توقّع أن يصير اقتناع في نفوس اللبنانيين بالعلمانية بعد 30 سنة والأمر يتطلب إيماناً كبيراً المطران غريغوار حداد: الزواج المدني سرّ إذا كان الرجل والمرأة مؤمنين العلمانية لن تسقط وتَوسّع الفكر الديني ينهي تسلّط رؤساء الطوائف
الباب مفتوح على مصراعيه. في السرير تمدد المطران غريغوار حداد، وقربه زائران يؤانسانه. يمدّ يده للمصافحة مبتسماً، مرحبا بضيفين جديدين. في الغرفة 115 في "بيت السيدة" في الحدث، يستريح، مستقبلاً زواراً، متابعاً نشاطات "ابنته" الحركة الاجتماعية، مشاهداً التلفزيون، قارئاً في كتب عدة تكدست على منضدة قربه... "في كم وزير مناح، ولازم ندعمهم، وبيطلع منن نتيجة"، يقول بطرافته المعهودة، في معرض تعليقه على الاوضاع السياسية. النبض قوي، العينان تشعان حياة، الذهن متقد، الابتسامة مشرقة، اليدان تتحركان، تشرحان، تجادلان، تقودان الكلام، في القلب قوة روحية تتجلى على وجهه... ولولا "الاوستيوبوروز" (ترقق العظم) على قوله، والذي ترافقه "حزوقة" "تلبّص" عليه من وقت الى آخر وتصعب عليه الكلام، لكانت الصحة بألف خير."السيدة مي". يشير بيده الى ضيفته، معرّفاً بها. "علمانية من عبيه، ضيعتي". يقول انها تزوره من وقت الى آخر "كي تشممني رائحة الضيعة". وكان معها ضيف آخر: عضو في الحزب الشيوعي. "العلمانية" ضيفته الدائمة، الصديقة القديمة التي لا تبرح تفكيره، وكلما سنح له الظرف يتلمس طريقه اليها بحذاقة. هي حديث الساعة، الشرارة التي تحفزه على المضي في الكلام. "أصلك من وين؟ علمانية من هونيك؟"، يسأل. وعندما يعرف من اين الاصل، يضيف بطرافة: "بدن كثير هونيك تيصيروا علمانيين"، مشعلاً الضحك في "مقر قيادته". ويمضي في محاولة اقناع جديدة: "هل تدخلين تيار المجتمع المدني؟ الا تؤمنين بان العلمانية هي اللاطائفية واللاانعزالية واللاحكم على الآخرين؟ واذا كانت هكذا، افلا تدخلينها؟". نجيبه: الافضل سيدنا ان نبقى مستقلين، لان مهنتنا الصحافية توجب ذلك. نعمل من بعيد". فيردف: "من بعيد لبعيد حبَّيتَك... ممنوعة هيدي". ونسترسل معه مجددا في الضحك. وهذه المرة، تثير فضوله صحة العلمانيين في جريدة "النهار": "هل لديكم علمانيون؟" نجيبه بحقيقة الواقع، فيردف: "يعني عندكن شغل هلّق داخل الجريدة". ايمان المطران غريغوار لا يزال راسخا. "العلمانية لا يمكن ان تسقط. بالعكس، تقوى وتكبر وتنتشر"، يقول. في الجعبة اسئلة كثيرة اجاب عنها. وكلما توغل زورق الحديث اكثر في بحوره الهادئة، فتح اوراقه، منفتحا على الحوار، مستعدا لوجهة نظر الآخر، مثابرا بعناد على "رسالته"، مخرجا اشياء كثيرة من زبدة فكره، وكل مرة يلقي وراءه طعمًا يشدّ به الى المزيد. العلمانية التي يؤمن بها، علمانيته، "صعبة، لكنها ممكنة" على ما يعتقد. الايام الغابرة تعود للحظات، ويلقاها المطران بابتسامة. نسأل عن محاربيه، رافضيه. "لا، لم يتعمدوا اساءة فهمي، لان الامر صعب بالفعل... ويجب ان تتغير حياتهم كلها ليفهموا"، يقول. بالنسبة اليه، "الماضي مضى، "خلص". ربما أخطأت في امور معينة، والله يسامحني... وربما