يتضح من خلال مراجعة الأحداث المتعلّقة باليونيفيل في الجنوب، أن هناك خلفيات قانونية وسياسية تجعل الأمور أعقد من خلاف على عمليات تصوير واستطلاع، أو حق دورية في عبور حارة في إحدى قرى الجنوب. لذا، نستعيد ما جرى في أروقة الأمم المتحدة بشأن تطوير عمليات حفظ السلام والطروحات التي قدمت لتغيير قواعد الاشتباك
نيويورك ــ نزار عبود منذ عام 2006 أصبحت اليونيفيل مثيرةً للجدل. فمعظم قواتها من الدول الثرية، أي دول من حلف الناتو الأوروبية. والمعلوم أن الدول التي تشارك في القوات الدولية مجموعتان، الثرية والأخرى التي تقدّم ما نسبته 85% من القوات. واليونيفيل من أكثر عمليات حفظ السلام ديناميكية وتبدلاً بين مثيلاتها. وليس هناك من قوة أخرى تسهم الدول الثرية فيها بهذه القوة. وبالتالي جرى تبنيها من الجوانب كلّها. في اجتماعات اللجنة 34 التي عقدت في 2006/2007 كان التركيز على مسألة سلامة أمن عناصر قوة حفظ السلام. ومن بين المقترحات التي قدمتها دائرة حفظ السلام في الأمم المتحدة كانت ضرورة العمل على 3 نقاط من أجل الأمن. الأولى تتعلق بمشاركة قوات حفظ السلام في عمليات التحقيق (الجنائية) التي تجريها السلطات الوطنية في مناطق انتشار القوات. أي إن دور قوات اليونيفيل يمتد إلى مخافر الشرطة، ويتعيّن على القوة متابعة تفاصيل حتى الجرائم الصغيرة التي تقع في البلدات والقرى. أمر رفضته الدول كلّها، ولم تقبله إلا سيراليون. الثانية تتعلق بالمحافظة على سلامة القوات وتوزيع عناصر مراقبة تهريب السلاح إلى منطقة العمليات، وهذا يعني توظيف فرق تجسّس محليّة، ووضع مراقبين على نقاط الحدود مع سوريا في حالة اليونيفيل، ولم يجري تبني هذه الاستراتيجية بفضل معارضة العديد من الدول العربية. الثالثة برزت في ما يعرف بـ«وثيقة الأفق الجديد» التي تمّت المدافعة عنها بقوة في الأمم المتحدة، وكانت ثمرة شراكة بين مراكز بحث في الأوروغواي وكندا. وفي اجتماع عقد في جنيف شارك فيه تيري رود لارسن، بصفته رئيساً لأكاديمية السلام الدولية، عُرضت الوثيقة الخاصة. وفيها دمجت الوثائق السابقة مع إضافة نقطة عدّها البعض في منتهى الخطورة لما تتضمنه من احتمالات تغيير في قواعد اللعبة. تقول النقطة إنه في ضوء التوسّع الكبير والمكثف في مهمّات حفظ السلام، وفي ضوء تغير مفهوم عمليات حفظ السلام لتشمل حماية المدنيين وحماية حقوق الإنسان، «أصبحت تغطية عمليات حفظ السلام بالوسائل التقليدية مستحيلة». هذه الفقرة كانت تعني ضمناً الدعوة إلى اتباع أسلوب عملية «إيساف» في أفغانستان، حيث الأمم المتحدة تغطي عمليات حلف شماليّ الأطلسي وتشاركه. وتضمن الوثيقة إلى جانب الشراكة مع الناتو أموراً بالغة الخطورة تنال من سيادة الدول واستقلالها. ورد فيها أنه لا جيش في العالم من دون جهاز استخبارات رئيسي، وبالتالي لا بد من إنشاء وحدات استخبارات لعمليات حفظ السلام، أسوة ببعثات السلام الأخرى. وعُرضت مسألة أخرى، تتعلق بطلب حرية تنقل اليونيفيل في جنوب لبنان من دون عرقلة، كانت ضمان «سلاسة انتقال الجنود في مناطق التوزع وفق الاحتياجات التي تقررها البعثة نفسها من دون عودة إلى السلطات المحلية». أمر يتعارض صراحة مع مبدأ موافقة الدول المضيفة لقوة حفظ السلام. لكن ما يثير الغرابة هو إدخال مفهوم «المخربين» للمرة الأولى. لبنان عارض هذه الفقرة في شباط الماضي، لكنه تغيب عن الجلسات الأخرى. ومن الأمور الخطيرة التي طُرحت، مشاركة القوات الدولية في إدارة الموارد الطبيعية في إطار ضمان التوزيع العادل لها، وهذا يشمل الكهرباء والماء والثروات الأخرى كالغاز والنفط والذهب. ورغم أن الوثيقة لا تذكر اليونيفيل تحديداً، وتتحدث عن استراتيجية حفظ سلام شاملة، إلا أن اليونيفيل تأتي في صلب أفكار واضعيها، علماً بأن دائرة حفظ السلام تكرر صراحة أن قوّة اليونيفيل هي الأكثر تعقيداً وتبدلاً، وتستوجب تغيير عملياتها تباعاً. وكانت الدائرة قد قدمت وثيقة شهيرة تعرف بوثيقة «حجر الأساس» بالتعاون مع مركز أبحاث أوسترالي. وكانت هذه الوثيقة مثار جدل، إذ التفّت على أربع ركائز في أي عملية حفظ سلام، هي: الحياد، وعدم استخدام القوة إلا دفاعاً عن النفس، والحفاظ على السيادة، والحصول على رضى السلطات المحليّة في الدولة المضيفة. وقد رفضت حركة عدم الانحياز الوثيقة، لأنها تعتدي على المبادئ الأساسية السيادية لعمليات حفظ السلام. يلاحظ أن الدول الأوروبية المشاركة في اليونيفيل بكل ثقلها رفضت الشهر الماضي تحميل إسرائيل نفقات التدمير المتعمد لمعسكر قانا في نيسان 1996 وقتل أكثر من مئة مدني لاذوا إليه وفق تحقيقات الأمم المتحدة. وغير صحيح أن قوات اليونيفيل لم تكن تعرف أن دخول الأحياء والأزقة في القرى الحدودية سيثير غضب السكان، ولقد عبّر كبار ضباطها عن حذرهم من ارتكاب خطأ من هذا النوع مباشرة بعد انتهاء حرب تموز ودخولهم القرى. وفي عبارة لافتة قال المتحدث الرسمي لليونيفيل: «عندما تحدل الدبابات في القرى فإن الأهالي يشعرون بأنه عمل عدواني... وعند إدخال مدرعات كهذه في مرحلة مبكرة، تبدو الأمم المتحدة كأنها تحاكي الانتشار الذي أجرته قوات الناتو في كوسوفو عام 1999». دول كثيرة فضلت الانسحاب من اليونيفيل، مثل الأيرلندية والفنلندية والقطرية، وغالباً لكون حكوماتها ترفض تغيير قواعد الاشتباك. بعضها، ولا سيما الأيرلندية، لم ينسَ ما حصل في نيسان عام 1980 عندما قتلت قوات سعد حداد ثلاثة من جنودها. كانت الولايات المتحدة قد عارضت في البداية توسيع اليونيفيل، وفضلت عليها قوات مصرية ـــــ تركية تتولى نزع سلاح حزب الله بالقوة. لكن مصر وتركيا لم تشاطراها هذا التصور. من هنا كان البديل قوات يونيفيل معزّزة يقودها حلف الناتو تحت مظلة الأمم المتحدة (فرنسية، ألمانية، إسبانية، إيطالية، تركية... وقوات إقليمية وغير إقليمية أقل وزناً). هذه القوة كانت مختلفة عن اليونيفيل الأولى (1987ـــــ2006)، فهي أكبر من أي قوة حفظ سلام في العالم من حيث الكثافة في الكيلومتر المربع، وأكثرها تجهيزاً وأشدها عتاداً وخبرات قتالية، بل إنها لا تشبه قوات حفظ السلام في كون طابعها الغالب كان أطلسياً إلى حد أثار خشية بعض ضباطها من مستقبل مهمّاتها في وقت مبكر من عملها. لذا رأى مراقبون متابعون في التحرك الفرنسي على الأرض في جنوب لبنان عملية جسّ نبض لسيناريو تعده القوة في حال نشوب نزاع مسلح. نزاع، إذا وقع بين المقاومة وإسرائيل فسيضع قوات اليونيفيل على المحكّ لكي تختار الطرف الأقرب إلى عقيدتها وتوجهاتها الاستراتيجية. هنا، لا بد من التذكير بالخطط السرّية التي أعدتها اليونيفيل، بعلم وتنسيق عسكري إسرائيلي، تقضي بتقطيع الجنوب ومنع الحركة بين قراه، وإيجاد قواعد على الأراضي اللبنانية تسمح بإنزال قوات تدخل سريع في حال اندلاع حرب جديدة («الأخبار» 7/8/2009). تعتمد اليونيفيل على الفقرة 12 من القرار 1701 في تبرير نشاطها وخططها المستقبلية، وجاء فيها: «يسمح لقوات اليونيفيل القيام بكل التحركات الضرورية في مناطق نشر قواتها وفي إطار قدراتها، للتأكد من أن مناطق عملياتها لا تستخدم للأعمال العدائية بأي شكل».
