* قرم: جزر بقيادة المستقبل * سابا: إدارة بديلة مهيمنة
جورج قرم: قيود الخزينة متعددة لكنها لم تكن ممكننة (أرشيف ــ بلال جاويش)ملفّ قطع الحساب وحسابات المهمّة الغائبة أو المغيّبة منذ 2001، يفتح الباب أمام الكثير من التساؤلات عن حقيقة ما يجري في وزارة المال، فالوزارة الأكثر أهمية تحوّلت منذ أواخر عام 1992 إلى مجموعة جزر يتحكّم بها فؤاد السنيورة، عبر فرق عمل رديفة تسيطر على مفاصل الإدارة، هذا بعض ممّا يرويه وزيرا المال في حكومتي الرئيسين سليم الحص وعمر كرامي، أي جورج قرم وإلياس سابا، اللذان جاءا الى الوزارة من خارج النادي المهيمن
محمد وهبة قبل نحو 18 سنة، بدأ التأسيس لعهد جديد في وزارة المال على يدي وزير الدولة السابق فؤاد السنيورة، الذي لم تتكشف «إنجازاته» إلا لبعض الوزراء ممن تولّوا الوزارة من خارج النادي «الحريري»، مثل الوزير جورج قرم (مدة ولايته سنتان) في عهد حكومة الرئيس سليم الحص، والوزير إلياس سابا (4 أشهر) في عهد حكومة الرئيس عمر كرامي، أو لبعض كبار الموظفين، مثل عبد اللطيف قطيش، الذي تولى مديرية الخزينة لسنوات... ولكن جزءاً من الملفات بات مفضوحاً بعد فتح مسألة قطع الحساب وضرورة مطابقته مع حسابات المهمّة، وبات الباب مشرّعاً على مصراعيه للمزيد من الفضائح، التي تُظهر وزارة المال كمغارة يجري عبرها ممارسة نوع من الاعتداء المنظّم على المال العام، وعلى أصول المحاسبة العامة، وذلك عبر النظام المعلوماتي الذي كان يتيح التلاعب بالحسابات المالية، فضلاً عن كونه إقطاعات متعددة يسيطر عليها منذ عام 1992 تيار المستقبل.
جزر بقيادة «المستقبل»
لا يمكن إقرار مشروع الموازنة قبل إقرار قطع حساب السنة التي سبقت تنفيذ الموازنة السابقة، وهذا يتطلب بدوره أن تكون مديرية المحاسبة في وزارة المال قد تلقّت من المحتسبين المركزيين حصيلة مفصّلة للعمليات التي أجروها، أي حسابات المهمّة. إلا أن المشكلة الحالية هي أن هذه الحسابات لم تنجز منذ عام 2001 إلى اليوم، فما هي الأسباب الكامنة وراء هذا الأمر، وما علاقته بالهيكل الإداري والتنظيمي في مختلف مديريات وزارة المال؟ يروي وزير المال السابق، جورج قرم، مشهد الأيام الأولى على توليه وزارة المال في نهاية عام 1998، إذ إن الوزارة كانت في حالة يرثى لها، فما أذهله أنها حصلت على كثير من المساعدات، أبرزها وحدة كاملة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي تعمل في الوزارة، إلا أن النظام المعلوماتي فيها (المركز الآلي) لا يعدو كونه عبارة عن جزر مختلفة غير مرتبطة بعضها ببعض، فكانت كل مديرية بمثابة إقطاع أو مملكة بقيادة تيار المستقبل، وذلك منذ أواخر 1992 (باستثناء حكومتي سليم الحص وعمر كرامي)، فلم تكن العمليات المحاسبية ممكننة، وغابت القواعد الصارمة التي تمنع الدخول إلى النظام المعلوماتي... وبالتالي لم تكن هناك أي فعالية في هذا النظام سوى أنه نظام إحصائيّ في ظل فلتان جماعي، إذ كانت قيود الخزينة متعددة للغاية، لكنها غير ممكننة... لهذا، سعى قرم إلى التدقيق بالأمر، فتبيّن له أنه في مجال الواردات لم تكن الأمور ممسوكة أبداً، «أما حسابات المهمّة فقد كادت تكون غير موجودة منذ 10 سنوات، فبدأت بإعدادها وأكملناها حتى عام 1996، لكن كان هناك ضعف تقني في مديرية المحاسبة العامة». وفي هذا الإطار كلّف قرم فريقاً بمتابعة كل حسابات الخزينة في مصرف لبنان، وهو أمر أوقفه لاحقاً السنيورة، «أما ديوان المحاسبة فقد تأخر كثيراً في وضع يده على قضية قطع الحسابات وحسابات المهمة».
الإدارة البديلة تولى وزير المال السابق إلياس سابا، مسؤولية وزارة المال بين نهاية 2004 ومطلع 2005، فاكتشف أن تيار المستقبل كان يقبض على كل المفاصل عبر وسيلتين: الأولى تتعلق بخطف صلاحيات المدير العام، والثانية مرتبطة بخلق فرق عمل رديفة للعلاقات الداخلية للوزارة وعلاقاتها الخارجية أيضاً. في الوسيلة الأولى، يشير سابا إلى وجود «فوضى عارمة، فلا أحد ملتزم بهرمية الإدارة وهرمية المسؤوليات، بدليل أن المدير العام للوزارة لم يكن يقوم بأي عمل، لأن الوزير فؤاد السنيورة شلّ كل أعماله واستحوذ عليها، فلا يُستشار ولا يُسأل عن رأيه، علماً بأن هذا الأمر واجب قانوناً. وبذلك عطّلت قمة الهرم الإداري، ما أدى إلى انفلات الوزارة، فيما كان مديرون مدعومون سياسياً من مراجع سياسية يشغلون مديرياتها الحساسة». بالتزامن مع هذا التعطيل، أوجد السنيورة إدارة بديلة عبر توسيع المركز الآلي، ووضع نبيل يموت على رأسها، فأسس الأخير نظام محاسبة «على ذوقه»، وبات سلطانه يفوق المدير العام، فاضطر المرؤوسين ومختلف مديريات الوزارة الى الانصياع لما يطلبه يموت، وقلّة فقط رفضت فجرى «خنقها».
اضطر المرؤوسون في الوزارة إلى الانصياع لما يطلبه يموت وقلّة فقط رفضت «فخُنقت»من جهة ثانية، خلق السنيورة فريقاً رديفاً، «هو مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الوزارة، ليتولى كل العلاقات الخارجية للوزارة، أي مع المؤسسات المانحة والبنك الدولي والدول الصديقة... علماً بأن المكتب مموّل بجزء كبير من الخزينة اللبنانية، وعيّن رئيساً له آنذاك، جهاد أزعور، ثم انتشرت ظاهرة مكاتب برنامج الأمم المتحدة في الوزارات». هذان الأمران أدّيا إلى سيطرة السنيورة وفريق عمله برئاسة يموت على كل مديريات وزارة المال، وأبرز مظاهر هذه السيطرة يتمثّل بترك الحسابات المالية مفتوحة لسنوات طويلة، وهذا يعني بحسب سابا أن «إمكان التزوير قائم، إذ إن أي خطأ بمليون ليرة، يُعَدّ محاسبياً خطأً يوازي 100 مليار ليرة، فمن يسرق دجاجة يسرق جملاً».
مفاتيح السيطرة
ويعرض مدير الخزينة السابق، عبد اللطيف قطيش، تجربة إضافية في وزارة المال ذات دلالة واسعة، فيقول إن «نبيل يموت كان يمسك بمفاتيح كل الحسابات في النظام المعلوماتي منذ فترة طويلة ويديرها كما يرتئي، إذ بإمكانه أن يوقف عمل الموظفين الآخرين لأنه كان ممسكاً بمفاتيح النظام، ومتحكماً بالمسألة كلها»، ويؤكد أن قانون المحاسبة العمومية ومراسيم تنظيم الحسابات الصادرة في عام 1965، والتي لا تزال قائمة إلى اليوم تؤكّد أن دفاتر الحسابات يجب أن تكون «من دون حكّ ولا تطريز وبياض...»، وذلك بهدف عدم حصول أي تزوير. إلا أن قطيش يرى أن ديوان المحاسبة هو المسؤول قبل وزارة المال، فهو يُعَدّ مراقب عقد النفقات الأساسي، ويعمل تماماً كما تعمل مديرية الموازنة ومراقبة النفقات، «لا بل هو مراقب من الطراز الأول لأن سلطته أوسع، فإذا تجاوزت المبالغ التي تنفق حدّاً معيناً، تؤول سلطة الموافقة عليها إلى ديوان المحاسبة... وفي ضوء هذه السلطات وغيرها، كيف وافق ديوان المحاسبة على إنفاق متواصل لنحو 4 سنوات من دون أي موازنة وعلى القاعدة الاثني عشرية؟».
2.4 مليار ليرةهي قيمة التمويل الذي يحصل عليه مكتب الـUNDP في وزارة المال من خزينة الدولة، في مقابل 50 ألف دولار من الأمم المتحدة، أي إن هذا المكتب ليس سوى إدارة موازية صمّمت لتوظيف أمثال نبيل يموت وجهاد أزعور (سابقاً) برواتب عالية
احترام الهرميةيعتقد الوزير إلياس سابا (الصورة) أن الهرمية التسلسلية في وزارة المال هي الأساس، فيجب أن تعود إلى وضعها القانوني والنظامي، «ولا يجوز أن يبقى قسم كبير وأساسي مثل المركز الآلي مبنياً على موظفين بالتعاقد»، فيما يرى الوزير جورج قرم أنه يمكن تصحيح الواقع الحالي لنظام المعلوماتية من طريقين: «الطلب إلى شركة خارجية متخصصة لتطوير النظام المعلوماتي بما يتلاءم مع الأنظمة والتشريعات المحاسبية التي يجب أن يعاد النظر ببعضها أيضاً، أو أن تُرفع كفاءة جهاز المعلوماتية الخاص بالوزارة. لكن في كلتا الحالتين يجب أن تخضع الوزارة والموظفون لإعداد طويل وتدريب».
عدد الثلاثاء ١٢ تشرين الأول ٢٠١٠