جورج بطل أراد له والده الثروة والجاه واختار لنفسه الثورة

يقدم جورج بطل لوحة غنية وشاملة عن حياته الحزبية والسياسية ويتوقف عند محطات رئيسة في تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني، ويعرج على مسيرة الحركة الوطنية اللبنانية ويقدم عرضاً لمسارها البياني وعلاقتها بالمقاومة الفلسطينية وببعض الأنظمة العربية. بالرغم من بلوغه الثمانين فإن ذكراة جورج بطل مازالت متجذرة في الاحداث التي يقدم لها شرحاً وافياً بشكل متناسق ودقيق. يعود الفضل في بقاء جورج بطل حياً حتى اليوم الى تمسكه بالخمسة قروش التي نقده اياها والده في يوم عيد العمال العالمي في الاول من ايار والذي كان يحتفل به مع عماله هو وغيره من اصحاب الدباغات في بلدة مشغرة على بيدر القرية. يومها رفض ابن الخمس سنوات التنازل عن قروشه لصبي عرض بيعه أعشاش عصافير، فكان أن قبل ولد آخر كان بجانبه هذا العرض وذهب مع الصبي لكنه لم يعد. تعرف جورج إلى الصبي القاتل ووقف أمام القاضي كأصغر شاهد في تاريخ المحاكم في لبنان. بعد ذلك التاريخ، اصبح لهذا العيد معنى في ذاكرة جورج بطل ووعيه واصبح اكثر نضوجاً وتماسكاً من خلال ما سمعه من استاذه في مدرسة كفرشيما بديع الهاشم عن انتصارات الجيش الاحمر في الحرب العالمية الثانية وعن الثورة البولشفية وأهميتها في حياة الشعوب. لم يقدم جورج بطل طلب انتساب الى الحزب الشيوعي اللبناني ولم ينتظم في فرقة حزبية انما وجد نفسه متابعاً قضايا الحزب واتجاهاته من خلال علاقة تفاعلية مع أصدقاء حزبيين. هذا الاتجاه الأحمر لم يعجب والده الذي دفعه لدراسة التجارة من اجل توريثه اعماله والذي كان ايضاً في خططه تقديم طبق النيابة لولده، مستفيداً من مكانته المادية والاجتماعية. لم يحسم جورج بطل خياراته بين الثروة والمال وتمرده على المجتمع الرأسمالي إلا بعد أن حضر مؤتمر الشبيبة اليسارية العالمي في مدينة بوخارست في رومانيا عام 1953. هناك شاهد شبيبة أتت من كل انحاء العالم لتهتف لاخلاقيات السلام والصداقة بين الشعوب، فشعر أن إيمانه بمبادئ العدالة والمساواة قد اصبح راسخا وان الوقت قد حان للالتزام العقائدي، وسرعان ما تعرض لاختبار جدي بعد أن اعتقلته السلطات اللبنانية بتهمة مناهضة مشروع ايزنهاور. ثلاثة أشهر أمضاها في غرفة حالكة السواد والى جانبه سجناء يناقشهم ولا يرى وجوههم قبل أن تبرئه المحكمة العسكرية لعدم كفاية الدليل الاتهامي المساق ضده. كان صيف الدم حاراً في العام 1958 والذي اندلعت شرارته مع اغتيال الصحافي نسيب المتني والتي شهدها جورج بطل صدفة من شباك منزله في خندق الغميق. اندلعت احتجاجات صاخبة ضد حكم الرئيس كميل شمعون، وكان المتظاهرون يقفلون الشوارع بأشجار اقتلعوها عن الأرصفة. في تلك المعمعة انبرى شاب يحطب الأشجار بعناية بدل أن يقطعها ويشارك رفاقه في اقفال الشوارع وعندما سأل جورج بطل عن هويته قيل إنه جورج حاوي من بلدة بتغرين في المتن الشمالي. تمدد التوتر وتحول مواجهات عسكرية، وتولى جورج بطل نقل السلاح للثوار بسيارته من مناطق قريبة من الحدود اللبنانية السورية في البقاع الى بيروت والجبل. كان عليه أن يمر قرب ثكنات للجيش وعلى حواجز للامن العام. اعتقد رجال الأمن أن صاحب السيارة الفارهة والتي تحتل الفتيات مقاعدها باستمرار هو شاب عابث وليس صاحب قضية يخاطر بحياته من اجلها. من مفارقات تلك المرحلة، قدوم بطل من بيروت مع رفيقه نديم عبد الصمد الى المختارة في ظروف امنية خطرة ليسلما رسالة إلى كمال جنبلاط الذي أمن لهما العودة إلى العاصمة في ملالة للجيش! يطل جورج بطل بخبرة نضالية عميقة على مسيرة القائد الشيوعي البارز الشهيد فرج الله الحلو الذي اعترض وحيداً على تأييد قيادة الحزب الشيوعي اللبناني ـ السوري لموقف الاتحاد السوفياتي من قرار تقسيم فلسطين. شكا شيوعيو لبنان من اهمال القيادة المركزية لهم وتركيزها على شيوعيي سوريا. قابل وفد منهم كان جورج بطل في عداده القيادي نقولا الشاوي في دمشق ولم يأتوا بنتيجة. تلقف فرج الله الحلو الموقف وكان متفهماً لواقعهم. وطدت تلك المحطة العلاقة بين فرج الله الحلو وجورج بطل الذي أصبح رسوله الحزبي إلى لبنان. اصبح فرج الله مطلوباً ومطارداً من قبل حكومة عبد الحميد سراج في سوريا بعد قيام حكومة الوحدة بين سوريا ومصر. كان جورج بطل على موعد سري معه في دمشق عندما شاهد رفيق ر. المقرب جداً منه والمطارد مثله يسير في الشارع ضاحكاً مطمئناً برفقة آخرين. اخبر جورج فرج الله عن الواقعة فأجاب الأخير «لقد شُبّه لك يا جورج». اعتقلت السلطات السورية فرج الله الحلو بعد شهرين من الحادثة وقامت بتصفيته بعد ان استدلت على مخبئه من رفيق ر.! كان جورج بطل في طليعة العاملين على ترسيخ فكرة الانفصال بين قيادتي الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، محذراً من أن الفشل سيكون حليف الحزب اذا استمر العمل ضمن قيادة واحدة في ظل واقعين سياسيين مختلفين. ويقول إن هذا الانفصال أسهم في إنضاج مشروع تغييري كبير من الموقف من المسألة الفلسطينية وقضايا عربية وقومية أبرزها قضية الوحدة العربية، وان كان الحزب قد خسر بعضاً من كوادره الذين اختاروا البقاء في ظل قيادة خالد بكداش في سوريا. شعر جورج ورفاقه من مجموعة «المؤتمر الثاني» في العام 1968، أن أسلوب الدولة اللبنانية في الدفاع عن الجنوب ضد الاعتداءات الاسرائليية لا جدوى له ولا بد من طرق نضالية جديدة تفسح المجال للجنوبيين في الدفاع عن أرضهم، فكانت فكرة «الحرس الشعبي»، خطوة بالاتجاه الصحيح... ومن جل إنضاج تلك التجربة، شق جورج بطل طريقه إلى غور الأردن برفقة جورج حاوي وقابلا ياسر عرفات هناك من أجل تأمين التدريب والسلاح اللازمين للشيوعيين اللبنانيين، وكانت النتيجة نشوء مقاومة لبنانية باسم «الحرس الشعبي» خاضت في بلدة عيناثا أول مواجهة مع جنود العدو في شتاء العام 1972 وسقط خلالها علي أيوب («أبو حسن») شهيداً. يقدم جورج بطل اليوم مقاربة نقدية لعلاقة الحزب الشيوعي وباقي مكونات «الحركة الوطنية اللبنانية» بقيادات المقاومة الفلسطينية ويقول إن هذه التجربة أربكت الساحة الوطنية اللبنانية. على سبيل المثال لا الحصر، «انقلاب عبد العزيز الأحدب كان من تدبير ابو حسن سلامة، والدليل أنه دخل علينا عندما كنا مجتمعين مع ياسر عرفات انا وجورج حاوي في مكتب الـ«17» في الفاكهاني وأخبرنا بالانقلاب قبل حدوثه! المثل الثاني، هو تراجع عرفات عن قرار متفق عليه مع «الحركة الوطنية» بمنع النواب (بالنار) من الوصول الى قصر منصور في المتحف لانتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية، لكن بعد تسوية مع الكتائب صاغ تفاصيلها كل من أبو حسن سلامة وكريم بقرادوني وأدت في نهاية المطاف إلى انتخاب سركيس. نموذج ثالث وقوف عرفات ضد قرار الهجوم على مواقع الكتائب في منطقة الزيتونة والتي كانت تعرف بـ«النقطة الرابعة» رداً على مجزرة «السبت الأسود». يرد جورج بطل على ما جاء في كتاب محسن دلول حول زيارة كمال جنبلاط الشهيرة الى دمشق. فيقول ان جنبلاط لم يدفع من قبل قادة الحركة الوطنية للذهاب الى دمشق بل هو كان مصراً على الذهاب. لم يستمع إلى نصيحة محسن ابراهيم وجورج حاوي بأن الذهاب في أجواء متوترة لن يحقق الفوائد المرجوة. قال كمال جنبلاط بعد عودته «لو استمعنا الى نصيحة جورج ومحسن كنا وفرنا معركة مجانية مع السوريين في الجبل». توقعت قيادة الحزب الشيوعي اجتياحاً اسرائيلياً للبنان قبيل حدوثه عام 1982، وأن يصل إلى بيروت، وقامت لهذه الغاية بتحضير كوادر المقاومة. تداعت قيادتا الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية الى اجتماع مع بدء الاجتياح، نشب جدال عنيف بين جورج بطل وياسر عرفات الذي حذر القيادات الفلسطينية من مغبة تقديراتها القائلة إن عمق الهجوم الإسرائيلي لن يتجاوزالاربعين كيلومتراً. يقول جورج بطل إن جورج حاوي لم يكن متجانساً بشكل كامل مع فريق الرابع عشر من آذار وإن اتصالاته بالمسؤولين في سوريا لم تنقطع وهو سعى جاهداً قبيل استشهاده إلى بلورة مبادرة هي عبارة عن مشروع قرار يصدر عن الجامعة العربية يكون بديلاً للقرار 1559 يطلب من القوات السورية إنهاء مهامها في لبنان بعد تقديم الشكر لها على ما بذلته من جهد ودماء في سبيل الدفاع عن لبنان وعروبته وترسيخ الاستقرار فيه. ستظل الليلة الأخيرة في حياة جورج حاوي تحتل الحيز الأبرز في ذاكرة جورج بطل. في تلك الليلة جلس حاوي على كرسيه المفضل في منزل جورج بطل مناقشاً معه فكرة مشروع سياسي استراتيجي يهدف لإحداث تغيير جذري للنظام الطائفي في لبنان. لم يكن حاوي يشعر وقتذاك أنه مستهدف. كانت عبارته الأخيرة لجورج بطل وهو يودعه على باب منزله «لا تتجول غداً يا جورج... أشعر أن أمراً كبيراً سيحدث»... في اليوم التالي سقط «أبو أنيس» شهيداً.
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة