جعفر العطاريستغرب شاب عشريني، وقف في ساحة ساسين أمس بانتظار وصول صديقه من البقاع، سؤال ابن عمه في مكالمة هاتفية: «كيف أستطيع الالتحاق بالمسيرة؟ أنا في منطقة الكفاءات». يتلعثم الشاب، في أثناء إرشاد «ابن العم» على الوجهة التي ينبغي اعتمادها.يصل ابن البقاع، في حافلة ضمت أكثر من عشرة أشخاص، متجهاً نحو صديقه، الذي أردف قبل السلام: «تخيّل أن جلال يريد المشاركة في المسيرة، وهو في طريقه الآن مع زوجته وأولاده؟». تُرسم علامة استغراب على وجه البقاعي، قائلاً: «منذ أسبوع كان يسخر منّا. سبحان مغيّر الأحوال».تبدو أعداد الحشود، التي تشارك في مسيرة إسقاط النظام الطائفي الثالثة منذ مسيرة المطر، شبه ضبابية، قبل نصف ساعة من الموعد الذي حدد عند الثانية عشرة ظهراً. «طقوس» ما قبل مسيرة أمس، هي ذاتها طقوس ما قبل مسيرة الدورة: هرج ومرج، مصحوب بشعارات إسقاط النظام، وانتظار سماع صافرة الانطلاق.تتوسط دورية للجيش اللبناني الساحة، فيما تتوزع عناصر قوى الأمن الداخلي على مقدمة المسيرة. تتردد في الأفق هتافات المسيرة المعروفة: «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام»، و»ع الطائفية.. ثورة.. ع المحسوبية.. ثورة.. ع الإقطاعية.. ثورة.. ع الحرامية.. ثورة»، قبل أن تعلو الهتافات بصوت واحد: «ثورة.. ثورة.. ثورة».يقترب رجل ثلاثيني، اسمه أبو محمود، وقد وصل من عكار، نحو شاب رفع لافتة تطالب بطرد كل زعماء الطوائف من لبنان، ليسأله: «كيف نستطيع أن نطرد من جثم على صدورنا لأكثر من ثلاثين عاماً؟»، فيجيبه: «لا أدري. لكن لبنان لن ينهض من لوثته، إلا عندما يطردون كل هؤلاء».يبتسم الرجل ابتسامة ماكرة، ويربت على كتف الشاب الذي رسم علم لبنان على وجنتيه، معلناً «أنا أيضاً أريد أن نتخلّص منهم. لكني أبحث عن وسيلة، غير التظاهر ورفع اللافتات. هل ثمة وسيلة أخرى برأيك؟». يرمقه الشاب بنظرة سريعة، فيصرخ، مع المشاركين: «الشعب يريد إسقاط النظام»، فيما يتوجه الرجل ناحية شاب آخر.تنطلق المسيرة خلف سيارة متصدعة من نوع «بيك ـ أب»، تقودها سيدة أربعينية جلس إلى جانبها طفل أشقر، فيتضح أن المحتشدين في الساحة هم «ذيل» التظاهرة، فيما الأعداد الأكثر مشاركةً تتقدم الساحة بأمتار. تسير، مقسمة إلى مجموعات، لكل منها شخص يهتف، والأشخاص يرددون خلفه.تحتشد، أمام السيارة، مجموعة مؤلفة من العشرات، تهتف بأصوات لا تشبه في قوّتها أصوات الخلف: أمهات يمسكن بعربات تحوي أطفالاً، منهم من يحمل علم لبنان، ومنهم من يعبّر عما يريد بورقة ضمّها إلى صدره «أنا مستقبل لبنان»، فيما تقول أخرى: «أنا طفل وما تعلّمت الحكي. بس ما بدّي اتعلم لغة الطوائف».يصل المشاركون إلى منطقة بشارة الخوري، وتبدأ التكهنات حول الأعداد المشاركة، تزامناً مع وضوح المشهد. تتأرجح الأرقام، من خمسة عشر ألفاً، إلى عشرين ألفا، وصولاً إلى ثلاثين ألفاً. غير أن القاسم المشترك، في الآراء التي سارعت للتكهن، يكمن في اتفاق على أن المشاركين في مسيرة أمس، هم أكثر بكثير من المشاركين بمسيرة الدورة.