نهلة الشهال
وجد السيد محمود عباس طريقة مبتكرة ليغطي كل خطوة يعتزم القيام بها: اللجوء إلى ما يسميه «الإجماع العربي»، وهو في الحقيقة توكيل عن توكيل، إذ تتخذ، بكل جدية، «اللجنة الوزارية المكلفة متابعة مبادرة السلام العربية» (!) قرارات تجيز له ما ينتويه وتبيحه. وآخر قرارات هذه الأخيرة هي الموافقة على انتقاله إلى المفاوضات المباشرة، بعد مسرحية سمجة استمرت عدة أيام، تمنع فيها الرئيس عباس إلا إذا قال له الأشقاء «افعل». وسنتجاوز السؤال العرضي عن مبادرة السلام العربية التي رفضتها إسرائيل تكراراً فيفترض بها أن تكون قد ماتت، لنكتشف أنها تركت مع ذلك خلفها «لجنة» باتت ذات شرعية تجيز وتمنع. وقد اجتهدت اللجنة المذكورة فأبقت بيد عباس حق اتخاذ القرار «بالتوقيت المناسب» لبدء تلك المفاوضات. يا سلام! ما هذا التشدد يا أخوة! لماذا مفاوضات مباشرة بعد المفاوضات غير المباشرة التي انتهت إلى عقم تام، إذ راحت هباء زيارات المبعوث الأميركي المكوكية السيد ميتشيل؟ والحق أن الرجل ابتدع كل الأشكال التي كان يمكن تخيلها لتحريك الموقف ولو قيد أنملة، بلا أمل، بل تحملت إسرائيل وزر إغضاب الرئيس أوباما، وإحراج واشنطن، رافضة كل مقترحاتها، وتم التوصل إلى حل ينقذ ماء وجه الولايات المتحدة فحسب، هو الإعلان ـ مجرد الإعلان وليس التطبيق ـ عن تجميد الاستيطان حتى 28 أيلول/سبتمبر المقبل، فإذا بنتنياهو يفرض كسر «المنجز»، لغايات رمزية بحتة، ويصر على الإعلان عن بدء التفاوض المباشر. فهل كان العيب في شكل التفاوض ليتخذ مثل هذا القرار؟ الحقيقة أن لواشنطن كما لتل أبيب غايات ذاتية من الخطوة: في الولايات المتحدة أزمة كبرى بل أزمات. أبرزها ما يخص استعصاء الموقف في العراق، الذي لم تتشكل فيه حكومة بعد ما يقرب من خمسة أشهر من الانتخابات النيابية، رغم الضغوط الأميركية التي باتت في الشهر الأخير استنفارية، حيث يفترض بالأميركيين سحب قواتهم المقاتلة منه آخر آب/ أغسطس الجاري. وهم باتوا يعلمون بيقين أنهم مقبلون في بلاد الرافدين على مجهول كبير ـ واستراتيجي بالنسبة لمصالحهم ـ لم تنفع في دفعه إلى التبلور تهديدات الرئيس أوباما، بأن ذلك الانسحاب سيتم بغض النظر عن الوضع العراقي الداخلي. وفي أفغانستان، لم تمر بلا ضجيج سخرية الجنرال ماك كريستال الذي كان قائد القوات هناك، من الخطة المتبعة، فاستبدل الرجل ثم أقيل من الجيش. ولكن ذلك كله كان أعراض المرض وليس المرض نفسه. وقد بات الحديث عن الفشل في أفغانستان مقبولا علناً في واشنطن، يبرره الرحماء بأن الرئيس أوباما إنما يستمر في اقتلاع الأشواك التي زرعها سلفه وعصابة المحافظين الجدد الذين كانوا ينوون شن حروب غير منقطعة. أما لبنان الصغير، فمعادلته صعبة ومعقدة للغاية، وليس من رجاء بأن يصبح هو المكان الذي تحقق فيه واشنطن بعض الانجاز، بل لعله اللغم القابل للتفجير إذا ما