فواز طرابلسي
عندما تُجمع قوى رئيسية لجماعة طائفية على موقف معيّن يجب تناوله بما يستحق من الجد والحذر والمسؤولية. هذا هو حال الموقف الذي تلتقي عليه الآن أكثرية القوى المسيحية السياسية الفاعلة، مدنية ودينية، بصدد مشروع تصحيح وضع حقوق الفلسطينيين. تخيّم على النقاش ثلاثة هواجس قديمة ـ حديثة: فزاعة المؤامرة لفرض توطين الفلسطينيين، مقولة الغريب الذي يسرق اللقمة من فم اللبناني، وخواف الإغراق الطوائفي. لا بد بادئ ذي بدء من تنقية النقاش من بعض الزوائد. لنطرح جانباً المزايدة المنافقة على الفلسطينيين من حيث الحرص على عودتهم إلى وطنهم أكثر منهم. فهي تنتمي إلى مضمار القحة والعيب ومعها القذف العنصري المستورد من زمن الحرب ولغته. الخوف الأكبر هو تحوّل الفلسطينيين «من لاجئين إلى مقيمين دائمين». والافتراض أن تمتع سكان المخيمات بالحد الأدنى من شروط الحياة الإنسانية اللائقة، من حيث السكن والمياه الجارية والعناية الصحية، ونيل حق تملّك الفلسطينيين شقة سكنية واحدة وتوريثها، وحق العمل وضماناته، من شأنه أن يشلّ رغبتهم في العودة إلى وطنهم. ما يبدّد الهاجس هو المقارنة البسيطة. زار الجنرال عون دمشق مؤخراً ولسنا نحسب أنه سمع من محاوريه، ولا هو شاهد بأم العين ما يدل على أن فلسطينيي سوريا أقل تمسكاً بحق العودة من فلسطينيي لبنان على ما يتمتعون به من حقوق من الوظيفة العامة وصولاً إلى حقوق العمل والتملّك. أي عبء اقتصادي يستتبعه حق العمل والتملّك؟ لا كلفة على الخزينة جراء حق التملّك. بل العكس صحيح. هنا يصح اتهام حزب الكتائب لفؤاد السنيورة، الذي يحاوره حول هذا الموضوع باسم تيار «المستقبل»، بأنه يروّج لحق التملّك للفلسطينيين ليجني عائدات ضريبية إضافية للخزينة ومن أجل تحريك السوق العقارية. عجباً له من اتهام لحزب يدعي أنه من أشد أنصار بناء الدولة ومن المتطرفين في الدفاع عن «الاقتصاد الحر». حقوق العمل والضمانات تثير قضية المنافسة بين العمالة الفلسطينية والعمالة اللبنانية. المقترح هنا هو منح الفلسطينيين الحق في إجازة عمل أسوة بسائر المواطنين العرب. وللتذكير إن إجازات العمل الممنوحة للفلسطينيين لا تتجاوز 236 من أصل 136 ألف إجازة عمل ممنوحة لعمال غير لبنانيين متفرقي الجنسيات. يعيش نصف فلسطينيي لبنان في المخيمات. وهذه مصدر الأيدي العاملة المرشحة للعمل في البناء والحرف والزراعة والصناعة والخدمات؟ فهل أن هؤلاء يهددون بـ«سلب اللقمة من فم اللبنانيين» ولا يسلبها مئات الألوف من جيش العمالة الوافدة السورية والعربية والآسيوية الرخيصة وعديمة التنظيم النقابي والضمانات؟ المفارقة المأسوية هنا أن معارضي حق العمل للفلسطينيين ليسوا معروفين، لا هم ولا زملاؤهم في الطبقة الحاكمة، بمناشدة أرباب العمل اللبنانيين إعطاء الأولوية لليد العاملة اللبنانية ولا هم معنيون كثيراً بتطبيق القوانين اللبنانية التي تحدد شروط استخدام غير اللبنانيين. أما إذا كان الأمر يمس مصالح المهن الحرة، من أبناء الطبقات الوسطى، فمطلوب الإفصاح عن ذلك جهاراً نهاراً وتناول الموضوع عينياً. واعتماد التخصيص بدلاً من التعميم. علماً أن أعداداً لا بأس بها من أبناء المهن الحرة من الفلسطينيين يمارسون العمل بإجازات أو بدونها. لا يمكن الانتقال إلى موضوع آخر من دون التشديد على الفارق بين نيل الفلسطينيين حق العمل وبين تحصيلهم العمل. لعلهم عند نيلهم ذلك الحق سوف يكتشفون أن البطالة وتقلّص فرص العمل لا علاقة لهما بالقوانين، إنما هما، نتاج للتركيب البنيوي لنظام اقتصادي ريعي قائم على تهجير القسم الأكبر من شبابه وخريجيه للعمل خارج البلاد. أكانوا فلسطينيين أم لبنانيين. إن خواف الطغيان موضوع جدي. ومع أن الجميع يقرّ ويعترف بأن اللبنانيين والفلسطينيين مجمعون على رفض توطين الفلسطينيين في لبنان، لا يبدو أن المشكلة تقف عند هذا الحد. ثمة من يستبق الأمور، بل يشطح شطحاً، إلى موعد توقيع اتفاقية السلام الإسرائيلية ـ اللبنانية فيدعو إلى رفض لبنان توقيعها إلا بعد حل موضوع عودة اللاجئين الفلسطينيين. كان يمكن أن نقول هنا «عندما نصل إليها نصلي عليها» ولكن، لا. توارد الهواجس لا ينتهي. ماذا لو فشل لبنان في فرض حق العودة وكان عليه إبقاء نصف مليون فلسطيني على أرضه. نعم. ماذا لو؟ مَن يتضرر؟ التوازن الطائفي. وما شأن التوازن الطوائفي ما دام هؤلاء المقيمون ـ «مؤقتين» أم «دائمين» ـ مندمجين، مثلما هم الآن، في المجتمع اللبناني مع بقائهم خارج أطر الجنسية والمواطنة والنظام السياسي؟ يختل التوازن الطائفي بين مسلمين ومسيحيين. وهل هو متوازن حالياً حيث يبلغ المسيحيون لا أكثر من ثلث عدد السكان مع أن الحقوق السياسية للجماعات محتسبة على قاعدة المناصفة لا على القاعدة العددية؟ لا يبقى لأصحاب فزاعة «رفض تحوّل اللاجئين إلى مقيمين دائمين» إلا علاج واحد هو العلاج المكبوت واللامسمّى: التهجير. دعا إليه البعض في مسميات مختلفة. في كل الأحوال، الخوافات والفزاعات من عدة الشغل السياسية، خاصة عندما تفقد أي رؤية أو مشروع أو برنامج أو حتى القدرة على الفعل. فتصير وسائل تهييج وتعبئة وتعويض وحرف للأنظار. أي أنها تصير وسائل لتبييض الإفلاسات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وخصوصاً الإفلاسات في المخيّلة.