أسعد أبو خليل – الاخبار
من نكبات اليسار العربي أن الشيوعيّة العربيّة («السوفياتيّة»، على قول هربرت ماركوزه في كتاب عن الموضوع) قمعت استيراد تيّارات يساريّة مغايرة للستالينيّة البكداشيّة. لم تسمح تنظيمات اليسار العربي بانطلاق تيّارات ماركسيّة غير لينينيّة (أو حتى لينينيّة غير ستالينيّة). أدّى هذا إلى جمود في الفكر اليساري العربي: تجوّل في أعداد كثيرة من مجلّة «الطريق»، والتي فرض فيها عبد الكريم مروّة جدانوفيّة لا تقبل التأويل، يصدمك تكرار الاجترار الموسكوبي المصدر. حتى ماركس، لم يكن مسموحاً قراءته إلا عبر ترجمات غير نزيهة وغير دقيقة لـ«دار التقدّم» في موسكو (حاول العفيف الأخضر تقديم ترجمة جديدة لـ«البيان الشيوعي»، لكنها كانت ترجمة عن ترجمة فرنسيّة وحوت إسقاطات استشراقيّة في حواشيها). هذا التعويل من قبل الوهابيّة البكداشيّة ــ الحاويّة على الأب الروسي الراعي مسؤول في جانب عن الانهيار الفظيع الذي أصاب اليسار العربي بعد اندثار الاتحاد السوفياتي، أو قبله بسنوات. والدول التي احتضنت يساراً غير سوفياتي، استطاع اليسار فيها أن يستمرّ بعد نهاية الحرب الباردة. حتى النسق الماوي والتروتسكي من الماركسيّة، لم تسمح به قوميسارات اليسار العربي. كان لمفمهوم «الاغتراب» الماركسي جذوره الهيغليّة (لم تصدر عن الماركسيّة العربيّة دراسات عن هيغل صاحب التأثير الأكبر على التراث الماركسي، لأنه كان وفق التصنيف السوفياتي المُعلّب فيلسوفاً بورجوازياً فقط ـــ لم تصدر الترجمة الكاملة لـ«فينامينالوجيا الروح» بالعربيّة إلا عام 2006)، وكانت «الغربة» عند هيغل هي في اغتراب أو ابتعاد «الروح» (أو «غايست» بالألمانيّة، إذ إن كلمة الروح لا تفي بالغرض، لأن الأصل يحتمل معنييْن على الأقل) عن العالم، أو في عدم التوفيق بين الروح الإنسانيّة المُجتمعة مع نفسها ومع العالم. وتكون الحقيقة «الخفيّة» للتاريخ في توحيد الفكر والوجود، وهذه الحقيقة تكشف عن نفسها من خلال جدليّة مطردة تدفع بالتاريخ قدماً ـــ أي الديالكتيك الإيجابي (وهذا ما حسمه فرانسيس فوكوياما عندما توصّل إلى اقتناع «نهاية التاريخ» لكن من خلال فهم أقل تعقيداً لما عناه هيغل عن فناء الذات ـــ لو أردنا استعمال المصطلحات الصوفيّة ـــ في العالم كحقيقته). ينفصل كارل ماركس عن هيغل في استنتاجه. ليس الوجود الإنساني فكراً وليس التاريخ مسيرة فكريّة. الحقيقة «الأرضيّة» هي الأساس. الفكر الإنساني هو انعكاس وتلبية لحاجات ماديّة. ولا يكون علاج الاغتراب في فهم فكري للذات بل في تخطّي الاغتراب عبر تحقيق المجتمع الشيوعي لإحداث تغيير جذري في الحياة المعيشة. الصيغة التي طرحها ماركس في مقدّمة «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»، حيث التغيير في نمط الإنتاج يؤدّي حكماً (أو ميكانيكيّاً لو أردنا نقد المفهوم الماركسي) إلى تغيير «البنية الفوقيّة التي تضم الدين والثفاقة والتراث والفولكلور وعدم المساواة والصراع والقمع والأحزاب والفن... إلخ. ويقول المعلّم ماركس في صيغة باتت شهيرة: «ليس وعي الإنسان هو الذي يقرّر وجوده، بل إنّ وجوده الاجتماعي (الطبقي بالمفهوم الماركسي) هو الذي يُقرّر وعيه». والعيش في المجتمع الشيوعي هو الذي سيؤدّي حسب ماركس إلى إنهاء حالة الاغتراب بين البشر، أو بين البشر والسلطة. والتراث الماركسي العربي اعتمد سوفياتياً على إهمال سياق تحليل حالة الاغتراب التي لم تصلنا بالكامل إلا في الثلاثينيات من القرن الماضي عندما نُشرت «مخطوطات باريس». أما ماركس في سنواته المتأخّرة فلم ينبذ كتاباته المُبكّرة، لكنه طوّر مفهوماً ميكانيكيّاً للتاريخ وقلّل من دور الذات (أو الفرد) الإنسانيّة، وقد يكون هذا الفهم (أو سوء الفهم لماركس اللاحق) هو الذي ساهم في نشر الخمول في وعي الطبقة العاملة. هذه هي كانت نقطة الانطلاق في تطوير «الماركسيّة الغربيّة» وفي بلورة «مدرسة فرانكفورت» ونظريّتها «النقديّة». عمل جورج لوكاش، مثلاً، على العودة بماركس إلى صباه لكن عبر الاستعارة من فلسفات «بورجوازيّة». واستعارت تلك المدارس الفلسفيّة من هيغل (المرفوض سوفياتياً، وحكماً بكداشيّاً وحاوياً)، كما استعارت مثلاً مدرسة فرانكفورت ـــ موضوع حديثنا ـــ من فرويد وتحليله النفسي. وقد بنى هربرت ماركوزه على لغة فرويد ومصطلحاته عن القمع والاستبدال (أو تحوير غرائز أو دوافع غير مقبولة اجتماعيّاً أو دينيّاً إلى أنماط من السلوك المقبول اجتماعيّاً) في كتابه المهم، «إيروس والحضارة» (أخبرتني أرملة ماركوزه أنه كان جد مهتم بوضع الشعب الفلسطيني وقمعه من قبل العدوّ الإسرائيلي في سنواته الأخيرة مع قلّة مساهماته في الموضوع. وهو الوحيد من نتاج تلك المدرسة الذي عادى الصهيونيّة). لم يكن هدف «الماركسيّة الغربيّة» أو «النظريّة النقديّة» طمس ماركس، بل إنعاشه وإحياءه وإنقاذه من التشويه النظري السوفياتي. يمكن أن نضيف أن الماركسيّة الغربيّة حاولت التوفيق مرّة أخرى بين هيغل وماركس، أو بين فرويد وماركس (أو بين ماركس وهيدغر في حالة جان بول سارتر الذي رأى في مفاهيم «الأصالة» و«القلق» إنقاذاً لماركس، لا تجاوزاً له). كتبَ كل هؤلاء في زمن انتعاش الدولة الرأسماليّة وثباتها وفي زمن انتعاش القوميّات الفاشيّة. لم تكن الثقافة والأساطير والأفكار مجرّد بنى فوقيّة مرتبطة بالبنى التحتيّة، بل كان لها حيويّتها التي نفت نظريّة سيطرة الدولة الرأسماليّة على السلطة من خلال القوة المحضة. وغرامشي درس طريقة فرض الهيمنة الرأسماليّة من خلال نظام متشعّب من السيطرة على الإعلام والمدارس والكنائس... إلخ. (درس ذلك في ما بعد على طريقة «الماركسيّة المُستقلّة» ـــ وهذا كان تعريف «هربرت ماركوزه» لنفسه، على ما أعلمني تلميذه في الخمسينيات في جامعة هارفرد، حنا بطاطو، والذي اعتنق ذلك التعريف أيضاً في مواجهة الشيوعية الأرثوذكسيّة العربيّة ـــ سي. رايت ميلز في كتابه «نخبة السلطة»). أما لوكاش فقد تمرّد على التفسير الميكانيكي وقدّم ضرورة فهم الجزء من الكلّ. أما اسم «مدرسة فرانكفورت» فيعود إلى تلك المدرسة الفكريّة الأكاديميّة، أي «مؤسّسة فرانكفورت للبحث الاجتماعي» التي ضمّت مفكّرين ماركسيّين أو ماركسيّين متجدّدين، والتي تأسست عام 1923. لا نستطيع اختزال الإنتاج الهائل لتلك المدرسة ولا تنميط تياراتها المختلفة والمتنازعة أحياناً. وكان مفكّرو المؤسّسة يعملون وفق إيمان أو وهم حول استقلال الفكر أو النظريّة. لكن ما طبع اسم المؤسسة وعملها هو شخص وكتابات ماكس هوركهايمر الذي أطلق اسم «النظريّة النقديّة» على العمل نحو إنسانيّة ماركسيّة. ارتبطت «مدرسة فرانكفورت» بنقد الأيديولوجيا، أو ما عمل عليه ثيودور أدورنو (بعد كتابات مبكّرة لهوركهايمر) تحت عنوان «النقد الداخلي» («إيماننت كريتيك») أي الاستعانة بأدوات منهج ومفهوم معيّن من أجل نقده من داخله، وليس عبر أدوات خارجة عنه، وذلك من أجل تبيان التناقضات الكامنة فيه. وقد طبّق أدورنو نظريّته على الموسيقى متأثّراً بـ«كانت». لكنّ كتابات المجموعة عن الفن والأدب اتسمت بالنخبويّة: ليس هناك عندهم من فن جمالي على مستوى الجماهير، ولذلك عبّرا عن استعلاء نحو موسيقى الجاز. إن المأخذ الكبير لفلسفة «مدرسة فرانكفورت» على الماركسيّة السوفياتيّة يكمن في تحوّل ماركسيّة القرن العشرين إلى علم اجتماع وضعي يركن إلى القوانين الحديديّة للتطوّر من نمط الإنتاج الرأسمالي إلى النمط الاشتراكي. واعتراض هوركهايمر كان على القدريّة السياسيّة التي أدت إليها تلك الوضعيّة. تناقض تحرير الطبقة العاملة مع الطغيان الذي وسم تجربة الماركسيّة السوفياتيّة. لكن هناك نزعات في «النظريّة النقديّة» لا تلتقي مع ماركس أو أنغلز (خصوصاً التي مثّلها هابرماس في التقائه مع «كانت» حول وجود القيم الإنسانيّة وإن اختلف معه في إصراره على مفاهيم التواصل والعقل العام، لا الخاص)، رفض الثنائي مقولة الفيلسوف «كانت» عن أن العقل يميط اللثام عن قيم أخلاقيّة إنسانيّة مشتركة. القيم الرأسماليّة والبورجوازيّة ليست إلا وسائل لإحكام قبضة الطبقة المُسيطرة (بات الأمر مكشوفاً في لبنان حيث انتزعت الحريريّة وورثتها الحريّة من الناس باسم الحريّة، وانتزعت الاستقلال باسم السيادة، وانتزعت رغد العيش باسم ازدهار ربيع موعود... إلخ). رفض هوركهايمر ابتعاد الفرد عن الحالة الاجتماعيّة (أو ما سمّاه في دراسته المهمة «النظريّة التقليديّة والنقديّة» «الاكتفاء الذاتي الوهمي»). أوضح أن الرأسماليّة تتجلّى في العلاقة بين العلوم والتكنولوجيا والإنتاج. وبناءً عليه، تصبح «النظريّة النقديّة» «نشاطاً تغييرياً». كان يعتقد في السنوات المبكّرة أنّ المؤسّسة التي ترأسها ستساهم هي في بلورة وعي ثوري عند الجماهير. كان ذلك مُبكّراً جداً. إن أهم ما يعنينا من مشروع «مدرسة فرانكفورت» في حقل اليسار العربي هو في نقد التنوير في حد ذاته، وخصوصاً أن مفاهيم التنوير وقيمه تُستخدم اليوم في العالم العربي من قبل سلطات وهّابيّة وجيوش استعماريّة ويسار زائف، وكل ذلك باسم الحريّة والجمال. إن متخرّجي حقبة النازيّة ابتعدوا عن الإيمان بالقدرات التحريريّة للطبقة العاملة (عبّر أدورنو عن خيبته بعد انتصار فرانكو في ملاحظة لوالتر بنجامين قائلاً: «إن الجماهير نفسها التي تهتف للغازي الفاشي هتفت قبل يوم فقط للمعارضة»). إن كتاب «ديالكتيك التنوير» لأدورنو وهوركهايمر (وهو متوافر بالعربيّة وهو أفضل تلخيص ـــ وإن صعباً ـــ لفلسفة «مدرسة فرانكفورت») يلخّص مشروع المؤسّسة. إن معنى «التنوير» يختلف عند الاثنيْن عن المعنى في كتابات ديكارت و«كانت» (وليد جنبلاط يحبّذ كتابات ديكارت الذي يستشهد به عندما يتذمّر من تخلّف العالم العربي، فيما يحبّذ طلال أرسلان كتابات «كانت» على الأرجح). إذاً كان السائد الظن أن التنوير استبدل قيم الأساطير، فإن الثنائي الفرانكفورتي يرى أن التنوير «أسطورة في حد ذاتها، ورجوع إلى الأساطير». وكانت النازيّة تعبيراً عن ذلك: فهي من ناحية تمزج بين الحديث (التكنولوجيا والتصنيع) والقديم والأسطوري (أسطورة التاريخ الآري الأسطوري، مثلاً). إن موضوع بروز النازيّة شغل من هُجّر من بلادها بسبب صعودها. والنازيّة، وفق التحليل المذكور، ما هي إلا نتاج القيم والنظم والفكر نفسها التي انتشلت ذات مرّة البشريّة من البربريّة (راجع «الجدليّة السلبيّة» أدناه). تحوّلنا إلى نواحٍ تقاس وتُفصّل، وانتقص البعد الإنساني في حياتها (كما درسها ماركوزه في «الإنسان ذو البعد الواحد»)، وساد طغيان ما سمّاه ماركس «الولع بالسلع» (ماذا نقول في ذلك في عصر التكنولوجيا، والتحديث المستمرّ في «الأشياء» على اختلافها، من أجهزة هاتف إلى طعم الشاي إلى الأحذية التي تشغل عقول الناشئة أكثر من الكتب؟). يكثر مروّجو الرأسماليّة في بلادنا، وهم أنفسهم أعداء المقاومة في لبنان، في وضع هذا الخيار أمام الناس: نموذج دبي أو هونغ كونغ مقابل نموذج غزة، وفق عنصريّي 14 آذار، وكأن حصار غزة وفقرها خيار وليسا احتلالاً خارجياً مفروضاً. لكن فكرة النموذج الرأسمالي الخاضع لنفوذ الغرب ومصالحه والخالي من القيم السياسيّة هو ما رفضه أدورنو وهوركهايمر. ليست الحداثة والعصرنة خالية من القيم والمعرفة العلميّة والتكنولوجيا الحديثة مرتبطة بالنظم الأيديولوجيّة، وهذا أساسي في العصر الحديث. ووسائل التحديث والتصنيع تزيد، ولا تقلّل، من القدرة على القتل وعلى العنف على مستوى جماهيري، كما فعلت النازيّة. وهوليوود، كما درس أدورنو في إقامته في أميركا، تمزج بين التكنولوجيا السينمائيّة والرومانسيّة وبنتيجة فعّالة من أجل إحداث جمهور خامل ومستكين على نطاق واسع. أما الثقافة فقد باتت «صناعة ثقافة» مليئة بـ«عبادة المشاهير». إن العقل في خدمة السيطرة، وليس العكس (ما سمّيانه «العقل الأدواتي»). والتكنولوجيا والمعرفة تُستعملان للسيطرة والاستغلال وليس للتحرير: والسيطرة هي من قبل بشر ضد آخرين ومن بشر ضد أنفسهم. الشعب يصبح وسيلة في عصر التكنولوجيا (يمكن إضافة مفهوم «التشيّؤ» («فردينغليشنغ» بالألمانيّة) لجورج لوكاش في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» من حيث هو عمل أو مسيرة «تحويل العلاقات والإنتاج البشري إلى ملكيّات»). أحدثت «مدرسة فرانكفورت» ثورة في الفلسفة. عارض أدورنو المثاليّة الكانتيّة ورأى أن من الضروري التشديد على الجانب السلبي من الدياليكتيك. يقول في كتابه «الديالكتكيّة السلبيّة» إنها «تدعو إلى التأمّل الذاتي في التفكير... أي التفكير ضد ذاته. إذا لم يُقَس الفكر بالحد الذي يعصى على المفهوم، فإنه بادئ ذي بدء (يقع) في طبيعة الموسيقى المُصاحبة التي استحبّ ألـ«إس.إس.» استعمالها لإغراق صيحات الضحايا» («الدياليكتيّة السلبيّة»، ص. 365). والغني في تراث المدرسة المذكورة أنها كانت ـــ مثل الاستشراق ـــ متعدّدة الحقل والاختصاص في البحث، وهذا ثراء نفتقر إليه في عصر التقسيمات الأكاديميّة الجامدة (هل كان ماركس سيلتحق بكليّة فلسفة أم علم اجتماع أم سياسة أم اقتصاد، مثلاً، أم أنه لا مكان له في الأكاديميا المُعاصرة؟). يثور أدورنو لو علم أن كتابه دخل في نطاق الفلسفة، لأنه ثار ضد المبادئ العشوائيّة وحتى الحقيقة التي ما بعدها حقيقة. الفلسفة في حد ذاتها هي عنده تمرين في العبثيّة (السلبيّة) (وهنا يبرز تأثير نيتشه). رفض ديالكتيك الماركسيّين ورفض أن يكون طريقة أو تصنيف للعالم، هي المعارضة المستمرّة والمُتكرّرة لكل التصانيف والطرق التي تسعى إلى العالميّة أو الكليّة. وسلبيّة الديالكتيك تنشأ من رفض فكرة قدرة نظام ما على اكتناه التناقض الحتمي في واقع متغيّر باستمرار. هذا السلاح يمكن تطبيقه بقوّة في الفكر والممارسة اليساريين، وإن لم يرد أدورنو ذلك، أو لم يكترث له. إن هذا النوع من النقد أساسي في مشروع تجديد اليسار خصوصاً، وكأن الليبراليّة وبعض اليسار وكل اليمين تتلاقى في العالم العربي حول نشر فكر السيطرة الاستعماريّة (الخارجيّة) والداخليّة من قبل أصحاب المليارات ورعاتهم في دول الخليج. هذا يفسّر التلاقي بين الوهابيّة وبعض اليسار وكل الليبراليّة. ليست متناقضة كما تبدو للوهلة الأولى. ونقد التنوير و«العقل الأدواتي» بدأه بصورة جنينيّة بعض كتّاب «الرابطة القلميّة» في أميركا بعد الحرب العالميّة الأولى، خصوصاً في القصيدة المشتركة بين عدد من أعضائها باسم «من أنت حتى تحكم البشر» (والتي نُشرت للمرّة الأولى في «سبعون» لميخائل نعيمة). وصعوبة اعتناق اليسار لمشروع نقد «العقل الأدائي» تكمن في صلاحيّة تطبيقه على مشروع الماركسيّة السوفياتيّة وعلى مشروع الطغيان الغربي سواء بسواء. إن الاستعانة بالسلاح النقدي لـ«مدرسة فرانكفورت» لا تعني بالضرورة عدم إخضاع المدرسة نفسها للنقد. فأدورنو وهوركهايمر، خصوصاً أن الثنائي تحوّلا في الستينيات نحو نمط من اليمين، لم يتعاطفا مع اليسار الجديد. لا بل إن هوركهايمر أعلن عداءه للثورة الطلاّبيّة في ألمانيا. كذلك فإن موقف أدورنو وهوركهايمر من دولة الكيان الغاصب كان متعاطفاً جدّاً، على غير موقف ماركوزه. ماركوزه لم ييأس من الإمكانيّة الثوريّة، لا بل هو نظّر لثورة طبقات غير الطبقة العاملة (هذا ما جعله نبيّاً للثورة الطلاّبيّة في الستينيات). وكان بيري أندرسون محقّاً في نقده لـ«مدرسة فرانكفورت» على أنها حركة محض أكاديميّة غير تغييريّة تعبّر عن خيبة من الطبقة العاملة وعن حالة إحباط، فضلاً عن النخبويّة في الذائقة التي وسمت نقد مفكّري المدرسة للشائع عند العامّة. أما هابرماس فقد وقع في السنوات الأخيرة في تضاد مع فكر ما بعد الحداثة: يؤمن بأنّ «الحضارة الغربيّة» هي حضارة إنسانيّة، ويؤمن على خطى «كانت»، بالوصول إلى النتائج الأخلاقيّة نفسها العابرة للمكان. ولهذا، كان موقفه أكثر من مائع من الغزو الأميركي للعراق: هو مع تصدير قيم الحريّة والديمقراطيّة التي يراها متوافقة مع نظريّته في «العمل التواصلي»، لكنه يرى أن أميركا فرضت في العراق تجربتها التاريخيّة الخاصّة، ما يتعارض مع المشروع الإنساني العابر للقارات، أي إنه لم يرَ أنّ مقاومة الاحتلال الأميركي كانت رفضاً مطلقاً للاحتلال بحد ذاته بل معارضة لفرض الجزئي عليه، لا العالمي (المحض غربي). اليسار الماركسي التقليدي مات: أو هو إما تحوّل إلى يمين رجعي (لليسار السعودي في سوريا ولبنان) أو انتحر بإرادته الذاتيّة (كحال الحزب الشيوعي اللبناني الذي يظهر مظهراً ليبرالياً، عندما لا يغفو). هناك يسار غير مُنظّم في العالم العربي (باستثناء مصر وتونس، رائدتي الانتفاضات العربيّة). لكن إنتاج فكر يساري جديد والاسترشاد بفكر «مدرسة فرانكفورت» يمكن أن ينتجا فكراً يساريّاً ينبذ الماركسيّة السوفياتيّة ويوفّق بين بعض الشعارات المتجدّدة عند أفراد الشباب اليساري المعاصر. لكن القدرة على فعل ذلك تنطلق من رفض قاطع لكل النظم المعرفيّة للرأسماليّة (بات عبد الكريم مروّة يرى أنّ الدولة الرأسماليّة قادرة على حمايتنا منها ـــ أي الرأسماليّة، أو شططها، بالنسبة إليه) ولكل البنى الفوقيّة لها، والمدعومة من دول النفط والغاز الخليجي، والتي تحدّد لنا مذاق الشعر والفن والثقافة والإعلام والرقص والجماليّات. يا للبشاعة. ملاحظة. أتقدّم من القرّاء بالاعتذار الشديد لأنني في نقدي للدستور المصري اعتمدت، خطأً، على نصّ مشروع الدستور لعام 2012 الذي قُدّم للاستفتاء. أتحمّل وحدي المسؤوليّة عن الخطأ، وأعبّر عن شديد احترامي لذكاء القرّاء والقارئات. ولقد درست مشروع الدستور الجديد لجمهوريّة السيسي ووجدته شديد التأثر بدستور 2012، خصوصاً في الإنشاء الوطني الشوفيني وفي ديانة الدولة وفي المضامين المُفصّلة على مقاس طاغية جديد. والمقيت في الدستور الجديد المحاولة الديماغوجيّة لاستمالة قطاعات متنافرة من الناس: هناك إشادة بجمال عبد الناصر تليها إشادة بأنور السادات (في الديباجة) وكأن مشروعَيْ الرجليْن كانا متطابقين، وليسا متناقضيْن.
