ضربت هيلانة جريش يداً بيد تعبيراً عن ضيق الحال. كانت قد استنفدت كل الوسائل الممكنة لدفع الفاتورة اللعينة في المستشفى من دون نتيجة. آخر هذه الاحتمالات كانت زيارة «بيك» بلدة رحبة ونائبها رؤوف حنا. فزوجها إبراهيم الراقد في سرير المستشفى كان من مؤيديه. طلب «البيك» الإقطاعي ما لم يكن في المقدور. سألها رهن المنزل لقاء الليرات الثمانمئة التي كانت تنوي اقتراضها. لكن البيت إرث مشترك لزوجها وإخوته. عادت باكية إلى المنزل هي التي تجرّعت الفقر باكراً بعدما عملت خادمة ومربية في منازل الميسورين. نظر حنا، ثاني أبناء هيلانة، إلى أمه وبلع طعم الغبن مع ريقه. لكن الفتى ابن الرابعة عشرة الذي كان يومها في بداية وعيه لم يكتف بمطّ شفتيه وقرر أن يتصرف. قصد أستاذ الضيعة الياس برهون. كان برهون يدرس اللغة العربية في الأيام العادية ويثقف التلاميذ في منزله أيام العطلة ويشرح لهم كتاب «رأس المال» لكارل ماركس وكيف يستثمر الإنسان أخاه الإنسان. كان برهون شيوعيا. عرض الفتى المشكلة على أستاذه فخط برهون رسالة بيده ووضعها في مغلف وطلب من تلميذه أن يتوجه فوراً إلى طرابلس ويسلمها لأديب كوسا، شيوعي متمول يعمل في سيراليون. ركب حنا الباص وتوجه إلى العنوان المقصود. طرق الباب وسلم الرسالة إلى كوسا. يقرأ كوسا الرسالة ثم يفتح الخزانة ويخرج منها ثمانمئة ليرة، يضعها في ظرف، ويطلب من ضيفه الصغير الانتباه على الطريق. لم تكن هبة بل كانت ديناً مؤجلاً. عاد حنا إلى الضيعة وأعطى المال لوالدته كي تحلّ المشكلة وتطلق سراح والده من المستشفى بعدما سجنته الفاتورة فيها.لم تكن حادثة «البيك» درس الظلم الأول للفتى الذي تعلم أن يراقب بصمت. فقد مرت ليال كثيرة نام فيها من دون عشاء، وبكى فيها تحت اللحاف بسبب صراخ المعدة الفارغة. وصراخ هيلانة وعويلها كلما انكسرت «البلورة رقم أربعة». ما زال يملأ رأسه إلى اليوم. البلورة هي غلاف قنديل الكاز الذي كان ينير المنزل المتواضع. تحطم زجاجها يعني خراب الميزانية المحدودة أصلاً. فالقروش الثلاثة أو الأربعة في الستينيات، ثمن البلورة، كانت ثمن طبخة تطفئ جوع الأسرة.ولد حنا، ثاني أخوته الستة، في طرابلس في العام 1953 لأبوين لا يعرفان فك الحروف. عندما أحيل والده العسكري إبراهيم غريب إلى التقاعد في الجيش حمل أسرته وعاد بها إلى بلدة رحبة، مسقط رأسه في عكار. هناك درس حنا في ابتدائية البلدة الرسمية ومتوسطتها بعدما اضطر إلى ترك مدرسة الراهبات في القبة.لم يكن مبنى الابتدائية واسعاً. فقد كان عبارة عن طابق واحد على الطريق العام. أما صف التلميذ الآتي من طرابلس (الثالث ابتدائي) فكان مستقلاً يقع خارج «طابق» الابتدائية لضيق المساحة، ويتوجب للوصول إليه صعود تلة حادة ووعرة على الأرجل الصغيرة.البرد والزمهرير لا يطاقان. لكن على طريق «الصف» يقع دكان أبو مخايل، الحداد الإفرنجي. يقف الصبية الصغار عنده ليتدفأوا من حرارة النار التي يوقدها «المنفخ» المخصص لإذابة الحديد. وقد يساعد الصبيةُ أبو مخايل بإدارة «المنفخ» الذي يعمل على «المانيفيل» مقابل الوقوف في دكانه الدافئ وتسخين «الزلط»، الحجارة البحرية التي يحملونها معهم لتحرق أصابعهم بحرارتها المخزّنة خلال رحلة الطريق الشاقة. ومن اشترت له أمه جزمة «كان أبو زيد خاله». أما الباقون فستغرق أحذيتهم في مياه الأمطار إلى أن يدركهم المرض.