الفيلم البوليسي الطويل: سـيناريـو جـديـد

فواز طرابلسي

لم يكشف السيد حسن نصر الله في مؤتمره الصحافي أمس الأول قتلة الرئيس رفيق الحريري. ولا هو وعد بذلك أصلاً. ولا هو اهتم بالرد على التهم المنسوبة إليه في القرار الظني المفترض ولا بحث في تسييس التحقيق. الفضيحة التي كشفها، وذكرنا بها، أدهى، هي فضيحة انحياز التحقيق. ها هي محكمة دولية ذات مستوى يفترض انه رفيع من النزاهة والرصانة والاحترافية تصب كل عملها مدى خمس سنوات على ظنّين واحد. فتتغاضى عن فاعل له حضور يفقأ العين في السياسة والحياة اللبنانيتين، هو أولاً في حالة عداء معه، مارس الاغتيالات والاعتداءات والقصف الأرضي والبحري والجوي منذ العام 1968، ويشن الغزوات العسكرية منذ العام 1978، وقد احتل خلال 22 سنة قطعة من أرض لبنان توازي عُشر مساحته وأدارها بواسطة جيش عميل، وله في البلد على ما تكشّف أخيراً من العملاء والجواسيس، ما قد يشكل عما قريب نسبة مئوية من عدد السكان! وعلى الرغم من ذلك كله، لم يخطر في بال التحقيق توجيه ولو قسم من تحرياته نحو إسرائيل ولو من قبيل الإحاطة بكل الاحتمالات. لم يُستدع أي إسرائيلي ولو للشهادة. ولسنا ندري تماماً مصير الشكاوى الدائمة الصادرة عن هيئة التحقيق من الدول التي حجبت عنها المعلومات والمستندات والمساعدة، وفي مقدمتها إسرائيل. حقيقة الأمر ان القرائن التي عرضها الأمين العام لـ«حزب الله» ـ وتحفظ عن انها ليست أدلة ولا اثباتات ـ كافية للبرهنة على ان الطرف الذي جرى استبعاده سلفاً من الشبهة والتحقيق يملك من القدرات ما يسمح له بالتخطيط والاستطلاع والتجنيد وتأمين الوسائل لتنفيذ مثل تلك الجريمة. إلى هذا بينت الوثائق المصورة انجازاً أمنياً يستحق التقدير، هو اختراق أجهزة المقاومة الإسلامية وسائل الرصد الجوي للعدو الإسرائيلي. لكن المفارقة ان المؤتمر الصحافي لم يعط أبرز قرينتين الوقت والاهتمام اللذين تستحقانه: حضور عميل إسرائيلي في موقع الجريمة قبل يوم واحد من وقوعها، وتحليق طائرة اواكس وطائرات مقاتلة إسرائيلية فوق موقع الجريمة خلال الساعات التي وقعت فيها. يظلل القرائن تحليل سياسي يكرره «حزب الله» منذ فترة يقول إن الاندفاعة الأميركية ـ الإسرائيلية ضد سوريا، في امتداد احتلال العراق والسعي لاستكمال الإطباق على المنطقة، كانت تقتضي «زلزالاً» بحجم اغتيال الرئيس رفيق الحريري لاخراج الجيش السوري من لبنان. وهو الوجه الآخر للتحليل الذي يتهم الحكم في سوريا، تحديداً لاعتبار رفيق الحريري مسؤولاً عن استصدار القرار 1559 الذي يقضي بانسحاب الجيش السوري من الأراضي اللبنانية. غني عن القول ان القرائن في مضبطة السيد حسن نصر الله ناقصة، يعوزها الكثير من حيث الوسائل والدوافع بدءاً بطرائق وأساليب التنفيذ، وصولاً إلى البرهان عن حاجة إسرائيل لارتكاب سلسلة التفجيرات والاغتيالات اللاحقة على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني. مهما يكن من أمر، فالسيناريو البديل الذي قدمه السيد حسن نصر الله لجريمة اغتيال الرئيس الحريري، يستطيع ان يخدم في اتجاهين متعاكسين: ÷ الاتجاه الأول هو المساهمة في دفع التحقيق الدولي نحو مجرى جديد، بأن يأخذ الظن بإسرائيل مأخذ الجد ويتفحص القرائن التي يضعها «حزب الله» في عهدة المحكمة. وقد ترك السيد حسن نصر الله الباب مفتوحاً لوصول قرائنه إلى المرجع الدولي، إذ أعلن استعداده للمشاركة في لجنة تحقيق محلية تشكلها الحكومة اللبنانية لهذا الغرض، دون ان يمانع في وصول نتائج ووثائق تلك اللجنة إلى المحكمة الدولية. ÷ أما من حيث الاتجاه الثاني فالسيناريو الجديد معدّ لمن يبحث عن مخرج من ورطة القرار الظني، حتى لا نقول من ورطة المحكمة الدولية برمتها. وهو لا يشكل مخرجاً لأنه صحيح ولا لأنه ينطوي سلفاً على الحقيقة. ولا هو بالتأكيد سيناريو غير مسيّس. بل انه سيناريو مسيس بطريقة أكثر ملاءمة لحال البلد ولما استجد من تطورات إقليمية. أطاحت المصالحة بين «سين» و«سين» بالسيناريو القائم على اتهام الحكم السوري. والوضع الداخلي، بما فيه مضاعفاته العربية ـ الإسلامية، لا يحتمل اندلاع فتنة مذهبية (وما أكثر المفتتنين بمفردة «الفتنة»، إعجاباً وتحليلاً وتعليقاً وخوفاً وتخويفاً) سوف يفجرها اتهام «حزب الله». وهكذا، فإن رمي التهمة على العدو الإسرائيلي مناسبة تحديداً لأن «الجسم اللبّيس»، يرتضيه شعور عميق في اللاوعي والوعي العربيين اللذين لا يستغربان، بحكم التجربة والتاريخ والمآسي، نسب أي جريمة مهما كانت مستفظعة لإسرائيل. هكذا تكون لنا «جريمة الآخرين»، مثلما كانت لنا «حزب الآخرين». ثلاثة سيناريوات لفيلم واحد. ولم يبدأ التصوير. فهل ان السيناريوات مجرد «المناظر» التي تشوقنا للفيلم المرتقب؟ أم ان «المناظر» صارت بديلاً عن الفيلم ذاته؟ في كل الأحوال، من يريد ان يعرف من قتل الرئيس رفيق الحريري يوم 14 شباط 2005؟ [ [ [ هامش: يعمل نواب وشيوخ أميركيون لاستصدار قرار بوقف المساعدات العسكرية الأميركية للجيش اللبناني البالغة مئة مليون دولار سنوياً. والسبب «اعتداء» الجيش اللبناني على إسرائيل في موقعة الشجرة في العديسة ووقوع الجيش ذاته تحت «سيطرة» «حزب الله». في اليوم نفسه أفادت أنباء ان العربية السعودية تتهيأ لتوقيع عقد بقيمة 30 مليار دولار من أجل شراء 80 طائرة حربية أميركية من طراز «أف 15»، علماً بأنها لن تزوّد بتجهيزات للعمل على المدى البعيد من أجل تطمين إسرائيل. لله يا محسنين، يا طوال الأعمار، في هذا الشهر الفضيل: نظام دفاع جوي للبنان. إن أغلى نظام دفاع جوي، والأكثر تطوراً، لن يكلف أكثر من نسبة مئوية تافهة من قيمة العمولات التي سوف تدفع لقاء هذه الصفقة!  

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة