جهاد بزي
العدد ليس مهماً.الفلسطينيون الذين مشوا في مسيرتين إلى وسط بيروت، من شرقها ومن غربها، أتوا، في نهار الأحد المشمس أمس، لا ليقولوا ما يرغب اللبنانيون بسماعه، على اختلاف مشاربهم. لم يصرخوا مطالبين بـ«حق العودة»، ليلفوا أعلامهم ويغادرون، على عادة تحركات الفلسطينيين. هذه المرة أتوا، نساء محجبات وغير محجبات، شباناً وشابات ورجالاً وأطفالاً، بصفتهم لاجئين يطالبون بحقوق مدنية كانت المطالبة بها حكراً على نقاشات نخبوية تخاض في الدراسات والندوات وورش العمل وفي اللقاءات مع المسؤولين اللبنانيين، من دون أن تجرؤ على خدش حياء الشارع اللبناني الذي رآهم للمرة الأولى أمس في مشهد غير مألوف عليه، يحملون رايته وراية فلسطين فحسب، من دون أعلام الفصائل وانقساماتها، ومن دون أطفال يرتدون أزياء عسكرية يحملون بنادق بلاستيكية، ومن دون الاكتفاء بترداد هتافات يمكن للفلسطيني أن يرفعها في أي أرض من اتساع شتاته.
تحرّك الأمس تخفف من عقد عديدة: عقدة المرجعية الفلسطينية المفتقدة أو المتنافس عليها. فالمنظمون ناشطون أفراد أو ضمن جمعيات أهلية، أي مجتمع مدني فلسطيني لم يتخف تحت ستار «منظمة التحرير» أو تحالف القوى الفلسطينية. وإذا كان التحالف فضل لاعتباراته، الابتعاد عن هذا التحرك المدني، فالمنظمة حضرت بفصائلها كافة من غير أن يحسب للتحرك أنه تحت خيمتها، بل، على العكس، كانت جمعياتها الأهلية تحت خيمته. العقدة الثانية التي تخطاها الفلسطينيون أمس، كانت كسر الحذر الفلسطيني من الهاجس اللبناني بأن تكون المطالبة بالحقوق في مسيرة مدنية، انخراطاً سياسياً مستعاداً للفلسطينيين في الساحة اللبنانية. فالتحرك لم يكن مع طرف ضد طرف، بل أنه لم يخرج عن موقف فلسطيني عام في لبنان ينأى بنفسه عن الخلافات اللبنانية الداخلية. كل ما في الأمر أن ثمة حقوقا آن الأوان لأن تكون طرق تحصيلها هي تلك الشرعية تماماً، أي بالضغط السلمي ومن وسائله الشارع، الذي تأهبت له الدولة اللبنانية أمس بقوى الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، ومنها مكافحة الشغب. هذه الدولة التي منعت المتظاهرين من التوجه إلى المجلس النيابي في نهار عطلة، سامحة لدوي صوت وحيد في الساحة أمامه، هو صوت مشجعي المونديال في مقاهي وسط البلد. عدد المشاركين الذي ناهز الألفين لم يكن مهماً، بقدر ما كان مهماً أنه كان نموذجاً مصغراً عن المجتمع الفلسطيني في لبنان. أبناء المخيمات والقاطنون خارجها. شبان المخيمات العاديون من عمال أو عاطلين عن العمل، والآخرون المسيسون المنخرطون حتى العظم في الشأن الفلسطيني العام. أهم من العدد ايضاً، هو الجدية في مخاطبة الدولة اللبنانية. المذكرة التي تلاها الزميل صقر أبو فخر باسم «شبكة مسيرة الحقوق المدنية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين في لبنان» خاطبت الرؤساء اللبنانيين الثلاثة والنواب والوزراء لتقول لهم، ومن السطر الاول: «منذ ستين عاماً ويزيد، يعاني اللاجئون الفلسطينيون في لبنان الحرمان من معظم الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية ومن التمييز بحقهم». المذكرة التي عرضت لما وقّعه وصادق عليه لبنان من اتفاقات وإعلانات دولية أهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تابعت: «على الرغم من التصريحات الإيجابية لبعض المسؤولين اللبنانيين ولبعض النخب اللبنانية فيما يتعلق بحقوق اللاجئين الفلسطينيين الأساسية، إلاّ أن المنظور الأمني للوجود الفلسطيني لم يتغير، إذ ظل ينظر إلى المخيمات الفلسطينية على أنها ظواهر أمنية. وفي الوقت الذي تبدي فيه الفصائل الفلسطينية والأحزاب اللبنانية ومنظمات المجتمعين المدنيين الفلسطيني واللبناني استعدادها لمناقشة رزمة من الحلول للمشاكل التي يعانيها اللاجئون الفلسطينيون وخاصة في المخيمات، تبقى مسألة الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية القضية الأساس التي ينجم عن معالجتها وفق معايير حقوق الإنسان معالجة كافة تلك المشكلات». وفي هذا السياق، تابعت المذكرة: «ينبغي التخلي عن المقاربة «الإنسانية» التي تنظر الى اللاجئين الفلسطينيين بوصفهم مجرد مجموعة بشرية بحاجة إلى الإطعام والإيواء من قبل منظمات الاغاثة الدولية والجمعيات الخيرية لصالح تبني نظرة حقوقية تنطلق أساساً من الحق في الكرامة البشرية الذي تتفرع عنه كافة حقوق الإنسان الأساسية (حق العمل، حق التملك، الحق في الصحة والحق في التعليم والحق في حرية التنقل والتعبير