حاولت ان "ادفّش" اكثر من اللزوم. لكنني لا اريد ان احكم على الماضي... قمت بواجبي". "سيدنا"... الكلمة تكررت مراراً، لكن المطران لم يسكت عنها طويلا. احتج بديموقراطية، بلطف. "المطران نوع من زعيم في لبنان، علما ان المسيح قال: لا تدعوا لكم على الارض احداً سيداً، ولا معلّماً ولا أباً، لانكم كلكم اخوة. وهنا ندعوه "سيدنا" فيطلب ان ندعوه الاخ غريغوار، و"مش الاب، لان هناك ابا واحدا، هو الله"، او غريغوار "بس، وهيك أأمن واسرع".ساعة مضت، كأنها لحظة. الممرضة تقترب وفي يدها حبة دواء، تنبهنا الى قرب انتهاء الموعد. ولكن لدى "غريغوار" مفاجآت اخرى ممتعة. "بما انكم وصلتم لعندي اليوم، صرتم علمانيين. وممنوع ان تعودوا وتنسوا. واذا نسيتم، تكونون اضعتم وقتي، وانا ما عندي وقت كي اضيعه"، يشعل مجددا الضحك. ونسأله قبل الوداع: "غريغوار، ما الذي تحب ان يُكتَب او ان يقال عنك؟ وبعفوية يجيب: "بدي أنو ينسوني". الرجل يعرف ما يريد، وما يريده منه الله. "وهلق اقتنعتو بالعلمانية؟"، بقي سؤاله يتردد في طريق العودة".• بعد مرور 49 عاما على تأسيسك "الحركة الاجتماعية"، هل انت راض عن نشاطها اليوم؟ - انا راض ولست راضيا. اولا، لان الاوضاع التي تمر بها البلاد حاليا تصعب على الحركة تحقيق الاهداف التي حددتها لها من زمان. هناك مبادئ عامة كثيرة اطلقتها الحركة ولا تزال تؤمن بها، لكن عمليا لا انتاجية فعلية لها. على سبيل المثال، اللاحزبية، اللاطائفية، اللاعنفية، اللاارتجالية، اللاانعزالية... هذه المبادئ وغيرها اطلقتها الحركة، وعلى الارض لديها نحو 20 فرعاً في مختلف المناطق، بينها طرابلس وعكار والنبطية وبرج حمود وصيدا وزحلة... وفي كل منطقة، كان هناك شباب متحمسون للفكرة وتطوعوا للقيام بمشاريع، انطلاقا من حاجاتها. كانوا يجرون ايضا دراسات احصائية، وانجزت مشاريع عديدة بالتعاون مع الدولة. كان (الراحل) موريس الجميل وزيرا للتخطيط. وطلب وضع دراسة عن العمالة وكل المشكلات التي يعانيها العمال. وصدرت الدراسة في كتاب، انطلاقا من متطوعين في الحركة. هناك 60 او 70 شخصا، غالبيتهم من السيدات، ومعهم متطوعون من مختلف المناطق. وهذا امر جيد. كذلك، تضع الحركة برنامجا سنويا لعملها. والمشروع الكبير الذي تعمل عليه حاليا هو التعليم المهني لكل التلامذة ما بين 12 -13 عاما. ومهم جدا ان يكون هناك تطبيق عملي "على الارض"، وليس مجرد مبادئ عامة. • ما الضمان الذي يكفل استمرار الحركة في المستقبل؟ - الضمان الفعلي هو التمويل. وحتى اليوم، التمويل مؤمن. عندما بدأنا الحركة، لم يكن معنا اي قرش. كانت مخصصاتي الشهرية لا تزيد عن 100 ليرة لبنانية، وكنت اخصصها للحركة. وصارت تكبر (الموزانة) شيئا فشيئا. الموازنة حاليا تبلغ نحو مليونين او ثلاثة ملايين دولار اميركي سنويا، وصارت للحركة علاقة بالاتحاد الاوروبي، وهي علاقة مهمة جدا، اذ تعكس ثقته الكبيرة بها. "ع السكّيت وراء الكواليس" • تظهر في لبنان جمعيات عديدة متشابهة. ما ميزة الحركة؟ - المبادئ التي اشرت اليها سابقا. ميزتها انه ليس لديها مبدأ واحد فقط، بل هناك مبادئ يكمل بعضها البعض. كذلك تعمل الحركة "على السكّيت"، وراء الكواليس. وقد اتهمت بذلك، وان الحق عليّ، اذ قيل انه كان يجب نشر فكر الحركة ومشاريعها اكثر منذ البداية لنجذب الناس اليها. غير اننا لم نرد صبغها بطابع روم كاثوليك او شيء من هذا النوع، بتأثير من صفتي كمطران في الطائفة. وفي الاخير، "صبغولنا ياها شيعية وفلسطينية ويسارية وكثير أشيا". • هل اشتقت الى العمل الميداني؟- "صرت عم قضي حكم هلّقنيّي". (يضحك)• هل تواكب ما يقوم به المسؤولون في الحركة؟ - دائما، يأتون مرة في الشهر ويجتمعون بي، ويطلعونني على كل المستجدات. احب ان يكونوا متمتعين باستقلال تام، اي الا يكون "فوق راسن" المطران غريغوار حداد. هذا الامر ممنوع "من زمان وجايي". وقررنا القيام بأمر مهم جدا هو التنسيق بين الجمعيات. قلتم انه صار هناك جمعيات كثيرة في لبنان. ولسوء الحظ، تنشأ من اجل اشخاص، اي ان كل شخص يريد ان يبرز من خلالها. فالـ"انا" قوية جدا لدى اللبنانيين. حاولنا القيام بتنسيق، على سبيل المثال على صعيد المستوصفات والاندية وتعليم الاميين... إلخ. حققنا تنسيقا سميناه تجمع الهيئات التطوعية الذي يضم نحو 18 جمعية ومنظمة كبيرة، منها كاريتاس ومجلس الكنائس (الشرق الاوسط) ومؤسسة الامام الصدر ومنظمة الشباب التقدمي وغيرها.• هل تجد انه لا يزال هناك افق للعلمانية في لبنان؟ - بالتأكيد الافق موجود. هل تعلمين ما هو الافق؟ انه شيء بعيد، وعندما تحاولين الوصول اليه لا تستطيعين، لان المرء كلما اقترب، ابتعد الافق اكثر. وافق العلمانية موجود، لكنه من هذا النوع. ان شاء الله يقترب اكثر فاكثر.• يبدو انك متفائل؟- البلاد تحتاج الى اناس مؤمنين بهذه المبادئ. واذا ترك المؤمنون بالحركة الاجتماعية هذه المبادئ، تكون هناك امور كثيرة ناقصة. تبقى هناك احزاب بالطبع. والحزب الشيوعي اشتغل كثيرا، وتعاونا معا. وخلال ايام الحرب، شكلنا هيئة انماء قضاء عاليه، وتمثلت فيها كل الاحزاب، بما فيها الشيوعيون والاشتراكيون. وكان وزير الاشغال العامة غازي العريضي ممثلا للاشتراكي في الهيئة. التنسيق امر مهم، وآمل في ان يتوسع اكثر، وان تتراجع الـ"انا" التي يريد كل شخص ان يبرزها، ولا يقبل العمل في الخفاء. • اشرت الى ضرورة الاستمرار في الايمان بالعلمانية. هل صحيح انها تشكل خلاصا للاقليات؟ - لنحدد اولا ما العلمانية، كي نرى اذا كان فيها خلاص للاقليات ام لا. العلمانية متهمة بأمور كثيرة، اولها الالحاد، وبان العلماني لا يؤمن بالله او يصغي الى الكاهن. وهذا امر خاطئ كليا، ومصدر هذا الخطأ يرجع الى ان الدافع الاساسي للعلمانية في فرنسا كان وراءه اشخاص حاربوا الكنيسة الكاثوليكية، وتبين ان كثرا منهم تركوا الدين. وبالتالي، وسمت العلمانية بهذا الطابع، وبأن العلمانيين يريدون تغيير المجتمع من دون ان يهتموا بالدين. لا، بالعكس، فالدين في رأيهم جزء من المشكلات في المجتمع، وانه يمنع الناس من التطور. حاليا، اصبحت الكنيسة الكاثوليكية تدافع عن العلمانية اكثر من غيرها، لكن ليس في كل شيء. لذلك، من الضروري فهم العلمانية بمعناها الصحيح. "استقلال ما بين الإيمان والمجتمع" • ما العلمانية التي تسعى اليها؟ - نحددها كالآتي: هي استقلال بين ما هو للايمان وبين ما هو للمجتمع، اي ان الانسان حر بمبادئه الايمانية، ويمكن ان يعمل من اجل المجتمع ويكون ملحدا او مؤمنا بالله او من فئة "لا ادري من هو الله". لكل شخص الحق في العمل مع غيره شرط ان يقبل مبادئ الآخر والتعددية والنسبية. والنسبية تعني ان احد لا يملك الحقيقة المطلقة. الله وحده هو المطلق، والتعبير عن الله في الاديان نسبي. والقول ان الدين المسيحي وحده الدين الاكثر تطورا على هذا الصعيد امر خاطئ، فالمسيح لا يقول ذلك، بل يقول "يأتون من المشارق والمغارب ومن الشمال والجنوب ويتكئون في ملكوت السموات". وهذا يعني ان لكل انسان الحق في ان يكون له ضميره الذي يجعله يلتزم الارض عمليا، من دون ان يكون هناك قمع او استئثار. والاستئثار يجعل بعضهم يعتقد "انن هني وبس والباقي كلّو خس". (يبتسم)• اذاً، مبادئ العلمانية التي تنادي بها مستوحاة من تعاليم السيد المسيح او قريبة جدا منها؟ - قريبة تعني شيئا، ومستوحاة شيئاً آخر. لا نقول بانها مستوحاة، والا نكون صبغنا العلمانية بالدين المسيحي، بينما يجب ان تكون لها حريتها الكاملة: الانسان كانسان، ونقول كل انسان وكل الانسان. وهذه احدى مبادئنا التي نعمل على تطويرها. وهذا يعني ان نهتم بالجميع. واذا منعنا الحركة من العمل في منطقة معينة، فذلك خطأ، لانه يجب ان تصل الى كل انسان. ونعني بـ"كل الانسان" ان الانسان جسد ونفس وروح في الوقت نفسه. تطوير الجسد ضروري، وتطوير الروح ضروري، وتطوير النفس ضروري. واذا قصّرنا في بعد من هذه الثلاثة، يكون ذلك خطأ. وهذا يعني ضرورة العمل على كل الانسان. كثر يستخدمون هذا الشعار: كل انسان وكل الانسان. لم نخترعه نحن، بل اطلقه الاب لوبريه، الذي زار لبنان خلال عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب ووضع دراسة عن حاجات لبنان، واطلق فكرة التنمية، وتأملنا معه كثيرا. كذلك ساعدني شهاب وقتها، وتعرّف الى الحركة، وطلب منا بعض الخدمات، لاسيما على صعيد الصحة. يومذاك، كانت هناك اموال تعطى مستوصفات من خلال وزارة الصحة، لكنها كانت تصل الى "ناس، وناس ما توصلن". فتعرّف الينا بهذه الطريقة. وعرّفته ايضا الى الحركة. • بعد كل هذه الاعوام، لا تزال تنادي بالعلمانية. غير ان ثمة من يعتقد ان الطروح العلمانية سقطت في العالم في ظل النزاعات الدينية. ما رأيك؟ - العلمانية لا يمكن ان تسقط. بالعكس، تقوى وتكبر وتنتشر، انما حصل انتشار للاديان بطريقة عشوائية، يقول المثل: "ما بيقرقع بالدست الا العضام يللي فيه". يعمل ابناء الديانات المعروفة دعاية لانفسهم كثيرا، فيبدون انهم وحدهم في الوجود. غير ان هناك تيارات روحانية كثيرة في العالم اليوم، خصوصا في الهند، ويلتقي مسيحيون بالهندوس والبوذيين، وهذا امر مهم. وهناك كهنة قصدوا الهند ليصيروا رهبانا هندوسا، ووُضعت كتب عنهم، وهي جميلة جدا. وهذا يعني انه من الضروري انطلاقة العلمانية حتى لو صار هناك انتعاش لبعض الاديان. وفي آخر المطاف، سيكون هناك حوار. اذا قبل العلمانيون بكل الاديان، يجبرون بالتالي المؤمنين بهذه الاديان على اعادة النظر في مقولاتهم، وبألا يعتبروا ان لديهم وحدهم الحقيقة المطلقة. لا شيء حقيقة مطلقة. • كيف تنظر الى تجربة الاحزاب العلمانية في لبنان؟ - انا انظر اليها (مازحا بابتسامة). • يبدو ان ابتسامتك تعكس رضى. - هناك تعاون معها. مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي فيها الكثير من العلمانية، كذلك الاشتراكي، والكتائب رغم كل ما حكي عنه. مبادئه الاساسية تقول بانه حزب علماني، واهتموا كثيرا بالـ"Personalisme" الخاصة بمونييه. (يضحك)... العلمانية الشاملة تعني الحيادية التامة في فكر كل انسان، والتعاون مع الجميع على صعيد المجتمع من دون اتهام الآخرين باي شيء. وهذا امر مهم.• الا تجد اننا بعيدون جدا عن هذا الطرح الذي قدمته الآن؟ - نعم، نحن بعيدون. لكن كثرا باتوا مؤمنين به. حصل امر جيد العام الماضي، لجهة شطب الطائفة عن الهوية، وبعضهم يعمل على شطبها عن السجلات الرسمية ايضا، والحركة تعاونه على هذا الصعيد. وقد اسسنا تيار المجتمع المدني الذي هو نوع من الحركة الاجتماعية السياسية، وينتشر اكثر فاكثر. • قبل سنة، نشأ البيت العلماني في بيروت. من يتحمل مسؤولية فشل طرحه العلماني؟ -لم يفشل المشروع. بدأ تنفيذه، لكنه لم يكمل بسبب صعوبات، وقد اشرت اليها. كثر ليسوا مؤمنين (بالعلمانية)، وهذا يعني ان الامر يتطلب جهدا وصبرا كبيرين. واذا كان نصري الصايغ الذي اطلق المشروع مفكّراً مهما ويهمه ان يظل المشروع، فالامر يتطلب تضحيات كثيرة ليصل به الى النهاية. لقد تعاونا معه في تيار المجتمع المدني اولا، ثم احب ان يؤسس البيت. ويقول المثل: "نيال البيت يللي بيطلع منو بيت". "هذا يعني اننا باقون محلنا" • من يحارب العلمانية اكثر في لبنان: رجال الدين، ام السياسيون، ام الجانبان معا؟ - الاثنان معا، لان لديهما مصلحة في ذلك. النظام في البلاد يرتكز على الطائفية، ومصلحتهم تقتضي ذلك، كي يصلوا هم الى النيابة والوزارة والرئاسة والمواقع الدينية البارزة، والا لا يصلون اذا لم تكن هناك طائفية. • الغاء الطائفية السياسية. ما رأيك في هذا الطرح؟ هل هو طرح طائفي ام طرح مفيد للبلاد؟ - علينا العودة الى اتفاق الطائف الذي يقضي بتشكيل هيئة وطنية لالغاء الطائفية، ومجلس الشيوخ الذي يتمتع بالصفة التمثيلية للطوائف. وهذا يعني اننا باقون محلنا، وان الطائفية باقية، حتى لو اصبح كل النواب لاطائفيين. اذا ابقينا شيوخا طائفيين، لا نكون وصلنا الى "اي مطرح". الحرب طويلة جدا. نقول ان الامر يتطلب مرور 30 سنة، ابتداء من اليوم، قبل ان يصير هناك اقتناع في النفوس بالعلمانية. العلمانية ليست مستحيلة، بل صعبة جدا، وتتطلب ايماناً كبيراً، ورجاءً كبيراً، وصبراً كبيراً. • هل تعتبر انك دفعت ثمنا باهظا من جراء افكارك العلمانية؟ - ليس الامر مهما. لم اتأثر بما حصل. كنت مطرانا لبيروت وتركت المطرانية، وصار كل المطارنة ضدي. وسعدت بانني اصبحت حرا وغير مقيد في عملي. المطران مقيَّد ومقيِّد. ولسوء الحظ، هذه هي الحال في لبنان. المطران نوع من زعيم، علما ان المسيح قال: لا تدعوا لكم على الارض احدا سيدا، ولا معلما ولا ابا، لانكم كلكم اخوة. وهنا ندعوه سيدنا. • ما رأيك في الزواج المدني؟ هل يشكل مدخلا الى العلمانية؟ - لا، ليس مدخلا، بل هو جزء من كلّ، لان الزواج في ذاته اتفاق ما بين شخصين بكامل حريتهما ولكل حياتهما. ومن يعمل الزواج، ليس المطران او الشيخ او الكاهن، بل الرجل والمرأة معا. لهذا السبب، عندما يكونان التقيا وارتبطا بزواج مدني، فزواجهما زواج، وليس كما يُعتَقد في اوقات كثيرة انهما يعيشان في الزنى. هذا خاطئ جدا. • لكن وفق تعاليم الكنيسة، الزواج سرّ. فكيف يتم التوفيق اذاً بين الامرين؟- ماذ يعني السر؟ انه البعد الروحاني للعمل. سر الافخارستيا يعني انه من خلال الخبز والخمر على المذبح، يؤمن الانسان بان المسيح موجود معه. هناك سر وجود الله في الانسان، في الخمر والخبز، في البشرية، في كل شيء، وهذا يعني ان الزواج المدني سر اذا كان الرجل والمرأة مؤمنين بالمسيح. اما اذا لم يكونا مؤمنين، يصير اذاً عقد زواج عادياً. • في رأيك، متى يتجاوز اللبنانيون العقد التي تحول دون الزواج المدني؟ - عندما يصير هناك نوع من رأي عام يعتبر ان الانسان انسان، وليس الدين هو الذي يجعل من الانسان انسانا. لهذا السبب، اذا توسع هذا الفكر، لا يعود هناك تسلط من رؤساء الطوائف. وهذا الامر يتطلب عملا كبيرا، ويبدأ في تنشئة اجيال على هذا الفكر منذ الصغر، وانتشار احزاب علمانية اكثر. والمهم الا نيأس. "كي يصير الإسلام إيمانا" • هل يساعد التطرف الاسلامي الذي نشهده حاليا في المنطقة العربية وعدد من الدول في تعزيز الفكر العلماني؟ - ليس صحيحا ان هذا التطرف اسلامي، لان المسلم لا يكون متطرفا. يقال انه مسلم لله، اي انه سلّم ارادته لله. وليست هذه هي حال المتطرف. الذي لا يعود مسلما فعلا، بل يصير ملحدا. • لكن المتطرفين يقولون انهم المسلمون الحقيقيون وهم ورعون... - تماما كما يقول بعض المسيحيين (يضحك). • هل ترى ان الاسلام يمكن ان يتعايش مع المبادئ العلمانية طالما هو دين ودولة؟ - اولا الاسلام لم يبدأ دينا ودولة، بل بدأ ايمانا ومجتمعا بدويا. لم تكن في البداية دولة بالمعنى الحالي. وأحبّ النبي محمد، صلّى الله عليه وسلّم، ان يصير لديه معاونون او صحابة. وقد جمع في شخصه الامرين. وعندما ذهب الى عند الله، احب كثر ان يكملوا وراءه، واكتشفوا انه يمكن ان يجمعوا الامرين، على ان يكون كل منهما مستقلا عن الآخر. وجاء الامويون والعباسيون، وكانت دولة لوحدها، وصار المؤمنون يعملون وحدهم. لذلك الشيعة هم تيار ايماني، ويمكن، لو ارادوا ان يعملوا جديا، ان يكونوا من يحررون الدين الاسلامي من طغيان السياسة على الايمان. غير ان ذلك يتطلب وقتا طويلا، لكن الامكان موجود. العلمانية يمكن ان تحرر الاديان من شوائبها، بحيث تلتقي معًا بعد تحررها. العلمانية ممكنة، لكنها صعبة جدا. • عندما ذكرت النبي محمد، صليت عليه كما يفعل المسلمون. كيف يلتقي دينك المسيحي مع الدين الاسلامي؟