انتفاضة الأساتذة على الأيّام العجاف

خرج أمس آلاف الأساتذة الثانويين والمهنيين إلى الشارع، في مشهد نقابي «وحدوي» يصعب تكراره في قطاعات أخرى. مطلب واحد كان على جدول أعمال خطة التحرك: استعادة الموقع الوظيفي للأساتذة بإعطائهم سبع درجات بلا تسوية أو مساومة. أما وزير التربية فيؤكد للمعتصمين أنّ مكان مناقشة «مطلب مالي بامتياز» هو طاولة حوار تقارب حلولاً منطقية

فاتن الحاج لم يفاجئ مشهد الأساتذة الثانويين والمهنيين في «ساحة النضال» أمام وزارة التربية، النقابيين. حجم المشاركة كان متوقّعاً من أساتذة لم يخذلوا، تاريخياً على الأقل، روابط خبرت المطالبة بحقوقهم المكتسبة. وما إضراب أمس واليوم والاعتصام أو الانتفاضة التربوية، كما سمّاها حنا غريب، رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي، إلا محطة أساسية على طريق تحقيق مطلب واحد لا غير: «سبع درجات لاستعادة الموقع الوظيفي لأساتذة التعليم الثانوي والفئة الثالثة من أساتذة التعليم المهني الرسمي». عيد المعلم في 9 آذار سيكون محطة أساسية ثانية للتحرك في حال عدم التجاوب، وللاحتفال بالذكرى إذا لمس الأساتذة الإيجابية شرط نيل المطلب «بلا تسوية أو مفاوضات أو مساومة»، على قاعدة أن «لا عمل من دون أجر وهدر حقهم لا يستند إلى أي مسوّغ قانوني». التسوية لم ينفها وزير التربية والتعليم العالي حسن منيمنة، الذي خرج إلى المعتصمين معلناً «استعداده للجلوس إلى الطاولة، والحوار مع الأساتذة مجدداً، وصولاً إلى حل معقول للجميع». صباح أمس، كان يوم التعليم الثانوي الرسمي بامتياز. فآلاف الأساتذة لم يذهبوا إلى ثانوياتهم ومهنياتهم للتدريس، بل جاؤوا إلى وزارتهم حاملين مئات اللافتات. هي في الواقع لافتة واحدة تجسّد مطلباً واحداً: «أيها المسؤولون، ادفعوا ما بقي من الـ60% من دون نقصان بموجب القانون 66/53». المعتصمون حضروا بواسطة الباصات من الجنوب والشمال والبقاع، وبسياراتهم من جبل لبنان وبيروت. كانوا على الموعد أمام مقرّ رابطة «الثانوي» خلف قصر الأونيسكو، حيث ساروا على الأقدام باتجاه مكان الاعتصام الذي يبعد عشرات الأمتار. وإذا كانت الساحة القريبة من تمثال حبيب أبي شهلا لم تشهد تجمّعاً مماثلاً منذ فترة ليست بقصيرة، فاللافت كان تنوّع المعتصمين الذين يبدو أنّهم أعطوا إجازة قصيرة لانتماءاتهم السياسية والتفّوا كالعادة حول رابطتهم.

أما المشهد العام فكان يعكس بوضوح اجتماع الأساتذة، بشيبهم وشبابهم، على مطلبهم الوحيد. هؤلاء الشباب الذين ينضمّون تباعاً إلى ملاك التعليم الثانوي لم يتردّدوا في تلبية توصية الرابطة بالتحرك، لكونها هي الأخرى لم تتأخر عن مفاوضة المسؤولين في شأن حقوقهم الخاصة. محمد قاسم، أمين سر الرابطة، حيّا الشباب، مشيراً إلى «أنّ صدور مراسيم تعيينهم ليس إنجازاً، بل هو مطلب تربويّ بحت قصّرت الوزارات المتعاقبة في تنفيذه». كذلك ردّ قاسم على ما سمّاه «ادّعاءات تتحدث عن مطالبتنا بعلاوة أو تصحيح رواتب»، بالقول: «لدينا الجرأة الكافية للقيام بذلك بالتنسيق مع القطاعات الأخرى، وتاريخ الرابطة يشهد على تصدّينا لقضايانا». لن يتراجع الأساتذة، بحسب قاسم، قيد أنملة عن مطلبهم، و«ستثبت الأيام أن وحدتنا ستكون الضمانة لتحقيق ذلك». خلال الاعتصام، راحت حناجر الأساتذة تصدح بشعارات برز منها «تفضّل يا معالي الوزير، استقبلنا هالبقاعية والشمالية والجنوبية والجبلية والبيروتية، إلهن عندك دين كبير بالساعات الإضافية، 12 سنة مش بكير الأساتذة الثانوية لعلم أولادهن والصحة عم يستعطوا النورية، قلتوا أولوية الناس قلنا هالثانوية وينن حكام البلاد لرفع المظلومية».

وكالعادة، يخترق صوت غريب فضاء الاعتصام فيلهب حماسة المشاركين. يتوجه النقابي العتيق إلى المسؤولين بالقول: «انظروا، ثانويات لبنان كلها هنا أمام وزارة التربية. أساتذة لبنان كلهم هنا، يقدمون مشهداً عن وحدتهم وتمسكهم بحقوقهم وتصميمهم على استرجاع موقعهم الذي تدهور إلى أدنى السلم الوظيفي منذ عام 1998».  يعلو الصراخ حين يقول غريب: «عدّوا معي من الجنوب أتوا 62 ثانوية من أصل 62 ومن الشمال أتوا 69 ثانوية من أصل 69 ومن الجبل أتوا 76 ثانوية من أصل 76 ومن البقاع أتوا 58 ثانوية من أصل 58 ومن بيروت أتوا إليها 25 ثانوية من أصل 25».  يضيف غريب: «إنه الغضب الذي يشعر به كل أستاذ ثانوي في لبنان والشعور بالغبن والإجحاف الذي لحق بكل واحد منهم. إنهم يطالبونكم أيها المسؤولون بدفع ما بقي لهم من الـ60%، وما بقي هو 35%، أي سبع درجات». الأساتذة، كما يوضح غريب، لا يطالبون بمطلب جديد أو بإعطائهم منَّة أو مساعدة، بل بحقّهم المكتسب المكرّس بالقانون 66/53. إنهم يريدون إعادة الاعتبار لمهنة التعليم كي تعود مهنة مرموقة جاذبة للكفاءات، محافظة عليها. يريدون انتشالها من حال الانحدار الذي وصلت إليه». ويزيد: «انظروا أين كانت مهنة التعليم، وكيف تدهور موقع أستاذ التعليم الثانوي مع الحد الأدنى للأجور من 4.5 أضعاف إلى ضعفين، ومع الموظف الإداري 60% عند التعيين، ومع الأستاذ الجامعي من خمس درجات إلى 18 درجة، كل ذلك بسبب إلغاء الـ60%». 

لا يكفي، في رأي غريب، «الاعتراف بأحقيّة ما نطالب به وأنه لا نقاش فيه، بل المطلوب ترجمة الأقوال إلى أفعال، نريد إقرار مشروع قانون يقفل هذا الملف نهائياً قبل إقرار مشروع الموازنة العامة».