وتشكيل الجمعيات... إلخ) وليس الحقوق الإنسانية. وفي السياق ذاته، ينبغي النظر إلى هذه الحقوق كوحدة متكاملة على الرغم من أولوية بعض الحقوق بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين في المرحلة الراهنة مثل حقي العمل والتملك، اضافة الى حرية التنقل واعادة اعمار مخيم نهر البارد». وشددت المذكرة على ان «إعادة منح حقيّ التملك والعمل هو في مصلحة المجتمع والاقتصاد اللبنانيين ولا يتعارض مع حق العودة بل أنه يشكل دعماً وتكريساً لهذا الحق، عبر تمكين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لأداء دور ناجع في اقتصاد البلد المضيف وتصحيح وضعهم الاقتصادي والاجتماعي الصعب ليتسنى لهم التمسك أكثر بحق العودة». وطالبت المذكرة بـ«تمتع الفلسطينيين بالحق في العمل والتملك، وذلك من خلال تعديل القوانين التي تشكل قيوداً على ممارسة اللاجئ الفلسطيني لهذه الحقوق الأساسية وفقاً لما نصت عليه الشرعة الدولية لحقوق الانسان، ولما ورد في مقدمة الدستور اللبناني، واحتراماً لانسانية وكرامة اللاجئ وخصوصية وضعه المؤقت في الوجود على الاراضي اللبنانية الى حين عودته الى ارضه ووطنه فلسطين». وطالبت المذكرة الدولة اللبنانية بـ: إلغاء مبدأ المعاملة بالمثل (مادة 59 من قانون العمل اللبناني) بما يتعلق بحق العمل للاجئين الفلسطينيين وفقاً لما ورد في برتوكول الدار البيضاء في العام 1965، والذي نص في فقرته الاولى على أن «يعامل الفلسطينيون في الدول العربية التي يقيمون فيها معاملة رعايا الدول العربية في سفرهم واقامتهم وتوفير فرص العمل لهم مع احتفاظهم بجنسيتهم الفلسطينية». إعفاء الفلسطينيين من اشتراط الحصول على اذن العمل باعتبارهم مقيمين على الاراضي اللبنانية قسراً والى حين عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم، وباعتبار إن القرار 79 الصادر بتاريخ 23 ايار 1967 لم يعد ينظر إليه كأجنبي وبالتالي استثناه من التدبير الخاص باثبات الوجود الذي يُشترط على الاجانب. اعتماد شمول الفلسطينيين بنظام الضمان الاجتماعي واستثنائهم من شرط المعاملة بالمثل الذي تنص عليه المادة التاسعة من قانون الضمان الاجتماعي. اعتماد حق التملك للاجئين الفلسطينيين في لبنان بتعديل الفقرة الثانية من المادة 1 من قانون رقم 296 الصادر بتاريخ 4/1/2001 الذي عدل بعض مواد القانون المنفذ بالمرسوم 11614 بتاريخ 4/1/1969 المتعلق باكتساب غير اللبنانيين الحقوق العينية العقارية في لبنان، لتصبح المادة 1 الجديدة «لا يجوز تملك اي حق عيني في اي نوع كان لأي شخص يحمل جنسية صادرة عن دولة لا يعترف لبنان بها على ان يعامل اللاجئون الفلسطينيون المسجلون رسمياً في سجلات وزارة الداخلية معاملة الرعايا العرب». قالت المسيرة ما لديها، وهو ليس هتافاً خاوياً من مضمون، وكما لم يدوّر الزوايا، لم يكن يعلن عداءً. المنظمون في الاصل أصروا على لبنانية وفلسطينية التحرك. إلا أن الحضور اللبناني كان في الأمس خAffinityCMSً مقتصراً على ناشطين يساريين، وعلى حزبين هما «التقدمي الاشتراكي» الذي شارك عبر نائبه أكرم شهيب خطيباً في عاليه، وعبر ممثل له في بيروت هو بهاء أبو كروم، و«الحزب الشيوعي اللبناني» عبر عضو مكتبه السياسي نديم علاء الدين. أما المنبر فتوالى عليه العديد من الخطباء منهم: ممثل منظمة التحرير في لبنان عبد الله عبد الله، والمفكر العربي عزمي بشارة (القى كلمته الدكتور ساري حنفي)، مسؤول الجبهة الشعبية في لبنان مروان عبد العال، مسؤول «فتح» في لبنان فتحي أبو العردات، مسؤول الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين في لبنان علي فيصل، منسق عام تجمع اللجان والروابط الشعبية معن بشور، رئيس اتحاد الشباب الديموقراطي الفلسطيني يوسف أحمد. ديموقراطية المنبر جعلت الكلمات تطول أكثر مما يفترض لنهار فلسطيني امتد على طول الأحد اللبناني، وعلى معظم مناطقه. هذا اليوم الذي يؤسس لخطاب للاجئين الفلسطينيين يقول إن المجتمع المدني بإمكانه أيضاً ان يتحرك، بل بإمكانه أن يكون متخففاً من القيود التي تحكم ما يشوب الساحة السياسية الفلسطينية من انقسامات، وهو خطاب يذهب في صميم القضية، ولا يخاف من السياسي فيها. كما أنه لا يخاف من مخاطبة أسوأ كوابيس اللبنانيين بأشد وضوح ممكن. ما قاله مروان عبد العال أمس نال أشد التصفيق تجاوباً: «أيها اللبنانيون. لا نريد الجنسية اللبنانية». تأسيسساً على مثل القاعدة، يمكن للبنانيين أن يرتاحوا، ويمكن للفلسطينيين أن يطالبوا.