سليمان تقي الدين
ليست مسؤولية أي فريق لبناني أن يصوغ قراراً ظنياً في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لو أن نظام العدالة عندنا بخير، ولو أن العدالة الدولية أيضاً بخير. هذه الجريمة ما كانت لتحصل إلا لأنها في إطار مشروع سياسي وحقيقتها ستظل كذلك. أعقبت الجريمة سلسلة أحداث وإجراءات أوهنت أي دليل قضائي لصالح الاتهام السياسي. هكذا حققت الجريمة وظيفتها منذ اللحظة الأولى وما زالت قيد الاستثمار. ولو شاءت السياسات الدولية اليوم يمكن لها أن تضعها في مسؤولية أي جهة تريد، وهي فعلت وتفعل. لو كانت العدالة الدولية بخير، لما كانت قضية فلسطين والعراق، ولا ما هو أدنى من ذلك. فلم يسبق لنا ان عرفنا على وجه اليقين كيف صيغت قرارات الاغتيال السياسي حتى لو عرفنا من نفّذها. الجريمة السياسية لها فاعل معنوي هو الاساس وهو الطرف الذي لا تطاله أي إجراءات. لا عدالة في هذا العالم ما دامت القوى التي تدير آلة القتل خارج سلطة المحاسبة. عبثاً نعتقد اننا نستوفي العدالة أصلاً من أدواتها التنفيذية فقط. وهل يمكن ذلك حتى في الجرائم المكشوفة كاغتيال القيادي الفلسطيني (المبحوح) في الامارات، أو في الاغتيال المفتوح على كوادر «حماس» و«حزب الله»، وقبلهما كل قوى المقاومة. وماذا عن قادة لبنان، قادة السياسة والرأي، وعشرات الآلاف من ضحايا الحرب الأميركية الإسرائيلية المستمرة منذ أربعة عقود. منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري أخذ فريق سياسي البلد رهينة لشعار «الحقيقة والعدالة». اختار قضية واحدة مثقلة بطاقة التحريض السياسي. لم ينتظر نظام العدالة لأنه متورط في مشروع، ومنخرط في حبك روايته. فاقت الغيرة على «الشخص» كل حدود، حتى ان هذا الفريق باع كل قضية أخرى تخصه. رؤساء جمهورية وحكومات وزعماء أحزاب وتيارات ومجازر جماعية، ذلك كله اختُصر في شخص له عزوة، ولدى المدافعين المستجدين مدد مالي واعلامي ووظيفة سياسية. لكن «الشخص» ليس إلا المفتاح لأقفال أخرى على الحقيقة: سوريا ودورها، المقاومة ودورها، ولبنان في نهاية المطاف. كيف يقيمون في لبنان صدعاً جغرافياً فينفلق عن تاريخه ويتحول إلى محمية أميركية تعيد تقديمه لإسرائيل مستسلماً متنازلاً عن القوة ليبرر تنازله عن الحقوق الوطنية في بعض الأرض والماء والنفط والتوطين وحريته وسيادته. يقولون: هذه لغة «تخوين». عفواً. إذاً هذا مشروع غباء وخطأ وخطيئة واستهتار بما تعنيه تلك الادوار التي طلبت الحماية للبنان من أميركا، والعدالة من مجتمع الجريمة الدولية المنظمة، والاستقرار من الإرهاب العالمي الأعظم. تبدلت الحقيقة عند هذا الفريق بين ليلة وضحايا، وصار هذا الرهط من السياسيين يقول ما يلقّن، وهو لا يخفي أبداً الترابط بين «الحقيقة» و«العدالة»: الحقيقة سياسية والعدالة سياسية، وكلتاهما تصب في أمن إسرائيل المقدس لدى الغرب. نحن أيضاً «نتهم بالسياسة» أي دولة بنوا وأي فساد وأي مديونية وأي جيش وأي عدالة وأي اقتصاد. من الواضح ان منظومة هذا الفريق السياسي مترابطة في هذه الحلقات جميعها. استثمروا البلد وشلّعوه، بقصد أو بغير قصد. هم طبقة سياسية فاسدة وفاشلة وقد أنتجوا دولة فاشلة. جميعهم جاؤوا من رحم العلاقات الخارجية ونفوذ الخارج بوجه عربي أو افرنجي. هذه طبقة سياسية مستوردة تتجدد منذ تاريخ قديم لأنها أعطيت وطناً لم تكن تسعى إليه أو تبحث عنه. وطنها الحقيقي مصالحها، ومشروعها السياسي طوائفها، ودولتها سلطتها، ومستقبلها حقيبتها. لو ان هذه الطبقة السياسية تناضل في سبيل لبنان كما تستبسل اليوم وتبذل كل ما تستطيع لإنتاج غلبة داخلية مرتبطة بالغرب، لكانت أعطت لبنان الكثير. قد يوثق اتهام إسرائيل بآلاف القرائن، فهي الطرف المباشر المعني بالفوضى اللبنانية وبإسقاط مناعة هذا البلد وكسر انجازاته، لكن هذا لا يشفي غليل أولئك الذين يريدون شيئاً آخر من الحقيقة ونسخة منقحة عن السيناريو السابق بوجه سوريا. هناك مخرج واحد ليس دفاعاً أو تبرئة، وليس تلاعباً بمخيلة الجمهور وعواطفه. انه التحقيق الذي يبدأ بالوقائع لا بالدوافع المعنوية. وكي يصحح مسار التحقيق عليه ان يبدأ من الطرف الذي حاول تشويهه وأخذه إلى الجريمة الأكبر التي تستهدف كل لبنان وسلمه الأهلي وموقعه العربي والوطني. هذه الخفّة التي يتعامل بها هذا الفريق تفرض ان يقال له: إلى أين يذهب بالبلد. نعرف أنه يتبرّأ من الفتنة، ويتظاهر بالعجز عنها، ويتذرع بأن مشكلة من يطاوله الاتهام هي مع المجتمع الدولي. ليس قرار المحكمة ما يخيف ولا سلطانها، بل التأسيس على ذاك القرار قرارات دولية وانكشاف أكبر أمام الضغوط واسقاط شرعية المقاومة هذه المرة من باب اتهامها بالإرهاب والتشكيك بشرعية سلاحها. إذا كان هؤلاء يعتقدون ان هذه النتيجة مرضية لهم، فهم إذاً يريدون هذه «الحقيقة» بالذات وهذه «العدالة»، كي يضعوا البلاد في هذه المواجهة. سمع يا شباب: هذه اللعنة لن ترحم أحداً. خطر المحكمة انها مدخل لقرارات دولية جديدة تبدأ بحصار المقاومة وتمتد إلى كل لبنان والمنطقة.