الآمال المعقودة على هيئة التنسيق النقابية لم تندثر كليا. صحيح ان الكثيرين ممن راهنوا عليها خابت آمالهم من النتائج، الا ان التجربة التي خاضتها في العام الماضي، ما زالت تجسّد الدليل على ان هناك فرصة سانحة لاحداث ثقب في الجدار السميك، طبعا اذا توافرت الشروط لذلك.فاتن الحاج - الاخبارلماذا لم تنجح هيئة التنسيق النقابية في التحوّل الى تيار نقابي بديل من السائد؟البحث عن اجابة يبدأ من حجج قادة هيئة التنسيق النقابية انفسهم. هؤلاء جميعا يقرون بالحاجة الملحة الى أداة نقابية عمالية تعيد بعض التوازن المفقود في الصراع الاجتماعي القائم، الا انهم ما زالوا يرفضون تحميل تركيبة الهيئة أكثر مما تحتمل. يعتقدون ان الهيئة ليست في وضعية تسمح لها بأداء دور «ممثل العمال العام»، او بمعنى اوضح، ما زالوا يخافون على وحدة الهيئة إذا جرى تجاوز دورها الفئوي المحدود، الذي جرى التعبير عنه في التحرّكات كلها، وهو دور اقتصر على رفع مطلب وحيد «جامع» لمكوّناتها، وهو مطلب احالة مشروع سلسلة الرتب والرواتب على مجلس النواب.في رأي هؤلاء، فإنّ الحديث عن حراك يفتح نافذة على إعادة النظر في السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة هو «كلام كبير»، يمكن ان يودي بوحدة الهيئة ويشق صفوفها تبعا للولاءات الحزبية والمذهبية!ولاءات من؟ القادة النقابيون أم القواعد؟الهيئة ليست نقابة وليست اتحاداً نقابياً، بل مجموعة من الروابط استطاعت أن تفرز جمهوراً جمعته قضية مطلبية مشتركة بخلاف الجمهور الطائفي. وما دامت الحقوق عالقة، ينتظر أن تستكمل الهيئة معركتها لنيلها. ببساطة، هذا ما يراهن القادة عليه للمحافظة على هذا الكيان. وبالتالي يرون اليوم ان الوظيفة محددة بمواجهة هذا التحدي فحسب، برغم علمهم المسبق بالتباينات في صفوف القواعد، وبالتململ الذي تسلل إليها نتيجة الخيبة من سلسلة الرواتب المطروحة. الأفق ليس مسدوداً، يقول النقابيون. والعمل يجب أن يتركز على أن يكون 2014 عام تحويل الروابط إلى نقابات، وإصدار قانون ناظم للعمل النقابي في القطاع العام، يحدد الواجبات والصلاحيات. بالنسبة إلى البعض، المستقبل مفتوح دائماً على احتمالات شتى، والسؤال المركزي يتعلق بالناس، وما إذا كانوا سيتمسكون بقضاياهم ويدافعون عنها؟ وما إذا كانوا سينتزعون حقوقهم أم لا؟هذه المحدودية في النظرة الى وظيفة الهيئة كاطار نقابي، تكشف عن ان الخوف من اثر الولاءات الحزبية والطائفية هو خوف في القيادة لا في القاعدة، وهو ما تعكسه اراء كثيرة يدلي بها من برزوا كناشطين في تحركات هيئة التنسيق النقابية خلال اضرابها المفتوح الذي امتد اكثر من شهر.خابت آمال الموظف في وزارة الصناعة ديب هاشم. «فالسلسلة الجديدة كرّست التمييز التاريخي ضد موظفي الإدارة العامة المبني أصلاً على قواعد غير علمية»، يقول سائلاً: «كيف يمكن أن نتحدث عن إصلاح إداري ولم تحقق السلسلة ردم الهوة بين القطاعات الإدارية والتعليمية؟». يتوقع هاشم عدم تجاوب الموظفين مع تحركات قد تدعو إليها هيئة التنسيق في المرحلة المقبلة. ويستند في كلامه هذا إلى تجربة عريضة المليون «التي لم نوقعها، والتي فشلت لشعور بعض القطاعات بالغبن».د. داهش المقداد، الموظف في وزارة الزراعة، يرى أنّ الموظفين الذين لا ينتمون إلى طوائفهم سيكملون في هيئة التنسيق كي لا يؤول مصيرها الى مصير الاتحاد العمالي العام. يلفت إلى أنّ الهجمة على الهيئة والأصوات الكثيرة التي نسمعها في أوساط الإداريين بالانفصال عن التحرك «لا تصب في مصلحتنا». يتلمس المقداد خطر ضرب الهيئة «لكننا مطالبون بالعمل بكل إمكاناتنا لكي لا تسقط، ما في هيئة تنسيق ما في قطاع عام».فرز جمهور غير طائفي وبروز كوادر نقابية تحظى بقدر من الثّقة من الناس، مكوّنان يسمحان، بحسب الأستاذة في التعليم الثانوي الرسمي، سهام أنطون، باستمرار تجربة هيئة التنسيق وتحقيق نجاحات جديدة. في رأيها، ما تحتاج إليه الهيئة هو تنظيم حملة توعية واسعة في أوساط قواعدها بشأن أهمية الحراك الوطنيّ ووحدة الهيئة، وخصوصاً بعد ظهور مطالبات بفصل المسارات بعضها عن بعض (فصل التعليم الثانوي الرسمي مثلاً عن الباقين). المعلمون والموظفون ينتظرون، كما تقول، تدريب كوادر وسطى وتحويل العمل داخل الهيئات إلى عمل مؤسساتي بتوسيع التشاور مع القواعد، مثل إعلام المندوبين بما يحصل خلال المفاوضات مع المسؤولين وإشراكهم في اتخاذ القرار.أنطون تعتقد أنّ هيئة التنسيق واعية لواقع أنّ مصير السلسلة وغيرها من المطالب مرتبط بمصير البلد ككل، والدليل أنّها دعت إلى تحركات تحت عنوان تفعيل عمل المؤسسات.وفي تقويم للحراك السابق، يبدو الأستاذ في التعليم الثانوي الرسمي يوسف كلوت مقتنعاً بأنّ «مكونات السلطة الفعلية كسرت دينامية التحرك، بتقليصها استقلالية القرار في الروابط المكونة لهيئة التنسيق، بعدما رأت، خلافاً لما اعتادته من تبعية في قرار الاتحاد العمالي العام، أن هناك إمكاناً حقيقياً لتوحد الناس على نحو أفقي حول مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية». توحد الناس يفقد هذه القوى السياسية، بحسب كلوت، «نعمة الانقسام العمودي الذي تفتعله في كثير من الأحيان لاقتناص شرعيتها بغية القيام بوظيفة السمسرة بين الناس ومؤسسات الدولة بحسب مصالحها الخاصة غالباً».تحريك الشارع يفشل إذا لم يُقطفيتضح مما سبق ان القيادات والقواعد تلتقي على ان الحافز لنضالات الهيئة يبقى «السلسلة»، الا ان الناشطين والناشطات في القواعد يرسمون افقا ممكنا لتطوير الهيئة وخطابها بما يتجاوز المطلب «الفئوي». انطلاقا من ذلك، يقول رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي حنا غريب، إن المعركة لم تنته لكون المفصل الأساسي فيها لم يحل، فالسلسلة التي أخرجتها اللجنة النيابية الفرعية لا تمثل الحد الأدنى المقبول، على حد تعبيره، ما دامت لم تثبت الحقوق المكتسبة وتترجمها إلى أرقام. في رأيه، التحدي الأساسي هو رفع الظلامة عن جميع مكونات جمهور هيئة التنسيق (أساتذة، معلمون، موظفون، متعاقدون، أجراء، مياومون ومتقاعدون)، وعدم رميها من قطاع إلى آخر «فتمسك كل قطاع بمطالبه الجزئية يعني ملاقاة الطرح السلطوي على الطريق نفسه. المتعاقدون والأجراء غير مشمولين بالمناسبة في السلسلة، يستدرك بالاشارة الى أنّ شعور أي من القطاعات بالظلم يفرض على هيئة التنسيق متابعة الملف حتى نهايته، «ومن يفكر غير ذلك يكُن واهماً».يطالب غريب هيئة التنسيق «المقصّرة في مواكبة القضايا الوطنية العامة، بأن لا تهدر فرصة لا تتكرر، عبر القيام بقفزة نوعية على مستوى أدواتها التوحيدية، بإعلان روابط القطاع العام نقابات وقطع الطريق أمام محاولات فبركة السلطة السياسية لنقابات متواطئة معها على ظهر الروابط، تماماً كما حصل مع النقابات العمالية». يدعو قيادات الروابط إلى تقديم اقتراح قانون ينص على مادة وحيدة: «تمنح الروابط التعليمية حق ممارسة العمل النقابي، وتعطى صفة كيان النقابة الوحيدة خلافاً لأي نص عام أو خاص».رئيس رابطة موظفي الإدارة العامة محمود حيدر هو أيضاً يتلمس الحاجة إلى تحويل الروابط إلى نقابات، وهيئة التنسيق إلى اتحاد نقابي لا يضم نقابات موظفي القطاع العام فحسب، بل أيضاً موظفي المؤسسات العامة الاستثمارية وغير الاستثمارية. ومع ذلك، فهو مقتنع بأن لا تحالفات دائمة ومستمرة لا في السياسة، ولا في العمل النقابي، فالإطار النقابي يتغير بتغير القضايا التي تجمع الناس. يقول: «من حق كل قطاع أن يطالب بالزيادة وتأمين العدالة بين القطاعات من مسؤولية السلطة السياسية».يسجل الخبير النقابي غسان صليبي لحراك هيئة التنسيق إعطاءه أملاً بامكان خلق تيار نقابي مستقل، وفتحه أفقاً على مستوى إعادة النظر في السياسة الاقتصادية، وفضح الطبقة السياسية، لكن ذلك لا يحجب خطر ضرب الهيئة من الداخل، لكونها ليست محصنة بقواعدها، كما يقول. غموض كبير يلف المرحلة المقبلة، إذ «لا أدّعي في الظرف السياسي الراهن أنني أستطيع التفاؤل أو التشاؤم بمستقبل هيئة التنسيق لسبب بسيط، أننا غير قادرين على رؤية معالم التيار النقابي المستقل الذي نبحث عنه وسط هيمنة فريقي 8 و14 آذار».تحريك الشارع يفشل إذا لم يُقطف، تقول النقابية عايدة الخطيب، مراهنة على استمرار هيئة التنسيق بالاستناد إلى إيجابيات تجربة أثبتت أنّ المطالب المعيشية توحد الناس، وأنّ خرقها ليس بهذه السهولة.
طلال درجاني - السفيروما ان رفع أحدنا الكأس ليشرب نخباً، أحسسنا بالطاولة تهتزّ والملاعق تتمايل على الصحون وتنبطح على الطاولة وتحتها... هزة أرضية ناعمة لا تتعدّى قوتها النصف درجة، إنها تردّدات حميميّة. تسّمرنا لحظة لنسمع الصمت الآتي. وعد أنه سيأتي متأخراً واذا بمؤثرات خيال صدقه تتّجه نحونا، وقد أعلَنَت، قبل وصوله بدقائق، خابية الخمر المعتق التي كنتُ قد سرقتُها من مخابىء سراديب الدير، إلتزامها باحتفالية الإستقبال، ورافقته بزفة العريس بين صخور حجارة مدخل الطاحونة على ضفاف نهر رشعين...في اللحظة ذاتها، عبرت إليه نسمة من الرياح الجارحة وأطلقت له حضنها الوفي، وفرشت له الطريق الضّيقة أوراقاً من شجر الحور الذهبية، وحطّت على شاله الأسود الطويل بقايا من ألوان الشتاء. شعر كِمّا معطفه، الأشد فرحاً بسواده، بالغيرة، فلَبِسا غباراً من حجر صوان الأرض الممزوج بزهر الرمان المجفّف... وفور إلقائه التحية، خيّم على هندسة عقد حجر الطاحونة صمت الفرح، وتصاعدت في لحظتها طرطقة الكوؤس نفسها بنفسها ابتهاجاً بالمجوسي الطيب، وفي الثانية نفسها، ارتجلت أصابعنا فعل التصفيق، ودون وعيٍ منّا، تطايرت الأظافر وانغرست في جدران مطعم طاحونتنا قناديل حمراء خرجت منها أضواء المحبة، واخترق شعاعها سقف جلستنا لترسم حفرة هرب منها اللهيب باتجاه سوداوية السماء فامتزج بالنجوم وأعلن بذلك الإفتتاح الرسمي لقدوم أحد عمالقة المجوس، لتنفتح بعد ذلك شرايين حناجرنا حباً وتُصدِر لحناً يشبه عالم سمفونيات العظيم تشايكوفسكي...عشرات الكراسي الفارغة تتقاتل عليه بشغف الأمومة... فانتصر كرسي من القش اليابس المعتّق والمنتوف، وتسللّ بالسر المعلن وانتصب حول طاولتنا تاركاً الحرية له باختيار المكان، وانتظر لحظة الجلوس لكي يتبارك بإسم فلسفة الإنسان والطبيعة ولتكون إشارة الالتزام المطلق بالفكر الإنساني...وما ان استراح حتى احتلّت، على الفور، رائحة يانسون البخور الفضاء وارتفعت أمامه ألفية العرق البلدي الشاهقة كشجرة الحور، وتمركزت بين شفتيه كعشيقة الحب الآتي... بدأت الحوريات بالتوالد دفعات دفعات من حبوب أغصان شجر الحور وطُبِعت على ظهر كراسينا شعاراً لحرية الحوار الديمقراطي، فانتشرت الأفكار السياسية والفنية من أفواهنا والتصقت بين ممرّات الأحجار الصخرية لطاحونتنا الأثرية فبدا النقاش وكأنه متحف والمجوسي مفتاحه الثابت... وقف فجأة فالتزمت عاصفة الكؤوس الهدوء الواعي والتزم معها ضجيج الألسن وحركة رقص الشفاه، فتسمرّت عيون الجموع باتجاه جفونه التي تشبه الورود المكسوة بالثلج الأبيض المخمّر بنظافته... وسيطر الصمت الداخلي على جبين الحضور... كان ممثلاً رائعاً حقاً بإتقانه تنفيذ فعل الصمت في هذا العرس الوجودي، وهو من أصعب وظائف إعداد الممثل على الإطلاق..تنفّس حبّاً: "اسمحوا لي بأن ألتقط صورة تذكارية..."، وأعادها ثلاث مرات من زوايا مختلفة وهو خارجها بالشكل، ولكن بمضمونها، عادت فرحة عرس الأصدقاء تتسابق إليه تكريماً بين الشعر والغناء والمسرح والسياسة... حلقة مميّزة بتناقضاتها وبحبّ الآخر بكل شفافية الصدق الإنساني...ما إن غاب نقيق الضفادع المنتشرة حولنا حتى حاصر شرشفنا جوانب الطاولة ففرغت صحون الجرجير من أمامه... تأمّل قليلاً... سها بشرود متقن... تناول حبة فستق وقذف بها باتجاه الخابية فنخرتها من أسفلها وهربت فوراً من عنقها. وما كان من حنفية الخمر إلا أن أصدرت صفارة الإنذار مطالبة بالنجدة، بمدّ أنابيب الخمر اليها من جديد. في تلك اللحظة، خرج المجوسي من دفء صخور الجلسة الى ثلج مياه النهر والتي تتوالد مثل الطوفان في عرضه الحُرّ، وتتضارب شلالاته الى خارج أطرافه المتعرّجة...لحقنا به... حرارة الطقس تقارب الصفر والرطوبة عالية جداً يغطّي ضبابها سطح البساتين الخضراء ببرتقالها الأصفر... هرّب المجوسي بهدوئه المعهود جزمته السوداء من رجليه وبرفقة جواربه الصوفية السواد أيضاً، شمّر بنطلونه العابق حتى أعلى ركبتيه، فارتبكت شعيرات شرايين جسده ومال لونها الى الرمادي، لكنه لم ينتبه... حدّق طويلاً في غليان الطوفان، فصمت النهر فوراً وتحوّل فجأة إلى بحيرة ساكنة تشكو من الوحدة القاتلة... نعم، هبطت أصابع رجليه فوق سطح جمر ثلج المياه ومشى بين حصى النهر وأظافره تداعب أسماك الترويت. سمعنا صدى قهقهتها حتى حدود الغيوم وكأنها في شهر عسل وفي أجمل جزيرة على سطح كوكب خيالي... مسامات رجليه تفلح الثلج وترسم سواقي نبتت فيها أبعاد صوته الممزوج بآيات من أولى مشية الطفولة...تابع يخطو متعباً عكس التيار لأن هدفه فم النبع بالذات. تصادفه في الطريق البالوعة تلوى البالوعة، تحاول جرّه الى نفق المياه الغادرة وتتسابق على اصطياده. حتى جذور الأشجار شعرت بأنه غنيمة كبرى وفرصة لا تُفَوّت... وهو يتابع نضاله وأمام عينيه المتعبتين يطفو وبر جسده الأبيض على سطح المياه المجلّدة وتحت بصمات أصابع رجليه يلوّن الهدوء الحصى، من مبادئ الثقافة المختلفة...وصل الى الهدف الأعلى، تمركز وبعناد في وجه فم النبع، سبحت يده اليمنى في الزلزال المائيّ الذي يتدفق من بين أعمدة الحديد المتآكلة صدأً. زارته سمكة بطول ذراعيه. حاول التقاطها فأطبقت أسنانها على أصابع يده الطريّة. صرخ فرحاً وسحبها بكوعه المستقيم وقدّمها لنا مع باقة من الجرجير بلونه الأخضر المختلف وطعمه الخروبي الحادّ...المجوسي نباتي... ترك الجميع ليبحث عن نباتاته في الطبيعة وتحديداً تحت ترابها... في هذه اللحظة علت من بين ضلوعنا صفارة إنذار انتهاء الخمر، فغرف مياهاً مذوّبة في الثلج بين كفيه العريضين، من فم طوفان النبع مباشرةً، وحوّلها خمراً وسقى المجموعة بالتساوي، وازدهرت حالتنا الجسدية وطافت الخوابي أملاً بالخلاص الحتمي...بالقرب من أطراف أسوار مغارة في وسط الجبل، اشتمّت أسماك الجهل رائحة جسد غريب يفلح أعماق المياه بلغة جديدة مغايرة للغات التقليدية. سارعت الأسماك وانقضّت عليه، فالتفّتْ حول كاحليه، واختار واحدةً أقل طولاً من سابقاتها ورفعها باتجاه السماء الملبّدة كرهاً للطبيعة، وشواها على بخار ضباب رطوبة المياه وأطعم الجميع، وبالتساوي كذلك...ومنذ تلك اللحظة طُلِيَت جدران أكواخ القرية وثمار أشجارها بألوان سعادة التغيير، وحاصرت الجهلة فيها، فسارع حمامهم الأعرج ليستحم بالمياه المقدسة...فجأة، تغيّر المناخ وبدأت تمطر ثلجاً بحجم البرتقال مصحوباً بسنابل نارية مدفونة بين غبار المطر ورائحة شتاء التربة. أخذت الدوائر تتدحرج حتى امتدت نيران المياه الى جسد المجوسي، وهجمت بالوعة بحجم قطيع من الضباع وخنقته بين حصى النهر وتناقضات الطبيعة. رحنا نسمع ممّا بعد الأفق صراخ الوبرات، ونشتم رائحة احتراقها وكأنها غذاء لفقراء السمك الشارد في ضباب الرطوبة وفي هدير أمواج المياه...اصطفّت أعيننا تراقبه بخوف عتيق وهو في طريقه الى الإنسانية. توقف فجأةً أمام شجرة صفصاف بطول جسده تقريباً، بدت وكأنها تمزّق الضباب وتعلوه... حدّق بها لساعات... محا بكاء جسده قشرتها القاسية، وأذابها قطراً ليسقي بها الأرض المُرّة. حاول مصادقتها من خلال دموعه، لكنها لم تستجب، فهوت من أعماق جذعها وقطعت المياه بعرض النهر كسدٍّ من أضخم السدود. طافت حبات البرتقال وتسلّلت الى طرقات ودكاكين القرية وزواريبها المصدّعة، ومنها الى المدينة وحجارتها المسروقة والمصطنعة، فارتبكت زحمة من المشاهدين يتسابقون لرؤية المجوسي وهو يربط عقدة شجرة الصفصاف بسلك من الحرير الناعم وينحت على مقدمتها شراعاً أحمر يشبه فراشات الليل البيضاء، وغفا عليها كنعش يجرّه باتجاه أعماق صخور سمك البحر...اخترق النعش بساتين البرتقال والزيتون والدموع تقطر منه وتسقي الأوراق اليابسة. وعلى الفور، تحوّل التراب رملاً أحمر وعلا صراخ صخر رُحى مكابس الزيتون وهي تطحن خشب الصفصاف وتحوّله فحماً ليتدفّأ عليه الآخرون... حتى أن طيور الأرض ونمله هجمت عليه وراحت تلامس رائحة النعش وتتبارك منه وتسرق فحمه كمونة للشتاء القادم... أمّا نحن فنقف كالتماثيل التي تنزف حزناً والرعب يجرّنا الى المجهول، سألنا الآلهة مئات الأسئلة، فأجابتنا الطبيعة بزلزال غيّر معالم الوطن... مات المجوسي.رأينا من بعيد حمامة تحفر برأس منقارها بين مساميرالنعش وتقطّر في داخل جيوبها بركة ثم تطير لكي تنشرها بين مجلّدات الصحف والكتب الآتية بحراً، ومن ثم على خشبة المسارح الحضارية بلغتها الأكاديمية... اصطفّت الحشود وتكدّست كجبال حبوب الزيتون، وضاعت الحيوانات بين البشر واختلطت الروائح ببعضها البعض على ضفاف النهر وركعت المجاميع بعد ذلك، وهي ترتّل ترانيم الخلاص... والآلهة خارج الحياة... لأنهم اعتنقوا الجمود المطلق...غطست الشمس في أعماق النبع، وأشعل الرماد النار من نفط جسد المجوسي، وبنى القمر كوخاً تحت رماد المياه المتسارعة باتجاه جلالة المقبرة... علت الترانيم وجعاً برتبة "قاسية جداً" وتحوّلت مياه الينابيع الى طعم مالح المرورة. احترق ما تبّقى من شجرة الصفصاف تحت ثلج المطر، وتحوّل رمادها وحلاً بلون الموت القاطم...بقي المجوسي وحيداً متمسّكاً بقوة بسلك الحرير، يبحث عن طعامٍ لنا وللآخرين...خذ وقتك بالبحث يا رفيقي.. ولكن أعِد لنا الصورة التذكارية لأننا بحاجة أن نرى حقيقة أنفسنا من دونك...أريد أن أخبرك بأن حجر الطاحون الذي يزن أطناناً استغلّ غيابك وتدحرج خبثاً وتسمّر بقوة على باب الطاحونة، وبقيت ملابسنا في الداخل ونحن عراة نراقب مسيرتك وسيرتك الذاتية، والحرارة تحت الصفر، صقيع لم تشهد مثله البشرية صقيعاً، ولا أحد غيرك يستطيع طحن هذه الصخرة.... رجاءً افتح لنا نافذة صغيرة لكي نسرق ثيابنا خوفاً من الموت برداً... وبعد ذلك ارحل حيثما شئت... أنت ترقص دفءً تحت التراب بينما تتجمّد أجسادنا بحركة بطيئة ونحن نغنّي برداً في الحياة، غريب أنت أيها المجوسي... كاسك....وتنهّدت أجراس الكنائس لتقرأ حدث تاريخ الولادة الحقيقية للإنسان... وتوزعت أعضاء الأوركسترا بين أغصان وحبوب الوطن لتسجّل سمفونية نشيد المجوسي أنطوان حرب. واحترقت الغيوم، وذابت خارج الحرية....ملاحظة: توفّي المجوسي أنطوان حرب في 24ـ12ـ 2013 أي بعد سبعين ساعة من مشاركته في وليمة سيمبوزيوم المسرح الآخر على ضفاف نهر رشعين، برفقة انطوان كرباج، نهيد درجاني، نعمة بدوي، حسام الصباح، رفيق علي أحمد، اسكندر حبش وطلال درجاني.
ازدهرت في الفترة الاخيرة ظاهرة لجوء المستهلك لطلب السلع الالكترونية من الخارج، والحافز لنمو هذه الظاهرة: فارق الاسعار الشاسع. بعض المستهلكين يقولون انهم يوفرون مبالغ طائلة عند شراء اي سلعة، حتى بعد احتساب كلفة النقل او البريد. ويوضح الخبير الاقتصادي كمال حمدان ان الاسعار منفوخة في لبنان نتيجة الاحتكارسهى شمص - الاخباردرجت في الفترة الأخيرة بين اللبنانيين هواية التقاط الصور ثم تحميلها على الإنترنت وانتظار ردود الفعل عليها. من أجل ممارسة هذه الهواية يحتاج الِمصور إلى جهازين أساسيين، كاميرا رقميّة وجهاز كمبيوتر محمول، ولتسهيل الأمر أكثر انضمّ إليها الجهاز اللوحي Tablets فمثلت قائمة أصبح يحتاجها كل من يريد مواكبة التقدّم في التكنولوجيا الاستهلاكية. لكن خلف كل ذلك يبقى السؤال الذي يحيّر جميع اللبنانيين، وخاصةً الذين يخوضون هذا السباق: لماذا أسعار هذه الأجهزة في لبنان أغلى من الخارج؟ وخاصّة في دول تتمتع بمتوسط دخل اعلى بكثير من لبنان كدبي وفرنسا وأميركا؟من أمام رفوف العرض في محل لبناني، سعر الكاميرا الرقميّة Nikon D5200 مع عدسة (18-55 mm) 1298$، سعر الكمبيوتر المحمول Mac D101 1319$، بينما سعر الجهاز اللوحي Samsung Galaxy Note 10.1 N8000 699$. هذه الأسعار قد تتفاوت على نحو بسيط جداً بين المحال اللبنانيّةالمختلفة.على صفحة الإنترنت في موقع التجارة العالمي www.amazon.com، أغلى سعر للكاميرا نفسها 746$ وللكمبيوتر المحمول نفسه 1149$ وللجهاز اللوحي نفسه 492$.لنتجه غرباً إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، تحديداً إلى محل في ولاية نيويورك، تبلغ أسعار السلع الثلاث 799$ للكاميرا، 1193$ للكمبيوتر المحمول، و550$ للجهاز اللوحي، ثمّ إلى فرنسا، أسعار السلع مع مراعاة الترتيب المعتمد نفسه، 790$، 1333$ و660$، بعدها إلى الجنوب الشرقي نحو دبي 671$ للكاميرا 1115$ للكمبيوتر المحمول و457$ للجهاز اللوحي.مع مقارنة الاسعار بين لبنان من جهة، ودبي وفرنسا وأميركا من جهة أخرى، نلحظ أنّه بالنسبة إلى الكاميرا الرقميّة Nikon D5200 مع عدسة (18-55 mm) لبنان أغلى من الولايات المتحدة الأميركيّة ودبي وفرنسا بمعدّل يتجاوز الـ38%. أما بالنسبة إلى الجهاز المحمول Mac D101 فأغلى من الولايات المتحدة الأميركيّة ودبي بمعدّل تقريبي 10% وتتجاوزه فرنسا بـ14$. وأخيراً بالنسبة إلى الجهاز اللوحي Samsung Galaxy Note 10.1 N8000 فلبنان أغلى من الولايات المتحدة الأميركيّة ودبي، بمعدّل يتجاوز الـ20% وأغلى من فرنسا بـ93$.وإذا كانت حجّة الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة وغيرهما من ضرائب ورسوم حجّة معتادة لتبرير ارتفاع الأسعار في لبنان. فالأجهزة الثلاث، الكاميرا الرقميّة والكمبيوتر المحمول والجهاز اللوحي، لا تخضع لأي تعريفة جمركيّة وعليها صفر ضريبة على القيمة المضافة VAT في لبنان، بينما في الولايات المتحدة الأميركيّة تراوح ضريبتها (الضريبة على القيمة المضافة) بين 0% والـ9% حسب الولايات، وبالنسبة إلى نيويورك فتبلغ 8.875%. أما في فرنسا، فتبلغ 20%، وما من ضريبة في دبي. فإذا كانت أسعارها في فرنسا أغلى من دبي وأميركا بسبب ضريبة القيمة المضافة المرتفعة في فرنسا، فلماذا لبنان أغلى من فرنسا نفسها مع عدم وجود هذه الضريبة؟