم«عم يعملوا تحصينات أمنية وبرج مراقبة جوّات المخيم»، يقول رجل الأمن الواقف على أحد مداخل مخيم برج البراجنة أمام مجموعة من الشبان من مثل عمره، الذين كانوا يتحادثون معه. يقولها المجند كأنه يقول شيئاً معروفاً. لكنه لا يعرف إن كان هذا هو السبب الرئيسي والفعلي خلف وقوفه مع زملائه ليلاً ونهاراً على أبواب المخيم، فهو «مجنّد، كما يقال، بعمل يلّي بيأمروني في». لكن، بمَ هو مأمور؟ «ممنوع تفوت أي مواد متعلقة بالبناء: باطون، بحص، رمل، أي شي من هذا القبيل ع المخيم».. أبناء المخيم لا يعتبون على «الدركي»، فهو «مجنّد الله يعينه»، كما يقول أحد الواقفين بقربه ضاحكاً. بل أكثر من ذلك، هم يقدّمون له الشاي والقهوة تعاطفاً مع شاب في مثل عمرهم، وفي بعض الأحيان الطعام من «إيدين الوالدة»، مشيراً إلى الشاب الواقف بقربه. عنصر قوى الأمن يحترم بدوره هذه العلاقة، رغم محاولته إبقاء مسافة مع الشباب. لكنّ المناوبة الليلية طويلة وطويلة جداً على عنصر قوى الأمن الداخلي، لذلك لا يمكن أن تخلو من نفَس أركيلة مع الشباب.
أثر قرار منع إدخال مواد البناء على مشروع تأهيل البنى التحتية الذي تقوم به الأونرواهكذا، ازدادت الممنوعات بالنسبة إلى الفلسطينيين، ممنوعات جديدة على أبناء مخيم برج البراجنة تحديداً، ممنوعات «لم تكن موجودة سابقاً»، كما يقول أحد مسؤولي اللجان الشعبية في المخيم، الذي رفض الكشف عن اسمه، إذ كانت المخيمات البيروتية تعدّ أفضل من نظيرتها الجنوبية لجهة سهولة إدخال مواد البناء إليها، وذلك بسبب «التنسيق الذي كان قائماً بين اللجان الشعبية ووزارة الداخلية والبلديات وبلدية برج البراجنة». هكذا، وبما أن المخيمات الفلسطينية لا تتوسع أفقياً، بل عمودياً، إذ إن حدودها معروفة مسبقاً، ولا يمكن تجاوزها، ازدادت نسبة العمران عمودياً، وبالتالي ارتفاع الأبنية داخل المخيمات في الفترة السابقة. أما سبب ذلك فهو نتيجة الكثافة السكانية الكبيرة في المخيمات، والآخذة بالتصاعد عاماً بعد عام. ففي مساحة قدرها 750 م2 ويعيش فيها عشرون ألف نسمة، يعمل كل أب في المخيم لتأمين مستقبل ولده من خلال زيادة طبقة فوق بيت العائلة لتوفير مسكن لائق لعريس المستقبل. هكذا، تحولت الطبقات الأرضية في المخيمات إلى أبنية بطبقات عدة، أقصاها قد يصل إلى خمس طبقات. أبنية رأى فيها «الجيش تهديداً للمطار ومحيطه»، كما قال مسؤول في اللجنة الشعبية في المخيم. ومنذ أربعة أشهر تقريباً، يعيش لاجئو مخيم برج البراجنة هذه الأيام حصاراً أمنياً من قبل قوى الأمن الداخلي يمنعهم من إدخال «حبة تراب» إلى المخيم. قرار المنع هذا لم يؤثر على الحركة العمرانية داخل المخيم فقط، التي قد تعدّها الدولة اللبنانية انتهاكاً لسيادتها أو مخالفة للقانون، بل إن القرار أثرّ تأثيراً كبيراً على مشروع إعادة تأهيل البنى التحتية الذي تقوم به الأونروا في المخيم. مشروع انتظره أبناء مخيم البرج سنوات عدة، واعتصموا مرات عدة للمطالبة بالبدء به. هكذا، بعد أن بدأ العمل بمشروع البنى التحتية في «عز كوانين» العام الماضي، بعد إقرار السوق الأوروبية المشتركة لميزانية المشروع، نتيجة للضغوط التي تعرّضت لها الأونروا من قبل الأهالي، وبعد استمرار العمل فيه لمدة خمسة أشهر، توقفت