لم تشهد الساحة القريبة من صيدلية بسترس في منطقة الصنائع، منذ سنوات، ذلك العدد من الشيوعيين وأنصارهم، الذين جاؤوا للاحتفال في الذكرى الثامنة والعشرين لانطلاقة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ـ جمول». حضر الشيوعيون القدامى، الناس يعرفونهم من وجوههم الحاضرة في كل احتفال يقيمه الحزب، ولكن من بينهم تطل وجوه شابة كثيرة.. فعلق أحد الحاضرين ممازحاً: «إنهم أولادهم وأحفادهم».
لكن الحزب جمع «الرفاق» من المناطق، بالإضافة إلى بيروت، لأنه أراد أن يكون الاحتفال مركزيا، تحت عنوان تكريم الشهداء الثلاثة الأوائل في مواجهة الغزو الإسرائيلي لبيروت، وهم كل من جورج قصابلي ومحمد مغنية وقاسم الحجيري. ورفعت في المكان الرايات الحمراء، حاملة المنجل والمطرقة، وارتدى شبان وشابات القمصان التي طبعت عليها صور بطلهم تشي غيفارا، وبات لدى الأسير المحرر أنور ياسين طفلٌ ألبسه الفولار الأحمر، وتنقل به بين المحتفلين، سعيداً بأن الحياة منحته عائلة، لم يكن يتوقعها عندما كان في سجنه. زاد عدد المتحدثين في الاحتفال هذا العام أيضاً، وشارك فيه وفد فرنسي أتى إلى بيروت لإحياء ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، يضم خمسين شخصا، هم نواب وشيوخ في البرلمان الأوروبي والمجلس الوطني الفرنسي وأعضاء مجالس بلدية. وقد رد الأمين العام خالد حدادة في كلمته التي ألقاها في الاحتفال، على ما تردد بأن الحزب يحيي ذكرى انطلاق جبهة المقاومة من باب الحنين. وقال: يظن البعض أن احتفالنا هو لاستذكار الماضي من أجل الاستقواء به في الحاضر، ونحن نقول إنه لا مستقبل للبنان إلا بالمقاومة من أجل الحرية والتغيير الديمقراطي. وكما في كل مناسبة يحييها الحزب، رفع حداده الشعار الذهبي ألا وهو «التحرير من أجل التغيير»، من دون أن يثمر التحرير عن أي تغيير يذكر، «إذ ما يحصل هو تراجع قل نظيره في تاريخ لبنان منذ نشوئه، في مستوى الأداء السياسي، كما في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والتربوية». وطالب حدادة وزير الداخلية زياد بارود بلهجة حازمة بنزع الملصقات التي وزعتها «القوات اللبنانية»، وتضم صورة الأمين العام السابق للحزب الشهيد جورج حاوي، محذرا من أن الشيوعيين سوف يقومون بتمزيق الملصقات، في حال لم تقم الوزارة بدورها. وقال إن «الحزب لن يقبل أن يرفع صورة مطلق جبهة المقاومة مَن رفعوا الأنخاب احتفالاً بدخول قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى بيروت، وصعدوا إلى الحكم على ظهر الدبابات الإسرائيلية». وحذر من «الفتنة التي يحضّر لها تحت شعار المحكمة الدولية»، قائلا إنه «آن الأوان لمراجعة حساباتنا»، مستغربا «كيف يمكن لرئيس حكومة أن يخدع مدة خمس سنوات من قبل شهود الزور، وهي سنوات عاش فيها لبنان أزماته السياسية والأمنية»، داعيا إياه إلى «محاسبة مسببي الخديعة، وإلا الرحيل». وتحدث باسم الوفد الفرنسي النائب في البرلمان الأوروبي ورئيس تحرير جريدة «الأومانيتيه» باتريك لو ياريك، فقال إن الاحتفال يدل على أن المقاومة أساسية بالنسبة إلى كل الديمقراطيين، وهي تتخذ أشكالا مختلفة، من المقاومة ضد القيود، إلى المقاومة من أجل التحرير. ونقل عن الكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هيغو عبارة قال فيها: إن الذين يستمرون في الحياة هم الذين يقاومون، «ولذلك سوف نستمر في المقاومة في سبيل تحرير الشعوب». ودعا إلى «لقاء بين الشعوب من أجل مواجهة كبار العالم، وسحب المعتدين من أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين المحتلة». وأكد أن حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه هو حق لا تمكن المفاوضة عليه. وأوضح أنه «عندما يعود إلى فرنسا سوف ينقل صورة عما شاهده»، ووعد بزيادة التضامن مع «كل التقدميين في العالم العربي من أجل التغيير». من قارة أخرى، وفي الاحتفال ذاته، أعلن السفير الكوبي في لبنان داريو دي أورا تورينتي أن الشعوب الفيتنامية واللبنانية والفلسطينية تشكل أمثلة على مقاومة الاحتلال في العالم، وقال إنه «إذا كان هناك من يحمل الشعوب التي تقاوم مسؤولية تدهور الأمن في العالم، فإن التاريخ سوف يتولى كتابة سيرتهم الانسانية». ورأى أن الشعب اللبناني قدم نموذجا على أن «لا هم إذا اتخذ مجلس الأمن الدولي قرارات لصالحه أم لم يتخذ، ولا إذا اتخذت الأمم المتحدة قرارات تنسجم مع مصالح الأقوياء في العالم». وأعلن عضو المكتب السياسي في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» مروان عبد العال أن «الدرس الأول الذي تعلمناه خلال الاجتياح هو انتصار بيروت على الإحباط، وعلى القتلة، فيما القتلة في مجزرة صبرا وشاتيلا لا يزالون خارج القضبان». واعتبر أن «المفاوضات التي تجري حاليا هي كارثة على الشعب الفلسطيني»، ونقل شعار العدو الاسرائيلي الذي يقول فيه: «ما لا يؤخذ بالعنف، سوف يؤخذ بالمزيد من العنف»، ليرد عليه قائلا: «ما لا يؤخذ بالمقاومة، سوف يؤخذ بالمزيد من المقاومة». وفي نهاية الاحتفال، انتقل الشيوعيون من بسترس إلى منطقة الوردية، حيث وضعوا إكليلا من الزهر في موقع استشهاد قصابلي، وعرض فيلم ضم مقتطفات من الاجتياح، ومن عمليات المقاومين ضده.