اللبناني «الذي جاب العالم»، أدرك جيّداً أنّ أسعار الإلكترونيّات في لبنان أغلى من أسعارها في دول تعد أغلى من لبنان، كالولايات المتّحدة الأميركيّة ودول أوروبا. واللبناني «الشاطر» وجد أساليب للحصول عليها من الخارج بسعر أرخص.هادي مثلاً يحب ممارسة هواية التصوير، وهذه الهواية تعد من الهوايات المكلفة نظراً إلى ارتفاع أسعار الكاميرات والعدسات والأكسسوارات المتعلّقة بها داخل لبنان. ولمواكبة العصر يجب شراء كل فترة عدسات أكثر تطوراً واستبدال الكاميرا بواحدة أحدث. لجأ هادي إلى استعمال الإنترنت لهذه الغاية، فأصبح يشتري ما يريد بسعر أرخص بكثير من لبنان، ويطلب إيصاله إلى منزل أحد أقربائه في أميركا، فينتظر عودة الأخير ليأتي بالغرض معه. يقول هادي «من خلال هذه العمليّة استطعت إحدى المرّات أن أوفّر 400$ ثمن عدستين وبعض الأكسسوارات».أمّا علي، فقد اشترى قطعة تغيير للسيّارة عبر أحد المواقع التجاريّة العالميّة ووفر أكثر من نصف السعر، وهو يمارس هواية تركيب الطائرات الكهربائيّة الصغيرة، التي تتطلّب الكثير من القطع المكلفة. ويقول «أفضّل شراء مثل هذه الأمور عن الإنترنت، لأنه حتى مع احتساب تكاليف الشحن تبقى أرخص من لبنان».لماذا إذاً على اللبناني أن يدفع أكثر ممّا تدفعه «الشعوب الغنيّة» ليلحق بركب الحداثة والتطوّر؟الإجابة بكلمة واحدة: الاحتكار. يشرح الخبير الاقتصادي كمال حمدان الحالة على نحو مفصّل، اذ إن أسواق الاستيراد في لبنان شبه احتكاريّة وبعضها يخضع للاحتكار الكلّي، فحفنة قليلة من المستوردين تتحكّم في السوق. مما يولّد شبه احتكار للعرض مع حجم طلب مرتفع. وهذا ما يؤدي إلى وجود أسعار منتفخة أكثر من «الطبيعي»، الذي من المفترض أن تكون عليه، مما يجعل المستهلك يدفع الثمن. ويوضح أنه بالنسبة إلى السلع الكهربائيّة فهي تخضع للطلب غير المرن، ومعناه أنه مهما ارتفع سعرها فلا يمكن الاستغناء عنها واستبدالها بسلعة أخرى، وخاصة بالنسبة إلى الماركات العالميّة المشهورة، التي يضطر المواطن إلى شرائها، مهما غلا ثمنها لكونه لا يمكنه استبدالها بماركات أخرى. أمّا الحل، فهو بوجود أجهزة رقابيّة على الأسعار مع إقرار مشروع قانون المنافسة، وتنفيذ قانون إلغاء الحماية عن الوكالات الحصرية، واعتماد سياسات اقتصادية ومالية تتكل على الأبحاث والدراسات لبيئة الأسواق، مع تفعيل لجان أهليّة لحماية المستهلك.تجدر الإشارة إلى أن القوانين والمراسيم اللبنانيّة استثنت فقط المواد الغذائية من حصرية التمثيل التجاري، فيما باقي المواد ومنها الالكترونية والكهربائيّة تخضع لاحتكار وكلاء حصريين، بعضهم سياسيون او يرتبطون بعلاقات نفعية مع السياسيين. وهم من منعوا حتى الآن إقرار مشروع قانون المنافسة، الذي تنقل لسنوات بين مجلس الوزراء ومجلس النوّاب، دون أخذ قرار جدّي بمناقشته، ومنعوا اقرار وتنفيذ قانون إلغاء الحماية القانونية عن الوكالات التجارية الحصرية.
أحمد زين الدين - السفيرتاريخ المقال: 31-01-2014انقضى عقد من الزمن على رحيل أحد روائيينا الكبار عبد الرحمن منيف. الروائي المترحّل في الستينيات والسبعينيات بين العديد من البلدان، والحائز أكثر من جنسية عربية، حتى ليكاد المرء يحار بين أصوله السعودية واقاماته الأردنية والعراقية والسورية واللبنانية. كاتب هو قبل ذلك خبير بترولي، كرّس حياته وقلمه للتأليف القصصي الموجّه، لقناعته بدور الأدب ووظيفته في كشف عيوب الواقع العربي، وكشف ما يعتور مجتمعاتنا من ضعف وشذوذ، والإسهام في زيادة الوعي والمعرفة والحساسية لدى الإنسان في بلادنا. الوعي الذي هو مفتاح لكل تقدم وتطور ورقي. والناس، على ما يقول في حواراته: يستطيعون تغيير واقعهم عندما يكونون أكثر وعياً.انفردت روايات عبد الرحمن منيف بالتركيز على العوامل الذاتية لتخلف العرب، وعلى التعرية الداخلية لفساد الحكام وجهل المحكومين. المنظور الروائي لديه هو الإضاءة بالدرجة الأولى على المعطيات السياسية، والرواية جزء من آلية الإيديولوجيا. أداة نقدية ووسيلة تعبير أقدر من غيرها على رصد عناصر الحياة العربية وتحوّلاتها وتناقضاتها ومفارقاتها.روايته تزدحم عادة بالثيمات والمفردات التي تعبّر عن الفضاء السياسي السلبي الذي يتحرك في ظله أبطالها. من الشعور بالهزيمة والاستلاب، إلى الحنق، والوعي الشقي، والذكورة المخصية، والعوالم الكابوسية. إلى الإحساس باللاجدوى والعدمية، كما نلمس ذلك في روايته "شرق المتوسط": "سأشد السيفون في المرحاض، وأترك كل شيء يُسحب إلى تحت: أفكاري الفلسفية، أحلامي، ماضيَّ، اسمي ، كل شيء، نعم كل شيء".ربما كان الانطباع الأولي الذي يتولّد من قراءة عبد الرحمن منيف، انه اقتصر في كتاباته على استهداف الطبقة العربية الحاكمة، بسبب ممارساتها التعسفية والدموية وجشعها وظلمها. لكن الواقع ان عباراته وأوصافه تدل على رفضه ايضاً إذعان المحكومين لمصيرهم، واستسلامهم لقدرهم وتخاذلهم. عباراته تصدمنا بقسوتها، وهو يصف جلبة هؤلاء بأنها "أشبه ما تكون بأصوات جراء مخنوقة. أما الأيدي بحركتها البلهاء، فقد بدت كالخرق البالية تهزها ريح لا تُرى. والوجوه، آه لشدة ما كانت تعاسة الوجوه، عيون صماء ثقيلة، أفواه مطاطية تشبه فُروج الحيوانات بحركتها المتشنجة" (من الرواية ذاتها).رواياته ذات المخيلة المسيسة تهدف في وسط تعددية أسلوبية، إلى نقد السلطة المحلية المتحالفة مع الخارج، بقدر ما تهدف إلى نقد الحرمان الجنسي، والتفكير الغيبي. وتحاول أساساً اكتشاف خلفية القهر والاستغلال التي أوجدها بريق التحديث المزيف، والتحوّلات الاقتصادية المرتبطة بنشوء طبقة هجينة طفيلية.الأرض اليبابيدين عبد الرحمن منيف طبيعة حياة العرب، وطبيعة الحكام الذين يبنون "ممالك صغيرة متجاورة ومتراصة، مثل مراحيض المقاهي والفنادق". ومنذ أولى رواياته "الأشجار واغتيال مرزوق" سنة 1973، تتمظهر الحياة الحضارية المتردية، والتهافت السياسي العربي المتمثّل بعيون الشرطة والمخبرين، عبر مطاردة منصور عبد السلام أستاذ التاريخ المفصول من جامعته لأسباب سياسية. وباغتيال مرزوق الذي يتماهى مع أشجار حقله، تُجدب الأرض، ويُقتل نسغ الحياة في كل مكان.وفي "شرق المتوسط" التي طُبعت أربعة عشرة مرة، يخاطب البطل المناضل رجب اسماعيل الذي خرج من السجن الفرنسيين: "لو جئتم بكتبكم إلى شاطئ المتوسط الشرقي لقضيتم حياتكم كلها في السجون".وتتضافر قسوة الحكام مع قسوة الطبيعة في روايته "النهايات" التي تتحدث عن القحط واليباب، وزوال الأشياء، وانقراض الدواب والأشجار والبشر. ويموت فيها بطلها عساف شيخ الصيادين. رواية يدل عنوانها على النهايات التي ستواجه العالم العربي.ويقابل البريطانيون الأميركيين في "سباق المسافات الطويلة" عام 1977 للإستيلاء على ثروات الشرق النفطية، من خلال تأميم صناعة النفط أيام حكومة مصدق في ايران. وهي الرواية الأولى التي تتناول موضوع النفط، ودوره في التحوّلات الإقتصادية والإجتماعية، وتبدّل نمط العلاقات بين الناس، وهو الموضوع الذي سيتوّج بعد ذلك ملحمة منيف الخماسية "مدن الملح" عام 1984.ما انفك عبد الرحمن منيف يرى في كتاباته وموضوعاته الروائية مهمة نضالية ندب نفسه لها، وعملاً سياسياً يوازي العمل الحزبي الذي مارسه، ولم يفلح فيه، بقدر ما ظلت عينه على الفن الروائي الذي تميّز فيه بموهبة سخّرها لوضع القضية التي أراد أن ينافح عنها في إطار أدبي وجمالي خلاب. والغريب أن الكاتب الذي دوّن الآف الصفحات، طمس ما تفيض به ذاته من عواطف شخصية، ومن مشاعر العشق والهوى. كان متبتلاً في محراب الرواية الملتزمة بمعاناة المجتمع العربي. حتى عندما تحدث عن موضوع الحب، كما في روايته "قصة حب مجوسية" التي تتقد بحب رومانسي لا يذوي مثل نار المجوس. كان الهاجس السياسي يتعقبه، وكان البُعد السياسي سبباً في اخفاق زواج الراوي بليليان الأجنبية، لأن بين الإثنين فارقاً حضارياً وسياسياً، يتمثل في الفرق بين الشرق والغرب.وآخر ما كتبه منيف ثلاثية "أرض السواد" 1999. وهي رواية تاريخية عن فترة حكم داود باشا في العراق. والثلاثية تروي صعود الباشا الإصلاحي، وتصديه للمندوب البريطاني في العراق "كلاوديوس ريتش". وربما أوحت له إقامته في العراق بالرغبة في كتابة هذه الرواية الضخمة. وهو الرجل التي لم يفرق في حياته بين بلد عربي وآخر.الذات النقيةلكن ما فتئت "مدن الملح" بأجزائها الخمسة: "التيه ـ الأخدود ـ تقاسيم الليل والنهار ـ المنبت ـ بادية الظلمات" ذروة كتاباته الروائية التي ذاعت في كل مكان، لا سيما أن موضوعها الروائي وانعكاساته الاجتماعية والثقافية والسياسية ألمّ بها منيف إلماماً عميقاً بحكم اختصاصه بهندسة النفط من جهة، وديناميته القصصية من جهة أخرى. ويرى بعض النقاد ممن درسوا عناوين رواياته، ان عنوان"مدن الملح" ذو دلالة عميقة تؤشر إلى مصير هذه المدن التي أقيمت في صحراء الجزيرة العربية، والمحكومة بالذوبان والتلاشي بعد نضوب النفط. ووصفها البعض بأنها مدن هشة لا تصمد أمام رذاذ الماء. والأرض المالحة لا تنبت زرعاً، والماء المالح لا يصلح للشرب أو الريّ. "النص الموازي لمحمد دريدي".والوقوف عند هذه الرواية من المحطات الأساسية لفهم سيرورة البناء السردي لدى عبد الرحمن منيف. الرواية تُبرز الاحتقان الشعبي المحتبس في زنازين الخوف والسلطوية والإستغلال. وهي تنسج فضاءها عبر إعادة تركيب الوقائع الجديدة اقتصادياً واجتماعياً والمتزامنة مع استخراج النفط، في لحظة انقلابية في العلاقات الداخلية، والتقائها بقوى وأنماط خارجية. لحظة لم تحلّ لتشهد مجد الإنسان، بقدر ما حاولت تحطيمه واقتلاعه من جذوره وعفويته، لصالح ارتقاء طبقة طفيلية مستغلة، وازدياد آلية القمع لضبط ايقاع الأعمال والمحافظة على استمرارية الإنتاج. ولكن هذا الحدث وما أعقبه من تطورات عمّق الفوارق بين العالم التكنولوجي الوافد والعالم الأسطوري المقيم. وعملية التنقيب في منطقة صحراوية، طرحت اعادة صياغة المعادلة بين القوي والضعيف، بين الواقع والوهمي. وباكتشاف النفط لم تبق حران ملكاً لأحد، أو مدينة لأحد. لم يبق الناس أيضاً كما هم، فانقلبت أحوالهم وتبدّلت مصائرهم. والإنتقال الإفتراضي من البداوة إلى الحضارة كان مخاضاً شاقاً شهدت عليه رواية عبد الرحمن منيف، وكان انتقالاً متعدد الوجوه ومتعرجاً ومتداخلاً.البدو المشبعون بالذهنية السحرية الدينية ساورتهم الشكوك والمخاوف والأوهام "من أصحاب العيون الزرق والأسنان الفرق" ومن أمور غامضة يحضّر لها هؤلاء. وفسروا الوقائع والأحداث التي طرأت عليهم تفسيرات سحرية، فموت مربان ليس غرقاً، إنما قُتل بالسحر، وابن راشد وضع نهاية لحياته، مذ وضع يده في أيدي الأميركيين، والأجنبي يجلب معه دوماً ريحاً شريرة. وسائر الأميركيين عفاريت أو كفار أو جن، كذلك يشكل متعب الضمير القلق لأهل وادي العيون، تستبد به الوساوس، وينذر بدمار يتربص بالجميع، ويمتلئ إحساساً قوياً بالنهاية، وما إن تبدأ الآلات حركتها حتى يصرخ صرخة ثاقبة موجعة إيذاناً ملعوناً بالنهاية.هذه الإيديولوجية السحرية المعادية كبحت جماح الإصلاحات البنيوية الفكرية العميقة التي كان من المفترض ان تُحدثها عمليات التنقيب. والمنقب الأميركي ظل يتفحص العربي من حوله، يستجوبه، يصوره في أعراسه وأفراحه ومآدبه، يرصد حركاته، يسجّل صوته، يتصرف معه كما يتصرف العالِم في مختبره مع كائناته وحيواناته .لم يبق للعمال العرب الذين انخرطوا في التنقيب، وعانوا من بؤس العلاقات البيروقراطية إلا الغناء. إلا صوت صويلح العذب الذي يحرّك الأشواق الثاوية في قلوب الرجال، يفجر المكبوت، ويغني أياماً ماضية وحياة توشك أن تنتهي. متعب يعيش زمنه المتماثل بذاته، زمن اللاتغير واللاصيرورة. إنه مرآة الذات النقية التي لم يعكر صفوها دخيل. متعب يملأ فضاء الجزء الأول الضخم من الرواية "التيه" بوعيه الماضوي اللاتاريخي، الرافض لمجيء الغرب الأميركي. يبقى على هويته القائمة والماثلة على الدوام. وإذا كان عبد الرحمن منيف يمتح من معطيات ووقائع موثوقة وثابتة يعرفها عن كثب بحكم خبرته النفطية، إلا انه يعيد تأسيس الأحداث او تركيبها او تعديلها بوطأة الوظيفة الإيديولوجية التي ينيطها بالعمل الروائي، حيث يختلف الفضاء التاريخي، عن الفضاء الروائي الذي يُعاد بناؤه في ضوء المنظور السياسي والإيديولوجي للكاتب.
كتابة معازف
خلال مظاهرة في شمال كارولاينا ضد شركة تبغ أميركيّة عام 1946، وقفت امرأة سوداء وغنّت: "سنتغّلب عليهم، يوماً ما"، والتي يعود أصلها إلى ترتيلة كنائس الأفارقة في أميركا بثمانينيّات القرن التاسع عشر، ومن ثم في اجتماعات عمّال مناجم الفحم في ألاباما. انبثقت من المناجم والكنائس في ذلك اليوم، لتصل إلى أذني المغني بيت سيغر (1919- 2014)، والذي قام بإعادة توزيعها وتسجيلها. بعد ذلك الحدث بأربعة عشر عاماً، بدأت الأغنية بالانتشار بين الطلاب والعمّال والمناضلين ضد العبوديّة لتصبح نشيد الحراك في سنوات الستينّيات في الولايات المتحدة. وبعد ذلك بعقدين لنشيد النضال ضد نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا ومن ثم لنضالات أخرى في العالم.
لم تنحصر آراء سيغر، والذي لقب بـ"صوت اليسار"، بغناء أغانٍ شعبيّة ثوريّة فقط، بل تجذّرت في مواقفه السياسيّة من العديد من القضايا والتي استمر بالكفاح من أجلها حتى بعدما تخطّى عامه الـ90. ففي أشهر الخريف قبل عامين، شارك سيغر في مظاهرات "احتلال وول-ستريت" في نيويورك. وفي الخريف الأخير، كتب سيغر رسالة للرئيس الروسي، بوتن، يطالب فيها تحرير الناشط البيئي بيتر ويلوكس. على مدار السنين دفع سيغر ثمن آرائه ونشاطه "الأحمر"، حيث وضع في الخمسينيّات أثناء الفترة المكارثيّة في القائمة السوداء للتلفاز التجاري ومنع من الغناء في قاعات مختلفة وفي الجامعات، كما وحكم عليه عام 1961 بالسجن لعشرة أعوام بالإضافة لمنعه من السفر، والذي، لحظّه، تم إلغاؤه في استئناف قدّمه عام 1962.
