نصري الصايغ
تلقى الروائي الفرنسي ايف سيمون، الرسالة التالية من مجهول: «عمري أربعة وعشرون عاما. زوجتي الحامل في الشهر الثالث تركتني. غادرت المنزل حاملة حقيبتها فقط. لم تترك لي أي كلمة. لم تفسر سبب إقدامها على هذا الفعل... لم أفهم ماذا حصل ولماذا. لم نكن على خلاف. لا شيء البتة يدعوها إلى الرحيل... أنا غاضب وحزين وضائع». قال الروائي وهو يهم في متابعة القراءة: «وما علاقتي بذلك؟». تابع ايف القراءة: «انتظرت اتصالا هاتفيا. توقعت إشارة ما. فتشت المنزل بحثاً عن تفصيل يفسر لي غيابها. فتشت الحقائب والجيوب، ولم أجد ما يدلني إلى سبب تركها». قال الروائي: «حتى الآن، لست مسؤولا عن شيء، أو لم يُطلب مني شيء». وتابع ايف القراءة: «لفتني يا سيدي، أن زوجتي كانت تقرأ في كتاب قبل أن تنام. لم أعر الكتاب اهتماماً، ظناً مني، ان الكتاب لن يرشدني إلى معرفة مصير زوجتي... لكنه أرشدني. أنت المسؤول يا سيدي عن ترك زوجتي بيتها، وعليك تقع مسؤولية إعادتها إليّ». دُهش الروائي. اكتشف فجأة أن المرأة قلدت بطلة روايته. انما، «ما علاقتي بالمسألة. أنا أكتب فقط. أكتب كي يقرأني الناس». عبثا. نص الرسالة ينتهي بما يلي: «أنت يا سيدي كتبت رواية دفعت امرأتي إلى تركي، عليك الآن ان تكتب رواية أخرى تعيدها إليّ». ومنذ عشرين سنة، والكاتب ايف يبحث ويبحث. يكتب قصاصات يجمعها إلى قصاصات أخرى، ولم تلتئم بعد في نص روائي، اذا كتب، قد يعيد وقد لا يعيد، الزوجة الحالمة، إلى زوجها. كتاب واحد، خرب بيت رجل. كم كتابا سياسياً، كم بيانا سياسياً، كم عقيدة سياسية، كم خطبة سياسية، خربت بيوتنا وأوطاننا وأمتنا... ولم يطالب أحد منا، باستعادة ما أخذ منه، أو بكتابة نص يعيد إلينا، نساءنا وأموالنا وأعراضنا وأراضينا وآمالنا وأحلامنا وذريتنا التي ولدت تحت خط القمع والضياع والفقر والبؤس. المرأة التي قرأت الرواية، تماهت مع النص إلى درجة الامحاء. ومن منا لم يمّحِ بزعيم أو قائد أو طائفة؟ الرجل يطالب الكاتب برواية أخرى تصحح خطيئة التقليد. كم رجلاً منا، طالب زعماءه وخطباءه ورجال دينه وملهميه من أهل السياسة، بأن يكتبوا نصاً آخر، أو يسلكوا طريقاً أخرى... لا أحد حتى الآن. ولو فعلنا، لربما، عادت زوجة الرجل إلى بيته، وعادت معها شعوب إلى رشدها، وأوطان إلى بلادها، وأراض إلى أهلها، وأموال إلى حقائب الناس. لا أحد... إننا نستهلك من العقائد والأفكار والشعارات ما لا يحصى. لدينا سياسة «فاست فود»، وغب الطلب. لا نُتعب أنفسنا في محاسبة أحد، ولا يترك لنا أحد من أهل السلطة، فرصة الدفاع عن النفس أو تبرير الذات أو... البحث عن زوجته الضائعة. لا أحد... إيف سيمون، لا يزال قلقا. يتساءل عن الوسيلة التي يعيد فيها الزوجة الحامل إلى بيتها. وهو في الأساس غير مسؤول. مسؤوليته أنه كان موحياً سلبياً. ومع ذلك، هو يعيش قلق الرجل الذي فقد حبه وجنين امرأته. نحن... من بلاد أخرى. سيدنا التسيّب. إمامنا التخلي. قائدنا الفراغ... وعليه، فنحن أمة هائمة على وجهها، تخبط خبط عشواء عرجاء، لا أمام أمامها. وحده الوراء يحيط بها من كل اتجاه. أي نص تحتاج اليه هذه الأمة، كي تعود إلى نصابها؟ لعله النص الذي يكتبه الناس. لعلها الرواية التي تكتبها الأفعال. لعلها الكتابة التي لا لغة لها. معها الكتابة التي تشبه فعل الانتصار في 25 أيار 2000. كتاب الانتصار بين عدد قليل من الكتب، إذا قرأناه، عدنا إلى صراط الأمة المستقيم، إلى فضاء الحرية العميم، إلى منطق الحياة الحميم. هو الذي صدق معنا. وإن صدقنا معه، لا نضلّ الطريق إلى بيوتنا في فلسطين وكرامتنا كأمة ونسلنا كشعوب تستحق أرحام أمهاتنا ان تحبل وتفرح ببهاء الوضع. وقل اقرأ إذاً... ونعم القراءة.