بعد قدمَي القذافي، حضّروا أكياس الجثث

جان عزيز

سألت صحافية روسية سفير بلادها السابق في ليبيا عن أهوال القمع القذافي. ففاجأها الدبلوماسي الروسي، فلاديمير شاموف، بالقول: «عن أي قمع تتحدثين؟ لكل ليبي حق مضمون بقرض سكني لمدة عشرين عاماً بفائدة صفر في المئة. ثمن ليتر البنزين 10 سنتات. الطعام بأسعار شبه مجانية. سيارة جيب جديدة ثمنها نحو 7500 دولار فقط...». حرضت هذه الأرقام الصحافية على اكتشاف المزيد، ما جعلها تخرج بهذه اللائحة عن الأرقام الليبية في زمن القذافي: معدل الدخل للفرد الليبي نحو 15 ألف دولار سنوياً (ما يعني أن عائلة ليبية متوسطة الحجم من أربعة أفراد دخلها السنوي 60 ألف دولار).

لكل مواطن ليبي مساعدة سنوية قدرها ألف دولار. العاطل من العمل يتقاضى مساعدة شهرية قيمتها 730 دولاراً. كل مولود ليبي يتقاضى والداه مساعدة قدرها 7 آلاف دولار. كل زيجة تسمح لعروسيها بمنحة سكنية قيمتها 64 ألف دولار. كل مشروع استثمار فردي يستفيد من هبة بقيمة 20 ألف دولار. التعليم مجاني في كل مراحله حتى الجامعية، داخل ليبيا أو خارجها. للعائلات الكبيرة العدد مخازن خاصة تبيع المواد الأساسية بأسعار شبه مجانية. الكهرباء مجانية لكل المواطنين. أي ليبي يشتري سيارة جديدة تدفع الدولة عنه نصف ثمنها... ولا تنتهي اللائحة. لماذا حصلت تلك المسماة «ثورة ليبية» إذاً؟ جوابان جاهزان: أولاً كرامة الشخص الإنساني في تلك البلاد، والأغلى من كل مكرمات القذافي ــــ كذا ــــ ومصالح الدول الغربية ثانياً. لكن ذاكرة بسيطة بعض الشيء، ولو قصيرة، كافية لاستذكار قصة المصالح الغربية بالصورة والصوت. قبل «ثورة 17 فبراير» بقليل، كان القذافي في إيطاليا، يقبّل برلوسكوني يده، تعويضاً باللغة الدبلوماسية الحضارية عن لعق القفا باللغة الواقعية العربية. وقبلها كان ساركوزي يتعمشق بجلبابه ليقبّل وجنتيه، يوم كانت أموال سيف الإسلام «تُزيِّت» ماكينات الديغوليين الجدد الانتخابية. (أصلاً باتت قاعدة فرنسية بعد رحيل شارل الكبير، ومعه فرنسا العظيمة: من ماسات بوكاسا مع ديستان، الى شيراك المتقاعد في شقة «مالكه» الحريري، بعدما أمضى أعوامه في السياسة الفرنسية متعاقداً معه)، وصولاً طبعاً الى لندن وواشنطن اللتين هندستا تسوية لوكربي، ما جعل بلير ورامسفيلد يكتشفان عبقرية كاتب «القرية القرية.. الأرض الأرض.. وانتحار رائد الفضاء»، ويعلنان تفوقه على شكسبير، أو «الشيخ إسبر»، كما أقرّا وسلّما بالدليل البترو دولاري القاطع. أما عن كرامة الشخص البشري في ليبيا، فيروي إعلامي عربي تعاقد مرة مع نظام القذافي لتطوير تلفزيونه الرسمي، أنه ذات يوم استدعي الى طرابلس الغرب على عجل. قيل له إن الطارئ مسألة حياة أو موت لكثيرين. وصل الى العاصمة الليبية ليتم إبلاغه بأن «القائد» مستاء من التلفزيون ومن الجماهير التي تقبل على مشاهدته. سأل: وماذا حصل؟ وجم «المطورون»، قبل أن يديروا جهاز التلفزيون، ليكتشف الإعلامي أن «القائد» قرر نقلاً مباشراً على مدى ساعتين، من باب العزيزية، لصورة قدميه عاريتين في وجه جماهيره، كتعبير عن عدم رضاه عنهم، حتى يتغيروا أو يغيروا ما في نفوسهم. بعد أيام كانت مناسبة «ثورية»، نزل الليبيون بمئات الآلاف، حيوا القائد، تماماً كما نزل أجدادهم لتحية السنوسي، ونزل آباؤهم لتحية «الملازم» قبل 42 عاماً، وكما سينزل أبناؤهم لاحقاً لتحية من سينقلب على الثائر الذي يحيونه اليوم. إنه جزء من بنية البؤس التكويني لتركيبة العقل (Episteme) في هذه المنطقة. بؤس بنيوي تكويني محظور الكلام عن أسبابه، على طريقة الرعب من الكلمات ــــ المفاهيم. في هذا الوقت، تفتح ليبيا علبة «باندورها»: مجتمع بدائي من زمن ما قبل العصر، مفتوح على كل تشوهات الأصوليات. فما لا يقوله المنتصرون اليوم، أن معظم قادة الجيل الجديد في تنظيم «القاعدة» هم من أبناء ليبيا الخضراء. من «أبو الليث» الذي أعلنه الظواهري قبل أربعة أعوام زعيماً لقاعدة ليبيا، الى «الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا»، التي كرستها الأمم المتحدة منذ عام 2001 «قاعدة رسمية»، مروراً بعطية عبد الرحمن الليبي، الذي اغتيل في وزيرستان، بعدما اعتبرته واشنطن أخطر رجل بعد بن لادن. وصولاً الى عبد الحكيم بلحاج، زعيم طرابلس الجديد، تلميذ عبد الله عزام وخريج معتقلات لندن والقذافي قبل «صلح» طرابلس، وقبل أن يقود غزوة «فتحها»، كما أحب داوود أوغلو العلماني تسمية معركتها. سقط القذافي. تماماً كما سقطت أفغانستان وبعدها العراق. حضّروا أنفسكم للإمارة الليبية الآتية. أما الغربيون فليحضروا أكياس الجثث، وبعدها ليعدّوا أنفسهم للتفاوض مع «قذافي» ما، للخروج من المستنقع بعد بضعة أعوام... إلا إذا خرج من هذه الجماهير من لا ترعبه الكلمات، أكثر من رعب الدم.

الأكثر قراءة