غسان ديبة - الاخبار
«حطموا الباب وستنهار البنية العفنة كلها» أدولف هتلر
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991 تم الحكم بشكل متسرع على الاقتصاد الاشتراكي وعلى اساليب التخطيط المركزي التي اعتمدت في الاتحاد السوفياتي منذ 1928 وفي الكثير من البلدان الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية. تم اعلان ان الراسمالية بشكلها الاكثر تطرفاً هي النموذج الامثل لتحقيق الرفاه الاجتماعي والتوزيع الاكفأ للموارد الاقتصادية.
مرت حوالى 25 سنة على هذا الحدث وبعد الازمة الراسمالية في 2008 وارهاصاتها، حيث في اوروبا اليوم في بلدان مثل اليونان واسبانيا، يجد واحد من كل شابين نفسه عاطلاً عن العمل في ما سمي بالجيل الضائع، ويرزح اكثرية الناس تحت وطأة الديون في ظل مداخيل تكسد او حتى تنخفض. لا بد من قراءة اكثر واقعية للتجربة الاشتراكية خصوصاً في الاتحاد السوفياتي. وسأركز هنا على ما قبل وخلال الحرب العالمية الثانية التي برهنت على المقدرة العالية للاقتصاد السوفياتي والمجتمع الاشتراكي. بعد الثورة البلشفية في 1917 لم تكن هناك اية نظرية او نموذج محدد للاقتصاد الاشتراكي يمكن ان يبنى عليه ما عدا ملامح عامة عن ملكية الدولة والقضاء على الملكية الخاصة. بالاضافة الى ذلك فقد حكمت ظروف الحرب الاهلية تطبيق ما سمي بـ»شيوعية الحرب» وبعد ذلك وبسبب النتائج السلبية لهذه السياسة وللحرب نفسها تم تطبيق سياسة النيب (NEP) او السياسة الاقتصادية الجديدة التي اعطت حيزاً كبيراً للقطاع الخاص والاسواق، ما اعتبره البعض تراجعاً عن اهداف الثورة، فيما اعتبره الحزب البلشفي حاجة موضوعية للنهوض الاقتصادي. ودار في اوساط الحزب آنذاك نقاشات عرفت بـ»نقاشات التصنيع»، وكان طرفاها يسار الحزب المتمثل بتروتسكي والمنظر الاقتصادي بريوبرجينسكي من جهة ومن جهة أخرى الخط الذي مثله ستالين وبوخارين. اليسار أراد الانتقال الى التصنيع السريع تحت عنوان «التراكم الاشتراكي الاولي» ذلك عبر نقل القيمة من الريف والزراعة والفلاحين الى المدن والصناعة والبروليتاريا الناشئة.
لا بد من قراءة اكثر واقعية للتجربة الاشتراكية خصوصاً في الاتحاد السوفياتي اما الخط الاخر، وحرصاً على تحالف العمال والفلاحين ولمعرفته بالكلفة الانسانية والسياسية العالية لسياسة اقتصادية كهذه، أراد الانتقال الى الاشتراكية ببطء «على عربة الفلاحين» كما لخصها بوخارين نفسه. لاحقاً عندما تم القضاء على مجموعة تروتسكي تبنى ستالين بعد ابعاد بوخارين مقولات اليسار الاقتصادية واخرج تكنوقراطيي هذا التيار من السجون والمنافي وعلى رأسهم بريوبرجنسكي. انتج هذا التحول البدء باتباع سياسات التخطيط المركزي لادارة الاقتصاد الاشتراكي بدءاً بالخطة الخمسية الاولى في 1928. عندما هاجمت المانيا الاتحاد السوفياتي في 1941 كان الاقتصاد السوفياتي في اخر مراحل الخطة الخمسية الثالثة. توقعت الاكثرية حول العالم أن الاتحاد السوفياتي سيهزم كباقي الدول التي اكتسحها الجيش النازي المتفوق منذ 1939، والاهم اعتقد الكثيرون ان الاقتصاد السوفياتي سينهار كما حصل في روسيا القيصرية خلال الحرب العالمية الاولى. ولكن الاقتصاد السوفياتي لم يصمد فقط بل برهن تفوقه على الاقتصاد الالماني في تحويل الموارد الى الاقتصاد الحربي وكان ذلك العامل الحاسم في الحرب، فكما قال مارك هاريسون: «ان الاقتصاد في النهاية هو الذي حدد النتيجة» ولم يكن ذلك التفوق ناتجاً فقط عن «الكم» كما يعتقد البعض بل أيضاً في الكفاءة الاقتصادية، اذ انه بحسب تشارلز ونشستر «ان التفوق الكمي للجيش الاحمر كان بأكثره في الاعداد المتفوقة للدبابات والطائرات وقطع المدفعية. وهذا حصل ليس لأن الاتحاد السوفياتي كان يمتلك موارد اقتصادية اكبر بل لأن اقتصاده الحربي ادير بشكل افضل مما في المانيا»، وهذا امر يعتد به خصوصاً اننا نعرف المقدرة الالمانية الهائلة في الادارة والكفاءة. ففي عام 1942 كان الناتج السوفياتي يبلغ 70% من الناتج الألماني. ان سياسات التخطيط المركزي نقلت الاتحاد السوفياتي في مرحلة قصيرة جداً بين 1928 و1940 الى دولة تستطيع ان تنتج كماً هائلاً من الآلات العسكرية، كما انها كانت فعالة في حشد وإدارة الموارد الاقتصادية بشكل غير مسبوق. ومقارنة سريعة لبعض الارقام تعطينا حجم التغيير الهائل الذي حصل في تلك الفترة. فبين 1928 و1940 ازداد الناتج 5 مرات والانتاج ألصناعي 6 مرات وانتاج وساِئل الانتاج 10 مرات. كما تم تطبيق نظم الانتاج الضخم بينما كان الألمان متأخرين عن السوفيات في هذا المجال. وقد أتاح هذا النظام الانتاجي للسوفيات أن ينتجوا نماذج قليلة من الآلات العسكرية ولكن بكميات أكبر ومثال على ذلك دبابة أل ت-34 التي شكلت ثلاثة أرباع الدبابات السوفياتية في الحرب. كما أن التحول للاشتراكية جعل الشعب السوفياتي يتقبل الانخفاض الهائل للاستهلاك بحوالى 30% في 1942 و 1943. كما أن التحول الاجتماعي دفع بمليوني امراة الى الخدمة في القوات المسلحة وشكلن اكثرية الطواقم الطبية. عندما تواجه الجيشان الاحمر والنازي في المدن السوفياتية وفي السهوب الشاسعة للاتحاد السوفياتي كان الصراع مادياً بامتياز حيث استطاع الجيش الاحمر، الممدود بالسلاح والعتاد من قبل آليات الاقتصاد الاشتراكي، ان يكسر شوكة الجيش النازي الذي كان حتى ذلك الوقت الجيش الذي لا يمكن ايقافه، ولكنه كان أيضاً صراعاً بين منظومتين ايديولوجيتين، الاولى أمنت بسيطرة الرأسمال الكبير والفاشية وتفوق الجنس الآري والبقاء للاقوى، والثانية بنت اقتصاداً اشتراكياً وآمنت بالمساواة بين شعوب العالم واعراقه وبتفوق الانسان في انسانيته المجردة من الراسمال، ولذلك عندما اتخذ الأمر «لا خطوة واحدة الى الوراء» وانتصر الشعب السوفياتي على آلة الحرب والتدمير الفاشي لم يكن ذلك الانتصار انتصاراً وطنياً فحسب بل كان انتصاراً للبشرية ومثلها العليا في الحرية والمساواة والعدالة.