واليوم حان وقت دفع الفاتورة، ففي 2009، تراجع الناتج المحلي الإجمالي بـ7.9 في المئة - رغم أن أن موسكو كانت تمتلك ثالث أكبر احتياطي من العملات الأجنبية - وكان أداء روسيا الأسوأ من بين كل أعضاء مجموعة العشرين للقوى الاقتصادية العالمية. وعلاوة على ذلك، فإن معارضة الحكومة في ازدياد، في وقت أخذت تدرك فيه النخب الروسية أن نموذج بوتين قد باء بالفشل.
وفي مؤتمر تجاري في موسكو هذا الشهر، واجه نائب رئيس الوزراء "إيجور شوفالوف" تلميحات تفيد بأن روسيا بدأت تنسحب تدريجياً من القوة الماحقة لمجموعة "بريك"، التي تضم الاقتصاديات الصاعدة للبرازيل وروسيا والهند والصين، وذلك بسبب أدائها الضعيف. ورداً على سؤال حول رد الحكومة على الأزمة الاقتصادية العالمية، قال "شوفالوف" بنبرة دفاعية إن أعمال روسيا كللت بالنجاح، والحال أن الأرقام لا تعكس ذلك.
إن مشكلة روسيا أكبر من الإكراهات اليومية، فماليتها العامة في حالة جيدة وحسابها الجاري جيد؛ إلا أنه خلال ولاية بوتين الثانية كرئيس، من 2004 إلى 2008، حدثت موجة كبيرة من عمليات إعادة التأميم، وفي مقدمتها مصادرة شركة "يوكوس النفطية". ونتيجة لذلك، فإن جزءاً كبيراً من اقتصاد روسيا يخضع اليوم لهيمنة شركات الدولة الاحتكارية مثل "غازبروم"، وشركة السكك الحديدية الروسية، وشركة التكنولوجيات الروسية، و"ترانسنفت"، و"روسنفت"، ومجموعة من البنوك. وكلها شركات يديرها مقربون من بوتين، وأصدقاء له من أيامه في جهاز الاستخبارات السوفييتي الـ"كي. جي. بي".
وهذه الشركات الكبرى التابعة للدولة هي المسؤولة عن جزء كبير من التراجع في الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، إن لم يكن كله. إنها حفرة سوداء من انعدام الكفاءة والفعالية، لأن مدراءها لا يعرفون كيف يديرون شركة، وهو ما يؤدي إلى نتائج مالية ضعيفة، ومعونات كبيرة من الدولة، وخدمات بئيسة، وفساد مستشر. وعندما كانت أسعار النفط مرتفعة بما يكفي لاستمرار التمثيلية، لم تكن النخب تشتكي، وهي التي علّمَتهم تكتيكاتُ الحكومة في قضية "يوكوس" - مثل فبركة تهم ضد رئيس الشركة السابق ميخائيل خودوركوفسكي - التزام الصمت؛ وعلاوة على ذلك، فقد كانوا في حالة مادية جيدة. أما اليوم، فإن الفساد في الشركات التابعة للدولة يتسبب في تراجع وتأخر روسيا وراء بلدان أخرى.
ومن الواضح أن المسؤول عن هذا الوضع هو بوتين ورأسمالية الدولة، حيث توسع القطاع العام خلال عهده وازداد قوة، كما يقول البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية؛ وأصبح أكثر فساداً، كما تقول منظمة الشفافية الدولية؛ وأصبحت روسيا أقل تنافسية، حسب المنتدى الاقتصادي العالمي؛ وازدادت البيئة التجارية والاستثمارية سوءاً، حسب البنك الدولي. واليوم، بات الفساد يضرب أطنابه في روسيا إلى درجة أنها لم تقم بتوسيع شبكة طرقها منذ عام 2000. ومثل هذه الحقائق لم تُعرف إلا في السنوات الأخيرة، ولكن فقط لأن النخب الروسية تشعر بأن تأثير ذلك هو أن الناس بدأوا يتكلمون من دون خوف أو تردد.
وقد بدأت أصوات من النخبة تنتقد الوضع إلى درجة أن 2010 بدأت تحمل بعض أوجه الشبه مع 1987، وهي السنة التي رأت فيها سياسة الجلاسنوست" الانفتاحية، التي جاء بها ميخائيل جورباتشوف النور. وفي مقدمة هذه الأصوات معهد "إيجور يورجينز" للتنمية المعاصرة، الذي لا يرأسه شخص آخر غير الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، حيث يدعو المعهد إلى الليبرالية الغربية، وإلى حل وزارة الداخلية وجهاز الـ"إف. إس.بي"، الذي خلف الـ"كي. جي. بي". وفي الثامن عشر من فبراير الماضي، وفيما يبدو استمراراً للإشارات التي كان قد أطلقها من قبل، قام ميدفيديف بإقالة 17 من جنرالات الشرطة. وفي ديسمبر، ذهب "جليب بافلوفسكي"، المتودد القديم للكريملن، إلى حد دعوة بوتين إلى التقاعد، قائلاً إن رئيس الوزراء أصبح من الماضي.
واللافت أن أحد أبرز معارضي بوتين هو فلاديسلاف سوركوف، نائب رئيس الموظفين الرئاسيين الأبدي. ثم حدثت مفاجأة أخرى عندما سمحت السلطات لأزيد من 10 آلاف شخص، وهو تجمع ضخم بالمعايير الروسية، بالتظاهر في مدينة كالينينجراد الواقعة غرب البلاد في الثلاثين من يناير الماضي، رغم أن الاحتجاج كان موجهاً ضد بوتين والحاكم الإقليمي. وضمن تداعيات هذا الأمر، أقيل مرؤوس سوركوف الذي يشرف على السياسة الداخلية في شمال غرب روسيا على الفور، وهو حدث نادر في روسيا بوتين، حيث تفيد الشائعات بأن بوتين اتهم "سوركوف" بأنه سمح بتنظيم المظاهرة.
والواقع أن الروس أضحوا أقل خوفاً مقارنة مع السنوات الأخيرة، بل إن بعضهم أصبح يخجل من جبنه في الماضي. ومن أبرز الشخصيات التي تلحق بهذا الركب وزير المالية "إليكسي كودرين"، الذي يحظى بالاحترام والتقدير، والذي انتقد حزب بوتين "روسيا المتحدة" علناً؛ و"سيرجي ميرونوف"، الذي يعد من المخلصين لبوتين ويرأس مجلس الفيدرالية الروسية. ولئن كان الكثيرون يقللون من شأن ميدفيديف داخلياً وخارجياً، إلا أنه أمر جيد ربما أن يتعرض المرء للتقليل من شأنه. فقد انتقدَ الرئيسُ الشركات التابعة للدولة وأجهزةَ فرض القانون والفساد علناً، مشيراً بذلك إلى ثغرات حتى يسدها الآخرون. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن روسيا بدأت أخيراً تشعر ببعض الدفء في عز الشتاء.