«خذ ما تريد وغادر»عندما أنهى الفتى المرحلة المتوسطة كان خيار الدراسة الثانوية محدوداً بين خيارين: إما القبيات أو حلبا. ولأن القبيات بعيدة، وقع الخيار على ثانوية حلبا، «الثانوية الأم لمعظم أولاد عكار». هناك سيشارك حنا في قطع الطريق من أجل مطالب «الجامعة اللبنانية» مثلما سيتضامن مع المعلمين المصروفين خلال إضراب العام 1973 الشهير. كان من بين المصروفين الياس برهون، أستاذ حنا ورفيقه والرجل الذي كتب رسالة الإنقاذ من المهانة. يوم تخرج بشهادة البكالوريا فرع الرياضيات أعطاه والده خمسين ليرة لينزل بها إلى بيروت. الليرات الخمسون كانت أكثر من نصف الراتب التقاعدي للوالد. نصفها للمواصلات ونصفها الآخر للسرير. استأجر السرير نفسه الذي كان ينام عليه رفيق آخر اسمه سعد الله سابا في منطقة البسطة التحتا عند حاجة من آل الرواس. سعد الله كان قد تخرج تواً بإجازة في مادة الفيزياء، والسرير ما زال حاراً فسارع لاستئجاره. تقدم إلى كلية التربية في الجامعة اللبنانية لدراسة الكيمياء مع انه كان يحب الفيزياء. لكن المتقدمين إلى الفيزياء كانوا كثرا والـ«كوتا» محدودة فتردد. لم يكن مسموحاً أن يرسب. شارك في مسابقة الكيمياء وكان واحداً من عشرين طالباً فازوا في امتحان الدخول من بين ستمئة متقدم. لكن ما كان أهم من الفوز في الامتحان الليرات المئتان التي يقبضها الطالب شهريا خلال فترة دراسته ريثما يتخرج أستاذاً للتعليم الثانوي. شعر حنا للمرة الأولى بالتحرر من قيوده الاقتصادية. كان إحساساً لا يقدر بثمن. صار بإمكانه أن يساعد أسرته أيضاً. نشط في «اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني» المقرب من «الحزب الشيوعي اللبناني» وصار يعمل على صعيد الجامعات، يدور بين كلياتها من جيبه الخاص لينظم العمل الطلابي فيها. وكان من ضمن المجموعة التي طلب منها إعادة تأسيس الاتحاد في الكليات والفروع. ثم ما لبث أن ترأسه. عندما اشتد ضجيج الحرب في العام 1976 إضطر إلى العودة لرحبة وانقطع الراتب، بشكل موقت، فعانى من الضيق. كان قد خضع لدورات عسكرية محدودة لا تزيد كل منها على عشرة أيام من أجل حراسة مقار الحزب وجريدته. وعندما هبط إلى المدينة للمرة الثانية استأجر شقة صغيرة في منطقة عين المريسة.جاء العام 1981 مفصلياً. تزوج حنا من رفيقته وفاء البيطار ابنة بلدة عندقت وطالبة الآداب الفرنسية التي تعرف إليها خلال فترة الدراسة في الجامعة. ووفاء ابنة إسبر البيطار أحد مؤسسي العمل العسكري في «الحزب الشيوعي». لاحقاً ينجبان هلا ووليد. خلال تلك الفترة كان يعلّم في «مدرسة مار الياس الجديدة» الخاصة، وظل يشجّع على الإضرابات من أجل تحقيق مطالب الأساتذة حتى عرض عليه مدير المدرسة جاك تامر في آخر العام الدراسي أن يطلب ما يريد ويغادر المدرسة. كان يريد أن يتخلص منه. فصرفه صرفاً كيفياً بعدما أعطاه مستحقاته. وبهذا المبلغ دفع حنا بدل خلو لغرفة إضافية مجاورة للشقة التي يسكنها في عين المريسة، وضمهما إلى بعض، وتزوج في الشقة «الموسعة».بعيد تخرجه من الجامعة طلب حنا تعيينه في بيروت. جاء الرفض. لكن مدير التعليم الثانوي محمد الحاج وعده بألا يعينه في رحبة، مسقط رأسه. كان هذا أقصى ما يستطيع فعله كي لا يخسر الشاب شقته البيروتية. فجاء التعيين «الموقت» في «ثانوية صيدا الرسمية للبنين». لم يكن حنا يجيد القيادة بعد. يذهب بثلاثة سرفيسات ويعود بمثلها كل يوم. إلى أن حدث الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، فطلب نقله إلى بيروت على خلفية الظروف الأمنية. «الشيوعي اللعين»لم يكن حنا قد أنهى فترة التمرين التي تسبق التثبيت عندما قرر وزير التربية عصام خوري، المحسوب على حكومة أمين الجميل اليمينية، وضعه مع مجموعة أخرى من الأساتذة على لائحة الصرف بسبب نشاطاتهم السياسية والنقابية. كانت الأسماء على اللائحة إما شيوعية أو قريبة من «حركة فتح». وفي الليلة ذاتها التي كانت مسودة قرار الصرف تطبع على الآلة الكاتبة حدثت للمفارقة «انتفاضة 6 شباط»، فطارت الحكومة وقرار الصرف معاً.