عملية إعادة التأهيل نهائياً منذ نحو 3 أسابيع، جرّاء منع القوى الأمنية إدخال المواد الأوّلية لاستئناف العمل في ورشة المشروع. تحركت الأونروا ومعها اللجان الشعبية كلّ على حدة وبدون أي تنسيق مسبق في ما بينهما، إذ اجتمعت اللجنة الشعبية في المخيم بتاريخ 21 نيسان الماضي مع المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، وبحثا حيثيات قرار المنع. «تفهم اللواء مطالبنا، ووعدنا برد خبر إيجابي عن الموضوع، ولم يفعل حتى الآن»، كما يقول أبو وليد العينين، أمين سر اللجنة الشعبية في المخيم. قرار يظن البعض أنه ليس بيد قوى الأمن الداخلي، بل هو قرار صادر عن وزارة الدفاع اللبنانية، وخصوصاً مع تحليق طائرات الهليكوبتر التابعة للجيش اللبناني فوق مناطق محددة في المخيم تجري فيها عملية البناء، وتحديداً في الجهة الغربية للمخيم فوق موقع صامد الذي تبني الأونروا قربه خزان ماء كبير من ضمن المشروع الذي تقوم به. لكن ما علاقة الجيش بالموضوع؟ يجيب أحد مسؤولي اللجان الأمنية في المخيم، الذي رفض الكشف عن اسمه، بأن «الجيش هو المسؤول عن الأمن في المخيمات، أما انتشار عناصر القوى الأمنية على مداخل المخيم، فهو بتوكيل من الجيش مباشرةً». أما الأونروا فقد أجرت اتصالاتها مع قيادة قوى الأمن الداخلي وقيادة الأركان في الجيش اللبناني للسماح لها بإدخال مواد البناء التابعة لمشروع إعادة تأهيل البنى التحتية لمخيم برج البراجنة دون أي مشاكل. وتقول مصادر في الأونروا إن «الأمور أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الحل، بانتظار انتهاء الأمور التقنية التي ننسّق فيها مع قوى الأمن الداخلي على باب المخيم».هكذا، لو أراد الفلسطيني أن «يمشي على النظام» فهو لن يستطيع ذلك، لأن النظام نفسه منعه من التملّك خوفاً من التوطين، وإذا استطاع إلى التملك سبيلاً عبر طرق ملتوية، فهو ممنوع من التوريث! وإذا أراد أن يبني داخل المساحة الأخيرة التي يملكها داخل المخيم، فهو أيضاً ممنوع. هكذا، صادرت الممنوعات حق الفلسطينيين في كل شيء، فلا يجد بداً من الاحتيال على القانون ليتمكن من العيش، وإذا فعل ذلك يصبح خارجاً عن القانون، فما الحل؟
محمد حسنين هيكل في ليبيا. الزعيم الليبي معمر القذافي أرسل له طائرة خاصة. يبدو الأمر استشارة سريعة في سيناريو انتقال الحكم. هذا ما تقوله الكواليس. القذافي الماهر في تفكيك الدولة، يريد أن ينقلها إلى «شخص» آخر. يريد نقل الدولة لا مهارة التفكيك. ومرجعية القذافي مصرية. ناصرية بالتحديد. دولة جنرالات التحرير في مرحلة الاستقلال، ربما استقلال من الاستقلال نفسه أو إصلاح ما أفسده الاستقلال. بماذا سينصحه هيكل؟ القذافي اختار طريق التطرف. صنع كياناً لا يشبه غيره، استبداد لكنه فوضوي، وبدت ٤٠ سنة من عمر الثورة غير كافية ليتوقف الاستعراض الذي يجعل الزعيم فوق الدولة، والثورة. لكنه الزمن يطرح أسئلته الآن: ماذا بعد القذافي؟ في مصر سؤال مماثل، رغم اختلاف المسار. القذافي سار الطريق إلى آخره، فصّل البلد على مقاسه، وصعد على جثته إلى أعلى. ماذا سيورّث خليفته؟ كيف سيملأ أحد مساحته؟ أين المؤسسات التي يمكن أن تُبنى الآن في حضوره؟ أسئلة يصعب على هيكل، أحد مهندسي الدولة الناصرية، أن يجد لها حلولاً. فهو تربية مسارات محددة، تتسع لاستبداد الجنرالات التقليدي، لكن ليبيا خارج التصنيف. هل تفكر في أن تعيد التجربة من بدايتها، أم ستكون ثورة على الثورة الدائمة؟ هيكل لم يستمع أحد إلى وصفة إصلاحه في القاهرة. القاهرة سارت بسرعة أكبر من انتظاره، ومبارك، الجنرال الأخير ربما، لم يترك أذنيه متاحة لخطابات قديمة. هيكل سأل عن شرعية الدولة، وطالب الرئاسة بقيادة الانتقال إلى دولة مؤسسات، نواتها الصلبة: الجيش. حلم الدولة المدنية بنواة عسكرية انتهى من العالم كله إلى كوارث. الموديل الأخير في أميركا اللاتينية باق على سبيل التذكرة الساخرة. لم يعد مقبولاً باسم الاستقلال تحوّل الدولة إلى ثكنة عسكرية، تحكمها شرعية الغلبة. العرب بقيادة مصر اختاروا موديلاً عجيباً يتغطّى فيه العسكري بملابس مدنية، لعبة إخفاء مدهشة يتحول فيها الجنرال إلى صاحب مقام لا تستمر البلاد من دونه. الحزب الوطني الحاكم في مصر يروّج خرافة واقعية، وهي أن مبارك هو سرّ استقرار مصر. رئيس تحرير الأهرام سار أبعد من ذلك إلى كوميديا استنطقت الرئيس التركي عبد الله غول، في حوار على هامش زيارته القاهرية، قال فيه إن العلاقات بين مصر وتركيا على ما يرام بفضل الرئيس مبارك. ونفى وجود تنافس إقليمي، أيضاً بفضل الرئيس مبارك. مبارك لم يلعب على جاذبية شخصية، لكنّ صحافته تضفي عليه كاريزما الرؤساء، وأولياء الحكم الدائمين، وهنا يلتقي مبارك والقذافي في اقتراب النهايات. هما على حواف انتقال صعب، أو خطر بتعبير أدق. ماذا سيحدث في دولة تسلّمها الجنرالات من استعمار أجنبي وسلّموها إلى استعمار «وطني» غير معلن؟ استقلال قاد إلى كيانات خرافية يحلب الاستعمار القديم ثرواتها، مع نسبة معقولة للاستعمار الوطني. هذه هي الصورة، رغم فقاعتها، إلا أنها أقرب إلى توصيف اللحظة الراهنة، بحرقتها. ماذا سيفعل خليفة الجنرال في تركة الفساد الكبير؟ الفساد ينخر في أساس البلاد أكثر ممّا فعل الاستعمار التقليدي. احتلال الفساد أكثر مرارة، ويفرغ البلاد من طاقتها الحيوية. بلد فارغ إلا من الفساد وأمنيات شاردة في دولة ليس لها ملامح. هذا ما بقي من دول الاستقلال التي بدلاً من أن تلقي إسرائيل في البحر، ألقت شعوبها في بحار من مشاعر هائجة، وحناجر حاكمة، وشعور مستقر بالخذلان والعار. شعور لا يمكن أن يصنع دولة جديدة، بل سيخرج ساعة الغضب ليكسر ما بقي من دول قائمة. أي مستقبل؟ يقول المبشّرون الأميركيون إن مصر مقبلة على وراثة مقنعة يحتل فيها الابن مقعد الأب. لا سيناريوهات في ليبيا. فراغ كبير، يحاول الخلفاء أن يشغلوه بنثار حكايات. لا أحد يقوى على الحديث عن خلافة أو وراثة أو أي شيء، فالعقيد لا يحتل منصباً، بل هو المنصب. هل سيقود القذافي ثورة على نفسه؟ هل سيقول له هيكل ما أغلق مبارك أذنيه أمامه؟ الاستخبارات الأميركية في القاهرة تفتح ملفات متعددة، وتنير الطريق أمام سعاة الخلافة الهادئة. البرادعي رست سفينته على شاطئ فرعي، أقيم له مقام الدعاة والأولياء الصالحين. لا يزال هو الأخطر، لكن وفق قانون المفاجأة، ليس الواقع الذي يسير إلى مصير التوريث القديم، إلى جنرال خفي، أو جديد إلى الابن المتلهف، وساعتها ستكون هذه بداية سقوط دولة الاستقلال وشرخها الكبير.