ثلاثون عاما على اعتقال المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبدالله في السجون الفرنسية تعسفا، فرنسا الإمبريالي الملحقة بالولايات المتحدة الأميريكية لم تحترم حتى القضاء ألذي أصدر حكمه بالإفراج عن جورج لمرتين آخرهما في العام الماضي. والمناضل اليساري جورج عبدالله هو معتقل سياسي لعدم قدرة فرنسا إثبات أي من التهم الموجهة اليه وكان قد أوقف لحيازته جواز سفر جزائري لا يحمل اسمه الحقيقي. يدعوكم اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني إلى نقاش سياسي مفتوح حول قضية المناضل جورج عبدالله والمستجدات القضائية والسياسية وكيفية تفعيل نضالنا حول هذا الملف. الاربعاء ٥-٢-٢٠١٤ الساعة ٦مساءً في مركز الاتحاد الرئيسي - مار الياس
تقيم فرقة رفاق الدرب الموسيقية , دورة موسيقية لمدة شهرين يتعلم من خلالها الطالب مبادئ اولية في النظريات الموسيقية ,بالاضافة الى العزف على الة يختارها او تعلم الغناء . الألات : بيانو, غيتار, عود، ساكسوفون، ايقاع او غناء. رسم الاشتراك: 50000ل.ل. ملاحظة: هذه الدورة مخصصة لمن هم فوق العشر سنوات. يبتدأ التسجيل من نهار الاثنين 27 كانون الثاني ويستمر حتى 11 شباط تبدأ الدروس في 15 شباط لتسجيل الاسماء و مزيد من المعلومات: وجدي ابوذياب 70/180365 احسان المصري 76/606562 عدنان شعبوق
أمجد سمحان - السفير
على بعد كيلومترات معدودة من مدينة بيسان في أراضي الـ48 المحتلة، بنى ناشطو المقاومة الشعبية خياماً في البرد القارس، واسسوا قرية "العودة" الفلسطينية. وفي منطقة "دير حجلة" على بعد كيلومترات قليلة عن المكان ذاته في قلب مناطق الأغوار الفلسطينية، تأسست ايضاً قرية "ملح الارض". قريتان جديدتان لفرض الوقائع على الارض، وارباك الاحتلال ومواجهة الاستيطان، ولإظهار أن هناك خيارات أخرى للمواجهة غير خيار المفاوضات.وفي ساعات الصباح الباكر من يوم الجمعة الماضي، فاجأ نحو 300 ناشط فلسطيني الاحتلال الإسرائيلي حين دخلوا إلى منطقة أثرية قرب قرية دير حجلة في الأغوار، وأعادوا الحياة لبيوتها المهجرة، وأراضيها التي يطمع الاحتلال فيها، في عملية اسموها "ملح الارض". والهدف منها هو منع مساعي اسرائيل للسيطرة على غور الأردن، سلة الغذاء الفلسطينية، وبوابة الدولة الوحيدة من جهة الشرق، والذي تشكل أراضيه الزراعية الخصبة ثلث مساحة الضفة الغربية البالغة نحو ستة آلاف كيلومتر مربع.وفي حديث إلى "السفير"، قال الناشط عبد الله أبو رحمة إن نشاطات المقاومة الشعبية "لن تتوقف عند حد معين وهي ستستمر من أجل إحراج الاحتلال، وتثبيت حقوق الشعب الفلسطيني في أراضيه". وأوضح أبو رحمة "بتنا هنا عشرات الشبان والشابات في ظروف صعبة وبرد قارس حيث قلة الإمكانات والمواد الغذائية في خطوة تسبق عملية الترميم التي سنقوم بها في هذا المكان".ومنذ لحظة تأسيس قرية "ملح الارض"، التي استوحي اسمها من الانجيل، حاصر المئات من جنود الاحتلال المكان، وبدأوا باستفزاز المتواجدين، قبل أن يبادروا إلى إطلاق القنابل المضيئة.ومن جهته، قال صلاح الخواجا لـ"السفير"، وهو المتواجد في القرية، "نحن باقون هنا، ولن نتزحزح. يوم أمس تعرضنا لحصار خانق، وكان هناك مئات الجنود حولنا، وقاموا باستفزازنا وبإطلاق القنابل المضيئة في السماء، لترهيبنا لكنهم عادوا وانسحبوا، ولم يبق سوى دوريات قليلة تجوب المنطقة".وبحسب أبو رحمة، فإن قوات الاحتلال قد تكون عدلت عن قرار اقتحام المنطقة بسبب وجود تفويض من بطركية الروم للناشطين، باستصلاح المنطقة الأثرية التي تحيط بدير حجلة، والمملوكة بأوراق ثبوتية للدير، و"لكن في النهاية لا شيء مضموناً من الاحتلال".وفيما كان سكان "ملح الارض" يواصلون تأسيس قريتهم الجديدة تمهيداً لترسيخها كحق لهم يمارسونه وفق قوانين الطبيعة، كان سكان قرية "العودة" المجاورة يحتفلون حول نار أشعلوها يهتفون لفلسطين وعودة لاجئيها.وفي حديث إلى "السفير" قال خالد منصور، أحد القائمين على بناء قرية "العودة"، "ما نقوم به هنا كمقاومة شعبية هو عمل متكامل يحمل أسرع رسائل جوهرية، أولاً أننا نريد فرض وقائع جديدة على الارض، توازي سياسات الأمر الواقع التي تقوم بها إسرائيل، وثانياً نريد أن نستمر في هذه المقاومة لإرباك الاحتلال وقواته، ومواجهة مخططاته للسيطرة على الاغوار، بضمها أو استئجارها أو إبقاء قوات إسرائيلية فيها وهي خيارات كلها مرفوضة. وثالثها، سمّينا قريتنا العودة لنقول لإسرائيل والعالم إننا لن نتخلى عن حقوقنا في العودة إلى أراضينا التي سرقت منا في العام 1948، ونرفض خيارات التوطين أو التعويض كافة".أما الرسالة الرابعة فهي موجهة للقيادة الفلسطينية ومفادها بأن "هناك خيارات أخرى لمواجهة الاحتلال غير التفاوض، وهي خيارات المقاومة الشعبية".
لم تكد تمرّ ساعتان على صدور حكم يدين الوزير السابق شربل نحاس بجرم الذمّ، حتى تبلّغ دعويين جديدتين من المدير التنفيذي لشركة «سبينيس» مايكل رايت بجرمي القدح والذمّ. وإذا كان ردّ فعل نحاس الأول هو الاستئناف، والاستمرار في التشهير، فهذا يعني أن الحكم الذي صدر أمس ليس إلا جولة في معركة طويلة يؤمن قائدها بأنها ستوصله يوماً إلى تكريس الحق في التشهير
مهى زراقط - الاخبار
في حال إبرام الحكم الصادر عن محكمة المطبوعات أمس، بحق الوزير السابق شربل نحاس، فهذا يعني أن سجله العدلي «سيتلوّث». أما سجلات الجهة المدعية على نحاس، وكلّ المتورّطين في قضية «سبينيس»، فستبقى نظيفة. هذه ليست إلا النتيجة الشكلية لما قد تؤول إليه واحدة من AffinityCMSت المعركة المفتوحة بين المدير التنفيذي لشركة تجارية ضخمة، وبين مواطن أخذ على عاتقه مسؤولية الدفاع عن حقوق عمّال مظلومين. لكن الحكم الذي صدر أمس، لن يبقى في إطاره الشكلي، وخصوصاً أن المدّعي مايكل رايت لم ينتظر أكثر من ساعتين قبل أن يطلب من محاميه التوجّه لتبليغ نحاس بدعويين جديدتين كان قد رفعهما عليه بجرمي القدح والذمّ قبل شهر ونصف. أي إن رايت كان ينتظر صدور الحكم، ليضرب ضربته الثانية. الحكم بإدانة نحاس، لاستخدامه مصطلحات مثل «الشبيحة» و«الإرهاب» في حق رايت و«سبينيس»، جاء محبطاً لكثيرين كانوا يعوّلون عليه، ليشكل رافعة إضافية تعين المواطنين في معاركهم النقابية. فقد شفع لشربل نحاس تاريخه النضالي والحقوقي، ليحصل على أسباب مخفّفة تتيح له أن يدفع مليوني ليرة فقط، جرم الذمّ.
لكن ما الذي قد يشفع للمواطنين العاديين، الذين تنتهك حقوقهم يومياً، إن تصدّوا، كما فعل عمّال «السبينيس»، لأرباب أعمالهم وانتفضوا مطالبين بحقوقهم؟ بعد هذا الحكم، بات على كلّ شخص منا أن يبحث كثيراً في القاموس ليجد ما يصف به أعمال رايت و«سبينيس»، ومن يطبق نموذجهما. ربما نحن مدفوعون إلى البحث عن مصطلحات تصف ما تدفعنا إليه هذه الممارسات. هل يستقيم الأمر إذا قلنا إن النظام الذي تعمل وفقه هذه الشركة، ومثيلاتها في لبنان، يقهرنا؟ أن يقول مواطن إنه مقهور، مغبون، «ملعون سلافه»، مضطهد، حقوقه مهدورة؟ هل يصبح بديهياً عندها أن تبادر محكمة، أي محكمة إلى معاقبة مسبّبي وصول اللبنانيين إلى هذه الحالة؟ هل المطلوب هو البكاء واليأس؟ يرفض نحاس الاستسلام لهذه المقولات. «الإحباط» عنده أمر مرفوض، حتى لو كان هناك من يدفعنا إليه. يضحك لدى سؤاله عن مستقبل سجله العدلي، ويقول بالثقة نفسها: «لا يمكنني إلا أن أكرّر: مايكل رايت إرهابي. سأستمرّ في التشهير؛ لأن هذا واجبي». وهذا الكلام يعني أن نحاس سيستأنف الحكم أمام محكمة التمييز، على أمل الحصول على حكم مختلف يكرّس اجتهاداً جديداً كما كان يطمح المدّعى عليه. حتى إن وكيله، المحامي نزار صاغية، لا يتردّد في القول إن الحكم «لم يأت على قدر الاستحقاق»، موضحاً بقوله: «نحن كنا نرجو أمرين: التوصّل إلى اجتهاد من قبل القاضي يجعل من التشهير حقاً حين يكون واجباً وطنياً. والأمر الثاني هو الاستماع إلى الشهود وتكريس هذا الحق»، مذكرّاً بأن المدّعى عليه قدّم لائحة من ثلاثين شاهداً (عمّال في «سبينيس»، إداريين، إعلاميين، سياسيين…)، كذلك أُبرزت مستندات تثبت واقعة الترهيب، منها ضرب أمين سرّ نقابة عمّال «سبينيس» مخيبر حبشي وصرف عدد من العمّال، فضلاً عمّا كتبته المنظمات الدولية عن الأمر... لكن القاضي قرّر عدم التوسّع في المحاكمة، الأمر الذي قد يمكن المطالبة به في محكمة التمييز بعد تقديم الاستئناف». طموح صاغية لا يزال قائماً «وأثق بأن الحقّ في التشهير سيتكرّس يوماً ما كما حصل في أكثر من دولة في العالم». وفي انتظار تكريسه «التشهير سيتواصل لأن الواجب مستمرّ». وكانت محكمة المطبوعات قد أصدرت أمس، برئاسة القاضي روكز رزق، حكمها في الدعويين المرفوعتين من قبل شركة «سبينيس» ومديرها التنفيذي على الوزير السابق شربل نحاس. ويمكن اختصارهما بالآتي: براءة شربل نحاس من جرمي القدح والذمّ، في الدعوى القائمة على عبارة كتبها نحاس وورد فيها «وقاحة من يعتبر نفسه فوق القانون». فرأت المحكمة أن «قول المدّعى عليه، المعروف بنضالاته الاجتماعية والحقوقية في مجالات عدة، أن المدّعي وقح ويعدّ نفسه فوق القانون ويحتقر القضاء، على النحو المبيّن في باب الوقائع، يعتبر ولو جاء بتعابير قاسية ومباشرة ولاذعة من باب حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وتنوير الرأي العام وتوعيته، والنقد المباح ولا يعتبر من باب الإساءة الى الغير». وبرّئ نحاس أيضاً من جرم الخبر الكاذب، تبيّن لاحقاً أنه غير صحيح. أما الإدانة، فجاءت لاستخدامه تعابير مثل «الشبيحة» والإرهاب، في وصف ممارسات كلّ من شركة «سبينيس» ورايت. ورأى القاضي أن «هذه التعابير والمصطلحات المستعملة، تأتي في معرض الشك بالجهة المدعية، والنيل من شرفها ومن كرامتها». وهذا يعني أن نحاس أدين لاستخدامه عبارات تصبّ مباشرة في معركة الدفاع عن حقوق عمّال «سبينيس»، وفضح الممارسات التي كانت تقوم بها الشركة ومديرها في لبنان، ما جعلته يصفها بـ«المنظمة الإرهابية». وقد وردت كلّ المصطلحات موضع الدعوى في هذا السياق: سياق النزاع الحاصل بين شركة «سبينيس» ومديرها التنفيذي والإقليمي من جهة، وبين بعض الأجراء لديها من جهة ثانية. الأمر الإيجابي الذي يمكن التوقف عنده في الحكم هو الأسباب المخفّفة التي استعملها القاضي ليخرج بتغريم نحاس بمبلغ مليوني ليرة لبنانية، سنداً إلى أحكام المادة 20 من المرسوم الاشتراعي رقم 104/77 المعدّل، التي تعاقب على جرم الذمّ، معطوفة على المادة 26 منه، التي تحدّد المسؤول عن الجرم. كذلك ألزم الحكم نحاس بدفع مبلغ ألف ليرة لبنانية لكل من المدعيين، وذلك كتعويض معنوي. ويفيد المتابعون لقضايا المطبوعات بأن الأحكام التي تصدر بالإدانة، تطلب عادة مبلغ ستة ملايين ليرة لبنانية كحدّ أدنى، كذلك تُلزم المدان بدفع التعويض الذي يحدّده المدّعي. وهذا يعني أن القاضي، وإن لم يكن قد توصّل إلى الاجتهاد المرجوّ، إلا أنه لم يغفل سياق القضية العام من حساباته. هذه القضية لم تنته أمس، وخصوصاً أن شربل نحاس قرّر مواصلة التشهير، فيما استمرّ مايكل رايت برفع دعاوى القدح والذمّ.
التشهير واجب... لهذه الأسباب
منذ أصرّ الوزير السابق شربل نحاس على الخضوع للمحاكمة في الدعويين المرفوعتين ضدّه من قبل «سبينيس» ومديرها التنفيذي مايكل رايت، كان طموحه أبعد من البراءة. التفت منذ البداية إلى إمكانية تحويل المحاكمة إلى فرصة تتيح الحصول على اجتهاد قضائي يجعل من التشهير بالفاسدين واجباً وطنياً. فهل كان نحاس يقترح أمراً جديداً أم أنه استند إلى سوابق؟ ولماذا يرى أن التشهير واجب أخلاقي ووطني؟ الإجابة عن هذين السؤالين نجدهما في الكلمة التي كان نحاس قد أعدّها ليتقدّم بها إلى محكمة المطبوعات. ونقرأ فيها: «هناك حالتان تزيحان ادعاء الذم في فرنسا: الحالة الأول تتعلق بقيام المدّعى عليه بالذم بإثبات صحة مقولته، فيسقط عندها ادعاء الذم، وفقا للتعديلات التي أدخلت عند التحرير سنة 1944 والتي لم يأخذ بها القانون اللبناني إلى الآن. الحالة الثانية، وهي قائمة على الاجتهاد وتتكرر أكثر بكثير من الحالة الأولى وتقوم على إثبات المدعى عليه بالذم حسن نيته في مقولته. وحسن النية يرتكز على أربعة أركان: المبرر المشروع للاهتمام بالمسألة، الحذر في انتقاء الصفات المستخدمة، غياب العدائية الشخصية بين الطرفين، والأهم جدية العمل للاطلاع ولجمع المعلومات قبل إطلاق المقولة». ويضيف نحاس إلى ذلك وجود «اجتهاد ثابت مشترك بين محكمة التمييز الفرنسية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يعتبر أنه، لما تكون المسائل المثارة تندرج ضمن نقاش اجتماعي عام، ينتفي ادعاء القدح والذم». ويردّنا إلى مداخلة الخبير في قوانين الصحافة جان إيف دوبو Jean-Yves Dupeux، ألقاها خلال ندوة «العدالة ووسائل الإعلام التي نظمتها نقابة المحامين في بيروت بالتعاون مع الاتحاد الدولي للمحامين، يومي 7 و8 أيار 2013 في بيت المحامي في بيروت». وبالعودة إلى لسان العرب، ينقل نحاس تعريف التشهير على ذمة الجوهري، وهو «الشُّهْرَة وُضُوح الأَمر، وقد شَهَرَه يَشْهَرُه شَهْراً وشُهْرَة فاشْتَهَرَ وشَهَّرَهُ تَشْهِيراً واشْتَهَرَه فاشْتَهَر». لذلك يصبح «الذمّ حقا قانونيا متى تحول التشهير إلى واجب وطني واجتماعي، هذا اقتناعنا وهذا ما نطمح أن تسفر هذه الدعوى إلى إضافته صراحة إلى إسنادات الحكم الذي نرجوه، كي يتم إغناء الاجتهاد وإغناء الديمقراطية». هذا الطلب لم يكن مستحيلاً، خصوصاً في ظلّ وجود اجتهادات قضائية سابقة، ذكّر بها وكيل المدّعى عليه المحامي نزار صاغية في مرافعته. فقد أورد اجتهاداً لمحكمة المطبوعات في بيروت، في هيئتها السابقة المؤلفة من الرئيس لبيب زوين وغادة عون ووائل مرتضى، والتي أجازت دحض قرينة قيام النية الجرمية بإثبات العكس كلما برزت مصلحة اجتماعية من شأنها تبرير التضحية باعتبار الغير. كما ذكّر صاغية بحكم صادر عن محكمة استئناف بيروت الناظرة في قضايا المطبوعات، قرار رقم 209 تاريخ 19/11/2001 وجاء فيه: «وحيث انه هناك قرينة بقيام النية الجرمية تستخرج من طبيعة الكلام بالذات باعتبار انه يفترض بالفاعل ان يكون عالماً بمعنى الكلام الذي ينشره وبنتائجه الضارة وان يكون قد اراد الحاق الضرر بالمذموم به عندما أقدم على نشره، وأن هذه القرينة تبقى قائمة ما لم يقم الفاعل باثبات وجود وقائع وظروف ذات طبيعة ونوع وقيمة مميزة وأسباب وجيهة وصالحة من شأنها أن تحمل على التسليم بوجوب التضحية باعتبار الغير وشرفه وكرامته من أجل نشر الخبر المتضمن للذم، كما تحمل على التسليم بأن الذم كان ضرورياً ومفروضاً بحكم تلك الظروف والأسباب الوجيهة الاستثنائية والمميزة». وهذا النص كان قد ورد بالصيغة نفسها تقريباً في حكم صادر عن محكمة استئناف بيروت الناظرة في قضايا المطبوعات، قرار رقم 195 تاريخ 16/5/2001: «وحيث انه هناك قرينة بقيام النية الجرمية تستخرج من طبيعة الكلام بالذات باعتبار انه يفترض بالفاعل ان يكون عالماً بمعنى الكلام الذي ينشره وبنتيجته الضارة وان يكون قد اراد الحاق الضرر بالمذموم به عندما اقدم على فعله، الا أن هذه القرينة تبقى قابلة لاثبات العكس على أن يقع عبء الاثبات هذا على عاتقه، وحيث أن اثبات العكس يفترض اقامة الدليل على انتفاء قصد الذم والايذاء، أي على انتفاء سوء النية وقيام حسن النية، وذلك باثبات وجود وقائع وظروف ذات طبيعة ونوع وقيمة مميزة وأسباب وجيهة وصالحة، من شأنها أن تحمل على التسليم بوجوب التضحية باعتبار الغير وشرفه وكرامته من أجل نشر الخبر المتضمن للذم، وعلى التسليم بأن الذم كان ضرورياً ومفروضاً بحكم تلك الظروف والأسباب الوجيهة الاستثنائية والمميزة».
السلفادور: تقدّم مرشّح اليسار للرئاسة
أعلن مرشح حركة التحرير السابقة (اليسارية) في السلفادور، سلفادور سانتشيس سيرين، أنه كاد يفوز في الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى التي أجريت أول من أمس، ويضمن بقاء اليسار في الحكم بعد خمس سنوات من طرد اليمين منه، ولكنه الآن سيخوض جولة جديدة مع مرشح اليمين، نورمن كيخانو. وأفاد مرشح جبهة «فرابوندو مارتي» للتحرير الوطني الماركسية التي حصلت على 49% من الأصوات وفق نتائج فرز أكثر من 80% من مراكز الاقتراع: «فزنا بالجولة الأولى ونحن متأكدون أننا لن نفوز بعشر نقاط، بل أكثر وسيكون فوزاً كبيراً». من جانبه حصل عمدة العاصمة سان سلفادور كيخانو، على نتيجة 39% حسب هذه النتائج التي أعلنتها الأحد المحكمة الانتخابية العليا. (أ ف ب)
ياسمين شواف -السفير
بينما يتكدّس الغبار على ملف جورج عبد الله المنسي في أدراج الدولة اللبنانية التي نال منها الصدأ، تنجح المؤسسات الصهيونية واتّحاد الجاليات اليهودية في إثبات سيطرتها مجددا على الإدارة الفرنسية، ولا سيما القضاء. ألغى القضاء الفرنسي، أمس، قرار بلدية مدينة بانيوليه الشيوعية منح الناشط اللبناني الأسير جورج إبراهيم عبد الله لقب "مواطن شرف". وأصدرت المحكمة الإدارية في مونتروي أمرا بتعليق هذا القرار ريثما يتم البحث في الأمر. وكانت مديرية سين سان دوني (الواقعة قرب باريس) رفعت الخميس شكوى أمام المحكمة الإدارية ضد قرار بلدية بانيوليه. وقد أكد المحامي جيريمي بولي، الذي مثل جاك نيو العضو اليميني المعارض في المجلس البلدي، لوكالة فرانس برس "انه نجاح كبير وسابقة في القضاء". وأشار بولي إلى أن هذه الخطوة التي تم التصويت عليها في كانون الأول ودانها المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا والجمعية الفرنسية لضحايا الإرهاب "تخالف مبدأ الحيادية وليس لها أي مصلحة عامة محلية". إلا ان هذا القرار لم ينل من عزيمة "الحملة الدولية لإطلاق سراح الأسير جورج عبد الله"، إذ يؤكد عضو الحملة بسام القنطار أن "أهمية المبادرة التي اتخذتها بلدية بانيوليه تكمن في قيمتها المعنوية"، مشيرا إلى أن "البلدية ليست الأولى التي تكرّم الأسير اللبناني وتقدم له الدعم المعنوي". يعتبر القنطار أن "قرار القضاء ليس سوى إدانة إضافية للحكومة الفرنسية وإدارتها وتبيان الحقد الذي صار معلنا كما موقف اتحاد الجاليات اليهودية". ويستغرب القنطار المبرر الذي على أساسه بني الحكم القضائي ويقول: "إذا كان تكريم جورج عبد الله غير قانوني لأن الأخير لم يقدم أي عمل أو خدمة تفيد المصلحة المحلية، كذلك تكون الخطوات التّكريميّة للقادة الإسرائيليين الذين أطلقت أسماؤهم على الشوارع الفرنسية". وأسف القنطار لـ"تزامن هذا القرار وغيره مع زيارات مسؤولين فرنسيين للبنان، آخرها زيارة رئيس بلدية باريس"، وتوقع سلفا "ألا يثير هؤلاء، ولو من باب الإشارة، قضيّة جورج عبد الله". وتتحضر الحملة، بحسب القنطار، للعودة إلى الخطوات التّصعيديّة لا سيما في حال تشكلت الحكومة. وأشار إلى أن الرئيس المكلف تشكيل الحكومة تمام سلام "تعهد بتبني الحكومة قضية عبد الله، ملمّحا إلى أنها قد تكون من ضمن البيان الوزاري". ويأمل القنطار أن "تبرهن الحكومة الجديدة عدم خضوعها للانتداب الفرنسي من خلال أداء يختلف عن أداء الحكومات السابقة"، مشيراً إلى أنه في حال حذت حذو الحكومات السابقة "سيكون نصيبها المزيد من التصعيد". ويبقى اللوم الأكبر على الإدارة اللبنانية التي سبقتها بلديات أجنبية إلى تكريم مناضل لبناني، مع العلم بأن واجبها العمل الحثيث لإطلاق سراح جورج الذي يقبع بشكل غير قانوني في السجون الفرنسية
أعرب أهالي بلدة حلبا خلال مشاركتهم الكثيفة يوم أمس في اعتصام دعت إليه عائلة الضحية رلى يعقوب و«منظمة كفى»، عن رفضهم قرار قاضي التحقيق آلاء الخطيب الذي صدر منذ نحو الأسبوع في قضية الضحية يعقوب، والذي قضى بالموافقة على طلب الإفراج عن زوجها كرم البازي المتهم بقتلها، معتبراً أن «رلى لم تمت من الضرب»، وتم وفقا لذلك وقف التعقب بحق الزوج. «يمكن للقضاء أن يعطي الأحكام ويقتنع بها، لكن أحداً لا يمكنه أن يقنع عائلة رلى، وجيرانها، يأنها ماتت ميتة طبيعية». كلمات رددها المشاركون في الاعتصام الذي نظم أمام مبنى بلدية حلبا. وقد دعوا إلى إحقاق الحق والعدل وكشف لغز وفاتها، ورفعوا شعارات: «صمتها قتلها فليصرخ صمت العدالة»، «وكي لا تقتل رولى مرتين»، «فليسطع نور الحقيقة في ظلم من قتلها». وقد اعتبر رئيس بلدية حلبا سعيد الحلبي أن «ما جرى معيب ووصمة عار بحق العدالة. وكنا نتوقع أن يصدر الحكم بتسببه بالوفاة على الأقل، فإذا بالقضاء يبرئه من كل التهم». أضاف: «نحن مجتمع محلي وجميعنا يعرف بعضه، ولا مصلحة لعائلة رلى باتهام الزوج بالقتل لولا لم يكن ذلك قد حدث فعلا». وأكدت كاتي يعقوب باسم العائلة أن «القضاء هو المرجع الصالح والوحيد لكل شرفاء البلد والذي لجأت إليه العائلة انطلاقا من حق كرسه القانون ورعته الاحكام والعدالة. فإثارة القضية مجدداً بعد القرار الظني انطلقت من الاطر والنظم والقوانين المرعية الاجراء، وهو التسليم الكامل لجانب الهيئة الاتهامية ضمن حقنا الشرعي في الوصول إلى الحقيقة». وأكد الدكتور حنا جوخدار أن «نقطة الخلاف بين الأطباء بالنسبة إلى النزف الذي حصل في الدماغ إن كان ناتجاً عن تشوّه خلقي أو نتيجة الضرب، فإنه من غير الطبيعي أن تلد أم خمسة أطفال ولا ينفجر الشريان، لأن الولادة هي أكثر حدث فيزيولوجي يتعرض له الجسد والأوعية الدموية». وأكدت المدعية ليلى الخوري والدة رولى أن «محامي العائلة ريمون يعقوب قام برفع طلب الاستئناف يوم الجمعة الفائت، وأننا سنلجأ الى الأطر القانونية للوصول إلى الحقيقة». ولفتت مصادر حقوقية متابعة إلى أن «قاضي التحقيق في الشمال آلاء الخطيب، قد اصدر قراراً قضى بمنع المحاكمة عن المستأنف عليه بالاستناد إلى أقوال ابنتي المغدورة غلاديس وغبريال القاصرتين، ومن دون التوصل إلى جلاء حقيقة وفاتها من الناحية الطبية». أضافت المصادر أن «مجرى التحقيق في هذه القضية لم يلق العناية اللازمة منذ بدء التحقيق الأولي مروراً بالكشف الطبي الشرعي وصولاً إلى التحقيق الاستنطاقي الذي شابه العديد من الأخطاء والإهمال. ما يجعل التحقيق الاستنطاقي مشكوكاً فيه، لجهة إغفال القرار الظني وإفادات الشهود، إغفال تقصي بعض الاجراءات القانونية الضرورية، عدم وجود الواقعية والمنطق القانوني السليم في معالجة أسباب وفاة المغدورة».
تتوجه الأنظار اليوم إلى محكمة المطبوعات لسماع الحكم الذي سينطق به رئيسها القاضي روكز رزق في الدعويين المرفوعتين من قبل شركة «سبينيس» ومديرها التنفيذي مايكل رايت على الوزير السابق شربل نحاس. الحكم الذي سيصدر لن يكون عادياً، لأنه سيكرّس واحداً من أمرين: إما إقرار حق المواطنين في رفع أصواتهم ضد الظلم، وإما دفعهم إلى الرضوخمهى زراقط - الاخبارقد تكون واحدة من أسرع القضايا التي تبتّها محكمة المطبوعات، إذ يصدر رئيس محكمة المطبوعات القاضي روكز رزق حكماً اليوم في ما يعرف بقضية «نحاس ــ سبينيس»، بعد ثلاث جلسات فقط من الاستجواب أصرّ فيها المدّعى عليه على الخضوع مباشرة للمحاكمة من دون محاولات تأجيل اعتادتها أروقة قصر العدل.الحكم المنتظر على قدر كبير من الأهمية، ولا يتردّد المهتمون في القول إنه قد يكون «تاريخياً» في حال خرج ليكرّس حقاً للمواطنين بالتشهير بكلّ من يعتدي على حقوقهم وكراماتهم من دون أن يخافوا من سوقهم إلى المحكمة بتهمتي القدح والذمّ.هذا هو طموح الوزير السابق شربل نحاس، الذي وقف منذ الجلسة الأولى في 8 أيار الفائت تحت قوس العدالة وقال بفم ملآن: استجوبوني وحاكموني. وفي الجلسات الثلاث كان يحوّل مرافعته إلى محاكمة للمدّعي الغائب، مايكل رايت. لم يطلب البراءة فحسب، بل طلب أن تؤدي الدعوى المرفوعة ضدّه إلى إصدار حكم تتضمن إسناداته ما يجعل من الذمّ حقاً قانونياً، في حال تحوّل التشهير إلى واجب وطني واجتماعي. وربما اجتهد القاضي، ليخرج بحكم ليشكر المدّعى عليه لأنه قام بواجبه تجاه المواطنين، واستمرّ في ذلك من خلال أدائه في المحكمة.فهو، كعادته، حوّل الدعوى الشخصية المرفوعة ضدّه إلى قضية عامة. رفض التعامل معها على أنها مجرد شكوى من طرف «مسكين» تعرّض للقدح والذمّ، ونقل خبر كاذب عنه، بل رأى فيها استمراراً للمعركة التي كان يخوضها ضد ارتكابات شركة «سبينيس» بحق عمّالها منذ شباط 2012. كلمتا «الوقاحة» و«الإرهاب» اللتان استخدمهما الوزير المستقيل في كلامه ضد رايت، لم تردا في إطار خلاف شخصي بين الرجلين، بل في إطار سجال حول قضية تعنى بحقوق العمّال البديهية في الحصول على أجر والعمل بكرامة، وصولاً إلى تأسيس نقابة تحميهم. هي تأتي، تماماً كما قال محامي المدّعى عليه نزار صاغية في مرافعته الأخيرة في 11 كانون الأول الفائت، في إطار «معركة كبرى حول حرية العمال في إنشاء نقابات مستقلة في لبنان، تقاد للمرة الأولى منذ بدء الحرب الأهلية».ليس في هذا التوصيف مبالغة على الإطلاق، خصوصاً إذا تذكّرنا ارتكابات الشركة بحق عمّالها منذ شهر شباط 2012. يومها رفضت الشركة تطبيق مرسوم تصحيح الأجور الصادر عن مجلس الوزراء، فانتفض العمّال للمطالبة بحقوقهم، وجاء ردّ فعل الشركة، وممارساتها الانتقامية ليؤجّجا حراك العمال. فقد طرد موظفون، ونقل آخرون من مراكز عملهم إلى مراكز أخرى، وتعرّض أحدهم للاعتداء الجسدي، فيما هدّد آخرون بلقمة عيشهم وأجبروا على توقيع عرائض، كما تعرّضت وسائل الإعلام لضغوط، وتعرّض الناشطون الداعمون للقضية لملاحقات تسبّبت بفصل بعضهم من أعماله، فيما سيق آخرون إلى مكتب جرائم المعلوماتية... وفي خضمّ هذه المعركة، صمد العمّال وأسّسوا نقابة (لم تسلم هي الأخرى من الممارسات الانتقامية) مقدّمين في عملهم هذا نموذجاً يحتذى في بلد تهاوت نقاباته تباعاً، وتُرك العمّال فيه لزعماء الطوائف والأحزاب يتقاذفونهم ويتلاعبون بلقمة عيشهم.هذا هو السياق الذي رفع فيه نحاس صوته، ووصف فيه أفعال مايكل رايت بما هي عليه: ترهيب ووقاحة. كلمتان لم يستطع مايكل رايت تحمّلهما. ساءه أن يقال عنه إنه وقح وإرهابي. فالرجل حسّاس، وعنده كرامة يريد من القانون اللبناني أن يحفظها له. المدير البريطاني الذي خالف القانون اللبناني وعمل فيه من دون إجازة عمل طيلة الفترة الممتدة بين عامي 2005 و2012، بات يحترم القانون ويلجأ إليه للمطالبة بحقه. لكن، هل التفت رايت إلى أن هذه الدعوى أتاحت للمدّعى عليه أن يذهب أبعد في توصيف الأفعال التي قام بها؟من تابع جلسات الاستجواب، استمع من الدفاع إلى المزيد من ارتكابات رايت بحق اللبنانيين عموماً. فقد استند الأخير في دعواه إلى عبارة فحواها: «وقاحة من يعتبر نفسه فوق القانون». وقد رأى صاغية أن هذه الدعوى مردودة، لأن «عبارة وقاحة تدخل ضمن الأوصاف المباحة الحيادية نسبياً، تماماً كما هي عبارة جرأة أو جسارة أو تبجّح أو تحدّ، وهذه هي حال رايت في تحديه للقانون اللبناني». هذا عدا عن أن رايت «أثبت أنه لا يحترم القوانين، وذلك حين قرر من عندياته أن بإمكانه أن يعمل في لبنان من دون إجازة عمل... كما لم يحترم القوانين وذلك حين قرر من عندياته أن للشركة التي يديرها أن تحرم أجراءها من الزيادة المقررة قانوناً. كما لم يحترم القوانين حين انتهك حقوق عمال سبينيس بتأسيس نقابة». حتى تحقير رايت للقضاء «ثابت من خلال الحديث الصحافي الذي أدلى به، ومفاده أنه لا يخطط لحضور جلسة المحاكمة (في دعوى جزائية رفعتها النقابة ضده)، قبل ثلاثة أيام من انعقادها...».هذه الشروح التي قدّمها الدفاع تطال مضمون الدعوى المباشر، لكنها يجب ألا تبعدنا عن الهدف الأساسي منها، وهو محاولات رايت المستمرة لإسكات كلّ الأصوات التي ارتفعت للدفاع عن الحرية النقابية، هذه المرة من خلال القضاء. لهذا، رأى صاغية أن «السؤال المطروح على محكمة المطبوعات ليس سؤالاً عمّا إذا مسّت كلمات المدّعى عليه شرف الجهة المدعية، بل سؤال عمّا إذا كان للمدّعى عليه (نحاس) حق في مقاومة الظلم الحاصل ضد العمال والدفاع عن الحرية النقابية، وهو سؤال يرتبط بشكل مباشر بدور القضاء والانتظارات المعلّقة عليه». ولهذا طلب المدّعى عليه التوسّع في المحاكمة.فهل هذا ما سيطلبه القاضي روكز رزق؟ هل سيدين نحاس؟ أم يبرّئه؟ وكيف سيبرّر حكمه؟الكلّ اليوم في انتظار حكم مفصلي، كما وصفه صاغية. مفصلي لأنه إما أن يكرّس حقاً للمواطن في التشهير الموثّق، أو يطلب منه الرضوخ بحجة ارتكاب جرمَي «القدح والذمّ».
فراس أبو مصلح - الاخبارشهد العام الماضي تعابير مختلفة عن الأزمة الاجتماعية الحادة في لبنان، بأبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية. دفعت الأحداث الأمنية (المستثمَرة إعلامياً في تسعير التوترات المذهبية) بالعديد من الاحتجاجات الى الشارع. بيادق هذه الاحتجاجات ووقودها فقراء مهمشون، ضحايا سياسات الإفقار وتسعير الانقسامات المذهبية.في المقابل، نزل إلى الشارع كثير ممن تجاوزوا الاصطراع المذهبي المُفتعل بالتوحد حول المصالح الاجتماعية ـــ الاقتصادية الجامعة، لكن الحراك المطلبي ظل هامشياً في مجمل الحراك الاجتماعي، اذ بقي الأخير مشدوداً إلى العناوين السياسية والأمنية. فلماذا فشلت الحركة المطلبية في استقطاب الرأي العام؟ يرى البعض أن الأخيرة لم تعبر فعلاً عن مصالح أكثرية اللبنانيين، وأن استقطاب الرأي العام غير ممكن بطرح مسائل جزئية، بمعزل عن مشروع سياسي تغييري متكامل.اعتاد الرأي العام، منذ عقدين تقريباً، خواء الحياة السياسية، بمعنى خلوها من الطروحات والبرامج الاجتماعية الشاملة للأبعاد السياسية والاقتصادية، وانحطاط الخطاب السياسي إلى مهاترات بين أصحاب الحصص في النظام. وانحصاره منذ عام 2001 في مسألتَي المقاومة والعلاقة مع دمشق. ثم بات الجمود في الحياة السياسية اللبنانية مألوفاً و«طبيعياً» منذ عام 2005، فأصبحت الأطراف السياسية كافة في لبنان في حالة انتظار للمعادلة السياسية التي ستتبلور بعد انجلاء غبار المعارك، وطغت على الحراك الاجتماعي العناوين السياسية والأمنية. فيما بات الاستثمار الإعلامي للأحداث الأمنية الدافع الأكبر للتحركات الشعبية في الشارع، تحت عناوين مذهبية، وأخذت الأخيرة أشكال التجمع والتظاهر وقطع الطرقات والاعتداءات على الناس والممتلكات، فازداد الحراك المطلبي ضيقاً.الظروف لا تكون «مثالية» عادةاستقالة الأحزاب غير المذهبية من العمل الاجتماعي أخلت الساحة لما يسمّى منظمات المجتمع المدني، فهذه المنظمات نفذت اعتصامات وتظاهرات تحت عناوين مطلبية جزئية. تحاكي مصالح وتطلعات فئات محدودة من المجتمع، كتلك التي تطالب بقانون مدني للأحوال الشخصية، وحق الأم اللبنانية بمنح جنسيتها لزوجها وأولادها، وحماية النساء من العنف الأسري (على سبيل المثال). هذه العناوين، على أحقيتها وأهميتها، تبقى مسائل جزئية لا تصنع رأياً عاماً، ولا تمثل قضيةً ومشروعاً للتغيير. اعتصامات وإضرابات عمالية، كتلك التي قام بها مياومو الكهرباء وعمال «سبينيس»، تبقى أيضاً تحركات محدودة تحت عناوين جزئية، قد تنجح في فرض تعديلات على شروط العمل، ليس إلا، لكنها لا تحرك رأياً عاماً.مثّلت إضرابات واعتصامات وتظاهرات «هيئة التنسيق النقابية» العام الماضي تطوراً نوعياً في الحراك النقابي، باختراقها «خطوط التماس» السياسية والتشكيلات المذهبية والحزبية، وبطول نفَسها وزخمها وحجم المشاركة فيها. للمرة الأولى منذ 1991، نشأت حركة مطلبية ذات طابع جماهيري، شاملة موظفي الدولة والمعلمين، واعدة بإنشاء نقابات غير قائمة على العصبيات. ومع ذلك، بقي خارج هذا التحرك على سبيل المثال كل العاملين في القطاع الخاص، ولا سيما حوالى 200 ألف عامل في القطاع غير النظامي، أناس بائسون، بلا ضمانات ولا خدمات اجتماعية، لا تشملهم «سلسلة الرتب والرواتب» ولا تعنيهم، بحسب مدير مؤسسة البحوث والاستشارات الاقتصادية، كمال حمدان، الذي يرى في العمل النقابي «طوابق متعددة» لا تستطيع النقابات المنفردة التعامل معها. هنا تبرز الحاجة إلى أحزاب تضع رؤية شاملة لـ«الطوابق كافة». تكمن مشكلة هيئة التنسيق إذاً في أنها، «بقدر ما تزخّم حركتها المطلبية العملية السياسية التقدمية، بحاجة إلى حاضنة سياسية تقدمية» تؤطرها في مشروع تغييري قابل للتحقق، كما يقول رئيس حركة الشعب، النائب السابق نجاح واكيم. «إن من يسألون الهيئة ماذا حققت، هم مَن يُفترض أن يُسألوا ... القوى التقدمية كانت متخلفة»، يقول واكيم. والتذرع بالصراع المستعر ليس مقبولاً، إذ لا تكون الظروف أبداً «مثالية» للعمل المطلبي والسياسي. تنشب الثورات حين يكون «النظام السياسي في ذروة أزمته»، كما هي الحال الآن.إقصاء الاقتصاد والاجتماع عن السياسة«القرار السياسي تكثيف للمصالح الاجتماعية الاقتصادية»، يقول الباحث الاجتماعي والمستشار الإقليمي لـ«إسكوا»، أديب نعمة؛ أما في لبنان، فقد «جرى إقصاء الاقتصاد والاجتماع» عن السياسة. يرى نعمة في غياب ربط الحراك المطلبي بـ«الشروط السياسية والمؤسسية لتحقيق المطالب» أحد أهم «أعطاب» الحراك. فالمدخل لتحقيق المطالب الاجتماعية ـــ الاقتصادية هو التغيير السياسي، بينما الصراع السياسي اليوم في مكان آخر، إذ إن السياسة «المعقمة» من الأبعاد الاجتماعية ـــ الاقتصادية، والمرتكزة أساساً على العصبيات الطائفية والالتحاق بالأجندات الخارجية «غير معنية» بالقضايا المطلبية، وخصوصاً في ظل اتساع «الاقتصادات الموازية» المتعلقة بالحرب وبالنشاطات غير الشرعية، كالتهريب مثلاً.لا يمكن الضغط على القوى السياسية من قبل القوى الاجتماعية، يؤكد نعمة، فـ«الدائرة السياسية مرتبطة بالعصبية الطائفية والخارج»، و«الدولة هي الطرف الأضعف بين الأطراف السياسية»، ولا «مجتمع مدنياً قوياً»؛ وإذا ما أراد الأخير، ممثلاً بالجمعيات الأهلية والنقابات العمالية و«الهيئات» وأصحاب المهن الحرة (الطبقة الوسطى)، إعادة الاعتبار إلى الاجتماع والاقتصاد في السياسة، «يصطدم بالمجتمع السياسي» القابض على الدولة.برغم وصفه تحركات هيئة التنسيق النقابية بأنها «من أنجح التحركات وأكثرها تماسكاً وعدالةً واختراقاً للطوائف»، يجزم نعمة بأن في القول إنها هزت النظام السياسي مبالغة. فهي محكومة بالتوازنات بين الأطراف السياسية المكونة لها، «ولم يكن بإمكانها الاتفاق على أي بند إضافي خارج موضوع سلسلة الرتب والرواتب». «القضية قوية ويومية وحساسة» الى درجة دفعت إلى التحرك، لكنّ الفاعلين في التحرك «لم يتفلتوا» بالكامل من قبضة القوى السياسية، التي لم ترَ في التحرك تهديداً جوهرياً لمصالحها، فالمطروح «تعديل في حجم التوزيع»، لا التغيير الجذري في النموذج السياسي ـــ الاقتصادي القائم. تمويل السلسلة من الريع لا يخرج عن المنطق «الغنائمي»، بمطالبته بحصة من الريع، بحسب نعمة، بدل طرح مشروع للتغيير الفعلي يتمثل في حزمة سياسات تنتج حلاً حقيقياً «يقص جوانح النظام الريعي، نظام الأتاوات»، ويشمل تغييراً جذرياً في النظام الضريبي وتقديم الخدمات العامة.