في «ثانوية الغبيري الرسمية» تعرض لمضايقات الأحزاب الموجودة. أبلغه المدير فضل الحاج بأنه ليس مسؤولاً عن دمه وطلب منه أن يغادر. المدير نفسه الذي احتك المسلحون به مراراً بعدما عاندهم وأطلقوا النار في غرفته، وهددوه. فما كان منه إلا أن حزم أغراضه وطار إلى كندا. نُقل حنا إلى «ثانوية حوض الولاية». لكن الحال هناك لم تكن بأفضل مما سبق. كانت الاغتيالات في ذروتها لا سيما تلك التي طالت كوادر «الحزب الشيوعي». كتب أحد الطلاب على زجاج نافذة الصف العبارة التالية: «أخرج من الصف أيها الشيوعي اللعين». ومجدداً من «ثانوية حوض الولاية» إلى «ثانوية وطى المصيطبة» التي ما زال يدرس فيها، إلى جانب «مدرسة مار الياس بطينا الثانوية». ترشح حنا كمندوب للأساتذة في «ثانوية وطى المصيطبة» التي عاد وسكن بالقرب منها بعدما كان قد استلم تنظيم المعلمين في «الحزب الشيوعي». عمل جاهداً كي يقنع معلمي الحزب القدامى بجدارته. فقد كانوا في معظمهم من الشيوعيين «العتاق» الذين لم يبلعوا بسهولة أن يقودهم «مسؤول الكشافة الشاب». ومع الوقت انغمس أكثر في النسيج النقابي للمعلمين.كان حنا أمين سر لجنة الاتصال العليا لأساتذة التعليم الثانوي في المناطق «الوطنية» (تضم بيروت الغربية والشمال والجنوب والبقاع) عندما انتهت الحرب. وفي المناطق الشرقية كان هناك لجنة تنفيذية لأساتذة التعليم الثانوي يمتد حضورها من جبيل إلى كفرشيما. بدأت محاولات توحيد اللجنتين في رابطة واحدة. تعاون حنا وآخرون مع «الحركة الثقافية في إنطلياس» و«التيار العوني» وعدد من الأساتذة الشيوعيين في «الشرقية» من أجل تنظيم جمعيات عمومية في الثانويات لتنتخب مندوبين. كانت الخطوة الأولى التي تسبق توحيد «رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي». ومن ثم عقدت اجتماعات مشتركة دامت على مدى عام كامل من أجل صياغة النظام الداخلي للرابطة. وجاء فؤاد صعب أول رئيس للرابطة ثم تبعه أحمد سنجقدار.الكيمياء التي يدرّسها حنا غريب ثالث رئيس منتخب للرابطة لم تكن يوماً جيدة بينه وبين رؤساء الحكومات المتعاقبين. لا يحبونه مثلما لا يحبون كل صوت يطالب ويضغط ويعارك ويحتسب تفاصيل التفاصيل بالأرقام. وحنا لا يتعب. ما زال يحافظ على فظاظة الريف ووضوحه، الريف الذي أتى منه. ولا يرى نفسه أبداً أميناً عاما لـ«الحزب الشيوعي» الذي يشغل عضو لجنة مركزية فيه، على ما يحلم شيوعيون كثر. كما لا يرى نفسه وزيراً بحقيبة. ابن رحبة الذي حفظ جيداً شعور الجوع والبرد نقابي يعرف جيداً أين يضع قدميه. اختار أن يكون مظلة للمعلمين. لكنه ليس من نوع النقابيين الذين يحرصون على أناقتهم وتناسق ألوان ثيابهم. فاهتماماته تتركز على التنسيق مع روابط أخرى لإحياء «هيئة التنسيق النقابية». «يفقع» إضراباً من هنا، ويعمل على إسقاط مشروع يقضم الحقوق من هناك. والأساتذة لم يخذلوا يوماً «المظلة» التي لا تدين لأحد بقدر ما تدين لعائلتها الصغيرة التي خسرت حضورها الأبوي في أيام وليالي التحركات الكثيرة. يحدث في العادة أن يكون تلميذ المدرسة مشاغباً، لكن اندفاعته تهدأ مع الوقت ويفتر حماسه. في حالة حنا غريب حدث العكس. التلميذ الهادئ والصامت غالباً، صار يزداد شغباً كلما تقدم به العمر. لكنه شغب من النوع الذي لا بد أن تكون نتائجه إيجابية على قطاع واسع من الناس. شغب لا تغذيه قوة بحجم قلق هيلانة المهمومة والخائفة على أطفالها من الفقر والعوز والمجهول.