ويُنظَر إلى لبنان في كثير من الحالات كمجموعة من الديانات والعقائد المتنوعة تعيش في حالة توازن حساس، منخرطة في مفاوضات متواصلة للتشارك في السلطة. وينسى البعض في معظم الحالات أن الدستور هو النص الوحيد الذي يعترف به الجميع. وهو كعقد اجتماعي يشكّل الأساس لكافة اللبنانيين للعيش معاً "دون تمييز"، أي بغض النظر عن انتمائهم الديني أو نوعهم الاجتماعي أو أصولهم العرقية أو معتقداتهم الشخصية.
وتنص مقدمة الدستور اللبناني على أن "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل". وتؤكد المادة السابعة منه على أن "جميع اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية، ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم". أما مادته التاسعة فتكفل "حرية إقامة الشعائر الدينية للأهالي على اختلاف مللهم".
وبعكس الممارسات القائمة حالياً، ليس هناك ذكر لتخصيص المقاعد البرلمانية أو توزيع طائفي للوظائف الإدارية أو المناصب الحكومية العليا. بل تضمن المادة التاسعة بوضوح الطبيعة العلمانية للدولة اللبنانية وبالتالي الصبغة العلمانية للجنسية اللبنانية.
لذا فإن لبنان دولة جمهورية وعلمانية يتساوى فيها جميع مواطنيها، نظرياً على الأقل.
واقع الأمر أن لبنان تديره نخبة سياسية مكونة من رجال أعمال وزعماء طوائف وأبناء أسر إقطاعية وزعماء ميليشيات سابقة، استغلّوا منذ أول أيام الاستقلال الفرص لتخصيص مناصب الدولة من خلال المساومة الطائفية. وقد أصبح هذا النظام التفاوضي، الذي يعاد التفاوض عليه عند حدوث أية أزمة سياسية كبرى في تاريخ لبنان القصير، متمركزاً بشكل معمّق خارج المجال الديمقراطي، في انتهاك صارخ لنص الدستور.
والواقع أن المشرّعين الوطنيين لم يضعوا أبداً حالة مدنية تحدد هوية المواطن اللبناني، أبعد من الوضع الديني الخاص الذي ينتمي إليه. وتعتمد جنسية اللبناني في لبنان الحديث على ديانته أولاً وقبل كل شيء، حيث أن جميع الأحوال الشخصية القانونية (الميلاد والزواج والوفاة والميراث) تدوَّن في سجلات رسمية منفصلة تم إرساء قواعدها على أسس ومعايير دينية.
إلا أن العديد من المواطنين اللبنانيين اليوم يوافقون بشكل كامل على القيم التي تم وضعها في الدستور الجمهوري العلماني الذي يرتكز على المساواة. وبغض النظر عما إذا كانوا متدينين أو يمارسون دينهم أم لا، إلا أنهم لا ينتمون إلى الممارسات الطائفية غير الدستورية التي وضعتها النخبة السياسية الحاكمة. ويطالب هؤلاء اللبنانيون بحقهم في الاستمتاع بحقوقهم المدنية، بغض النظر عن أية معايير دينية، تمشياً مع نص الدستور وروحه، لا أقل ولا أكثر.
لذا فإن مبدأ "العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين كافة المواطنين دون تمييز"، حسبما وَرَد في مقدمة الدستور، يجب أن ينطبق على قضايا مثل الزواج المدني، وحق جميع المواطنين في أن يتم انتخابهم وأن يمثلوا الناخبين بغض النظر عن المعايير الدينية، وأخيراً حق جميع اللبنانيين في التقدم لشغر الوظائف الحكومية بموجب معايير مهنية فقط.
بناء على ذلك فإن الحركة المدنية وراء "المسيرة من أجل دولة علمانية في لبنان"، ليست حركة توفيقية ولا محاولة لتحييد العلاقات بين الأديان. وتطالب هذه الحركة، وهي غير دينية أو سياسية بشكل أساسي، بإعادة ترسيخ الحقوق المدنية التي يتضمنها الدستور ويتجاهلها "ممثلو" الشعب
الكسندر مدوّر.