- اؤمن بالمسيح، وبانه جاء من اجل الناس، بمن فيهم المسلمون. لكنه يُفهَمُ بطريقة خاطئة، اذ يُجعَل زعيم عصابة عند المسيحيين، بينما هو خادم الجميع. قال: لم آت لأُخدَم، بل لأَخدُم. وهذا يعني انه عندما يؤمن مسلم بالتمايز ما بين الدين والمجتمع، يمكن عندها ان نسميه مسيحيا، بمعنى "أعطوا لقيصر ما لقيصر، وما لله لله"، على قول المسيح. وهذا الامر يتطلب ايضا عملا كبيرا. ويجب ان يتغير لبنان كليا. • هل لديك "معزّة" خاصة للمسلمين والاسلام؟ - نعم، لدي معزة للمسلمين. لكن تجاه الاسلام، لا، اذا بقي كما هو عليه اليوم. ويجب ان يتغير، كي يصير ايمانا، وليس دينا. هناك كلمتان جميلتان جدا في القرآن: لكم دينكم، ولي ديني. والهنا والهكم واحد. الدين شيء والايمان شيء آخر. الايمان لديه مطلقية الله نوعا ما. اما الدين فهو نسبي. والاديان نسبية بالنسبة الى بعضها البعض. "ربما "دفّشت" اكثر من اللزوم"• من خلال خبرتك وحياتك، هل تجد ان المسيحية ليست للارض، بل للسماء. واذا كانت كذلك، فما نفعها للبشر؟ - قال المسيح: انتم في العالم، ولستم من العالم. وهذا يعني انه ضروري ان يكون المسيحي في العالم ويتحمل مسؤوليات فيه، لكن لا يصير من روحه الخاطئة. وهذا امر مهم، ويتطلب ايضا عملا. والعلمانية احدى وسائل تنقية الاديان. • هل أُسِيءَ فهمك، ام تعمدوا ذلك؟ - لا، لم يتعمدوا ذلك، لان الامر صعب بالفعل، ويتطلب منهم امورا كثيرة. يجب ان تتغير حياتهم كلها. وكلما زاد المؤمنون بالعلمانية، سهل الامر قليلا. • هل ثمة شيء تندم عليه في حياتك؟- يقول بولس الرسول: انسى ما هو ورائي واسعى الى ما هو امامي. الماضي مضى، "خلص". اخطأت في امور كثيرة، ونسيتها، وبعضهم كان يتشكك بسببي. وهذا يعني ان الطريقة التي اشتغلت بها ربما لم تكن صحيحة. ربما حاولت ان "ادفّش" اكثر من اللزوم. لا اريد ان احكم على الماضي. ما مضى مضى. قمت بواجبي. ربما اخطأت في امور معينة. والله يسامحني. واكمل مشواري، ولدي اعوام عديدة، لا اعرف كم عددها، لاعيشها.• ما حكمتك الفضلى؟ - ايمان بالله وايمان بالانسان. الانسان يجسد الله على الارض. والمسيح اعطانا المثل. "كنت جائعا فإطعمتموني، وغريبا فآويتموني...". الانسان هو الله على الارض. والله تجسد، والتجسد كلمة يصعب على بعضهم فهمها. وبه رفع معنويات الانسان واعطاه الكرامة الكبرى، وجعله على صورته ومثاله. • ما الذي يعزيك حاليا؟ - انتم. • لكننا سنغادر. فما يبقى لديك؟ - غيركم سيأتي (يضحك).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطران الأحمر من هو ؟
ولد نخلة امين حداد عام 1924 في سوق الغرب لابوين هما امين نخلة حداد (انجيلي). وماتيلد نوفل (روم كاثوليك). بين 1934 و1936 درس علومه الابتدائية في مدرسة سوق الغرب العالية وفي العام الدراسي 1936 – 1937 نال شهادة السرتيفيكا في مدرسة النهضة - بمكين قرب سوق الغرب التابعة لدير الشير (الرهبانية الباسيلية الحلبية للروم الكاثوليك).
