الآلاف خرجـوا إلـى الشـوارع ليخبـروا عن معنـى «الوطـن»: نحـن شبـاب لبنـان.. ونحـن نـريـد إسقـاط النظـام الطـائفـي

انتظر رجل أشيب الشعر، بهدوء مضطرب، دوره في التعليق. ولمّا جاء دوره، انتفض حاملاً مكبّر الصوت، وقال: «61 عاماً، وأنا في انتظار هذه اللحظة. لقد هرمت، وغزا الشيب شعري، وأنا أنتظرها. حافظوا عليها. شكراً». بدت مداخلة الرجل، في الاجتماع المفتوح الذي عقد في «الأونيسكو» أمس، قبل أربع ساعات من مسيرة إسقاط النظام الطائفي، أشبه بشحنة كهربائية هزّت أصحاب المداخلات الحماسية ذات العناوين العريضة، قبل توجههم إلى جسر الدورة، للانطلاق في المسيرة التي تخطى عدد المشاركين فيها العشرة آلاف، من مختلف الأعمار و»الانتماءات» الجغرافية. كان المشاركون في الاجتماع يعلّقون، بمدة زمنية لا تتخطى الدقيقة الواحدة، على المطالب التي عرضت على شاشة عملاقة، لتحاكي ما يصبون إلى تحقيقه، من إسقاط النظام الطائفي وصولاً إلى حلّ مجلس النواب. واحد وعشرون مطلباً تردد صداها في القاعة، وأكثر من خمسين مداخلة عبّر أصحابها فيها عن آرائهم، حول ما سمعوه وشاهدوه. على الرغم من ضيق مساحتها، فإن القاعة لم تمتلئ. جلوس، ووقوف. صراخ وتصفيق. شجب لرأي، وإثناء على رأي آخر. فهذا يؤيد شرحا لمفهوم العلمانية، وذاك يؤيد انتزاع المطالب من الأفواه وليس انتظار صدورها. حماسة عارمة طافت في أرجاء القاعة، وفوضى لا مفرّ من وقوعها، وقعت في اجتماع مفتوح، سبق النزول إلى الشارع. إلى المسيرة، إذاً. بدأ المشاركون في المسيرة، بالتوافد إلى جسر الدورة، عند الثانية بعد الظهر. يتمهل سائق حافلة كبيرة بمحاذاة الجسر، محدّقاً باتجاه الوفود المتجمهرة، واللافتات التي رفعوها. يعلن السائق، بصراحة عفوية، للركّاب: «أعتذر منكم، لكنني مضطر للترجل، والانضمام إليهم. يمكنكم المشاركة، وأنا أتكفل بتوصيلكم». كدرع بشري، وقف المشاركون حول المستديرة ينتظرون وصول بقية المتظاهرين. درع عفوي، لازم المشاركين الحانقين على النظام، من انطلاقتها إلى ختامها. وفي الدرع، داخل الدائرة، كانوا يحتفلون ويرفعون الصوت: ثورة. كانت كلمة «ثورة» تثور، مع كل دقيقة تمرّ، على ثوارها، فتزداد قوّتها وتضحي أكثر ترداداً: ثورة.. ثورة.. ثورة. تحت الجسر، وقف رجلان، رفع أحدهما لافتة، كتب عليها: «نريد إسقاط النظام الطائفي»، بينما رفع الثاني لافتة «لماذا لا توجد كهرباء.. إلا في خطاباتهم؟». صاحب اللافتة الثانية أستاذ في جامعة «البلمند». وقف وصديقه، مزهوين. كانا أشبه بوسيلة إعلانية بسيطة، تريد الترويج لفكرة، من دون أن تثبت لافتات عملاقة على الطرقات، بل توجهها إلى الناس مباشرة. كانا يتحدثان، باقتضاب، مع سائقي السيارات: «نحن ضد 8 وضد 14. نحن نريد استعادة حقوقنا. هيا، ترجلوا وانضموا إلينا في المسيرة». ثمة من انضم مبتسماً، وثمة من رفع شارة النصر وأكمل سيره. تصل سيدة خمسينية، لفّت منديلاً أبيض اللون حول رأسها، عند الثالثة إلا ربع. راحت تجول بين الحشود، كأم أضاعت طفلها في هرج ومرج. كانت تبحث عن لافتة لترفعها، فطلبت من فتاة عشرينية شقراء أن تكتب لها، كيفما اتفق، عبارة: «أنا أريد الاعتذار من شباب لبنان. أنا أريد الاعتذار من أولادي. أنا العجوز التي كنت أضحك عليكم. أنا العجوز التي هزئت من أفكاركم يوماً». بكت الفتاة، وكتبت لها: «أنا الأم التي أحبتكم». عند الساعة الثالثة والخمس دقائق، بدأ المنظمون بتجميع المشاركين خلف اللافتة العملاقة، التي كتب عليها باللونين الأبيض والأسود: «من أجل دولة ديمقراطية علمانية». آليات الجيش اللبناني انتشرت حول المستديرة، وأمامهم سيارات قوى الأمن الداخلي، وبينهما طفلة تقول، في اللافتة التي رفعتها: «نعم، نستطيع استعادة رغيفنا المسلوب». قبل خمس دقائق من انطلاق المسيرة، سأل شاب أتٍ من صور، صديقه: «برأيك، هل وصل عددنا إلى أكثر من ألفي شخص؟»