في الأمس (27 كانون الثاني/ يناير 2014)، توفّي سيغر وهو في الـ94 من عمره. ورغم سيرته المناضلة، إلا أنّه اعترف في إحدى أواخر مقابلاته مع الغارديان البريطانيّة: بأنّه لا يزال "شيوعيّاً فاشلاً". إذ أن سيغر كان محسوباً، آيدولوجيّاً، على الشيوعيّة. ولم يتّخذ مواقف واضحة ضد النموذج الشيوعيّ الستالينيّ حتى العام 1982 عندا أحيا حفلاً خيريّاً عادت عائداته لحركة التضامن الشعبيّة البولنديّة التي كانت تخوض مظاهرات ضد الحكم الشيوعي هناك. هذا التململ في الموقف من الشيوعيّة وصل به إلى أن يكون Pacifist- ناشط ضد الحرب والعنف. كما هي أغانيه التي كانت تعتبر يوماً ما جزءاً من ثورة مدنيّة، وتكاد توصف اليوم بأغانٍ مسالمة من الأرشيف غنّاها متضامن مع المضطهدين.
قضية تلو أخرى تظهر مدى عجز النظام وعقمه، فيظهر تعطل الدولة ومدى تناقض المصالح التي تحكمها مع الأغلبية الساحقة من المواطنين إلى حد الاستهتار بهم وبوجودهم. تأتي قضية مطمر الناعمة اليوم، قضية انسانية، صحية وبيئية، إلى جانب قضايا الفساد الأخرى، لكي تعبر عن مدى فقدان السلطة القائمة لاي إمكانية للاستمرار بالنهج الذي تمثله. نهج الربح والفساد وارتهان الدولة كمؤسسات، ومعها اغلب الناس، لمصالح الفئة الضيقة من أصحاب الشركات التي تتكامل مع مصالح من هم في هذه السلطة. فإقفال منعطف واحد بسيارتين وبضع خيم، على طريقه، من قبل مجموعة قليلة من المواطنين المبادرين اظهر عري هذا النظام وعجزه. وأظهر ان "صحة" شركة سوكلين وسلامة ملياراتها هي وباقي شركات النفايات، هو المعيار وليس صحة المواطنين المتضررين من وجود هذا المطمر (البؤرة للتلوث والنهب). والمطلوب الشروع باقفال المطمر نهائيا والعمل على فرز النفايات بشكل علمي مناسب واستغلالها كما يجب( للسماد واعادة التصنيع..). واعادة احياء المشروع الذي كان ينبغي إقراره لتفادي ما يحصل حالياً، والقابع في المجلس النيابي منذ 3 سنوات. وكسر احتكار سوكلين وغيرها لملف النفايات من خلال عقودها الجائرة, وان يكون من مهام الدولة وتحديدا البلديات, ما يخفض التكلفة التي هي الان الاغلى في العالم, لمعالجة طن النفايات,اضافة للنتائج الصحية والبيئية. القضية تظهر غياب اي سياسة واضحة وعلمية لإدارة اي من قضايا المجتمع، ولن تكون هكذا سياسة الا بتغيير شبكة المصالح السائدة لصالح أغلبية الشعب. مجموعة من الشباب والأهالي تصدوا لملف النفايات، ونجحوا بتحويله الى قضية وطن. فكيف بفئات اوسع من الناس، تؤمن بمصالحها وتتحرك .لاجلها، ستصبح قادرة على بناء وطن يحقق لهم قيمتهم.
اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني بيروت - 22\1\2014.
Top of Form
Bottom of Form
بيان صادر عن اتحاد الشباب الديموقراطي اللبنانيموقعة جديدة؛ العمال المياومون في وجه الدولة المترهلة وسياسات الخصخصة، في وجه الشركات الرأسمالية المنتفعة والقرارات التعسفية، في وجه فاقدي الثقة بجدوى الحراك وملتزمي الصمت.يثبت اليوم العمال المياومون وجباة الإكراء في مؤسسة كهرباء لبنان انهم يشكلون امتدادا للحركة العمالية الواعية المستندة إلى حقوقها النقابية في التأطر والدفاع مجتمعة عن حقوق أفرادها من ديمومة العمل إلى الأجر العادل.شكل اليوم العمال بتحركهم واجسادهم "الظهر" لزملائهم الموقوفين تعسفا عن العمل ممن "لا ظهر سياسي طائفي لهم" مدركين أنهم في الموقع نفسه من الشركات مقدمة الخدمات والتي تنتظر الاستفادة من ضعف الدولة وارتباطها بمصالحهم ومن جهد العمال.نحن في اتحاد الشباب الديمقراطي نعلن انحيازنا الى جانب العمال وأننا سنساندهم في حراكهم الواعي وألمحق ونعلن أننا جزء من معركة التصدي للسلطة المتهاوية ولسياسة الخصخصة وللشركات الناهبة لما تبقى من انتاجنا الوطني.كما ندعو كافة القوى المتضررة للتوحد في اطر نقابية لرفع الصوت وتصعيد الهجوم على القوى السلطوية.
سعدى علوه - السفير عادت قضية المواطنة رلى يعقوب، التي ادعت عائلتها على زوجها كرم البازي بالتسبب بوفاتها خلال شهر تموز الماضي، إلى الواجهة، إثر صدور القرار الظني عن قاضي التحقيق في الشمال آلاء الخطيب، والذي تلته مطالعة النيابة العامة في الشمال، مانعة المحاكمة عن المتهم البازي، وإطلاق سراحه فوراً. عليه، تعقد «منظمة كفى عنفاً واستغلالاً» عند الثانية عشرة والنصف من ظهر اليوم مؤتمراً صحافياً تحت عنوان «كي لا يبقى موتها لغزاً» في مقرها في بيروت، مستعينة بمستندات نشرتها بعض وسائل الإعلام. وتؤكد المستندات، وفق الدعوة التي وجهتها «كفى» وجود إهمال في الإجراءات الطبية، سواء كان هذا الإهمال قصدياً أو غير قصدي». وطرحت «التساؤلات عما خَلُص إليه القرار الظنّي من إطلاق سراح المدعى عليه (الزوج) ومنع محاكمته. وعليه تعتبر عائلة رلى و«كفى» أن قضيتها لن تموت بسبب الإجراءات الطبية التي «لم تكن على المستوى العلمي المرتجى، وبسبب إهمال إجراءات أخرى كان يجب اتخاذها في حينه». لكن ما هي هذه المستندات التي حصلت «السفير» عليها؟ وماذا تتضمن؟ شكل تقرير الأطباء الشرعيين الأربعة الذين كشفوا على جثة رلى عند نقلها إلى المستشفى، ركيزة أساسية في القرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق. وأثبتت هذه التقارير، بعد الكشف على الجثة، «وجود كدمات رضية بنفسجية اللون ومتعددة الأشكال على ظاهر اليد اليمنى والساعد والزند الأيمن وتحت الإبط الأيمن من الخلف من جراء الضرب بأدوات صلبة. ويوجد شحذ رضي بطول 6 سنتمترات انحنائي في الكتف اليمنى من الجهة الجانبية من جراء ضرب أو تصادم مع جسم صلب محدد الطرف». وأثبتت التقارير أيضاً «وجود ضغط أصابع على الجانب الداخلي من الزندين مع رضوض في الخاصرة اليمنى». وخلص الأطباء الشرعيون إلى أن هذه الآثار «قديمة العهد لأكثر من 48 ساعة وناتجة من ضرب وعنف بأدوات صلبة وباليد، وهي ليست مميتة ولا تؤدي إلى الوفاة». وقالوا: «أما النزف الدماغي الحاد المنتشر في وسط الدماغ بالكامل بحسب التصوير الطبقي المحوري، وبحسب اختصاصيين في جراحة الدماغ، فناتج من نزف وعائي دموي في أم الدم (Anevrysme)، وهو مرض وتشوه خلقي في الأوعية الدموية، ما أدى إلى الوفاة». وأفادوا أنه «لا يوجد آثار عنف على كامل فروة الرأس وكذلك لا يوجد أي كسور عظمية في الجمجمة، وأن الوفاة طبيعية ومرضية». وكان طبيبان من الأطباء الشرعيين الأربعة قد خلصا بعد تشريح فروة الرأس، إلى «أن التشريح لم يظهر علامات رضية عند العضلات الصدغية المدارية، كما لم يظهر وجود أية كسور في الصفحة الخارجية لعظام الرقبة». وأشار القرار الظني إلى أن الطبيبان قدرا ان «الوفاة ناتجة من انفجار أم الدم الشريانية في الدماغ ما أدى إلى نزف دماغي حاد متسع عنكبوتي سبّب الوفاة». ويسرد القرار الظني مجريات التحقيق والشهود التي اعتمد عليها قاضي التحقيق قي قراره الظني، ومنها شهادة ابنتي رلى المولودتين في 2001 و2002 واللتين أكدتا، وفق القرار، عدم تعرض والدتهما للضرب على يد والدهما في ذلك النهار، بل إنه قام بذلك «قبل نحو ثلاثة أيام»، وأن والدتهما سقطت أرضاً أثناء خروجها من غرفة نومها ودخولها عرفة الجلوس، وبعض الشهود. وبغض النظر عن هذه التحقيقات، يمكن التوقف عند تقارير لجنتي التحقيق اللتين شكلتا في نقابتي أطباء بيروت وطرابلس، بطلب من قاضي التحقيق بتاريخ 26/7/2013. وبعدما طلبت لجنة نقابة أطباء بيروت إجراء تصوير تشريحي ثلاثي الأبعاد على جهاز تصويري لكامل الجسم كون ذلك يسهل كشف وجود كسور متعددة الأعمار في مختلف أجزاء الجسد وخصوصاً لفقرات الرقبة. ويشير القاضي في القرار الظني إلى أن لجنتي أطباء بيروت وطرابلس خلصتا إلى أنه «لم يتبين من الفحوصات والصور الشعاعية والطبقية المحورية التي اطلعت عليها اللجنة وجود أي آثار لأذية عظمية قبل الوفاة بما في ذلك كسور أو (LUXATION)». عليه، خلص قاضي التحقيق في القرار الظني ووفقاً لمطالعة النيابة العامة، الى «منع المحاكمة عن المدعى عليه كرم البازي وإطلاق سراحه فوراً ما لم يكن موقوفاً لداع آخر». لكن، ماذا عن بقية مضامين تقريري لجنتي الأطباء في بيروت وطرابلس والتي تستند اليهما العائلة و«كفى» لمتابعة القضية؟ لجنة أطباء بيروت أفادت لجنة نقابة أطباء بيروت في تقريرها بتاريخ 20 أب 2013، بأنه تبين لها أن «التشريح لم يتضمن سوى سلخ فروة الرأس دون الدماغ والرقبة الضروري لمقاربة الموضوع بصورة علمية ومحاولة تحديد سبب النزف الدماغي بصورة أدق، مع الإشارة إلى أن الصورة الطبقية المقطعية للرأس تظهر أن النزف الدماغي بمعظمه هو في الجزء السفلي من الدماغ، وهذا ما يـــناقض مبدئياً النزف الناتج عن انفجـار أم الدم والذي يتأتى عادة في الجزء العلوي من الدماغ». وتناقض هذه الخلاصة ما ورد في تقرير الأطباء الشرعيين. وأكدت اللجنة أنه كان من الضروري تشريح الرقبة «لأنه من المتعارف عليه علمياً أن الرضوض والكدمات على الجزء العلوي من الرقبة قد تؤدي إلى نزف دماغي على شاكلة ما رأته اللجنة في الصور الطبقية المحورية في هذه الحالة». وطبعاً لم يتم تشريح الرقبة ولا الدماغ. وأشارت اللجنة إلى أنه بعد اطلاعها على الصور المقطعية للدماغ (التي أجريت لرلى عند وفاتها) «لم تجد أي دليل على وجود ما يسمى شريان أم الدم (الذي حدده الأطباء الشرعيون سبباً للوفاة)، لافتة إلى أن النزف في الدماغ يمكن أن يحصل من دون وجود مسبق لما يسمى شريان أم الدم، أي ان حصول النزف غير مرتبط بالضرورة بوجود شريان أم الدم في الدماغ. وقالت اللجنة إنه «من المعروف علمياً أن السبب الأول للنزف السحاتي كما هو في هذه الحالة مرتبط بحصول رضوض وكدمات» (وهي ما ينتج من العنف). وأوضح مصدر طبي لـ«السفير» أن الأطباء أوضحوا للقاضي أن الكدمات لا تظهر على جسد الشخص الذي تعرض للعنف فوراً وإنما بعد مرور 24 إلى 48 ساعة على تعرضه للعنف. وهذا ما يفسر عدم وجود كدمات حديثة ومباشرة على جسد رلى في حال كانت قد تعرضت للعنف قبل وفاتها مباشرة. لجنة أطباء طرابلس أما لجنة نقابة الأطباء في طرابلس فقد رأت أنه «يمكن حصول النزف نتيجة أي ارتجاج دماغي قد يحصل قبل الوفاة، وكذلك لا يمكن تأكيد الوفاة كونها مرضية أو عنفية إلا بتشريح كامل للجثة بما فيها الدماغ في حينها، وبما أن ذلك لم يحصل فلا يمكننا الجزم علمياً وبشكل يقيني بسبب الوفاة». وأشارت اللجنة إلى أن «الإجراءات الطبية التي اتخذت لا ترقى إلى المستوى العلمي والمرتجى»، وأن الارتجاج في الرأس يمكنه التسبب بنزف سحاتي خلال ساعات وتورم في الدماغ، ما يؤدي إلى الوفاة، لكن في حالتنا هذه لا يمكننا التأكيد أو النفي، لذا من المستحسن الاطلاع على ملف رلى الطبي إذا وجد». وأكدت اللجنة أنه «من أحد أسباب النزف الدماغي قد يكون انفجار جدار أم الدم الناجم عن ارتفاع شديد في الضغط الشرياني أو أثناء جهد كالحمام أو التغوط أو العمل الجنسي أو الانحناء لرفع شيء ثقيل، لذلك فإن أي تعرض عنفي سابق على المجني عليها قد يكون حرض النزف المرضي بشكل غير مباشر». مع الإشارة إلى أنها «احتمالات علمية واردة طبياً لكن لا يمكننا تأكيدها أو نفيها». وشددت اللجنة على أنه كان من المطلوب علمياً في هذه الحالة أن «يتم تشريح كامل للجثة في حينه»، وسألت: «لماذا لم يتم نقل الجثة إلى مدينة أخرى لإجراء ما يقتضيه العلم». وختمت اللجنة إلى أن التشريح بعد أكثر من شهرين على الوفاة «لن يسفر عن أي نتيجة حيث لا يمكن تأكيد أو نفي وجود نزف شريان أم الدم بسبب التحلل الذاتي للأنسجة». واللافت أن لجنة بيروت قد أشارت إلى أن الأطباء الشرعيين الأربعة الذين اعدوا التقارير في الشمال قد تمنعوا عن الحضور أمام لجنة التحقيقات المهنية بالرغم من استئذان نقيبي الأطباء في بيروت والشمال لاستدعائهم. أما عضو لجنة طرابلس الدكتور عمر دبليز فقد تحفظ لجهة أنه «كان في الإمكان أن تتخذ إجراءات أفضل من تلك التي اتخذت، ولأن التقرير لم يذكر أن المتوفاة قد تعرضت لعنف جسدي خلال 48 و72 ساعة وثلاثة أسابيع قبل حصول الوفاة بناء على ما ورد في تقارير الأطباء الشرعيين».
صاغية: القاضي يؤدي دور الحكم وليس الظن
تعقيباً على القرار الظني، والنقاش الدائر في شأن قضية الراحلة رلى يعقوب أوضح المحامي نزار صاغية أن «قاضي التحقيق أدى دور قاضي الحكم وبحث عن يقين، فيما هو قاضي ظن». وأشار إلى أنه «كان أكثر تأثراً بأدلة الدفاع فيما أهمل أدلة الاتهام الموجودة في القرار، وفي تقارير أطباء نقابتي بيروت وطرابلس». أضاف: «هناك أدلة وإن كانت لا تجزم، وإنما هي موجودة». وعليه يسأل صاغية: «لماذا إهمال كل الأدلة التي من شأنها أن تقود التحقيق إلى نتائج مخالفة، إذ إنه من الثابت وجود كدمات رضية وبنفسجية على جسد رلى، والثابت من الشهود أنها كانت تتعرض للضرب باستمرار؟». ورأى أنه «من اللافت جداً أن النيابة العامة التي تتولى الإدعاء العام عامة، وغالباً ما تتمسك بأي إثبات للإدعاء، طلبت منع المحاكمة عن المتهم كرم البازي، وهذا أمر يخالف ما تقوم به النيابة العامة مع الأشخاص الآخرين، وكأنما تقدير الإثبات ومدى قُوَّتِه باتا وقفاً على مدى نفوذ المشتبه به». ويعطي مثالاً على ذلك بالقول: «يكفي الإطلاع على كيفية استسهال النيابة العامة الإدعاء على عاملات المنازل وعلى مجمل الأشخاص الذين يعانون من تهميش وغبن اجتماعي، على أساس أضعف الأدلة التي تقتصر أحياناً على قول المدعي أو مجرد كتاب معلومات من مخبر أمني». وبهذا المعنى تصرفت النيابة العامة، وفق صاغية، «كقاضي التحقيق، واتخذ كلاهما قراراً بأنهما لا يدعيان أو يظنان إلا في حال اليقين، وهذا ما يخالف جميع ما درجت عليه النيابات العامة وقضاة التحقيق، حيث يكتفى عادة بإثباتات حتى ولو لم تكن جازمة، ويترك الحكم لمحكمة الجنايات». ورأى صاغية أن «هذا الأمر يأخذ بعداً أكبر في قضية كهذه تحولت إلى قضية رأي عام وإلى قضية رمزية حيث هناك أهمية كبرى ليتم تمحيص الأدلة والتدقيق فيها بعمق وتمكين فريق الضحية من البحث عن أدلة إلى جانب النيابة العامة وتحت رقابة الصحافة والإعلام، إلا أن هذا لم يتح في قضية أريد لها أن تبقى سرية
