ليندا مطر تتوّج ستين عاماً من النضال في سبيل الإنسان

عبثاً ستحاول أن تسحب «السيدة» من الشأن العام إلى الخاص. بعد ستة وخمسين عاماً قضتها ليندا مطر في ساحات النضال، أضاعت المرأة التي تقفل عامها الخامس بعد الثمانين هذه السنة، الطريق إلى شؤونها الخاصة. ستجد أن بوصلة حديثها، تفكيرها، وحتى تفاعلها مربوطة بمغناطيس قضايا الإنسان، وإن أطلت خصوصية المرأة من قلبه. البوصلة نفسها تحافظ على اتجاه قضايا مركزية أساسية: فلسطين، المقاومة، العدالة، قانون مدني للأحوال الشخصية، ومنه يتحرر الرجل والمرأة معاً، ومن الجوهر تتشعب عناوين هامة كثيرة. معها، تستعيد بعض ثقتك بالتغيير، تتقد عينا ليندا مطر بحماس ابنة العشرين، لتقول بحزم إن «القوانين المجحفة لا بد أن تتغير في يوم من الأيام»، من دون أن تخفي وجعها من «الحال الطائفية التي وصلنا إليها»، لكنها لا تتشاءم: «فلا بد أن نرجع يوماً ما إلى أصالتنا». عشية تكريمها من قبل ثمانين شخصية وطنية سياسية وحزبية وثقافية وإعلامية ونضالية، تعتبر ليندا مطر أن «الحظ» خدمها و»بيَّنت»، فيما «بقيت جنديات مجهولات كثيرات في الظل». تغرورق العينان المتقدتان تأثراً، ويكشف خجلها عن طفولة وعفوية كامنين وهي تثمِّن «هذا الإجماع التكريمي» من شخصيات تتناقض في المواقع والمواقف والتوجهات، لتجتمع عند تكريمها. عندما ترشحت ليندا مطر لدورتين انتخابيتين (1996 و2000) كانت تدرك عدم إمكانية فوزها، لكنها أرادت أن تقول للجميع: «نحن هنا كنساء، ومستعدات لخدمة الوطن من داخل البرلمان ولكنكم انتم من يعيقنا». وكان لنيلها ثمانية آلاف صوت في بيروت من دون سند طائفي أو مذهبي أو تبنٍّ من زعيم أي من «المحادل»، أن يبرز موقعها الهام على الخارطة العامة من جهة، وأن يثبت، من جهة أخرى، أن الكفاءة الشخصية والتاريخ النضالي ليسا إطلاقاً من متطلبات ومستلزمات الوصول إلى المجلس النيابي. وحين ترشحت إلى مقعد نيابي، انطلقت من أن «السياسة هي عمل يومي لكل امرأة بدءاً من احتجاجها على غلاء أسعار الخضار، ووصولاً إلى العمل السياسي الصرف، لأن كل شيء هو نتيجة قرارات سياسية»، والسياسة بهذا المعنى، «ليست حقاً بل واجب». فليندا مطر، رئيسة لجنة حقوق المرأة اللبنانية، والمناضلة منذ خمسينيات القرن الماضي، لم ترث منصباً سياسياً أو «سمعة» بيت سياسي يكونان بوابتها الرسمية المعتمدة إلى الشأن العام. صنعت ابنة العائلة «المستورة»، وفق توصيفها، عرشها الخاص. وتحولت تلميذة المدرسة التي عجز أهلها عن دفع أقساطها إلى طفلة عاملة في معمل «الكلسات» نهاراً وتلميذة ليلاً. وهي، حين ترشحت إلى مقعد نيابي، لم تبرز هوية تثبت إرثها السياسي العائلي لأب أو زوج أو شقيق. كان لديها خمسون عاماً من الحضور النضالي الفاعل ولكن ليس للوصول إلى سدة البرلمان المحكوم بمعايير طائفية ومذهبية، لا تزال ليندا مطر تحاربها حتى اليوم. الندوة النيابية نفسها التي أُقفلت أمامها، شرَّعت أبوابها لأخريات لم يسمع اللبنانيون ببعضهن إلا في معرض الحديث عن الرجال الذين ورثنَّ مناصبهم. من هنا، من استحالة وصول المرأة الكفوءة إلى سدة البرلمان من خارج القيد الطائفي والمذهبي والمالي وتركيبة النظام السياسي الحالي، ترى ليندا مطر في الكوتا النسائية مرحلة انتقالية «لا بد منها، حتى يعتاد المجتمع على وجود المرأة في البرلمان، وهي تحفظ حصة المرأة في التمثيل السياسي، وعلى أساس الانتخاب حيث تترشح أي سيدة تجد في نفسها الكفاءة اللازمة». أربع سنوات قضتها ليندا مطر رئيسة للمجلس النسائي خرجت منها ببعض الأسف لعجزها عن إلغاء المداورة الرئاسية داخل المجلس طائفياً، وتبني طرح قضية قانون مدني اختياري وموحد للأحوال الشخصية.. المجلس نفسه الذي يضم 160 جمعية نسائية، ليس سوى صورة عن لبنان وطوائفه. لم تكن الأسئلة عن الطبقية الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت تتخمر في ذهنها وهي فتية في العاشرة من عمرها، تشبه نشأتها في عائلة «متدينة لا تتعاطى الشأن السياسي». شكّل اضطرارها للعمل، وهي في الثانية عشرة من عمرها، بدايات وعيها حول الفروقات الطبقية التي