ويسأل: «إلى متى يستمر الانتظار؟ دفعتم المفعول الرجعي لجميع موظفي الدولة وهذا حق لهم، لكن ما لا حقّ لكم فيه هو استثناء أساتذة التعليم الثانوي من إعادة حقهم كاملاً. لماذا هناك صيف وشتاء تحت سقف واحد؟ لماذا هذا التمييز بين موظف وآخر في الفئة الوظيفية عينها؟ أي منطق هذا الذي يعطي الموظف الإداري في الفئة الثالثة 60% ويأخذ من أستاذ التعليم الثانوي في الفئة عينها 60% لقاء الزيادة في ساعات العمل. لا حجّة لديكم أيها المسؤولون، لا تتذرّعوا بالكلفة. أين ذهبت كلفة الساعات الإضافية التي كانت تدفع لنا سحابة 32 عاماً، وكيف صرفت؟ لا تتذرّعوا بمعزوفة المديونيّة. ليست حجة لضرب حقوقنا وإفقارنا، لأنها في الحقيقة غطاء لزيادة الأرباح الطائلة التي تلتهم نصف موازنة الدولة فوائد على سندات الخزينة وهي تذهب إلى جيوب أصحاب المصارف والثروات وأصحاب الشركات الكبرى الذين اختطفوا المال العام هدراً وفساداً».  ثم يقدم غريب الحلول: «اخفضوا الفائدة على سندات الخزينة، طبّقوا الضريبة التصاعدية على الأرباح والصفقات العقارية والمضاربات المالية. إن التوافق الذي تنعمون به هو توافق علينا بدل أن يكون معنا. التفتوا إلى الناس، عالجوا مشاكلهم الاقتصادية ـــــ الاجتماعية، ولبّوا مطالبهم بدل الاستمرار بضرب حقوقهم».

ويختم: «ليس هكذا يكافأ أساتذة التعليم الثانوي الرسمي الذين بنوا مجد هذا التعليم في القطاعين الرسمي والخاص. ترى، لأجل ذلك يعاقب أساتذته وتؤخذ حقوقهم؟».

جورج قالوش، رئيس رابطة أساتذة التعليم المهني والتقني الرسمي، يشرح هو الآخر كيف أنّ الفئة الثالثة من أساتذة التعليم المهني معنيّة بالمطلب نفسه. يقول: «في سبعينيات القرن الماضي تمكّن الأساتذة من امتلاك بيوت وسيارات وغيرها، وكانوا عموماً في مستوى معيشي لا بأس به، وبدأ هذا الموقع بالتراجع حيث كان يبدأ الأستاذ المساعد (الفئة الثانية وظيفياً) وأستاذ التعليم الفني (الفئة الثالثة) بما يوازي أقلّه أربعة أضعاف الحد الأدنى للأجور. أما اليوم، وعلى الرغم من تراجع القيمة الشرائية، أصبح الأستاذ يتقاضى في بدء السلسلة ضعفي الحد الأدنى للأجور، نتيجة تراكم الخسائر التي لحقت بحقوق أساتذة التعليم المهني، بسبب القوانين المجحفة المتلاحقة المتعلقة بسلاسل الرتب والرواتب وقانون دمج التعويضات التي أفقدت الأساتذة موقعهم الوظيفي والاجتماعي والمادي». ويقول: «لن نقبل بأن يكون هذا التراجع مخططاً له أو مقصوداً، فيما كل موازنات دول العالم تنظر إلى تعزيز المستوى المعيشي للمعلمين». ويعلن قالوش أن الرابطة لن تفرّط ولن تتقاعس عن المطالبة بحقوق الأساتذة تربوياً ومعنوياً ومعيشياً، فالاحتجاجات السلمية هي وسيلتهم الوحيدة التي كفلها لهم الدستور والقانون.

... وعند الثانية عشرة ظهراً، يتفرق المعتصمون على أمل اللقاء في محطات نضالية أخرى.

طاولة الحوار هي الحكَم

ينفي وزير التربية حسن منيمنة، في اتصال مع «الأخبار»، «أن يكون ما يطالب به الأساتذة عبارة عن ردم هوة أو استعادة موقع وظيفي، بل هي دعوة صريحة إلى زيادة الرواتب». يقول: «يحق للجميع التحرك من أجل هذه الزيادة، لكن مناقشة مثل هذا المطلب المالي يجب أن تراعي الإمكانات المادية والاقتصادية للدولة». يضيف: «استعمال هذا الحق لا يكون عشوائياً، وذلك بإطاحة مصالح الطلاب الذين نلتزم جميعاً بضمان حقوقهم في التعليم». لكن، «ما هو طرح الوزارة مقابل السبع درجات؟ يجيب منيمنة: «بعد بكّير، لنترك لطاولة الحوار أن تكون الحكَم الذي يقارب حلولاً منطقية للقضية». و«ماذا لو تحرّك الأساتذة في عيد المعلم؟». يكتفي الوزير بالقول: «هو إضراب في غير محلّه». أما بالنسبة إلى المطالب التربوية الأخرى لجهة إعداد مراسيم التعيين والمباريات، فهي على نار حامية «وماشي فيها للآخر».