تغلبت الحماقة ـ الحماقات لأن مرشحيها كثر ـ في أي لحظة. وصحيح وسط هذه اللوحة القاتمة أن واشنطن حققت فرض عقوبات على إيران في مجلس الأمن، ولكنها هدية مسمومة إذ ترفع، ليس إلا، منسوب التوتر في المنطقة. وهكذا فواشنطن ليست قادرة سوى على الميل على السلطة الفلسطينية، بما يقال له تارة تهدئة للموقف حتى تتمكن من الانصراف إلى التعاطي مع تلك الملفات المشتعلة، أو يقال له تارة أخرى بأنه إجازة ترضية لنتنياهو حتى تبرد أعصابه ولا يرتكب فعلة في لبنان أو على إيران تورط واشنطن بشكل واسع واستراتيجي. أما غاية تل أبيب فواضحة: هي لا يُفرض عليها شيء، وخصوصاً ما تسميه «شروطا». يُقر لها بحرية الحركة المطلقة على أرض فلسطين، تفعل ما تشاء، تصادر المزيد من المباني في القدس، تهدم قرى في النقب، تغتال... ولا من يعترض. ولذلك فهي لا تطيق «دلع» المفاوضات غير المباشرة التي توحي بأن هناك، ربما يا قوم، مقاييس، وضوابط، وتمنّع، إلى آخره. وهي بعد أن يُفتضح اعتداؤها على نطاق دولي (فلا افتضاح محلياً، او هو ليس ذا بال)، تحتاج دوماً إلى جوائز ترضية. ولعل الحملة الدولية التي يشكل أسطول الحرية إحدى حلقاتها بينما المقاطعة حلقة أخرى منها، قد خدشت شعورها، وكان لا بد من ترميمه عبر تسليم السلطة الفلسطينية لها بما تريد. إسرائيل تلك ظاهرة تتجاوز السياسة، ولا بد يوماً من مقاربتها بشكل كلي ليتم فهم ميكانيزمات فاعلة في تاريخ البشرية نفسه... يعني ذلك كله أن المفاوضات، مباشرة أو غير مباشرة، هي بشكل واضح آلة تدور في فراغ، منفصلة عن أساسها. فعلى فرض أن أساسها هو «اتفاقيات أوسلو» أو ما يقال له «العملية السلمية»، فقد اختفت ملامح هذه اختفاء تاماً بعد عقدين من التشويش والتشويه، وباتت السلطة الفلسطينية المفاوِضة أداة عارية من أدوات الفعل الإسرائيلي نفسه. والمؤلم في ذلك أن الجميع يعرف ذلك ويقر به، ولكن السلطة، وهي أول من يعلم، تعتد بعجزها عن سواه، فهي إما تفعل لتستمر أو لا خيارات أمامها. وهذا من منطقها الخاص. فماذا لو كان أن كسر حلقة منح الغطاء والشرعية للسياسة الإسرائيلية لا يمكن أن يتحقق اليوم سوى بوقف هذه الأداة؟ يدّعي مسؤولو السلطة بأن استقالة سياسية مبررة أمام الأمم المتحدة ستترك الشعب الفلسطيني يتيماً. وهذا ادعاء إن لم يكن كاذباً بوعي، ولمصالح باتت اليوم فعلاً شخصية حتى لو شملت طبقة بأكملها، فهو تعبير عن عجز وافتقاد مطلقين لأي قدرة على المبادرة. ولكن العجز متقاسم، إذ لم تعد إدانة هذا المنهج تكفي. المطلوب بلورة استراتيجيا فعلية مقابلة، وهذا المقترح ينتمي إلى هذا الجهد الضروري ولكن الخيال السياسي ينبغي عليه بلورته بشكل تفصيلي ومتمفصل بين أجزائه، ومستشرف لأفقه. وهذه هي اليوم المهمة الفعلية أمام من لا يرضى بأن تكون فلسطين بأكملها جائزة ترضية لإسرائيل، وهي على ذلك وفوقه، لا تحول دون سائر ارتكاباتها!