يصنعها المال بين الناس: «أنا إنسان وغيري إنسان، كنت أعمل وأنا المتعلمة حينها مقابل مبلغ زهيد، وكان أبي يكد ويتعب فيما كانت «المصاري» تنزل على غيرنا». يومها، لم يكن يحق للمرأة الترشح ولا حتى الانتخاب، ومن خطاب ألقته في مهرجان عن حق المرأة بالانتخاب والترشح، تكرّست صورة ليندا مطر كمهتمة ومناضلة إلى أن زارتها سيدتان من لجنة حقوق المرأة اللبنانية لمساعدتهما في جمع تواقيع تدعم حق المرأة بالترشح والانتخاب. ومن التوقيع المؤيد، إلى لجنة حقوق المرأة التي قدمت لليندا مطر الكثير من الأجوبة. أنشأت فرعاً للجنة في عين الرمانة ثم ترأست فرع منطقة الضاحية الجنوبية قبل أن تصبح أمينة سر اللجنة بعد عشر سنوات على انضمامها إليها، أي في العام 1963، لتصبح رئيستها في العام 1978 وما زالت. ذلك كله حصل بعد زواجها وهي في السابعة عشرة من عمرها، وبعد إنجابها ابنتيها من رجل ساندها وأحبها ولم يكن يوماً إلا سنداً لها في مسيرتها. ومن خلال قراءاتها لزوجها الأرمني الذي لا يجيد القراءة العربية، كانت ليندا مطر تكثف اطلاعها ومتابعاتها. قراءات كان لها أن تشعب أسئلتها السابقة حول الطبقية وتوسعها لتشمل بعض المناحي السياسية والحقوقية. وفي موازاة نضالها النسائي في اللجنة، تعرفت ليندا مطر إلى «الحزب الشيوعي اللبناني» عبر حلقة الأصدقاء، التي عرَّفتها بدورها إلى كتابات وفكر ماركس وانغلز ولينين، فتثقفت «حول قضايا كثيرة». وكان لمشاركة ليندا مطر في مؤتمر عن الشباب وحقوقهم في برلين أن تدخلها إلى السجن لدى عودتها، من دون مبررات رسمية وقانونية واضحة، ليتضح بعد خروجها بثلاثة أيام، البعد السياسي للتهم الجنائية التي وجهت إليها. رغم انتسابها إلى «الحزب الشيوعي اللبناني»، ظل ميل ليندا مطر طاغياً نحو الشأن الاجتماعي «البعيد عن القيد الحزبي». اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تعود ليندا مطر لتؤكد أنها تدين بأفكارها التقدمية «للمبادئ الاشتراكية التي تساوي بين كل الناس»، شعور نحو نظرية اشتراكية يجعلها تقفز فوق «كيفية ترجمتها وعلاقتها بآليات السلطة والأخطاء التي حصلت في التجربة العالمية». هنا، يعود الإيمان بالمبادئ ليتشابه مع ما يفعله كثيرون: «ما زلت أؤمن بها على طريقتي الخاصة»، تقول. لجنة حقوق المرأة بالنسبة إلى ليندا مطر لم تكن يوماً من أجل المرأة فقط، «نحن نعمل للمجتمع والإنسان والوطن ومن ضمنه المرأة». فالمعوقات أمام تقدم النساء «هي نتيجة النظام الذكوري المؤطر بقوانين تمنح الرجل سلطة السيطرة وتقمع المرأة». طبعاً، لا تسقط اللجنة تأثير العادات والتقاليد، «ولكن وراء كل قضية اجتماعية قرارا سياسيا، والعنف الممارس في السياسة والاقتصاد، وكل الإشكاليات التي تحكم البلد، تطال الرجل كما المرأة ولكن الفرق أن الرجل يعود لتعنيف المرأة كزوجة وابنة وشقيقة». لها رؤيتها النقدية لموقع المرأة في النقابات والأحزاب وليس فقط في المؤسسات السياسية، فالتقاليد والعادات كانت تؤثر على خروج المرأة ليلاً، بالإضافة إلى مسؤولياتها في العائلة في ظل قلة من الرجال المتفهمين والذين يساعدون في تحمل الأعباء المنزلية». اليوم، وكما بدأت حياتها النضالية منذ ما يقارب الستين عاما، لا تزال ليندا مطر تقارب المرأة وحقوقها من كونها إنسانا بالدرجة الأولى، ومن الأسباب ـ المعوقات الأساسية التي تطال الرجل والمرأة معاً، يتربع النضال لإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية على رأس الأولويات، كونه يحرر المواطن من الطوائف «وليس من الإيمان الذي هو شأن خاص». ومعها، تستعيد بعض إيمانك بأن نضالات المرأة اللبنانية لتكريس حقها بمنح جنسيتها لأولادها وعائلتها سيتحقق يوماً ما، ومعه تعديل كل القوانين المجحفة بحق المرأة. تقول ليندا مطر أنها ستحمل معها إلى منصة التكريم أحلامها النضالية التي لا تنتهي ولا تحد بعمر أو سنين، أحلام تبدأ برؤية المواطن اللبناني، رجلاً وامرأة، حراً وكريماً وطليقاً من كل قيد طائفي أو مذهبي، فهناك تكمن «اللبنة» الأساس للمساواة. سعدى علوه
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة