ورد كاسوحة - الاخبار
التحوّل الذي بدأ في تركيا عقب الانتخابات الأخيرة لن يقتصر على الخريطة السياسية والحزبية بل سيتعدّاه إلى بنية المجتمع التركي التي كانت قد تغيّرت بالفعل مع حكم العدالة والتنمية، قبل أن تعود للتحوّل مجدّداً مع هزيمته المدوية في الانتخابات. ومن يقود التحوّل هذه المرّة ليس المعارضة التقليدية المتمثّلة بحزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية - والتي بقيت نتائجها الانتخابية عند حدود المتوقّع إذا ما استثنينا منها التقدّم «الطفيف» الذي أحرزته الحركة القومية قياساً إلى نتائج الانتخابات الماضية - وإنما الفئات المهمّشة التي انضمّت إلى قواعد حزب الشعوب الديمقراطي وحوّلته من مجرّد ذراع سياسي لحزب العمّال الكردستاني إلى تيار يساري عريض يمثّل مجمل الحالة الاعتراضية على حكم أردوغان.
والحال أنها - أي الحالة - لم تكن على هذا النحو من التجذّر والاتساع قبل سنوات، واقتصر التعبير عنها على بعض النخب اليسارية والكردية هنا وهناك لكن سلوك أردوغان التسلّطي ونزعته المتزايدة للسيطرة على مفاصل الدولة الرئيسية دفعت بها قدماً، وكانت نقطة التحوّل بالنسبة إليها هي احتجاجات جيزي في حزيران من عام 2013.
جيزي... بداية التصدّع
حينها انفجرت دفعة واحدة كلّ التراكمات التي أخّرتها سياسات النموّ الاقتصادي لحزب العدالة والتنمية، فباسم أولوية الاستثمار والتنمية وتحقيق فائض في الميزان التجاري جرى التغاضي عن كلّ السياسات التي قادها أردوغان ضدّ المهمّشين والأقليات السياسية والاجتماعية (الشيوعيون والمثليّون والنساء والأكراد والأرمن و...الخ)، وبالتالي رضخ المجتمع تحت تأثير هذه الطفرة للتسويات الجزئية التي كان يتبعها الرجل وحكومته لإبقاء خصومه تحت السيطرة ومنعهم من «هزّ استقرار المجتمع». وكما يحدث في احتجاجات مماثلة فإنّ توسّع الحالة الاعتراضية لم يكن ممكناً لولا العنف الذي قابلت به قوّات الأمن تحرّكات المعترضين على إزالة الحديقة، حيث بدأت ظاهرة الدوائر الاجتماعية بالبروز ولم يعد ممكناً نسب الاحتجاجات إلى فئة بعينها.
يعبّر دميرتاش عن الانسجام الحاصل بينه وبين القواعد الرافضة لأيّ تسوية مع السلطة فإلى جانب الشيوعيين والخضر ومناصري أحزاب المعارضة التقليدية كان هنالك الإسلاميون المنتمون إلى حزب السعادة، وكذا الحركات النسوية القريبة من اليسار. كلّ هؤلاء كانوا مشمولين ببطش الشرطة وأجهزة الأمن التابعة لحكومة أردوغان، ويمكن القول إن استمرارهم معاً طيلة فترة الاحتجاجات هو الذي مكّن المعارضة اليسارية المتمثلة حالياً بحزب الشعوب الديمقراطي من «استعادة وحدتها» بعد تشرذم استمرّ لعقود طويلة. صحيح أنّ الاحتجاجات انتهت بعد أسابيع من اندلاعها لكنها مكّنت القاعدة اليسارية من إيجاد أرضية تقف عليها، ومن هنا أتت الرمزية التي احتلّتها ساحة تقسيم في وجدان هذه الشريحة المتزايدة من الشعب التركي، فهي لم تعد فقط رمزاً للاحتجاجات والتضحية بالنفس في وجه حكومة أردوغان بل أصبحت أيضاً منطلقاً لأيّ عمل اعتراضي ضدّ حكم العدالة والتنمية. ولذلك فقد أُغلقت تماماً من جانب الحكومة ومُنع على أيّ من التجمّعات السياسية الاقتراب منها وخصوصاً في المناسبات التي تحمل طابعاً رمزياً مثل عيد العمّال وغيره. وحين كانت المعارضة تعترض على هذه الإجراءات وتدفع بشبّانها إلى الساحة متحديةً قرار الحكومة كانت تَلقى قمعاً شديداً وتحصل بينها وبين قوّات الأمن المكلّفة بإغلاق الميدان والشوارع المتفرّعة عنه مناوشات غالباً ما تنتهي باعتقال العشرات من الشبان والشابات وتحريك دعاوى قضائية ضدهم بحجة «الإخلال بالأمن» وتكدير «السلم الاجتماعي».
ديار بكر... لحظة الذروة
طيلة هذه الفترة كانت السلطة تحاول منع هذا التيار من تشكيل قاعدة اجتماعية يمكن الاعتداد بها، وهو ما فشلت به أخيراً بحسب النتائج الانتخابية لكنها أدركت منذ البداية خطورته عليها وقدرته على تشكيل تحدٍّ من نوع جديد لحكم أردوغان. وهي حين تفعل ذلك تعرف أنها لن تكون إزاء محطة واحدة فقط، وإنما في مواجهة صيرورة متصاعدة بدأت في الاحتجاج على إزالة حديقة عامّة ثمّ توسعت وانتقلت إلى أماكن أخرى ضامّة إليها مزيداً من شرائح الشعب التركي. هذا الانتقال رافقه بالضرورة تغيّر في أشكال المواجهة وحدّتها فالاحتجاج السلمي في جيزي تحوّل لاحقاً إلى مواجهات دموية في ديار بكر، إذ إنّ طبيعة المواجهة كانت مختلفة، وكذا الأمر تركيبة البنية الاحتجاجية التي كانت تفرض أوسع اصطفاف ممكن في جيزي وتقسيم بينما تحتاج في ديار بكر إلى «أقلّية» تقدر على مواجهة بطش السلطة وعملائها داخل البيئة الكردية. سقط في هذه المرحلة عشرات الضحايا من المعارضة الكردية وانتهى بسقوطهم فصل كامل من فصول التسويات الجزئية التي أبرمتها حكومة أردوغان مع «الأكراد» بغرض استيعابهم داخل العملية السياسية التي يقودها حزب العدالة والتنمية. وفي حين ظنّ أردوغان أنّ هذه المواجهات لن تؤثّر في حظوظ عملية التسوية التي يقودها مع «الأحزاب الكردية» فإنّ نتائج صناديق الاقتراع التي أعطت معظم أصوات المناطق ذات الغالبية الكردية لحزب الشعوب الديمقراطي أتت لتقول العكس، ولتنهي ليس فقط التسوية الصورية مع «الأكراد» وإنما أيضاً كلّ «التسويات الاجتماعية» التي عوّل أردوغان على استمرارها للحفاظ على «الاستقرار» الذي يظنّ أنه مفتاح وصوله إلى السلطة وكذا بقائه فيها.
توليفة حزب الشعوب الديمقراطي
وعلى ما يبدو فإنّ الرجل لم يستوعب حتى الآن مغزى هذا التحوّل بدليل استغرابه مع رئيس وزرائه أحمد داوود أوغلو رفض صلاح الدين دميرتاش الزعيم المشترك لحزب الشعوب الديمقراطي (يقود الحزب إلى جانب المناضلة اليسارية فيجن يوكسك داغ) الانضمام إلى أيّ ائتلاف مع حزب العدالة والتنمية، وهو ما يتّسق أصلاً مع النهج الذي يتبعه الحزب بالانفتاح على كلّ القوى الاجتماعية التي تضرّرت من ممارسات حكم العدالة والتنمية. أردوغان يعتبر هذا الرفض مسّاً بالاستقرار وبقواعد الديمقراطية التركية، ولا يفهم أنه يأتي اتساقاً مع النهج الذي أرساه حزب الشعوب طيلة الفترة الماضية، وبنى على أساسه «نظريته» حول التمثيل الأفقي الواسع لمختلف أطياف الشعب التركي. هذه الأطياف ترفض في معظمها سياسات أردوغان الاستقطابية، وتريد من القوى التي انتخبتها إحداث قطيعة معها، ولذلك فإنّ الائتلاف مع حزب العدالة والتنمية «من جديد» في حكومة واحدة لا يبدو متّسقاً مع ما تريده هذه الشرائح لنفسها وللمجتمع التركي عموماً. بالطبع هي تريد الاستقرار لهذا المجتمع ولكن ليس على أساس الاستقطاب الطائفي الذي عمّقه وصول أردوغان إلى السلطة. ومن هنا كان الخيار أن تتمثل هذه الشرائح من خلال حزب يمثّل بديلاً من السلطة القائمة بجناحيها اليميني واليساري، وعلى ما يبدو فإنّ هذا البديل قد استجاب حتى الآن لرغبة القواعد في عدم المساومة مع السلطة، مفضلاً على لسان زعيمه أن يكون على رأس المعارضة لأيّ ائتلاف حكومي مقبل. هذا ما قاله ديميرتاش عقب ظهور نتائج الانتخابات مباشرةً ، إذ أكّد أنّ الحزب سيبقى في المعارضة ولن يدخل أيّ ائتلاف مع العدالة والتنمية، وأن هدفه في الانتخابات المقبلة هو الوصول للحكم وتشكيل الحكومة لوحده. والحال أنّ الرجل لا يأتي بجديد عندما يقول ذلك، فهو يعبر عن الانسجام الحاصل بينه وبين القواعد الرافضة لأيّ شكل من أشكال التسوية مع السلطة، وحتى حين يتكلّم عن وجوب التفاوض لتشكيل ائتلاف حكومي فإنه لا يقصد بذلك السلطة وإنما الكتل المعارضة الأخرى التي تتقاطع مع حزبه في بعض التوجّهات وخصوصاً لجهة الموقف من الأقلّيات الاجتماعية والسياسة التركية تجاه سوريا. وبذلك يثبت الحزب أنه بالفعل خيار الراغبين في تشكيل عقد اجتماعي بديل من ذاك الذي أرساه حزب العدالة والتنمية على أساس الفقاعة الاقتصادية وحدها. ورغم أنّه لم يقدم نظرية اقتصادية واضحة حتى الآن إلا أنّ انحيازاته اليسارية سرعان ما ستَظهر لاحقاً، وظهورها هو الكفيل باختبار سياسات الحزب الاجتماعية على نحو جدّي، حيث سيتبيّن حينها إن كان بالفعل معنياً بتحسين ظروف حياة الأقلّيات الاجتماعية والمهمّشين الذين أقصاهم حزب العدالة والتنمية، أم أنّ تمثيله لهم مجرّد طفرة ستنتهي ما أن تصل المعارضة التقليدية إلى السلطة (حزب الشعب الجمهوري أو الحركة القومية) وتبدأ في تهميشهم من جديد.
خاتمة
التحدّي المطروح أمام حزب الشعوب حالياً هو في استمرار تمثيله لمصالح هذه الفئات، لأنه إن لم يفعل فسيتحوّل إلى حزب آخر من أحزاب النخبة التقليدية التركية. وهذا يتناقض مع فكرة صعوده التي أتت متناسبةً مع «تفسّخ النخب» في اليمين واليسار وعجزها عن تمثيل الشعب كما يجب. فبعد انتهاء الكمالية على يد حزب العدالة والتنمية انتهت «الأردوغانية» أيضاً وأصبحت السياسة التركية تعاني من فراغ لن يملأه إلا مشروع سياسي واجتماعي جديد يعبّر عن أوسع شريحة ممكنة من الشعب التركي. حتى الآن لا يزال هذا المشروع في طور التبلور، وهو إذ يعبّر عن نفسه بقوّة وجدارة في ضوء المقاعد الثمانين التي حصل عليها حزب الشعوب الديمقراطي فإنه يبقى من جهة أخرى رهناً بالتطورات التي تطرأ على خطاب الحزب وتنقله من ضفّة إلى أخرى. إذ لا يكفي حالياً أن يكون البديل تعبيراً عن هوية تعددية، وعليه بدلاً من الاكتفاء بذلك أن يفصح تماماً عن السياسات التي ستجعل من تمثيله لهذه الشريحة الواسعة من الناس أمراً واقعاً. هذا ما فعله حزب العدالة والتنمية قبل أن ينهار «عقده الاجتماعي» وتتداعى سلطته، وعلى الحزب الذي يطرح نفسه بديلاً منه ألا يكون «أقلّ منه جرأةً»، حتى وهو في مقاعد المعارضة. *كاتب سوري
منذ أشهر باشر شيوعيون في إعداد معسكرات تدريب، هدفها الأول المشاركة في حماية القرى الحدودية من الخطر التكفيري. القيادة الحزبية باركت العمل رغم التباينات والنقاش المطوّل. اليوم، عشرات الشبان من مختلف المناطق باتوا جزءاً من التشكيلات العسكرية للحزب. الأجواء تُنذر بالتصعيد، ما يعني أن أعداد المشاركين الى ازدياد. في البقاع ظهر اللباس المموّه ليفتح صفحة جديدة اعتقد «الرفاق» أنها خُتمت
إيلي حنا - الاخبار
يسرع الشاب في تنظيف الغرفة. الذباب الذي يحيط به لا يؤثر في نشاطه. خلع سترته وانهمك في العمل؛ فهنا سينام، وعلى بعد أمتار تقع نقطة حراسته الليلية. دقائق ويلتحق به «رفيق» للمساعدة... وصل للتوّ من «منظمته». المكان: «نقطة حرس» في جرود البقاع. الزمان: المدّ التكفيري في سلسلة لبنان الشرقية. تسقط هنا الاسئلة والجدال اللذان اعتادهما الشيوعيون. يأتي الامر من المسؤول، فيبدأ التنفيذ.
كان العمل سرّياً حتى سُرّبت صورة لتشكيل قتالي تابع للحزب مثيرة العديد من التساؤلات: لماذا الآن؟ هل يعني ذلك التحاق «الشيوعي» بـ»حزب الله»؟ أم هي مجرد نكتة؟ ترافق ذلك مع تباينات داخل الجسم القيادي حول القدرات التي يملكها الحزب، وتخوّله القيام بنشاط كهذا. الحقيقة التي يرويها عضو قيادي في الحزب تتخطى الاسئلة المطروحة. كان من الممكن أن تتسرب هذه الصورة منذ شهور، «الفارق اليوم أن الامور أصبحت أكثر رسمية وبمباركة حزبية». منذ أكثر من سنة، كانت مجموعات من شيوعيي بلدات بقاعية قد قررت أن «تكون في موقعها الطبيعي». فما كان من هؤلاء العناصر إلا حمل السلاح الفردي وتوزيع أنفسهم على «نوبات حرس»، بالتعاون مع عدد من أبناء البلدات. أما بعد «غزوة عرسال» في الثاني من شهر آب عام ،2014 وحين كان النقاش في غرف «الوتوات» الضيقة حول الخطر التكفيري الذي يجتاح البلاد، كانت مجموعة من الشيوعيين قد حازت ضوءاً أخضر «لإعداد الشباب». مناطق عدة استقبلت مخيمات تدريبية بمعزل عن الضجيج «الافتراضي» والخلافات «المؤتمرية». في المرحلة الاولى «كانت الانتقائية واضحة والعدد قليلاً»، يروي العضو القيادي. ولكن التجربة نجحت «والمخيم جرّ الآخر». تكاثرت النقاط، وأصبحت تغطي مناطق خلفية في البقاع على طول الخط الحدودي وصولاً الى منطقة حاصبيا. عشرات من الشبان أصبحوا اليوم ضمن تشكيلات عسكرية. «اختفوا» أياماً طويلة بين أيادي «رفاق» تمرسوا في جبهة المقاومة الوطنية والحرب الاهلية. مدربون «متقاعدون» أعادهم الخطر التكفيري الى موقعهم المفضل بين الوديان والاشجار الكثيفة. «منذ شهرين بدأ العمل يأخذ شكله المنظم، خاصة من خارج المناطق الحدودية»، يقول القيادي. يشرح بتأنّ وبكلمات منتقاة بعناية عن «هيكلية جديدة يُعمل على تطويرها، عمادها رفاق دون الـ25 سنة». لا تتردد في هذا المكان صدى المواقف المتباينة من جدوى إنشاء معسكرات تدريبية. مسؤول حزبي من المنطقة لا يهمه ما يحدث في بيروت. «هون الاكثرية ولاد المنطقة... القرار الدفاعي منبعه أهالي القرى. لكن منذ فترة فوجئنا بالشباب يتدفقون الى نقاطنا. يبدو أن القرار اتخذ. لا أعرف كيف ومتى، لكن أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي»، يضيف. المسؤول الحزبي هو ابن البقاع الشمالي الذي يحتل المسلحون 50 دونماً من أرضه في الجرود. من دون أي سؤال يتذكر التهم التي لُفّقت بحقه بعد قراره الدفاع عن بلدته: «اتهموني بأنني قبضت 20 ألف دولار كميزانية من حزب الله... هلق شو بدّن يقولوا؟». لا يحزّ في نفسه احتلال أرضه فقط، بل أيضاً خطف «داعش» للعمال في الكسارات ومن أراضيهم.
نحن قوة إسناد في حال حصول أيّ تسلل وجزءمن حماية القرى «شو بدّن نقعد ساكتين؟»، يروي حانقاً. في هذا الوقت كان شباب من الجنوب والجبل يصلون الى «نقطة الحرس»، فيما البعض الآخر يستعد للرحيل. في غرفة منخفضة السقف، لا يعكّر الجلسة إلا ذرّات الرمل الخفيف الذي يتطاير بينهم والذباب الملتصق بأجسادهم. لا حول لهم سوى النسيم البارد. تولى المسؤول تقديم موجز للملتحقين الجدد: «هنا نقطة للجيش وهناك مرابض مدفعيته… هذه المنطقة آمنة، لكن مجموعة الهضاب تلك تُعتبر الخاصرة الأضعف، التركيز عليها. قللوا من الحركة وبدّلوا بهذه الطريقة… لا داعي لأكثر من رفيقين في نقطة الكمين المتقدّم». يُصغون إليه بحماسة لا يحاولون إخفاءها. هذه الحماسة لن تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي. حتى إن بعض الاهل قد لا يعلم «حرفة» أبنائهم الجديدة؛ فالهواتف الخلوية، مثلاً، توزعت بين مراكز الحزب في القرى وسيارات المسؤولين. في هذه الأماكن تنقطع العلاقة مع العالم الخارجي. يتولى أحد القادمين إخبار «الرفاق» بما قرأ من تعليقات على «فايسبوك» حول الصورة المسربة. التعليقات الساخرة كانت كفيلة سابقاً باستفزاز هؤلاء الشيوعيين، وتدفعهم الى شنّ معارك وهمية يمنة ويسرة. حينها، لم تظهر على ملامحهم أي مبالاة بما أخبر رفيقهم. «اتركوهم جالسين خلف الشاشات»، يعلّق أحدهم، بينما يرصد الشجرة التي قرّر «غزوها». كروم اللوز والمشمش أنعشت آمالهم بما يسدّ الجوع، بعيداً عن المعلبات التي تجمّعت على طاولة بلاستيك الى جوار الخبز والشاي والبن والخضر. يصف مسؤول متابع للعمل العسكري ما يحصل في البقاع بـ«المعركة الوطنية». يعود الى البدايات: «بدأنا العمل بشكل منظم، فكان لكل منظمة مسؤول عسكر... توزع الشباب على المناطق البقاعية حيث هناك وجود وحاجة لنا». التشاؤم يدفعه إلى القول: «الوضع باتجاه الانفجار…التنظيم سيكبر تحسّباً للمخاطر». ولكنه يُعوّل على هذه المعسكرات في أن تقود الى «استنهاض الشيوعيين»، وتُشجّع الذين انكفأوا على شحذ هممهم من جديد، بمعزل عن الخلافات. يعرف «الورثة الجدد» حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، لكن لا «هدّ مراجل»: نحن قوة إسناد في حال حصول أيّ تسلل أو وصول مجموعة محاصرة تحاول الهرب عشوائياً... وجزء من حماية القرى». لا شعور بالوقت، هنا، سوى مع انتهاء «نوبة الحرس» أو «اقترابها». في الغرفة الاسمنتية، تحلّق الشباب حول «أصحاب الخبرة». آذانهم صاغية لأخبار المعارك القديمة، أما أياديهم فـ«تركب الشرشور» أو تبحث عن «قماش للتنظيف». في هذا المكان لا مجال للتلهي... يأتي الصوت عالياً يُذكّرهم: «انهضوا لدينا عمل... وسينتهي».
«أهمّ من ميّة اجتماع»
صورة الشبان باللباس العسكري انعكست إيجاباً عند عدد كبير من «الرفاق». الاندفاع «الدفين» لاح في أنفس بعض الشيوعيين. واحدهم، من كبار السنّ، هرع نحو منزل رفيقه «الناشط» بعد معرفته بالصورة. «كيف فينا نساعد؟ رحْ إجمع مصاري»، سأل. فرحة الرجل بقرار رفاقه لا توصف. فأتاه الردّ بأنه «في إطار قدرتي ومسؤوليتي لا أستطيع سوى قبول المساعدات العينية». لا يهم. بدل المال «سحارة بندورة وخيار ومعلبات... وسلّم على الشباب». يصل الرفيق الجنوبيّ إلى «الموقع». ينزل «الهدية»، متذكّراً اندفاعة الاجتياح عام 1982: «انتسبت الى الحزب وقاتلت من عمر الـ16 سنة من دون أن أعرف ما هي الماركسية ــ اللينينية... بعدين على رواق تعرفنا. حتى العلمانية أنجأ كنت فهمانها... أوقات الاحتكاك بالأرض أهمّ من ميّة اجتماع».
إلى جانب الجيش وكل المقاومين
بدعوة من منظمة الحزب الشيوعي في العين ــــ البقاع الشمالي، نُظِّم لقاء سياسي مع الامين العام للحزب خالد حدادة الذي اجتمع إلى كادر الحزب في قرى وبلدات عرسال، الهرمل، العين، رأس العين، الفاكهة، البزالية والقرى المحيطة. وجاء في بيان للحزب انه تم «استعراض الاوضاع السياسية والامنية الاقليمية وانعكاسها على الساحة اللبنانية وتطورات الوضع في منطقة القلمون وجرود عرسال، وبالتالي دور منظمات الحزب في تعزيز صمود الاهالي، وفي الدفاع عن تراب الوطن بوجه الارهاب، ودور الشيوعيين في استعادة التواصل بين القرى ومواجهة خطوات التحريض المذهبي». ورأى حدادة، في حضور حشد شعبي وحزبي، أن «الحزب الذي قاوم الاحتلال وحرّر الأرض لم ينتظر اذناً من هذا النظام البائد ليقوم بواجبه بالدفاع عن الأرض ولم يتأثر بقمعه من أجل سحب سلاحه، بل قاوم في تموز، واليوم سنقاوم اي اعتداء على أراضينا خلف الجيش وإلى جانب كل المقاومين في هذه البلد».
يكاد «نكات جيجك: هل سمعتَ تلك المتعلّقة بهيغل والنّفي؟» (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT ــ 2014) يشمل جميع المسائل الكبيرة التي شغلت المفكّرين في القرن الماضي: العنصريّة، الهويّة، الدكتاتوريّة، الرأسماليّة، الديمقراطيّة، الإرهاب، الماركسيّة، العقائد الدينيّة، التوتّرات الطبقيّة، الجنس... في كتابه الجديد، يجمع الفيلسوف السلوفيني أهم النكات التي أدرجها في كتبه طوال ربع قرن
يزن الحاج -الاخبار
بالرغم من شهرته الطاغية، حتّى عند القرّاء العرب، لا يزال الفيلسوف السلوفينيّ سلافوي جيجك (1949) شبه مجهول. يعود ذلك لأسباب عديدة ليس أقلّها أنّ «الثقافة الجديدة»، حتّى بعد الانتفاضات، لا تزال أسيرة ثقافة السّماع، والأفكار المسبقة، والاختزالات، والبرامج الهزيلة لدور النّشر. جيجك ـــ لدى القرّاء على اختلاف أطيافهم ـــ محصور في مقالتين عن «الربيع العربيّ» والحرب السوريّة، ومُختزَل، على نحو أوسع، في مجرّد مقال عن «الاستمناء»، ومقالات أخرى متفرقة أقل أهميّة. ما يجهله القراء هو أنّ كتب جيجك تربو على سبعين كتاباً تأليفاً ومشاركةً وتحريراً في اللغة الإنكليزيّة فقط، وهي اللغة التي تفرّغ للكتابة عبرها تقريباً منذ عام 1989 عند صدور كتابه «الموضوع السّامي للأيديولوجيا». إذاً، وبشيء من التعميم، جيجك ليس أكثر من محلّل سياسيّ ذكيّ عند فريق، ومهرّج أحمق عند الفريق المضاد.
ما قد يجهله هؤلاء هو أنّ جيجك أحد أهم الأسماء الفلسفيّة خلال ربع القرن الأخير، وأنّ التحليل السياسيّ المباشر هو الحقل الذي يبدو فيه جيجك في أسوأ أحواله، مقارنةً بكونه أهم فيلسوف هيغليّ- ماركسيّ- لاكانيّ معاصر تشعّبت اهتماماته على نحو مدهش انطلاقاً من الفلسفة المعقّدة وصولاً إلى ثقافة البوب والسينما. ولذا، ليس من المستغرب وجود مثل هذا التنميط عن جيجك، بخاصة أنّ حصيلة الترجمات العربيّة لم تتجاوز 4 كتب فقط لم تكن ـــ على أهميّتها ـــ المدخل الصحيح إلى عالمه الفلسفيّ والفكريّ. سيقع القارئ الذي يجهل جيجك في حيرة شديدة بشأن البداية المناسبة لمحاولة قراءة وفهم أعماله الغزيرة، ولذا يبدو بأنّ كتابه «نكات جيجك: هل سمعتَ تلك المتعلّقة بهيغل والنّفي؟» (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT ــ 2014) هو البداية الأنسب، إذ إنّ الكتاب يجمع أهم النكات التي أدرجها جيجك في كتبه طوال ربع قرن وكانت إحدى أهمّ الوسائل التي يستند إليها في تقديم وشرح ونقد الأطروحات والمحاجّات الفلسفيّة المكرّسة والسائدة عبر التحليل النفسيّ وخلفيّة هيغليّة- ماركسيّة متينة. تشير المقدّمة إلى أنّ أهميّة النكتة تكمن في كونها تعبّر عن قدرة الخلق المتفرّدة للغة في كونها منطوقة ومرويّة، وفي كون النكتة «جمعيّة، مجهولة، لا مؤلّف لها، ومباغِتةً تنبع من العدم». وجيجك، كما يشير القسم الأخير الذي كتبه المطرب والكاتب موموس، خبير في دلالات النكت والضحك كـ «عامل ثوريّ»، ولذا تبدو أفكاره الموغلة في السخرية هي المعبّر الأفضل عن «خِفّة العمق».
الطبقات عنصر شديد الأهميّة في هذه النكات ما سيلاحظه القارئ هو أنّ كثيراً من النكات في الكتاب تتكرّر بتنويعات مختلفة (كما تتكرّر أطروحات جيجك بصيغ مختلفة في كتبه الأخرى) لتتلاءم مع الموضوع الذي يكون بصدد طرحه ونقده. تكاد هذه النكات تشمل جميع المسائل الكبيرة التي شغلت المفكّرين في القرن الماضي: العنصريّة، الهويّة، الدكتاتوريّة، الرأسماليّة، الديمقراطيّة، الإرهاب، الماركسيّة، الاشتراكيّة، التنميطات، العقائد الدينيّة، التطرّف، التوتّرات الطبقيّة، الجنس، والغرائز البشريّة تحت مجهر التحليل النفسيّ. وهنا، يشير جيجك في سؤال عابر: هل يمكن أن تؤدّي النكتة غرضها إنْ كانت سخريةً «راقيةً» محضة، أم أنّها تحتاج بالضرورة إلى مضمون مرتبط بمواضيع «قذرة» كالجنس والعنف؟ يترك جيجك السؤال معلّقاً من دون إجابة، ولكنّه يتابع سرد نكاته بحريّة كاملة من دون قيود، وكأنّه يومئ إلى أنّ الإجابة الثانية هي الأدقّ والأفضل كي تكتمل دلالات النكتة وتأويلاتها. السياسة، بتجلّياتها المختلفة، حاضرة بكثافة في معظم النكات، حتى التي تبدو «نقيّة» وخالية من السياسة بمعناها المباشر. ما الذي يمكن أن نستنتجه من السؤال الاستنكاريّ للزوجة التي يكتشف الزوج خيانتها حين يعود مبكّراً من العمل «أنا سألتك أولاً عن سبب قدومك مبكّراً، لمَ غيّرت الموضوع؟» غير صلف السياسات الغربيّة إزاء الانتقادات المحقّة تجاهها؟ وما الدلالات غير السياسيّة التي يمكن استنتاجها من النكتة الشهيرة عن الرجل الذي يبحث عن مفتاحه الضائع تحت ضوء الشارع مع أنّه أضاعه في العتمة، شيئاً آخر بخلاف الضحيّة الجاهزة التي لا بدّ من تسليط الضوء عليها مسبقاً ومباشرة وإلصاق أيّة تهمة بها، مع تجاهل جميع المشكلات الملحّة الأخرى؟ أما النكتة اللاكانيّة الشهيرة عن المريض النفسيّ الذي يظنّ نفسه حبّة قمح ويتساءل، بعد شفائه، في ما إذا كانت الدجاجة تعلم بأنّه ليس حبّة قمح، فيؤكّد جيجك، باستعارات ماركسيّة عن السّلع، أنّ الدلالة الأهم هي ليست مجرّد إقناع الذات، بل إقناع السلع-الدجاج: لا أن نغيّر طريقة تعاملنا مع السّلع، بل أنّ نغيّر الطريقة التي تتعامل فيها السلّع بذاتها في ما بينها. الطبقات عنصر آخر شديد الأهميّة في هذه النكات، حيث نجد الأثرياء وقد هيمنوا حتّى على حقّ الفقراء في الشّكوى أو التذمّر، إذ كيف يجرؤ اليهوديّ الفقير، في إحدى النكات، على القول إنّه «لا شيء» أمام الرب، بعد أن نطق الثريّ والحاخام بعبارة التذلّل ذاتها؟ أو عندما يأمر الثريّ خادمه بطرد المتسوّل الواقف على بابه لأنّ السيّد يتألم عند رؤية المعاناة. ثمة دلالات سياسيّة لا تخفى في النكتة الثانية حين يكون إنهاء المعاناة عبر محو من يعاني هو الوسيلة الأسهل والأقل كلفةً. وبالطبع، لا يمكن لأيّ كتاب جيجكيّ أن يخلو من النقد المباشر للدكتاتوريّة حيث يروي النكتة اللاكانيّة «لا يمكن أن تتأخّر خطيبتي عن الموعد، إذ إنّها لن تعود خطيبتي لو تأخرت» بتنويعات مختلفة أشدّها قسوةً وذكاءً حين يشير جيجك إلى أنّ «الشعب يناصر الحزب دائماً لأنّ أي شخص معارض للحزب سيُقصي نفسه مباشرةً من كونه أحد أفراد الشعب»، أو حين يؤكّد الطاغية أنه لم يُخطئ يوماً في اتّباع القواعد لأنّ عمله يتلخّص أساساً في فرض القواعد. يضم «نكات جيجك» نكاتاً وشروحاً لا يمكن تلخيصها، بخاصة تلك المتعلقة بالثالوث الهيغليّ، أو صورة المرأة في الكتب المقدّسة، أو التماهي الزائف، أو مفهوم «التحديقة» كموضوع نفسيّ. مع انتهائه من القراءة سيكتشف القارئ الذي لا يعرف جيجك البوابة الصحيحة لدخول العوالم الجيجكيّة المدهشة، أما القارئ المتابع فسيكون أمام طريقٍ مختلفة إلى عقل جيجك متباينة بدرجةٍ ما عن كلّ ما قرأه سابقاً له، بالرغم من أنّ النكات (والأفكار) قد تبدو للوهلة الأولى مكرورة باهتة جامدة.
لم تُحدث الصورة المسربة لمقاتلين شيوعيين في البقاع أي «بلبلة» داخل الجسم القيادي للحزب. تخطى «القياديون» هذه الصورة ليؤكدوا، رغم التباينات في الآراء، أنهم يعدّون «العدّة لمواجهة أي اعتداء»
إيلي حنا - الاخبار
منذ حوالى أسبوع، سُرّبت صورة لمجموعة من الشبان باللباس العسكري، يضعون شعار الحزب الشيوعي اللبناني. توالت بعدها التعليقات من «مصادر حزبية» أو قياديين صرحوا باسمهم لبعض وسائل الإعلام. هذه «التعليقات» كانت في انتظار ما سيصدر رسمياً عن المكتب السياسي للحزب، وهو الهيئة العليا التي اجتمعت طويلاً مساء الخميس، وصدر بيان أمس، أشار الى أن الاجتماع الاستثنائي لبحث الأعمال التحضيرية للمؤتمر الوطني الحادي عشر والوضع السياسي والأمني في البلاد، تأخر بسبب وجود الأمين العام خالد حدادة خارج البلاد، وسفر نائبته ماري الدبس، وليس بسبب «شرخ» في الآراء أو ردود الفعل المختلفة على التسريب وما لحقه من ردود فعل في وسائل الإعلام وبين الشيوعيين وأصدقائهم.
لكن الصورة «الشهيرة» لم تُذكر أمس في البيان الذي تخطاها، ليؤكدها بشكل غير مباشر، إذ ركز على أنّ الأمن والاستقرار الوطنيين مهددان «بفعل عدوان التنظيمات الإرهابية على مناطق واسعة من حدود لبنان الشرقية، من جهة، والتهديدات العدوانية الصهيونية المتناغمة معه على أرض الجنوب، من جهة أخرى». ونوّه المكتب السياسي بـ«الدور الذي لعبته، ولا تزال، منظمات الحزب داخل البلدات والقرى في البقاع الشمالي وفي بعض المناطق الجنوبية، وتحركها من أجل استعادة التواصل بين القرى، وصد محاولات التحريض المذهبي».
ودعا «الشيوعيين الى مواصلة الجهد المبذول ورفع وتيرة الاستنفار، والعمل على تأمين أفضل الظروف والشروط لمقاومة عدوان التنظيمات الإرهابية على أهلنا، وللدفاع عن تراب الوطن». من جانبه، رأى حدادة أنّ البيان «لا علاقة له بالصورة التي نُشرت». وأوضح، في حديثه إلى «الأخبار»، أنّ «هذا الموقف اتخذته اللجنة المركزية منذ أشهر، وخاصة أننا نعتبر أن خطر عدوان الجماعات الإرهابية على لبنان يوازي الخطر الصهيوني... سنواجه كل خطر يُشبه هذا الأخير». ولفت إلى حرص الحزب على «أن يتواصل أهالي البقاع بشكل جدي من أجل منع أي صراع مذهبي. القرى البقاعية يجمعها حسّ وطني، ورفاقنا الشيوعيون هم الأكثر قدرة على نسج هكذا علاقات». كذلك، يعترف حدادة برغبة الحزب في أن يكون على استعداد لأي معركة يمكن أن تنشب: «إيه... نحن نعدّ العدة لمواجهة أي اعتداء». بيان الحزب دعا الشيوعيين الى «مواصلة الجهد المبذول ورفع وتيرة الاستنفار». ويوضح الأمين العام أنّ الحزب بدأ منذ فترة «تهيئة منظماتنا والاستعداد من أجل أن يكونوا فاعلين في تلك المناطق، ونحن مستمرون في هذه الخطوات وسنكون على استعداد لبحث ما يُمكننا القيام به لمساندة الأهالي والجيش اللبناني». كما أن الحزب يريد «استكمال التعبئة السياسية» مقابل الخطر التكفيري، أما في ما خصّ التعبئة العسكرية فـ«نحن لا نتداول بذلك في الإعلام. نلتزم بعدم الظهور المسلح الذي تنصّ عليه القوانين، ولكن في النهاية كما حمل كل شيوعي سلاحاً في حرب تموز سنستكمل في الوجهة ذاتها». ويهتم حدادة بتوضيح أساسي مفاده «أننا لسنا في وارد القتال في سوريا. الشعب السوري ليس بحاجة إلى مقاتلين، ونحن نسعى لأن يكون الحوار هو الحلّ». عضو المكتب السياسي مفيد قطيش يقول عن البيان إنّ «القرار مأخوذ منذ سنة. الناس في البقاع يجب أن يدافعوا عن القرى. الشيوعيون على الأرض لديهم مهمة الدفاع عن أنفسهم». وفي هذا الإطار «أكيد أن الناس بحاجة الى تدريب في إطار الحزب، لا بالتنسيق مع أي من الأحزاب الموجودة في تلك المنطقة. وهذا الأمر محصور بحماية القرى لا غير». ويؤكد قطيش أنّه لم يكن هناك انقسام حول الموقف داخل الحزب، وقال: «ربما هناك تباين في الأفكار، انطلاقاً من أن الحزب لا يملك القدرة للقيام بالكثير».
تستمر سياسة تصعيد التوترات الامنية والعسكرية في العالم. وفي منطقة الشرق الاوسط والدول العربية بشكل خاص لتستكمل الحرب في اليمن التي ذهب ويذهب ضحيتها آلاف الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى دمار هائل في البنى التحتية، والآثار التاريخية للحضارة البشرية ككل. والتي إستهدفت مناطق سكانية ومخيمات نازحين، وفرضت حصارا مشدداً على الأجواء والمنافذ ومنعت دخول الغذاء والدواء والمحروقات مما ضاعف في تردي الحالة الانسانية وتضاعف أعداد النازحين الذي وصل عددهم الى ما يقارب نصف مليون نازح. حيث تؤكد الحرب في اليمن لجوء الامبريالية العالمية لخيار الحرب بعيدا عن العملية السياسية التي تجنب المجتمعات الدمار والتفكك والمآسي. والتي تأتي في سياق الحروب في العالم والمنطقة العربية لتوتير الأجواء ورفع حدة العنف لقطع الطريق على عملية التغيير وإستبعاد المنطق السياسي والحوار الداخلي الذي هو الطريق الضروري للوصول إلى وحدة داخلية. من اليمن إلى اوكرانيا فسوريا الى مختلف الدول التي تنطرح فيها عملية تغيير في اشكال الحكم والنظام. هذه لحرب التي يشارك فيها التحالف العربي وعلى رأسه المملكة العربية السعودية لتكون أداة في يد الامبريالية.
يؤكد إتحاد الشباب الديمقراطي العالمي كما أكد سابقاً على ضرورة الحل السياسي بمشاركة مكونات المجتمع اليمني، الذي يجد في جنيف اطاره الراعي للحل. والتعنت في الذهاب للحل السياسي ما هو إلا اصرار على استمرار مأساة الشعب اليمني واستكمال تدمير المجتمع. وخصوصا ان خيار الحرب لا يزال يجد حاضن له وداعم في موقف العديد من الدول في المنطقة وخصوصا السعودية التي تشارك بشكل مباشر وبدعم دولي.
إن اطلاق العملية السياسية هو الطريق للخروج من التناقضات المتفجرة، وما سيحقق مطالب الشعب اليمني بدولة عادلة موحدة ضد طروحات التقسيم التي يحاول العديد من الاطراف الرهان عليها.
إتحاد الشباب الديمقراطي العالمي
بودابست، 10 حزيران، 2015
غسان ديبة - الاخبار
«اغلقوا صندوق النقد الدولي، الغوا الديون وانهوا التنمية» هاري كليفر
عندما كنت ادرس الاقتصاد في جامعة تكساس في اوستن في الولايات المتحدة، والتي كانت من الجامعات القليلة التي لديها مقررات في الاقتصاد الماركسي، كان استاذ الاقتصاد الماركسي هاري كليفر، وهو للمفارقة يتبع اكثر المدارس الماركسية تطرفاً وهي المدرسة الاوتونومية التي انشأها المفكر الماركسي الايطالي انطونيو نغري المتهم بكونه العقل المدبر للالوية الحمراء، كان من الطبيعي الصدام الفكري مع كليفر لأن افكار هذه المجموعة كانت تعتبر ان الاتحاد السوفياتي منذ السنين الاولى لسيطرة البلاشفة يتبع نظام رأسمالية الدولة وقد حاد عن مبادئ الماركسية في عدم تسليمه العمال مباشرة السلطة على المصانع والاقتصاد بالاضافة الى مسألة الحزب وغيرها من الامور النظرية التي لا مجال للدخول بها الآن.
وكان اطلاق صفة «البلشفي» بمثابة إدانة منه لأي متعاطف مع التفسير الكلاسيكي للماركسية. كان هذا الموقف بالنسبة لي فوضوياً عمالياً اكثر منه ماركسياً لأن الماركسية حددت الاطار العلمي للصراع الطبقي وانتهاء الراسمالية والانتقال الى الاشتراكية وأن أي رفض لهذه العلمية الصارمة تحت حجة مثلاً اولوية السياسي والصراع الطبقي على غيرها من المفاهيم (انظر كتابه Reading Capital Politically) ما هو الا غرق في المثالية والطفولية اليسارية التي حذر منها لينين وهو بالطبع المهندس السياسي الاول في تاريخ الماركسية ان لم يكن في التاريخ الانساني كله.
وامتد الخلاف مع كليفر الى تحليل التنمية في العالم الثالث، فقد كان هو ضد التنمية على اساس انها تقلب حياة الناس وتزعزع البنى الاقتصادية والاجتماعية من دون ان يكون للشعوب السلطة المباشرة على مصيرها (فكرة الاوتونومية) ولأنها تخضع الناس لمنطق الرأسمال وفرض العمل (imposition of work). طبعاً إن المفهوم الماركسي التقليدي يتعارض مع هذه النظرة للتنمية، بل إن التنمية اعتبرت كحاجة اساسية في التطور الاقتصادي للدول النامية. نشر كليفر في عام 1989 مقالة عنوانها «اغلقوا صندوق النقد الدولي، الغوا الديون وانهوا التنمية». كنا بالطبع نتفق مع العنوانين الاوليين اي اغلاق صندوق النقد وإلغاء ديون العالم الثالث. فهذه الديون كانت اهم معوق للنمو الاقتصادي والتنمية في الدول النامية وبالاخص في اميركا اللاتينية في تلك الفترة وكان صندوق النقد الدولي يستعمل هذه الاستدانة الدولية والازمات الناجمة عنها كذريعة لتدخله في شؤون هذه الدول الداخلية وفرض عليها شروطه التي كانت تفرض التقشف ورفع الضرائب غير المباشرة ورفع الدعم عن السلع الاساسية والتقلص النقدي ما يؤدي الى دخول البلدان المفروض عليها هذه الشروط في حالات ركود وارتفاع البطالة وازدياد الفقر. كل هذه التدابير كانت تفرض من أجل التثبيت المالي وضمان ان هذه الدول ستدفع ديونها الخارجية للمصارف الدولية والدول الغربية الراسمالية. طبعاً كانت فكرة اغلاق الصندوق، بدلاً من اصلاحه او كف يده او المطالبة بأن يعود الى مهمته الاساسية التي انشأ من اجلها في 1944 وهي مساعدة الدول على تخطي مشاكلها في الحسابات الخارجية، فكرة راديكالية جداً في ذلك الوقت. لكن التاريخ انصف كليفر حيث ازدادت مع الوقت الأصوات الداعية الى اغلاق الصندوق ولكن أيضاً من الجهات اليمينية المتطرفة التي تعتبر ان الصندوق هو آلة بيروقراطية وان تدخله في اقتصاديات البلدان عبر خطط الإنقاذ المالي لن يؤدي إلا إلى تراجع الرفاه الاقتصادي. واصبحت تنتشر هذه الدعوات في مجلة فوربس ومنشورات معهد كاتو المحافظ مثلاً ( http://www.cato.org/publications/commentary/abolish-imf). يقول روبرت بارو وهو من الاقتصاديين المحافظين الذين يحبذون إلغاء الصندوق إن المشكلة الرئيسية للصندوق هو كونه مليئاً بالسيولة، ما يجعله سخياً في انقاذه للدول المتعثرة كما يدعي انه حصل مع المكسيك في 1995 ومع روسيا في 1998. طبعاً هذه الرؤية خاطئة فمشكلة الصندوق ليست في تزويد البلدان بالسيولة بل بفرضه للشروط التعجيزية والمؤذية للاقتصاد كما حصل في اميركا اللاتينية وبعض الدول العربية والدول الآسيوية. اليوم في زمن كريستين لاغارد، وبدلاً من ان يتعلم من اخطاء الماضي، لا ينفك الصندوق يلعب الدور نفسه ومن يسمعها تتكلم بصلف وتحدٍّ عن المفاوضات مع اليونان يظن ليس فقط انها تمتلك المال والسلطة بل انها تمتلك الحقيقة المطلقة حول طبيعة الازمة وسبل حلها وما يجب على الحكومة اليونانية ان تفعله. وهذا آخر ما يحق لها ولصندوق النقد ان يزعمه بعد سلسلة الكوارث الاقتصادية التي خلفتها سياساته حول العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الازمة في اوروبا اليوم. في حزيران الحالي كان يستحق 1.6 مليار دولار على دفعات من اليونان الى صندوق النقد وكان الصندوق رفض تمديد مهل الدفع ويستمر بموقفه المتطرف من اليونان وردت الحكومة اليونانية بتجميع هذه الدفعات الى آخر الشهر. لكن حتى لا تصبح اليونان ضحية اخرى من ضحايا هذا الصندوق، على الحكومة اليونانية الا تنفذ فقط وعودها الانتخابية بعدم الخضوع لشروط الترويكا التقشفية وهو ما تفعله حالياً بشجاعة بل ان تذهب ابعد من ذلك وتخرج من اليورو وتستعيد قرارها الوطني والاقتصادي من اجل اعادة اطلاق النمو الاقتصادي وانقاذ الجيل الحالي من الشباب اليوناني من الضياع. عندها ان اغلق ام لم يغلق صندوق النقد فإنه أصلاً بالنسبة الى اكثرية الدول بمثابة المنتهي. ولكن بذلك سيتم عندها إخراجه من اوروبا والتي للمفارقة هي آخر الأمكنة التي يحاول ان يفرض سيطرته عليها اي سيطرة رأس المال العالمي وافكاره البائدة.
هديل فرفور - الاخبار
بعيدا من المقاربات التي تطرحها بعض الحملات المدنية والإعلام حول أهمية المجالات العامة المشتركة في المدينة، يقدّم المعماري رهيف فياض مقاربته المعمارية الاجتماعية حول المجال العام المديني. يرفض تسمية «المساحات العامة»، ذلك أن «المساحة» مصطلح هندسي صرف لا يستخدم في المدينة والعمارة. في المدينة، هناك مدى عام ومجال عام وحيّز عام.
ينطلق فياض من التسمية ليؤكد ان المدينة، ليست أبنية وجسورا هندسية، «هي جماعات تتلاقى في امكنة ومجالات عامة، تتفاعل في ما بينها من أجل الدفاع عن مصالح مشتركة»، فتكون المجالات العامة مركز التفاعل والتلاقي. «أين يصاغ الرأي العام؟ في الحدائق والساحات، امكنة التظاهرات والإضرابات».
البعد السياسي للحيز العام المديني
«التغيير السياسي لا يأتي من الأرياف، بل ينمو في قلب المدينة، كيف استطاعوا ان يحوّلوا قلب المدينة الى فراغ؟»، يشير فياض الى بيروت «التاريخية» (اي وسط المدينة)، التي سُلّمت الى «سوليدير». ويشرح كيف ان الأخيرة «محت الساحات والأسواق ولغتها من الثقافة ومن الذاكرة. استبدلتها بأبراج لا نعرف ساكنيها، وقتلت المجال العام، وطردت الفقراء وحولت بيروت الى مدينة للأغنياء». هل يمكن التظاهر امام ساحة «الزيتوناي باي مثلا؟»، المشروع الذي قام على انقاض خليج «مار جريس» بحجة اقامة ساحة للعموم، وهل يمكن ان يمارس اهل المدينة عملا سياسيا أو اجتماعيا حرّا في هذا «المرفق العام»؟ هل يكفي ان يكون الدخول اليه مجانا كي يسمى مكانا عاما؟ يرفض فياض تسمية «الزيتوناي» ويعدها تزويرا لهوية المكان، تماما كما يرفض اعتبارها ملكا عاما، بالنسبة إليه هي أقرب الى «اغتصاب ملك عام»، على اعتبار ان الملك العام، كما تدل تسميته، تكون ملكيته للعموم، يمارسون حقهم فيه بحرية تامة، ويشير الى ان هذا المعيار هو الذي يحكم تصنيف المكان. «املاكنا العامة، رُدمت تحت رصيف «الزيتوناي»، ردمت بأتربة البيوت السكنية المهدمة في عين المريسة فباتت ملكا لأشخاص معروفة خلفيتهم الطبقية، المارينا ليست لابن بيروت». من هنا، يشير فياض الى بقية الأماكن العامة التي قتلها الرأسمال والسلطة بهدف حجب الناس عنها استكمالا لعملية طردهم من المدينة.
يقول فياض ان عملية «الطرد» بدأت مع قانون البناء وأزمة السكن والاقتصاد الريعي والمضاربات أولا، قبل ان تنتقل الى معركة الحيز المديني والصراع عليه. أمّا الهدف فهو تمزيق المدينة وتحويلها الى مجموعات مستقلة. يلفت فياض الى أن التطوير، الذي شهدته المدينة لتسهيل عبور السيارات، حوّل المدينة الى اماكن للعبور، وجعلها تختنق اجتماعيا وحولها الى احياء ممزقة، «عند كل مناسبة، نجدهم يتغنون بأنهم تمكنوا من شق طريق من اماكن الفنادق في وسط بيروت الى المطار على نحو لا يتطلب اكثر من سبع دقائق بالسيارة، لكنهم أغفلوا تمزيق الاحياء وبعثرتها».
تغير الهوية تجانساً مع الرأسمال
«حرش بيروت هو حرش العيد، لا بارك غربي، شوهوا طابعه وهويته الهندسية، هو افقي ورملي، زرع فيه الصنوبر كي يقي المدينة هجوم الرمال الآتية من جنوب غرب المدينة، هو حامي بيروت من الرمال لا بارك!»، يكرر فياض ويعيد: «هو امتداد اساسي للمدينة، قتل «الحرش» جريمة، هذا تغيير هوية، ويشبه ما فعلته الكولونيالية عندما عمدت الى تحويل بيروت الى مدينة غربية. هو قتل لروح المدينة، مثلما حصل في وسط بيروت». يرى المعماري المخضرم أن ما حصل «لحرش» الصنوبر، جريمة مزدوجة، جرى تشويهه وتغيير طبيعته الحرجية اولا، ثم حرموا العموم استخدامه، لافتا الى أن «حرش» العيد هو اهم مجال عام للمدينة، واقفاله امام العموم يمثل انتهاكا لحق مكتسب. انتقاد فياض لتغيير هوية الحرج، ينطلق من المفهوم القائم في معظم المشاريع «الإنمائية» والأعمال «التأهيلية» للاماكن العامة وغيرها حول نقل «المفهوم الغربي اليها». «لم نعد نجد مشروعا لا يرافقه ميوزيك بارك ولا حدائق ايكولوجية ولا مواقف باركينغ ضخمة، نحن مقلدون بصورة سيئة للغرب، فيما المطلوب ان ندرك من نحن، وما الذي يعبر عن هويتنا وما يشبهنا».
بيروت طاردة للسكان
يشدد فياض على أن بيروت باتت مدينة طاردة لسكانها، وجاذبة للمستثمرين، إقصاء الفقراء فيها ابتدأ مع ازمة السكن، وبالتالي ما يجري في ملف الحيز العام «هو نوع من التجانس بين طبيعة المدينة الحالية وما تحويه من رأسماليين ومع طبيعة الحيز العام الذي سترتاده هذه الفئة حصرا»، الا ان فياض يستطرد: «الاغنياء لا يصنعوا مدنا، لانهم لا يخرجوا من منازلهم، يركبون سياراتهم ويتجهون الى مصاعد أبراجهم دون ان يمروا بالمدينة. الفقراء والناس العاديون هم من يسكنون ويصنعون المدن». ويضيف في هذا الصدد: «ان اسوأ ما حصل للمدينة هو انهم انشأوا ضاحية للأغنياء (وسط البلد)، هذه الضاحية فارغة وستبقى فارغة». وبخلاف ما يُشاع: «حارة حريك وبرج البراجنة والباشورة هي المدن، فيما الضاحية الوحيدة هي وسط بيروت».
بيروت لم تعد مدينة
يقول المعماري رهيف فياض إن بيروت لم تعد مدينة، «هي مجموعة جماعات مستقلة عن بعضها بعضا، ان وجود المجالات العامة في المدينة هو احد اهم معايير جودة الحياة فيها، بيروت لا تمتلك هذه المجالات، وبالتالي تفتقر الى شروط جودة الحياة»، لافتا الى «ان استرجاع الروح المدينية، يكون عبر استرجاع المجالات العامة فيها». ويضيف: «علينا، أولا، ان نتثقف أننا حرمنا ذاكرة المدينة، نحكي عن اغتيالات المجالات العامة السابقة، ان نقول ان المدينة قتلت، وهناك من عمل على عدم وجودها»!
محمد همدر - الاخبار
ضمن «مهرجان الفيلم العربي القصير»، عرض «نادي لكلّ الناس» أخيراً شريط «الهمّة قوية» (17د) لناتالي ربيز (الجامعة اليسوعية IESAV). يصوّر الوثائقي القصير معاناة أمّ وزوجة، كان عليها تحمّل تبعات التزام زوجها السياسي واختيار ابنتها النضال من أجل قضيتها. تعود ربيز إلى عملية سهى بشارة عام 1988، من وجهة نظر والدتها نجاة. تشارك سهى في رواية ما جرى، لكن للأم قصة مختلفة. تعترف أنها كوالدة لم تسرّ حين سمعت بحدوث العملية. حينها اقتحم الإسرائيليون المنزل واعتقلوها في «معتقل الخيام» من دون أن تتمكن من رؤية ابنتها.