بين عامي 1937 و1943 تابع التكميلية الثانوية في الاكليركية الشرقية التي كانت تابعة للآباء اليسوعيين في بيروت، وتابع دراسته الفلسفة واللاهوت في الاكليركية ذاتها.
عندما سيم كاهنا اتخذ اسم غريغوار تيمنا بالبطريرك غريغوريوس حداد الذي ترأس كنيسة انطاكيا اليونانية الارثوذكسية، بين عامي 1906 و1923، وذلك لاعجاب والده بذاك البطريرك المتزهد، والعلامة، صديق اهل المعرفة، وصديق الاسلام، القومي العربي، الذي وزع خيرات الكنيسة ايان المجاعة للفقراء المسيحيين والمسلمين على السواء.
بعد ثلاث سنوات من سيامته كاهناً سنة 1949، عين نائبا عاما على ابرشية بيروت للروم الكاثوليك ورسم اسقفا عام 1965 فقام بمهمته اولا كأسقف معاون للمطران فيليبس نبعه الذي أَسند اليه مسؤولية خدمة ابرشية بيروت ابان مرضه. وبعد وفاة المطران نبعة انتخب السينودس غريغوار حداد مطرانا اصيلا.
في ذلك الحين، اخذ البعض يتململون من بساطته وفقره وافتقاره الى مظهر الأبهة، ومن انه لا "يمثل" خير تمثيل مركز مطران يرأس اكبر ابرشية للروم الكاثوليك في البلاد العربية والاب غريغوار حداد (هكذا رغب في ان يدعوه الناس) كان احد المطارنة الذين وقعوا وثيقة يتعهدون فيها ممارسة الفقر في حياتهم الشخصية، وقد صدرت تلك الوثيقة في الدورة الاخيرة للمجمع الفاتيكاني الثاني العام 1965.
في العام 1957 اسس "الحركة الاجتماعية"، وتألفت لجنة التأسيس من ستة شبان وشابات ينتمون الى الطوائف المسيحية والاسلامية الكبرى في لبنان. والحركة الاجتماعية منظمة غير حكومية، طوعية، غير حزبية، لا عقائدية، ولا تدّعي التمنين بالاحسان. هي حركة تفكير وعمل جماعي علمي يلتزم التنمية الاجتماعية الاقتصادية. حركة ذات دوافع ذاتية، متكاملة، مصممة لخلق انسان اكثر انسانية ومجتمع اكثر انسانوية.
عملت الحركة في ضوء الدارسات والابحاث في الحقول الاجتماعية (الصحة، التربية، الثقافة، الترفيه التربوي، الاستشارات القانونية، تسلم دعاوى المحتاجين، مكاتب التوظيف للعاطلين عن العمل، بيوت رعاية الاطفال لدى خروج امهاتهم للعمل، المساكن الشعبية...) وبالتنسيق مع الدوائر الحكومية، وسعت بعمل جماعي متكامل الى تحقيق العدالة الاجتماعية.
اتهمت بعض الاوساط الحكومية هذه الحركة بانها تريد خلق دولة ضمن الدولة، كما سماها اليسار حركة اصلاحية فأخذ عليها انها تصرف الشبيبة عن العمل السياسي، او تمتص النقمة الشعبية.
ولربما كان عمل غريغوار حداد في الحقل الاجتماعي وراء اطلاق الناس عليه اسم المطران الاحمر، وايضا "مطران الفقراء". (من موسوعة عظماء لبنان) حوار هالة حمصي ونيكول طعمة