تتكرر، مع كل خطوة، النداءات الموجهة لـ»الواقف ع البلكون... انزل ولاقي شعبك هون»، فتقابل بجمود من المنادى عليه حيناً، وبحماسة تُرفع معها القبضات، وينثر الأرز في أحيان أخرى. يرفع رجل ثلاثيني لافتة كتب عليها: «أكلت فروج مشوي، وما عرفت طائفتو. سامحني يا الله».ينتقل المشاركون من منطقة «الملا»، متوجهين إلى وزارة الداخلية في الصنائع. تردد إحدى المجموعات، بصوت أنثوي، «الأم تريد إسقاط النظام»، كدلالة على هدية عيد الأم، وتقول كارول إنها شاركت بالتظاهرة «من أجل إسقاط الطائفية، ولأقول لأمي شكراً لأنها لم تربّني على الطائفية».ثمة وجوه دينية، وأخرى حزبية، تصرّ على استقلاليتها، مؤكدة أنها تشارك اقتناعاً منها بوجوب تغيير النظام الطائفي في البلد. محمد بلوط، المسؤول الإعلامي في مجلس النواب، يتقدم المسيرة، في مشاركته الثانية بعد مسيرة الدورة.يصرّ بلوط، خلافاً لما هو معروف، بأنه غير منظّم في «حركة أمل». يقول الرجل: «المظاهرة غير محسوبة على أي تنظيم سياسي. وأنا مواطن لبناني، أؤمن بضرورة تغيير النظام الطائفي». يستغرب بلّوط «ما يقال عن أن حركة أمل ترفض المشاركة. فقد شاهدت عدداً من الشبان المنظمين في الحركة يشاركون بالمسيرة اليوم، مثلهم مثل بعض الشبان المحسوبين على «تيار المستقبل» المشاركين علناً».يستيقظ طفل غفا على كتف والده، ما إن تحطّ المسيرة رحالها قبالة مبنى وزارة الداخلية، وبالقرب من خيمة إسقاط النظام الطائفي.يحمل الأب علم لبنان، ويطلب من الطفل أن يرفعه، فيفعل مغمغماً حروف الثاء والواو والراء، من دون لفظ التاء المربوطة.وفيما بدأ المشاركون بتجهيز أنفسهم للمغادرة، عند الثالثة إلا ربعا، شرعت إحدى الزميلات في تلفزيون «أخبار المستقبل» بنقل رسالتها التلفزيونية، بالقرب من الخيمة، ووسط حشود تجمهرت حولها. ترتبك الفتاة من الهتافات: «الشعب.. يريد.. الستين مليار!». تنتظر لبرهة هدوء الهتافات، فيتحول الصوت إلى صراخ: «بدّنا الستين مليار.. بدّنا الستين مليار». تنتقل، مع المصوّر، تجاه مدخل الوزارة، وتنقل رسالتها من ناحية القوى الأمنية.يرتفع من المسجد المقابل للوزارة صوت آيات من القرآن الكريم، إيذاناً بأذان العصر. تحلّ، للحظات، دقيقة أشبه بدقيقة صمت بين المحتشدين. «ثورة.. ثورة.. ثورة» يعلو الصوت، فيقابله صوت آخر يطلب «التريث لحين انتهاء الأذان، احتراماً للمصلين في المسجد».يخفّ صدى الهـتافات، بينما تصرّ فتاة عشرينية على ترديد شعار إسقاط النظام الطائفي، من مكبّر الصوت الذي رفعته، فيُسمع صدى صــوتها، وبعض الأصوات القليلة التي رفضت سماع صــوت القرآن، أو أنها لم تشأ الانتظار. يُرفع الأذان، وتنتهي المسيرة بالنشيد الوطني اللبناني. يعود الطفل ليغفو على كتف والده، والعلم مرفوع من قبضة يده الصغيرة.