تدخل الكاميرا مع سهى ووالدتها الى ما تبقى من المعتقل لا لتذكر بطولة العملية، بل لتنكأ جرح الأم الذي سببه غياب سهى المعتقلة لعشر سنوات. تتذكر الوالدة تلك الفترة بحسرة ودموع، أما سهى فتبدو أكثر إصراراً: «المسؤول الأول هو الإسرائيلي الذي احتل ارضنا عام 1948». الوالد أبو عدنان (فوّاز بشارة) يردّ على أسئلة ناتالي باقتضاب، لا يميل إلى النقاش أو الرد على عتب زوجته، ما الذي جناه من سنوات النضال في الحزب الشيوعي؟ لم يكلّف الرفاق أنفسهم حتى بالاتصال حين دخل المستشفى. يظهر على فواز بشارة تعب التقدم في السنّ، إلا أنه يبتسم حين تطلب منه الحديث عن عملية سهى، ليعترف دامعاً بأن للمجهود الذي بذلته نجاة، الفضل الأكبر في تحرير ابنتهما. رصدت ناتالي العلاقة بين الشخصيات الثلاث في منزلهم الأول في قرية دير ميماس. تنقلت الكاميرا بين الوجوه الثلاثة وبين أجوبتهم. في الظاهر تبدو نجاة الأقوى والأكثر حضوراً في أرجاء المنزل، لكنها تبقى الأكثر تأثراً بما جرى. ربيز التي تخرج عملها الوثائقي الأول، تطرح أسئلة عادية في البداية، «من هي سهى بشارة؟ ماذا فعلت؟»، تحاول هزّ تلك الأشجار الضخمة الصامتة، لتحصل على أجوبتها، قبل الدخول في المواضيع الأكثر عمقاً. المفارقة الأخرى، التي تكشف عنها المخرجة لاحقاً، أنها كانت أنها تحاور جدّيها. ناتالي ابنة شقيقة سهى بشارة، شاهدة قريبة على ذلك الألم الذي يبدو انه لم ينته بخروج سهى من المعتقل عام 1998. هذا واضح حين تحاول المخرجة تهدئة جدتها التي تتذكر يوم تحرير سهى بدموع. تقول ناتالي لـ «الأخبار» إنها في البداية أرادت صنع فيلم عن جدتها نجاة، الوحيدة التي لم تعبر عن ما جرى معها، فيما نشرت سهى ووالدها تجربتيهما. نجاة كانت دائماً تبكي وتحكي لحفيدتها مأساتها، من دون أن تفهم هذه الأخيرة شيئاً، إلى أن قررت أن تفهم أكثر من خلال الفيلم.
كمال هاني - الاخبار
تكثر وثائق الحزب (الشيوعي اللبناني) المتعاقبة في الحديث عن الطبقة العاملة في لبنان، ولكن هذه الوثائق لا تقدم إجابات محددة عن عدد كبير من الاسئلة الحيوية التي تتعلق بواقع هذه الطبقة وسماتها الاساسية وبنقاط قوتها وضعفها. وتخلف هذه الفجوة انعكاسات سلبية على مسألة التحالفات الطبقية وعلى نمط مقاربة الحزب للمعارك المطلبية الجزئية والوطنية. وهذا يستدعي الانكباب على دراسة هذا الموضوع، ومحاولة تقديم اجابات عن العديد من الاسئلة المطروحة، ومن بينها:
1ــ حول تعريف المفهوم:
كيف نحدد بشكل ملموس مفهوم الطبقة العاملة في الاطار اللبناني، ارتباطاً بجوهر منهج التحليل الماركسي وما طرأ عليه من تحولات؟ هل يقتصر هذا المفهوم على فئة العاملين بأجر في قطاعات الانتاج المختلفة، او هو يتضمن فئات اجتماعية أخرى غير معنية بصورة مباشرة بالعمل المأجور؟ وهل لذلك المفهوم من مندرجات ذات خصوصية في بلد يغطي فيه قطاع الخدمات اكثر من 70 في المئة من مجموع القوى العاملة ومن اجمالي الناتج المحلي؟ وماذا يعني ان تكون الغلبة (غلبة الكمية أقله) في تكوين الطبقة العاملة معقودة اللواء لفئة الاجراء العاملين في المؤسسات الخدمية والمؤسسات الصغيرة والمتناهية الصغر، وليس في مؤسسات الانتاج المتوسطة والكبيرة؟ ب ــ حول الوزن النسبي العام للطبقة العاملة: ما هو الوزن النسبي للطبقة العاملة عموماً في التشكيلة الاجتماعية اللبنانية؟ وما هي اهم العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تحدد هذا الوزن النسبي وتتحكم في اتجاهه ارتفاعاً أو انخفاضاً؟ وما هو تأثير الارتفاع المطرد والقياسي المحقق خلال العقود الثلاثة المنصرمة في نسبة العاملين لحسابهم الخاص (أي العاملين المستقلين)، على حجم الطبقة العاملة ودورها؟ والى اي حد يمكن اعتبار هذه الفئة من العاملين التي تشكل نحو 30% من اجمالي القوى العاملة ـ او اقسام منها أقله ـ اقرب الى التماثل في شروط عملها مع الطبقة العاملة؟ ج ــ حول المكونات القطاعية والمكانية الاساسية للطبقة العاملة: ما هي المكونات القطاعية الاساسية للطبقة العاملة اللبنانية، اي ما هو الحجم النسبي لكل من هذه المكونات بحسب قطاعات النشاط الاقتصادي (الصناعة، الزراعة، البناء، الفروع المختلفة من قطاع الخدمات)؟ ثم كيف تتوزع هذه الطبقة على المناطق اللبنانية المختلفة، وبالتحديد على مستوى المحافظات، بحيث يؤخذ ذلك في الاعتبار في تحديد اولويات عمل الحزب ومنظماته القاعدية بحسب المناطق المختلفة؟ وما هي اهم خصائص التقاطع في تشكل هذه الطبقة، بين البعد القطاعي والبعد الجغرافي؟ ومن زاوية أخرى، كيف يتوزع العاملون الاجراء بحسب القطاع الحكومي والقطاع الخاص النظامي والقطاع الخاص غير النظامي؟
ما هو الوزن النسبي للطبقة العاملة عموماً في التشكيلة الاجتماعية اللبنانية؟ د ــ حول مكامن وجود «القوة الضاربة» للطبقة العاملة: انطلاقاً مما سبق، أين تتركز «القوة الضاربة» للطبقة العاملة، وبخاصة في ضوء توزع خريطة العمال والاجراء بحسب فئات حجم المؤسسات (المؤسسات المتناهية الصغير والمؤسسات الصغيرة التي يقل عدد العاملين فيها عن 10 عمال والمؤسسات المتوسطة والكبيرة التي يزيد فيها عدد العاملين عن هذا الحد)، وبالتحديد اين تتركز المؤسسات المتوسطة والكبيرة، خصوصاً في المجال الصناعي، والى اي حد يمكن استهداف تلك «القوة الضاربة» عبر خطة عمل تمكن منظمات الحزب وقطاعه النقابي من زيادة وزنهما ودورهما في هذا المضمار المؤثر؟ هـ ــ حول بنية موظفي الدولة وأجرائها: كيف يتوزع العاملون في القطاع العام، بحسب موظفي الملاك، والمتعاقدين، والأجراء، والمياومين، وصيغ العمل الأخرى الهجينة التي لازمت تطور هذا القطاع بفعل «التفاهمات الفوقية» بين اطراف الطبقة المسيطرة؟ وما هي أبرز المشاكل العامة والخاصة التي تعترض كلاً من هذه الفئات (مستوى الأجر، ديمومة العمل، حجم التقديمات ونوعها، صيغ التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة...)؟ والى اي حد يمكن تنظيم حملات مطلبية في صفوف كل من هذه الفئات العاملة وخوضها استجابة لهدفين يجب ان يبقيا متلازمين: هدف الدفاع عن حقوق العاملين عموماً من جهة، وهدف رفع مستوى أداء وفعالية الوظيفة العامة وتحسين صورتها امام المواطنين من جهة ثانية؟ وــ حول التباينات الموضوعية في شروط عمل مكونات الطبقة العاملة: الى اي درجة تتقارب ـ أو تتباعد ـ خصائص وشروط العمل المميزة لكل من المكونات الاساسية للطبقة العاملة، التي تشمل اجراء القطاع العام من جهة، واجراء القطاع الخاص النظامي من جهة ثانية، واجراء القطاع الخاص غير النظامي من جهة ثالثة، لجهة: مستوى الاجر الوسطي، ومستوى التقديمات الصحية والاجتماعية، ومدى ضمان ديمومة العمل، ومدى الاستفادة من تأمينات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة، ومدى الاستفادة من بدلات النقل وغير ذلك من شروط؟ وكيف ينبغي النظر الى المخاطر الناجمة من ازدياد الفجوة والتباينات بين مسارات هذه المكونات المختلفة؟ زــ حول مدى تأثير هذه التباينات على انسجام العلاقة بين تلك المكونات. الى اي حد يمكن انطلاقاً مما أمكن تجميعه من معطيات محددة بشأن واقع البنية الداخلية للطبقة العاملة في لبنان، تبيان ما إذا كانت هذه البنية أقرب الى التجانس والانسجاب النسبيين، اما ان التفاوتات التي تعتمل داخلها ترتدي الطابع البنيوي، الحاد؟ وما هي الاستنتاجات التي يتفرض استخلاصها في كل هاتين الحالتين وأثرها في وجهة النضالات المطلبية التي تطلقها أو تشارك في اطلاقها القوى اليسارية؟ ما هي المقاربات والتوجهات التي من شأنها تعزيز عوامل التقارب والانسجام على حساب عوامل التباعد والانقسام؟ ح ــ حول ظاهرة اللبنانيين وانعكاساتها على الطبقة العاملة: كيف انعكست هجرة مئات الألوف من الشباب اللبنانيين والكفاءات الى الخارج، على اوضاع العمال والأجراء وخصائصهم في لبنان، وعلى بيئة العمل المأجور وشروطه عموماً؟ ألم تؤثر هذه الهجرة سلباً في الخصائص البنيوية الكمية والنوعية للطبقة العاملة، وعلى السقف الموضوعي لنضالاتها المطلبية اضافة الى تأثيرها السلبي على مقومات العمل النقابي عموماً؟ ألم تؤدِّ التحويلات الوافدة من العاملين في الخارج الى «ترويض» جزء من أسر الأجراء المقيمين في لبنان، ما ساهم في تغييبها عن ساحات النضال المطلبي؟ ألم يخفف هذا النزف البشري من حجم الضغط المنظم ونوعه الذي كان يمكن أن تمارسه هذه الكفاءات الشبابية المهاجرة ـ لو اتيح لها ان تنخرط في سوق العمل الداخلي ـ على الطبقة الحاكمة في لبنان، تجاه الزام هذه الاخيرة بحد ادنى من الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ ط ــ حول أثر هجرات اليد العاملة الاجنبية الى لبنان: ما هو حجم ونوع الانعكاسات على الطبقة العاملة اللبنانية جراء تزايد تدفقات العمالة الاجنبية الرخيصة الى لبنان؟ ألا يشكل هؤلاء العمال من الناحية المبدئية جزءاً لا يتجزأ من الطبقة العاملة في لبنان؟ وفي هذه الحالة أليست لهذا الواقع مندرجات كان يفترض بالقوى اليسارية التعامل معها من موقعها الطبيعي بصورة اكثر جدية، في ضوء التجارب التي خاضتها الحركة النقابية العمالية على هذا الصعيد في البلدان التي استقبلت وتستقبل عمالاً وافدين أجانب (فرنسا مثلاً)؟ من جهة اخرى، ما هي النسبة من بطالة العمال اللبنانيين التي قد تعود الى تدفقات العمالة الاجنبية، ونسبة الخفض الفعلي في اجور العمال اللبنانيين غير المهرة الذين يتعرضون للمنافسة المباشرة من قبل هؤلاء العمال الوافدين؟ وكيف يمكن لليسار، وبخاصة الحزب الشيوعي، الحد من هذا النوع من الخسائر من دون المساس بمصالح العمال غير اللبنانيين؟ ي ــ حول واقع العلاقة بين الطبقة العاملة والحركة النقابية: كيف يمكن توصيف واقع العلاقة بين الطبقة العاملة والحركة النقابية في الاطار اللبناني الملموس؟ كيف ولماذا تتفاوت نسب الانتساب الى النقابات ووتيرة التحركات الاضرابية، بحسب قطاعات النشاط الاقتصادي الاساسية، بما في ذلك المؤسسات العامة وشبه العامة؟ وما هو الموقع النسبي للعمال الشباب في حركة الانتساب الى النقابات والى العمل النقابي؟ وما هو الدور الفعلي للمرأة اللبنانية في حركة الانتساب الى النقابات وفي العمل النقابي عموماً، والى اي حد يتناسب هذا الدور مع وزنها النسبي في القوى العاملة؟ وما هي اهم المعاني والابعاد المتأتية عن هذا التفاوت الجندري المؤثر في زخم الصراع الاجتماعي؟ وما هو السبيل الى بلورة خريطة طريق واضحة المعالم تتيح اعادة تجديد دور الحزب في معركة النهوض بالعمل النقابي عموماً، عبر تجميع القوى لفرض قانون عمل جديد وهيكلية نقابية عصرية؟ ك ــ حول قدرة الحزب على بلورة خريطة طريق واضحة المعالمة في تعاطيه مع القضايا التي تعني الطبقة العاملة: كيف يمكن للحزب الشيوعي ـ مع امتلاكه للبعض الاساسي من الاجابات عن الاسئلة المطروحة اعلاه ـ ان يصوغ بروح علمية ووضوح برنامج عمله في صفوف مختلفة مكونات الطبقة العاملة؟ وكيف ينجح بالتحديد في التوفيق بين مصالح هذه المكونات المختلفة مع السعي قدر المستطاع الى عدم التمييز بينها، وعدم الاكتفاء بالدفاع عن مصالح مكونات بعينها دون المكونات الاخرى؟ وكيف يمكنه المساهمة بفعالية في انتزاع الشروط المثلى للعمل المأجور على الجبهات كافة وصولاً الى فرض عملية تحسين في ميزان القوى بين رأس المال والطبقة العاملة عموماً؟
2 ــ حول نظام التمثيل السياسي ـ الطائفي في لبنان
اكدت حقبة ما بعد اتفاق الطائف ـ بحسب ما تم ذكره اعلاه ـ الارتفاع الاستثنائي في حجم التوظيف السياسي للظاهرة الطائفية وارتداداتها المعقدة على مختلف ساحات الحياة العامة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة على مضمون ومسار عملية التمثيل السياسي في البلاد. وتجلى الوجه الآخر لتفاقم هذا التوظيف المقصود، تراجعاً في مستوى وعي الناس (بصفتهم مواطنين) لحقوقهم ومصالحهم الفعلية والمباشرة في تلك الساحات كافة، في مقابل ترسخ خضوعهم، واخضاعهم من قبل الزعامات الطائفية والطبقية، للعصبيات والانتماءات الضيقة وما دون الوطنية، التي كرست وتكرس تبعيتهم المطلقة لتلك الزعامات. وبالرغم من ان نضالات مطلبية كثيرة ـ بما فيها نضالات شاركت فيها مروحة واسعة من القوى ذات القاعدة الاجتماعية العريضة ـ قد انتهت الى انتزاع مكاسب اجتماعية مهمة نسبياً خلال السنوات الاخيرة، الا ان هذه النضالات المطلبية لم تنجح في فتح كوة في جدار النظام السياسي ـ الطائفي المسيطر. فقد امتلك هذا النظام معظم الاحياء القدرة على تفريغ تلك النضالات من مضامينها السياسية، وعلى اعادة ضبط ايقاعها ضمن منظمة المصالح الضيقة الخاصة بالتوازنات السياسية والطبقية الداخلية التي يقوم عليها هذا النظام. وهذا ما اتاح للنظام اعادة انتاج نفسه بصورة شبه دائمة والحؤول دون القيام باصلاحات سياسية جدية وقابلة للحياة. وفي الحالات القليلة التي انتزعت فيها مثل هذه الاصلاحات، فإن النظام لم يتردد في العمل على افراغها من محتواها الايجابي كلما سنحت له الظروف. وهذا ينطبق على السقوط العلمي لمحاولة الاصلاح الاداري التي خاضها الرئيس فؤاد شهاب في الستينيات (انشاء المصرف المركزي ووزارة التصميم وهيئات التفتيش المركزي والخدمة المدنية وعدد من المؤسسات العامة الاخرى). كما ينطبق على الوضع المرير واليائس الذي انتهى اليه واقع التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية بعد عقود من انطلاقهما، مع العلم ان هذين الصرحين اضطلعا ذات يوم بدور مهم في تعزيز صفوف الطبقتين الفقيرة والوسطى على حساب ما وصفه الرئيس شهاب نفسه آنذاك، «طبقة الاربعة في المئة». ان هذا الواقع يطرح اشكالية العلاقة بين النضال الاجتماعي (والطبقي) من جهة، وسيرورة النضال السياسي والديمقراطي من جهة ثانية، اي القدرة على تحقيق مكاسب وانجازات مطلبية ومن ثم ترجمتها الى اصلاحات سياسية وديمقراطية مباشرة. ان ايجابية هذا التزامن التي بدت قوية في تجربة البلدان الرأسمالية المتقدمة، لم تكتسب هذا القدر من القوة في الحالة اللبنانية، وذلك لأسباب عديدة، اهمها التوظيف السياسي للظاهرة الطائفية، الذي شوه آليات التمثيل السياسي عبر تحويله «جماهير الطوائف» الى احتياط محكوم بالتبعية لزعامات النظامي الطبقي والطائفي القائم. أ ــ حول مخاطر المقاربة التبسيطية للمسألة الطائفية: الى اي مدى يجوز اختزال الظاهرة الطائفية عبر اعتبارها، فقط، جزءاً من البناء الفوقي للمجتمع الرأسمالي، او عبر تفسيرها انطلاقاً من طرح فكري صارم يراد له ان يكون طرحاً طبقياً، فيما هو لا يخلو من جمود وتعسف فكري، عبر ميله ـ عن قصد أو عن غير قصد ـ نحو التبني الضمني لمقولة «الطبقة ـ الطائفية»؟ وهل يصمد مثل هذا التحليل التبسيطي امام الجذور العميقة لهذه الظاهرة وتوظيفاتها السياسية المتعددة وانسحاب مفاعليها بشكل حثيث على جميع مناحي الحياة اليومية في البلاد، بدءاً من ادارة الشأن العام والمرافق والوظيفة العامة، والتعليم والثقافة والاعلام، ومروراً بخدمات الصحة وانماط الحماية الاجتماعية السائدة، وصولاً بشكل خاص الى الآليات الاساسية الناظمة لسوق العمل وسوق السكن؟ حول أولويات التصدي لهذه الظاهرة: هل يتم هذا التصدي لهذه الظاهرة دفعة واحدة وعلى الجبهات كافة، الاساسية والفرعية، المتصلة بعوامل تلك الظاهرة المعقدة وجذورها المتشعبة، أم يصار الى التركيز على اولويات محورية ومحددة ضمنها؟ أليس إسقاط نظام التمثيل السياسي الطائفي هو بالتحديد الذي ينبغي أن يحتل الموقع الأول في تلك الأولويات، وأن تسخر له كل الجهود (الفعلية وليس الخطابية فقط) من قبل أحزاب اليسار، وفي طليعتها الحزب الشيوعي؟ إذا كان ذلك كذلك، أي قانون تمثيل نيابي هو الاكثر تناسباً مع متطلبات تفكيك واضعاف آليات الظاهرة الطائفية في لبنان، بعدما توافقت كل اطراف الطبقة السياسية اللبنانية خلال العقدين المنصرمين على تطبيق العديد من قوانين الانتخاب القائمة على المبدأ الاكثري، بدعم وتشجيع من «اللاعب» العربي (السوري والسعودي اساساً) وللاعب الدولي (لا سيما الاميركي والاوروبي)، الساعين دوماً الى ضمان اعادة انتاج التوازنات الهشة بين الزعامات الطائفية والطبقية اللبنانية المختلفة؟ ج ــ حول امكان تمرحل معالجة الظاهرة الطائفية عبر التدرج في قوانين التمثيل: ان اختلال مجمل قوانين التمثيل القائمة على المبدأ الاكثري ـ والتي لم تفعل سوى تدعيم الظاهرة الطائفية وتوظيفها السياسي المختلف ـ قد دفع القوى اليسارية والديمقراطية اللبنانية عموماً، اضافة الى خليط من القوى السياسية الاخرى، الى تبني الشعار العام المؤيد للنظام الانتخابي القائم على النسبية. ولكن لماذا لم يجر تحويل هذا الشعار العام الى خريطة طريق تنفيذية تستقطب فعلياً جمهور اليسار والقوى الاجتاعية الطامحة نحو الانعتاق من الطائفية؟ ولماذا لم تتم بصورة مفصلة دراسة التطبيقات المختلفة لهذا الشعار، مع الاخذ في الاعتبار تنوعها وتفاوت نتائجها تبعاً لنظام الدوائر المعتمد (دوائر متعددة او دائرة وطنية واحدة)؟ ألم يكن التنوع الشديد في مضمون هذه التطبيقات في البلدان التي اعتمدتها النسبية، يقتضي من اليساريين اللبنانيين إجراء اختباراتهم الخاصة على هذه الطرق المختلفة، والمفاضلة بينها استناداً الى الشروط اللبنانية الملموسة، بغية توسيع مروحة الخيارات الممكنة والوصول بالتالي الى مشروع جامع ينتزع تحقيق صحة التمثيل وشموليته ويعزز استقطاب الناخبين، وبخاصة غير الطائفيين منهم؟ د ــ حول العلاقة بين قوانين التمثيل وتوازنات القوى القائمة: ان رفع شعار التمثيل النسبي خارج القيد الطائفي في لبنان دائرة واحدة، هو شعار استراتيجي صحيح من حيث المبدأ، وقد أجمعت عليه العديد من القوى اليسارية والمدنية العلمانية. ولكن ألا يبدو ضرورياً ـ بالنسبة الى احزاب اليسار وبخاصة الحزب الشيوعي ـ التحضير (أقله في منابرها الداخلية) لخيارات مرحلية ـ ذات صلة ـ تمهد أو تهيئ تدريجياً لوضع هذا الشعار الاستراتيجي موضع التنفيذ، متى ما توافرت ونضجت التوازنات الطبقية والسياسية التي تسمح بذلك؟ فإلى اي حد تمكن المراهنة على الاكتفاء برفع هذا الشعار الاستراتيجي (الصحيح مبدئياً)، في الوقت الذي لا تسمح بتحقيقه لا الشروط الذاتية (الاوضاع المأزومة للاحزاب والقوى اليسارية والعلمانية) ولا الشروط الموضوعية (الانقسام والتشظي الطائفيان المستحكمان بالمجتمع اللبناني وفي المنطقة)؟ هـ ــ حول امثلة محددة عن امكان اعتماد معالجات متدرجة: اذا كان الهدف الاساسي في المدى المتوسط والبعيد هو كسر حلقات النظام السياسي الطائفي، الا تتيح بعض الخيارات المرحلية وذات الصلة ـ اذا ما تم وضعها موضع التنفيذ ـ بتحقيق بعض المقومات الاساسية لهذا الهدف الاستراتيجي؟ الا يندرج ضمن تلك الخيارات المرحلية مثلاً انتزاع قانون يقرّ تنظيم مفهوم الاقامة استناداً الى معايير موضوعية وشفافة، ما يوجه ضربة قوية لآليات التعامل مع «جماهير الطوائف» كاحتياط تابع، عبر استمرار اخضاعها لأماكن تسجيلها (في سجلات النفوس)، بدلاً من التعامل معها على اساس مشروع قانون الاقامة المقترح؟ ألا يصب في الاتجاه ذاته فرض تطبيق قانون للاحوال الشخصية، ما يقوض جزءاً مهماً من سلطة المؤسسات والزعامات الدينية والطائفية ومن قدرتها ـ عبر علاقتها الممأسسة بالدولة ـ على التحكم برقاب العباد؟ الا تستدعي مثل هذه المشاريع المزيد من الجهد والتحليل والربط، كي تصبح ادارة اساسية اضافية من ادوات نضال الشيوعيين والقوى الديمقراطية والمدنية؟ أليس هذا التدرج في انتزاع المكاسب ـ تبعاً لتطور موازين القوى ـ هو الذي يتيح مع الزمن استنهاض كتل اجتماعية وسياسية تاريخية مستعدة لخوض النضالات المنتظمة بهدف كسر التوظيف السياسي للطائفية، الذي تدفع ثمنه «جماهير» الطوائف نفسها؟
* (فصل من كتاب اليسار اللبناني في زمن التحولات العاصفة ـ الحزب الشيوعي: تفاقم للأزمة... أم انفتاح على التغيير؟، دار الفارابي، نيسان 2015)
غسان ديبة - الاخبار
«حطموا الباب وستنهار البنية العفنة كلها» أدولف هتلر
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991 تم الحكم بشكل متسرع على الاقتصاد الاشتراكي وعلى اساليب التخطيط المركزي التي اعتمدت في الاتحاد السوفياتي منذ 1928 وفي الكثير من البلدان الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية. تم اعلان ان الراسمالية بشكلها الاكثر تطرفاً هي النموذج الامثل لتحقيق الرفاه الاجتماعي والتوزيع الاكفأ للموارد الاقتصادية.
مرت حوالى 25 سنة على هذا الحدث وبعد الازمة الراسمالية في 2008 وارهاصاتها، حيث في اوروبا اليوم في بلدان مثل اليونان واسبانيا، يجد واحد من كل شابين نفسه عاطلاً عن العمل في ما سمي بالجيل الضائع، ويرزح اكثرية الناس تحت وطأة الديون في ظل مداخيل تكسد او حتى تنخفض. لا بد من قراءة اكثر واقعية للتجربة الاشتراكية خصوصاً في الاتحاد السوفياتي. وسأركز هنا على ما قبل وخلال الحرب العالمية الثانية التي برهنت على المقدرة العالية للاقتصاد السوفياتي والمجتمع الاشتراكي. بعد الثورة البلشفية في 1917 لم تكن هناك اية نظرية او نموذج محدد للاقتصاد الاشتراكي يمكن ان يبنى عليه ما عدا ملامح عامة عن ملكية الدولة والقضاء على الملكية الخاصة. بالاضافة الى ذلك فقد حكمت ظروف الحرب الاهلية تطبيق ما سمي بـ»شيوعية الحرب» وبعد ذلك وبسبب النتائج السلبية لهذه السياسة وللحرب نفسها تم تطبيق سياسة النيب (NEP) او السياسة الاقتصادية الجديدة التي اعطت حيزاً كبيراً للقطاع الخاص والاسواق، ما اعتبره البعض تراجعاً عن اهداف الثورة، فيما اعتبره الحزب البلشفي حاجة موضوعية للنهوض الاقتصادي. ودار في اوساط الحزب آنذاك نقاشات عرفت بـ»نقاشات التصنيع»، وكان طرفاها يسار الحزب المتمثل بتروتسكي والمنظر الاقتصادي بريوبرجينسكي من جهة ومن جهة أخرى الخط الذي مثله ستالين وبوخارين. اليسار أراد الانتقال الى التصنيع السريع تحت عنوان «التراكم الاشتراكي الاولي» ذلك عبر نقل القيمة من الريف والزراعة والفلاحين الى المدن والصناعة والبروليتاريا الناشئة.
لا بد من قراءة اكثر واقعية للتجربة الاشتراكية خصوصاً في الاتحاد السوفياتي اما الخط الاخر، وحرصاً على تحالف العمال والفلاحين ولمعرفته بالكلفة الانسانية والسياسية العالية لسياسة اقتصادية كهذه، أراد الانتقال الى الاشتراكية ببطء «على عربة الفلاحين» كما لخصها بوخارين نفسه. لاحقاً عندما تم القضاء على مجموعة تروتسكي تبنى ستالين بعد ابعاد بوخارين مقولات اليسار الاقتصادية واخرج تكنوقراطيي هذا التيار من السجون والمنافي وعلى رأسهم بريوبرجنسكي. انتج هذا التحول البدء باتباع سياسات التخطيط المركزي لادارة الاقتصاد الاشتراكي بدءاً بالخطة الخمسية الاولى في 1928. عندما هاجمت المانيا الاتحاد السوفياتي في 1941 كان الاقتصاد السوفياتي في اخر مراحل الخطة الخمسية الثالثة. توقعت الاكثرية حول العالم أن الاتحاد السوفياتي سيهزم كباقي الدول التي اكتسحها الجيش النازي المتفوق منذ 1939، والاهم اعتقد الكثيرون ان الاقتصاد السوفياتي سينهار كما حصل في روسيا القيصرية خلال الحرب العالمية الاولى. ولكن الاقتصاد السوفياتي لم يصمد فقط بل برهن تفوقه على الاقتصاد الالماني في تحويل الموارد الى الاقتصاد الحربي وكان ذلك العامل الحاسم في الحرب، فكما قال مارك هاريسون: «ان الاقتصاد في النهاية هو الذي حدد النتيجة» ولم يكن ذلك التفوق ناتجاً فقط عن «الكم» كما يعتقد البعض بل أيضاً في الكفاءة الاقتصادية، اذ انه بحسب تشارلز ونشستر «ان التفوق الكمي للجيش الاحمر كان بأكثره في الاعداد المتفوقة للدبابات والطائرات وقطع المدفعية. وهذا حصل ليس لأن الاتحاد السوفياتي كان يمتلك موارد اقتصادية اكبر بل لأن اقتصاده الحربي ادير بشكل افضل مما في المانيا»، وهذا امر يعتد به خصوصاً اننا نعرف المقدرة الالمانية الهائلة في الادارة والكفاءة. ففي عام 1942 كان الناتج السوفياتي يبلغ 70% من الناتج الألماني. ان سياسات التخطيط المركزي نقلت الاتحاد السوفياتي في مرحلة قصيرة جداً بين 1928 و1940 الى دولة تستطيع ان تنتج كماً هائلاً من الآلات العسكرية، كما انها كانت فعالة في حشد وإدارة الموارد الاقتصادية بشكل غير مسبوق. ومقارنة سريعة لبعض الارقام تعطينا حجم التغيير الهائل الذي حصل في تلك الفترة. فبين 1928 و1940 ازداد الناتج 5 مرات والانتاج ألصناعي 6 مرات وانتاج وساِئل الانتاج 10 مرات. كما تم تطبيق نظم الانتاج الضخم بينما كان الألمان متأخرين عن السوفيات في هذا المجال. وقد أتاح هذا النظام الانتاجي للسوفيات أن ينتجوا نماذج قليلة من الآلات العسكرية ولكن بكميات أكبر ومثال على ذلك دبابة أل ت-34 التي شكلت ثلاثة أرباع الدبابات السوفياتية في الحرب. كما أن التحول للاشتراكية جعل الشعب السوفياتي يتقبل الانخفاض الهائل للاستهلاك بحوالى 30% في 1942 و 1943. كما أن التحول الاجتماعي دفع بمليوني امراة الى الخدمة في القوات المسلحة وشكلن اكثرية الطواقم الطبية. عندما تواجه الجيشان الاحمر والنازي في المدن السوفياتية وفي السهوب الشاسعة للاتحاد السوفياتي كان الصراع مادياً بامتياز حيث استطاع الجيش الاحمر، الممدود بالسلاح والعتاد من قبل آليات الاقتصاد الاشتراكي، ان يكسر شوكة الجيش النازي الذي كان حتى ذلك الوقت الجيش الذي لا يمكن ايقافه، ولكنه كان أيضاً صراعاً بين منظومتين ايديولوجيتين، الاولى أمنت بسيطرة الرأسمال الكبير والفاشية وتفوق الجنس الآري والبقاء للاقوى، والثانية بنت اقتصاداً اشتراكياً وآمنت بالمساواة بين شعوب العالم واعراقه وبتفوق الانسان في انسانيته المجردة من الراسمال، ولذلك عندما اتخذ الأمر «لا خطوة واحدة الى الوراء» وانتصر الشعب السوفياتي على آلة الحرب والتدمير الفاشي لم يكن ذلك الانتصار انتصاراً وطنياً فحسب بل كان انتصاراً للبشرية ومثلها العليا في الحرية والمساواة والعدالة.