أياً تكن النتائج التي أفضى إليها التحرك الأهلي لإقفال مطمر الناعمة (أنور عقل ضو وأحمد منصور)، يكفي أنه أعاد إلى الواجهة مشكلة النفايات الصلبة في لبنان، وضرورة مقاربتها علمياً بخطة وطنية تقوم على تعزيز ثقافة الفرز من المصدر، وإن جاء التحرك في التوقيت الخطأ مع عدم وجود حكومة قادرة على التعاطي مع ملفات كبيرة. إلا أن بعض القيمين على الاعتصام أكدوا أن «الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ التسعينيات لم تتخطَّ في عملها مفهوم تصريف الأعمال وتقاسم المغانم وتوزيع الالتزامات بالتراضي»، فضلاً عن أنهم يشددون على أن تحركهم كان محكوماً بموعد إقفال المطمر في 17-1-2014، وليس كما أشارت لجنة البيئة النيابية من أن «التمديد تمّ في العام 2011 لغاية 17/1/2015».لكن في المقابل، لم يقرأ القيمون على الاعتصام جيداً أن ثمة سقوفاً لأي تحرك، ما أفضى صباح أمس، إلى قمع المعتصمين، في خطوة طرحت قضية الحريات العامة خصوصاً بعد اعتقال الدكتور أجود العياش فيما كان يحتسي القهوة صباحاً في دارة مختار الناعمة مارون يزبك الذي يقع منزله على طريق المطمر، حيث يتجمع المعتصمون عادة قبيل الانطلاق الى الموقع، حيث نصبت الخيم، خصوصاً أن الاعتقال جاء تعسفياً من دون إصدار مذكرة توقيف، باستثناء توجيه تهمة «التحريض على التظاهر»، ولم تعرف ما إذا كانت ثمة مسوغات قانونية تتيح اعتقال العياش أم لا.وما لم يقرأه المعتصمون جيداً استحالة إيجاد حلّ ناجز في غضون أيام قليلة، وهذا ما راهنت عليه «سوكلين» عندما رمت مشكلة تراكم النفايات في بيروت والمناطق عند المعتصمين، مستفيدة مما تملك من إمكانيات مادية وظفتها في حملة إعلانات واسعة، من دون الإشارة إلى ارتكابها فضيحة لجهة نقض الاتفاقية منذ خمس عشرة سنة والتي نصت على استقبال المطمر للعوادم فقط، فضلاً عن أن موقف رئيس «جبهة النضال الوطني» كان يمكن أن يشكل حلاً مرضياً طالما أنه ربط تخطي المشكلة بمهلة زمنية لا تتعدى الـ 17-1-2015. لكن ردّ بعض المعتصمين على مبادرة جنبلاط جاء في هتاف تردّد ليل أمس يقول «يا مواطن طلّ وشوف سرقة ونصب عالمكشوف، محميّة بأرض الشوف مكبّ زبالة بالشحار».العوادم فقطمن جهة ثانية، قرأ وزير الداخلية والبلديات مروان شربل موقف جنبلاط على أنه إيذانٌ بفض الاعتصام، من دون أن نعرف ما إذا كان ثمة تنسيق سياسي سبق قمع المعتصمين بالقوة وتعرّضهم للضرب.كل ذلك لا يلغي أحقية مطلب المعتصمين باقتصار وظيفة المطمر على استقبال العوادم فقط حتى 17-1-2015، أي نحو 20 بالمئة من مجموع النفايات التي تنقل عشوائياً الى المطمر بما فيها النفايات الطبية والكيميائية الأكثر خطورة. إلا أن مثل هذا الأمر يتطلب تخصيص موقع للفرز والتسبيخ وإجراءات روتينية قد لا تنتهي في سنة، لاستقدام معدات وتخصيص طاقم فني متخصص، فضلاً عن أنه استناداً إلى تحركات سابقة ثمة مخاوف حقيقية لدى الجمعيات البيئية والأهلية من تمييع التحرك وإهمال مطالبهم، أخذاً في الاعتبار أن بلدة عين درافيل المتاخمة والمواجهة للمطمر غير صالحة للسكن، بفعل الروائح والأمطار الأسيدية التي قضت على القطاع الزراعي، علماً أنه في فصل الصيف تنتشر الروائع المنبعثة من المطمر في كافة قرى الشحار الغربي وتتعداها إلى بعض قرى غرب عاليه وقرى شوفية أخرى، إضافة إلى وجود مئات «المداخن» التي تنفث في الفضاء كميات هائلة من غاز الميثان.مداهمة الصباحوكانت قوة من قوى الأمن الداخلي قد فاجأت المعتصمين صباحاً في الخيم، قدرت بنحو 300 عنصر، وحسب شهود عيان، فقد أزيلت الخيم بالقوة وتعرّض المعتصمون المتواجدون للضرب، بالتزامن مع اعتقال العياش، ما سمح بدخول شاحنات عدة قبل أن يتجمّع المعتصمون مجدداً ويقطعون الطريق بحيث اضطرت بعض الشاحنات إلى مغادرة الموقع من دون تفريغ حمولتها.واستمر الوضع على ما هو عليه لفترة قصيرة قبل أن تشدد قوى الأمن حصارها للمعتصمين وتفتح الطريق مجدداً أمام الشاحنات، فيما اتخذت تدابير أمنية منعت المواطنين من الانضمام الى المعتصمين. إلا أن كثيرين تمكنوا من الوصول، ولا تعرف إلى الآن الخطوات التالية، مع إصرار المواطنين على عدم دخول النفايات إلا العوادم منها.وقرابة الظهر، سمح المعتصمون لشاحنات سوكلين بالتوجه الى المطمر، تلبية لطلب من عناصر قوى الامن الداخلي، وسط حراسة مشددة. وكانوا قد نفذوا اعتصاماً احتجاجاً على توقيف الناشط أجود العياش بتهمة تحريض المعتصمين وسوقه الى مخفر الدامور.الموعد النهائيفي وقت لاحق، تمّ الإفراج عن العياش، فيما اعتبرت «حملة إقفال مطمر الناعمة عين درافيل والهيئات والجمعيات البيئية الداعمة» في بيان كان من المفترض أن يصدر مساء أمس الأول «أن 17-01-2015 تاريخ نهائي لإقفال المطمر وإقراره رسمياً من الجهات المختصة والمعنية إدارياً»، لافتة الى ان «الأهم هو وقف فوري لإدخال وطمر النفايات غير العوادم في المطمر».وأعلنت «تشكيل لجنة متابعة مؤلفة من ممثلين عن الحملة والهيئات البيئية والبلديات لمراقبة حسن تنفيذ البند الثاني».وبعد الظهر، نفذ عدد من الناشطين في الحملة و«الحركة البيئية اللبنانية» وبعض الاهالي اعتصاماً عند مثلث الطريق المؤدي الى مطمر الناعمة الموازي للاوتوستراد الساحلي، «استنكاراً لقيام القوى الأمنية بإزالة خيم المعتصمين صباح اليوم من امام مدخل المطمر، وسط حراسة أمنية مشددة وانتشار لعناصر مكافحة الشغب». وتحدث باسم المعتصمين ملحم خلف، وتلا بياناً، مستنكراً توقيف العياش. ومعتبراً «أن هذه السلطة التي فشلت في ادارة الناس وتأمين حقوقهم الاساسية لجهة الحفاظ على الصحة العامة وعلى مستقبل اطفالنا، والتي فشلت في تأليف حكومة على مدى عشرة أشهر، وفشلت في تثبيت الأمن في عدد من المناطق الخارجة عن السلطة، ها هي تظهر وتستفيق لقمع ناشطين مسالمين، وتسلط قوتها على مواطنين عزل يطالبون بتطبيق القانون، وتعتقلهم من دون أي سند قانوني».وكان اللافت للانتباه أمس غياب البلديات عن دائرة الضوء.واعتبر النائب طلال أرسلان في بيان أن «شركة «سوكلين» هي المسؤولة الأساسية عما آلت اليه اوضاع مطمر الناعمة، حيث انها ليست المرة الأولى التي يُثار فيها هذا الموضوع ومراوغة الشركة، وقبول الحكومات المتعاقبة بالتسويات معها أدى الى هذا المستوى من الانحدار البيئي».البيان الأخيرمع انتهاء فصول الاعتصام، عقدت الحملة والحركة البيئية والأهالي اجتماعاً. وأصدروا بياناً تلاه محمد عطوي فقال: «بعد الوعود التي تلقيناها من المسؤولين وعلى أعلى المستويات، نؤكد التالي:1- اقفال المطمر بشكل نهائي في 17 كانون الثاني 2015.2- استمرار الاعتصام حتى تحقيق جميع الأهداف بأشكال متنوعة وسلمية وحضارية، لاسيما حصر استعمال مطمر الناعمة عين درافيل لردم العوادم دون سواها.3- تشكيل لجنة مراقبة من الاختصاصيين البيئين واهالي المنطقة.4- إفساحاً في المجال لإنفاذ تلك الوعود يعتزم المعتصمون العودة الى مدخل المطمر في مهلة 15 يوماً من تاريخ تشكيل الحومة العتيدة، وذلك في حال عدم احترام هذه الالتزامات وتلك الوعود.كما وجّه البيان تحية لكل المعتصمين واهالي وسكان البلدات المحيطة بالمطمر وللجمعيات الاهلية الداعمة ولكل المؤسسات الاعلامية الذين من دونها لما نجح هذا الحراك الوطني الراقي والنموذجي.بعدها فك الاعتصام وغادر المعتصمون، وفتحت الطريق أمام الشاحنات لدخول المطمر.