وائل عبد الفتاح
الهرمل ــ رامي بليبل منذ تسع سنوات لا يزال المشروع الحلم الخاص بالأراضي غير المفروزة في البقاع الشمالي يراوح مكانه، حتى باتت الدراسات التي أجريت عام 2001 على المساحات الخاضعة لهذا المشروع الحيوي، والمهم، بحاجة إلى دراسات جديدة لتعديلها وتحديث معطياتها، وذلك وسط ازدياد المالكين وتغيير عدد من الأسماء، فقطعة الأرض بمساحة عشرة دونمات، التي كانت تعود ملكيتها إلى شخص واحد بات يملكها عشرة أشخاص، حتى صار من الصعوبة بمكان جمع كل أصحاب الحقوق بسبب «كثرتهم»، ما يرتّب فوضى عارمة لجهة التملّك بموجب السند «الأخضر»، ولما تفرضه من أعباء وهموم إضافية تُلقى على عاتق المالكين، الذين حجزت أوراق الملكية التي بحوزتهم، الأمر الذي أدى إلى شلل في عمليات الشراء والبيع والبناء والاستثمار، فأضحت أراضيهم مثل مال الوقف، لا يمكن استثمارها ولا بيعها! فقد أُطلق مشروع الضم والفرز عام 2001 على أن يُعمل به على ثلاث مراحل، ويوضح الخبير العقاري المحلّف لدى المحاكم الشرعية والمدنية ومختار الهرمل عبد الناصر الساحلي أن مشروع الفرز والضم انطلق في المنطقة عام 1970 وبقي حبراً على ورق، حتى جرى بتاريخ 13/3/1973، بقرار من القاضي المكلّف بأعمال الضم والفرز آنذاك، حجز 60 رقماً في أمانة السجل العقاري لمصلحة فرز كل عقار على حدة، وكانت الدائرة المكلّفة بالفرز والضم يومها في مبنى اللعازارية في الوسط التجاري في بيروت، حيث تعرضت خلال الحرب اللبنانية للعبث، ففُقد الكثير من الأوراق والسجلات والسندات، وبدأت حركة البيع والتسجيل تحت عنوان احتياطي في دائرة التحسينات العقارية على الرغم من أن هذا التسجيل مخالف لقانون الملكية والتسجيل العقاري، وبعد ضغط شديد ومتابعة من الأهالي لنواب المنطقة لإقرار مجلس النواب مشروعاً لفرز الأراضي وضمها في مناطق الهرمل والقاع ويونين أُقرّ المشروع، لكن على الطريقة اللبنانية، حيث طرحه التنظيم المدني ووزارتا الأشغال العامة والمالية على التلزيم، ووسعت مروحة الشركات الملتزمة للمشروع حسب «التنفيعات»، علماً بأن بعض أبناء المنطقة يزعمون أن هذه الشركات ليس لديها الأهلية والخبرة اللازمتان لإنجاز مثل هذه الأعمال. وكانت النتيجة أن ذهبت الأموال المرصودة والمقدّرة بملايين الدولارات هدراً، من دون أن تنتهي المرحلة الأولى، فضلاً عن المرحلتين الثانية والثالثة. وتدرج دراسات المشروع وجوب المرور بثلاث مراحل خلال العمل، المرحلة الأولى هي عملية مسح واقع الحال على الأرض ورفعه، وتحديد الشاغلين والمالكين في المناطق الثلاث، حيث تُجمع صكوك الملكية الأميرية من المواطنين، التي يعود معظمها إلى العهد العثماني، ومن ثم تُرسَم الخرائط وتوضع إشارات على الأراضي مع تصنيفها، ويقول الساحلي إن منطقة سهل الرجم هي المنطقة الأكثر قابلية والأقل تعقيداً والأكثر سرعة في التنفيذ، لأنّ فيها حوالى ستين عقاراً، وهي عقارات مساحاتها كبيرة، وكل عقار منها مقسّم إلى أقسام عديدة، بحيث إن الأقسام من العقارات معروفة عرفياً بين المالكين، وإن وجدت تعديات، فهي نادرة. أما في منطقة القاع، فلا توجد عقارات، إذ إنّها عبارة عن حصة شائعة قائمة في المنطقة العقارية على «1440» قراطاً (وحدة قياس) بحيث إن الملكية غير محددة وغير معروفة، على عكس الهرمل، حيث الملكية محددة ومعروفة، أمّا منطقة يونين القريبة من منطقة القاع، فرغم مراجعة الشركات واستفسارها عن ماهية الأمور التي قامت بها لم يجرِ تلقي جواب شافٍ، بحسب الساحلي، بل كان الجواب «أننا سلّمنا ما نفّذناه إلى التنظيم المدني، الذي يتهرب من تحديد موعد للإجابة عن تساؤلاتنا، ويقال إن المرحلة الأولى لم تنته حتى الآن». أما المرحلة الثانية، التي لم تبدأ بعد، فتقضي بتعيين القضاة العقاريين، وتأليف اللجان من الخبراء المختصين لتسلّم ما أنجزته شركات المسح من أجل البدء بأعمال الفرز والضم، ووضع مشروع مخطط الفرز، وتقسيم العقارات وعرضها على القضاة بعد تخمين الخبراء العقاريين إيّاها لتكون حيز التنفيذ. وتُختصَر المرحلة الثالثة بإعطاء العقارات المفروزة أرقاماً نهائية، وتسجيلها في أمانة السجل العقاري بعد أعمال التحديد والتحرير. وعن الحلول المفترضة يقول الساحلي: أولاً: إن مدير الشؤون العقارية بشارة قرقفي يتجاوب كثيراً مع وزراء المنطقة ونوابها، لكن هذا التجاوب لم يعطِ ثماره على الأرض إلى الآن، والمطلوب منه الإسراع بالطلب من مجلس الوزراء تعيين قضاة عقاريين متفرغين، وأصحاب كفاءة ومعرفة تامة بالشؤون العقارية، وبعد التعيين تبدأ الأعمال خلال مدة محددة، ولا تتوقف إلّا بانتهاء المشروع. ثانياً: لا بد من إعداد تصوّر عن كيفية فرز العقارات، وعلى أي أساس ستُصنَف: سياحية، زراعية صناعية، سكن ومحميات طبيعية وغيرها.
ويشير النائب مروان فارس لـ«الأخبار» إلى أنه قام بزيارات عديدة لمتابعة موضوع الفرز والضم لأراضي القاع والهرمل، حيث الأوضاع كارثية، وسعر الأراضي زهيد نسبة للأراضي الباقية، وقد اتخذ المجلس النيابي عام 1997 قراراً بهذا الشأن، إلا أنه لم ينفّذ وبقي في الأدراج، «وقد وعدنا الوزير العريضي أخيراً بدراسة الملف مع التنظيم المدني والإدارات المعنية، على أن يوضع المشروع موضع التنفيذ». وتابع أنه في العام نفسه، «خصّصنا بالتفاهم مع الرئيس نبيه بري والرئيس الشهيد رفيق الحريري مبلغ 20 مليار ليرة لبنانية لفرز أراضي القاع ومنطقة الرجم ـــــ الهرمل ويونين، وبوشر العمل في حينه، حيث لُزمت ثماني شركات العمل على فرز تلك الأراضي، ولكنه لم ينتهِ حتى تاريخه». بدوره، أشار النائب نوار الساحلي إلى أن «المشروع يُتابَع بجدية. وفي ما يخص بلدة يونين الأمور أصبحت في نهاياتها، أما بالنسبة إلى القاع والهرمل، فهي على نار حامية». إلى ذلك فقد طالب أهالي القاع في بيان صدر عنهم بتأليف لجنة متابعة مفوضة من المالكين بمتابعة قضية الضم والفرز لأراضي البلدة، والعمل على وقف جميع أنواع البناء والأشغال والاستصلاح والحفر والغرس إلى حين إنجاز المشروع وتسلّم المالكين أراضيهم.
7 آلافهو عدد سكان منطقة القاع، وجميعهم محرومون معظم الخدمات العامة ومنها الكهرباء، حيث لم تُوصَل حتى الآن البلدة بشبكة الكهرباء، وليس في المنطقة أعمدة كهرباء ولا خطوط نقل الطاقة، إذ يعتمد السكان على الكهرباء السورية وعلى المولدات الكهربائية!
تهرّب من إنجاز المشروع؟طلب بعض المسؤولين المختصين في الضم والفرز في الدولة من المواطنين أن يأتوهم بخرائط المساحة لعام 1973، وقد استغرب المواطنون هذا الطلب، فالدولة هي المسؤولة عن خرائطها لا المواطن، وهم يستطيعون وبسرعة تنظيم خرائط جديدة لكون هذه العقارات ذات مساحة نهائية، ويستطيعون أيضاً أخذ مساحة الأقسام المقتطعة بقرار القاضي واحتسابها من كل عقار، وتكوين خريطة تقريبية لهذه العقارات. والمعروف أنه سنة 1932، عندما بدأ الفرنسيون بفرز الأراضي كان الاعتماد على الورق والمسطرة والقلم.