، فردّ عليه الشاب بنبرة واثقة: «كلا. يبدو أننا أقل من مسيرة الأحد الماطر. الله يستر». غير أن رجلاً سبعينياً، سمح لنفسه بالتدخل في نقاشهما، قال بلكنته البقاعية أنه من الصعب تقدير العدد قبل الانطلاق، فأخمد نار التوجس في صدري الشابين. توزعت الدروع البشرية كطوق حماية وحركة تنظيمية، حول المشاركين، عند الثالثة والربع، إيذاناً بالانطلاق باتجاه شركة الكهرباء. هنا، اللافتات تعبّر عن جوارح أصحابها وأحلامهم، مجترحة تعابير عفوية تصيب قارئها بسهم يحتم عليه التحديق، والتفكير. كمسيرة الأحد الماطر، مشى هؤلاء أمس. غير أنهم مشوا في منطقة أخرى، ذات طابع آخر، بسبب هدوء شارع الدورة سياسياً، وغروب شمس السياسة الطاحنة في برج حمود، فيما لمار مخايل معاركها المعروفة، إذ رفع فيها السلاح أكثر من مرة بأيدٍ كثيرة وفي وجوه كثيرة. وجوه أمس كانت مختلفة عن مسيرة الأحد. وجوه جديدة، يافعة ومسنة. وجوه غضبت من تعثر مشاركتها في مسيرة المطر، فنزلت أمس. نزلت وفيها ما يكفيها من حماسة التغيير. فيها ما يكفيها من السأم والمطالبة، وانتظار خطاب هذا الزعيم، أو ذاك الرئيس. أمس، قالت، بصدر مرفوع: «نحن نريد». أرادوا إسقاط النظام الطائفي، وبناء المصانع، وتحديث الزراعة، وتأمين الوظائف، وإقرار الزواج المدني. مشوا، مرددين شعارات الثورة، ومستمعين لأغاني الثورة. قالوا: «الويل لأمة كثرت فيها الطوائف»، فنثر الأرز من شرفات شارع الدورة الفرعي. قالوا: «الصلاة للرب الخالق.. وليس للزعيم المارق»، فرفعت قبضات النصر من الشرفات. كان المتجمهرون خارج المسيرة، في شارع برج حمود الرئيسي، يبحثون عن أصحاب الدعوة وانتماءاتهم، فجالت أبصارهم على الأعلام المرفوعة، علّهم يتعرّفون إلى هوية الدّاعي، فوجدوا أعلام لبنان ترفرف في الهواء الطلق. سألوا: «من هؤلاء؟».. «شباب لبنان»، جاءهم الجواب. «لكن شباب لبنان موزعون في أحزابهم»، قال ستيني وقف أمام دكانه، فردّ عليه شاب فارع القامة: «كلا يا عم. نحن شباب لبنان. وأولئك سيلحقون بنا، بعدما ينتزعون عن أنفسهم عباءة زعيمهم. سيلحقون بنا يا عمّ». بين الدقيقة والأخرى، كانت الفتاة الإعلامية التي حملت مكبّر الصوت، تصرخ بصوتها الرنّان: «أنت الواقف على شرفتك، تعال ولاقي شعبك هنا»، فيردد المشاركون وراءها الشعار، فيما الموجهة إليهم الدعوة كانوا يرقصون من شرفاتهم، ويزغردون. مشوا، وحمل بعضهم الآخرين على الأكتاف، ولثم الآخر من تفاجأ بانضمامه إلى المسيرة. وزعوا القبلات في الهواء، وقالوا في ما بينهم، كاتفاق لا رجعة عنه، بأنهم لن يقبلوا بأي رجل سياسي، مهما كبر أو صغر شأنه، بأن ينضم إليهم. رفعوا أصواتهم عالياً، وفي موسيقاها الرنّان ضمير الـ»نحن»: «نحن نريد استعادة حقوقنا المسلوبة. نحن نريد دولة تفصل الدين عنها».

آخر تعديل على Thursday, 16 February 2012 14:23

الأكثر قراءة