وقد أنهت اليونيفيل في وقت مبكر من العام الماضي نشر قوة عسكرية مستقلة في حد ذاتها تتولى توفير المعلومات والرصد والتحرك باستقلالية عن القيادة العامة وعن الجيش اللبناني. وهذا مخالف للمبادئ الأساسية لعملها. وتقضي خطة الطوارئ بنشر قوات تستقدم من الدول المساهمة عبر موانئ ومطارات داخلية وإقليمية. وهناك خطوط عامة تقضي بتنسيق آليات النشاط العملي مع كل من الجيشين اللبناني والإسرائيلي «بشكل ثنائي وثلاثي». والتنسيق الثنائي لا يعني الشفافية الدولية المطلوبة والحياد المبدئي في النزاعات.الخطة استخدمت تعبير قوات المخربين رغم عدم اعتماد التعبير في لجنة حفظ السلام. حيث يذكر في خطة الطوارئ، «توضع قوات أمن دولية للحراسة والمراقبة والتنظيف المنتظم، منعاً لأي نشاطات تخريبية». وقد نشرت اليونيفيل قوة تدخل سريع جاهزة كقوة احتياط متنقلة. وقائد القوة هو الذي يحدد الأولويات الأمنية على الأرض وفي البحر ولا علاقة للجيش اللبناني بنشاطه. فإذا حدث تصعيد عسكري، يتولى فتح الطرق، ويضمن بقاءها مفتوحة، وينشئ مرافئ للاستقبال والإنزال. وسيكون للقوة أجهزة اتصال استراتيجية. وتخضع الفرق لإشراف الخلية العسكرية الاستراتيجية التي أنشأتها دائرة حفظ السلام خصيصاً لهذه الغاية. ووضعت أيضاً بنوداً تتعلق بتوفير الاكتفاء الذاتي لكل وحدة على حدة.
خليّة خاصّةقيادة اليونيفيل لا تشبه أي قيادة لقوة حفظ السلام في العالم. فهي تتمتع بما يعرف بالخلية العسكرية الاستراتيجية الخاصة التي توجه عمل اليونيفيل من نيويورك خارج إطار الأمم المتحدة ودائرة حفظ السلام. تضم الخلية 28 ضابطاً من الدول المساهمة والدائمة العضوية في مجلس الأمن. لكنّ النسبة الكبرى، أي ثلثي الضباط، من الاتحاد الأوروبي. تتمتع الخلية بسلطات ميدانية واسعة لم تُختَبَر حتى الآن. أما تعرضها لعمليات إرهابية من منظمات سرية، فلا يمثّل تحدياً بعيد المدى، وبالتالي يمكن احتواؤه مع السلطات اللبنانية. أما إذا وقع تدهور ميداني واسع في الجنوب، فإن تصرفها سينطلق من الاستراتيجية التي ترسمها القوى الكبرى المساهمة في تركيبتها ـــــ الناتو. وإذا فعلت ذلك، فإن القوات الأخرى الأصغر حجماً والأقل تأثيراً ستجد نفسها مضطرة إلى الانكفاء. وعندما تصبح قوات اليونيفيل أطلسية قلباً وقالباً، فإن دولاً مشاركة رمزياً مثل الصين قد تستخدم نفوذها في مجلس الأمن الدولي لتصحيح الوضع.
عدد الجمعة ٩ تموز ٢٠١٠