الإضراب يشلّ الثانويات

التزم نحو ستة آلاف أستاذ تعليم ثانوي يدرّسون في 290 ثانوية في بيروت والمناطق، وآخرون يعلّمون في المدارس والمعاهد المهنية بالإضراب التحذيري اليوم وغداً. ومن هؤلاء من التحق بالاعتصام المركزي أمام وزارة التربية في الأونيسكو. هكذا، غاب الازدحام، أمس، عن شوارع طرابلس (عبد الكافي الصمد)، وأقفلت الثانويات الرسمية في مدينتي طرابلس والميناء وضواحيهما أبوابها أمام آلاف التلامذة. ولم يقتصر الإقفال على الثانويات، بل شمل المعاهد الفنية والتقنية الرسمية ودار المعلمين والمعلمات في المدينة، فيما كانت الباصات تقلّ أساتذة ثانويين إلى بيروت. وفي قضاء المنية ـــــ الضنية، أغلقت 12 ثانوية رسمية فيه أبوابها، فلازم أكثر من 3500 تلميذ ثانوي ونحو 1500 تلميذ مهني منازلهم. أما في بنت جبيل ومرجعيون (داني الأمين) فقد بدت لافتة مشاركة مديري الثانويات الذين انضمّوا إلى تحرك أساتذتهم وانطلقوا جميعاً إلى بيروت. وبرز أيضاً التنسيق بين المعتصمين لجهة توفير وسائل النقل للمشاركين الموجودين في أماكن بعيدة عن نقطة التجمع على طريق السلطانية. وفي قضاء عاليه ومنطقة المتن، أقفلت المدارس الثانوية بدءاً من ثانوية الشويفات، عرمون، بشامون، القماطية، عاليه، مجدل بعنا، صوفر وعين دارة. وفي منطقة المتن الأعلى: ثانويات حمانا، قرنايل ورأس المتن. وأكد رئيس رابطة المعلمين الابتدائيين في جبل لبنان، كامل شيا، «تضامن الرابطة مع تحرك الأساتذة ودعم كل تحرك مطلبي، مع تأكيد حفظ الفوارق للسلسلة الموحّدة لمعلمي التعليم الرسمي ما قبل الجامعي». وقد تزامن اعتصام الأساتذة الثانويين مع اعتصام آخر للمتعاقدين في التعليم الثانوي في المكان نفسه. هؤلاء حضروا عند التاسعة صباحاً تلبية لدعوة اللجنة العليا لمتابعة قضيتهم برئاسة حمزة منصور. منصور نقل للمتعاقدين مضمون لقائه الصباحي ووزير التربية، فأكد «أنّ حل مشكلتهم يكون في اللجان النيابية المختصة، وأن دور الوزارة هو تطبيق القوانين بما يحفظ مصلحة التربية والمواطنين والأساتذة على الأراضي اللبنانية». وجدد منصور الحديث عن السياسات غير التربوية التي مارستها الوزارات المتعاقبة في حق المتعاقدين. وأولى تلك المظالم، في رأيه، كان إغلاق كلية التربية. أضاف: «لن نسمح بأن يرمى جيش المتعاقدين هذا في الشوارع، متروكين للفقر والعوز والحاجة. نتوجه إلى نواب الأمة لوضع قضيتنا على جدول أعمالهم، من أجل إنصافنا العادل وإخراجنا من دوّامة الظلم الذي عشناه لعشرات السنين».

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة