محمد إبراهيم نقد.. شيوعي يؤم الصلاة

لم يتسلم زعيم الحزب الشيوعي السوداني محمد إبراهيم نقد منصبا رسميا في تاريخ السودان الحديث، لكنه كان طوال الوقت واحدا من أهم الرموز الشعبية، وحظي بسبب مبدئيته ونضاله باحترام زعماء سودانيين ساهموا في رسم مجرى التحولات. ولهذا لم يتحرج إمام الطائفة المهدية الصادق المهدي ولا مرشد طائفة الختمية محمد عثمان الميرغني أن يأتما في صلاتهما بالشيوعي نقد إبان وجودهم جميعا في معتقل كوبر بعد انقلاب عام 1989 بقيادة عمر البشير. ولد الزعيم الشيوعي السوداني عام 1930 في أسرة تعود جذورها إلى قبيلة الدناقلة بمنطقة حفير مشّو في المديرية الشمالية، لكن العائلة كانت قد استقرت في القطينة بمديرية النيل الأبيض. ودرس نقد في القطينة ثم أكمل تعليمه بمدرسة حلفا الأولية ثم حلفا الوسطى، وهناك ظهرت ميوله الثقافية والاجتماعية فأشرف على جمعية التمثيل والمسرح. في تلك الفترة انخرط نقد مبكرا في النشاط الوطني المناهض للاستعمار، فشارك في المظاهرات عام 1946، ولم يكد يدخل مرحلة التعليم الثانوي حتى انخرط في النشاط السياسي، ما أدى لاحقا إلى فصله من كلية الآداب على خلفية نضاله الوطني ضد الاستعمار، ثم سجن عام 1952 مدة شهر. سافر السياسي الشاب إلى أوروبا عام 1953 فدرس الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعة صوفيا ببلغاريا، وواصل إبانها نشاطه السياسي، ثم عاد إلى السودان عام 1958 متفرغا للعمل في الحزب الشيوعي. بداية الاختفاء وتطلب عمل نقد الاختفاء بسبب القمع الشديد الذي كان يواجهه الشيوعيون بين الحين والآخر، واعتقل مطلع سيتينيات القرن العشرين، فقضى عاما في السجن. وعقب قيام ثورة 21 أكتوبر/تشرين الأول 1964 فاز نقد في الانتخابات النيابية مرشحا عن الحزب الشيوعي. لكن مكوث النائب الجديد في البرلمان لم يطل، فقد صدر قرار بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان رغم صدور حكم المحكمة العليا السودانية بعدم دستورية الطرد، فواصل نقد نشاطه واختفى المناضل الشاب ممارسا العمل السياسي السري. انقلاب 25 مايو/أيار 1969 سيشكل حدثا فارقا في تاريخ السودان الحديث مع مجيء العقيد جعفر النميري إلى سدة الحكم، أما عام 1971 فسيكون عاما دمويا في البلاد ومفصل تحول في تاريخ الحزب الشيوعي، حيث سيصد انقلاب الرائد هاشم العطا الذي نسب إلى الشيوعيين بانقلاب مضاد من النميري وإمساكه بزمام السلطة من جديد، لكن بثمن دموي هذه المرة حيث أعدم النميري قيادات الحزب الشيوعي فيمن أعدم، ومن بينهم زعيم الحزب عبد الخالق محجوب ورفيقاه الشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق. محجوب قضى شهيدا من أجل مبادئه بعدما تبنى الانقلاب لحماية الحزب ورفض إلحاح الرفاق بمغادرة البلاد، فتحول في ضمير الناس إلى أغنية وأيقونة يرددونها من فوق الأكتاف وفي الزنازين العربية "بعدك عايش في بالنا.. فلاحينا وعمالنا". وكان على الحزب الشيوعي السوداني أن يسد جرحا أصابه في قلبه، فلم يتأخر في تصعيد محمد إبراهيم نقد زعيما جديدا له. الظهر والضربة "الضربة التي لا تقصم الظهر تقويه" مقولة يؤمن بها الشيوعيون، فكان على نقد إبان السبعينيات أن يحافظ على صلابة حزبه وعماد نضاله الوطني والقومي، ولعل أصعب مهمة واجهها القائد الجديد للحزب أن عليه خوض معاركه الداخلية والخارجية وهو مختف عن الأنظار، حيث كانت فترة الاختفاء الأول الطويلة منذ أوائل السبعينيات حتى عام 1985 موعد انتفاضة الشعب السوداني الجديدة على النميري. بعد عودة الحياة النيابية إلى البلاد انتخب نقد نائباً عن دائرة الديوم والعمارات بالجمعية التأسيسية، وظل يباشر مهام العمل النيابي والسياسي، لكن سنوات "الديمقراطية الثالثة" لم تعمر طويلا فتم اعتقال الزعيم الشيوعي مع قيام عسكر الجبهة الإسلامية بانقلاب عام 1989 أو ما يعرف باسم ثورة الإنقاذ. أطلق سراح نقد بعد سنتين تقريبا، لكنه وضع تحت الإقامة الجبرية، ثم بدأت عام 1993 مرحلة الاختفاء الجديدة، فبعد اشتداد التضييق مجددا على حزبه، اضطر الزعيم الشيوعي للعودة إلى العمل السري "فالشيوعيون كالأعشاب كلما قصصتهم نموا بقوة". استمر الاختفاء الثاني حتى عام 2005، وبعدما شهدت البلاد انفراجا ظهر نقد مجددا وواصل قيادة الحزب والعمل السياسي العام في العلن، وفي يناير/كانون الثاني 2009 تم التجديد لقيادته عبر المؤتمر العام الخامس للحزب الذي انعقد بعد أربعين عاما من المؤتمر السابق. قيادة فكرية مارس نقد طوال عمله الحزبي زعامة تنظيمية وسياسية وفكرية، فإلى جانب جرأته وشجاعته تمتع الزعيم الشيوعي بقدرات فكرية ميزت القيادات الشيوعية السودانية عموما وسط أحزاب اليسار العربي. وقد أصدر عددا من المؤلفات السياسية والفكرية منها: قضايا الديمقراطية في السودان، حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، وهو قراءة فكرية لمشروع المفكر اللبناني الكبير حسين مروة. كما أصدر نقد كتابين حول علاقات الأرض والرق في السودان، إلى جانب تنظيراته في بناء الحزب الثوري والتطورات الفكرية والفلسفية التي شهدها الفكر الاشتراكي. الدين والنضال روت زوجة عبد الخالق محجوب أن الزعيم الشيوعي الراحل لم يكن يخرج من بيته صباحا قبل أن يقرأ ورده اليومي من القرآن الكريم، حسب ما نقل مقربون عنها. ولم يكن محجوب في هذا منبتا عن سياق فكر حزبه، بل إن هذا الحزب طرح منذ بدايات تأسيسه هوية حضارية للحزب تأخذ وجهها من ثقافة الشعب السوداني الدينية والقومية. واستطاع نقد خلال قيادته للحزب أن يعزز خيارات الشيوعيين السودانيين في زرع نبات يخرج من هموم الشعب المغلوب ويأخذ لونه، دون أن يكون مرتهنا لخيارات الأيدولوجيا التي ميزت بعض الأحزاب الشيوعية في "نسخ" تجربة الحزب الشيوعي السوفياتي. رفض حزب محجوب منذ البدايات الربط التعسفي بين حرية المعتقد والإلحاد، فكان يرى أن الاسلام والعروبة مكونان أصيلان في روح الشعب السوداني، وهما بالضرورة جزء من مكونات مناضليه الشيوعيين. وهذا ربما ما يفسر إمامة نقد لصلاة معتقل 1989 حين اعتقل العميد المغمور عمر حسن البشير جميع السياسين ووضعهم في السجن في بداية تنفيذه انقلابه بمن فيهم شيخه حسن الترابي كنوع من التمويه الأمني وإخفاء هوية الانقلابيين الجدد، قبل أن يعلنوا لاحقا هويتهم الإسلامية. يتقدم نقد الآن إلى الترشح لرئاسة السودان، وهو يحمل تجربة قامت في جزء منها على سرية النشاط وعلانية العمل، وارتكزت أيضا على تحليل ماركسي للعلاقات والأدوار دون الارتهان إلى النص الجامد. وهو يحمل حلم الاشتراكية ورفع القهر عن ظهور الناس، ضمن إطار ديمقراطي تحرري بعيدا عن دكتاتورية الحزب والشخص، ليصنع الناس خبزهم بأيديهم ويحكموا أنفسهم بإرادة حرة. المصدر: الجزيرة الأربعاء 24/03/2010  
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة